الجمعة، 13 يوليو 2012


أصداء معركة وادي المخازن في الشعر المغربي
الدكتور عبد الحق المريني
         الرباط
تاريخ المغرب سلسلة من الملاحم الحربية والمعارك الضارية خاضها أهله ليحافظوا على وحدة بلادهم، وليقفوا سدا منيعا أمام التسربات الأجنبية عبر شواطئه، وليحملوا الرسالة الإسلامية التي حمل لوائها إدريس الفاتح ولينشروا ذيول هذه الرسالة في الأندلس شمالا وفي الأقاليم الصحراية إلى وادي السينغال جنوبا.
ولم تكن حركة النضال والجهاد هذه تقودها الدولة فحسب وتخوض غمارها القوات النظامية، بل كثيرا ما أخذ المجاهدون على عاتقهم هذه المهمة الشاقة والعسيرة والنبيلة في نفس الوقت وأذكوا في نفوس المغاربة الشعور الديني والوطني ليجاهدوا في سبيل الله وليدافعوا على عزة الإسلام وكرامة بلادهم حتى لا تكون فتنة والدين كله لله.
ذلك أن المغاربة - كما عرفوا عبر تاريخهم المجيد - لا يركنون للاستسلام واليأس، وإنما دأبهم أن يصبروا ويستلهموا من ذخيرة إيمانهم القوي روافد من القوة والبأس الشديد لمجابهة ومطاردة الانكسارات.
ففكرة الجهاد والمقاومة وهي فكرة سادت تاريخ المغاربة وسايرت عصورهم ودولهم، فلم تنقطع أبدا حركة الجهاد والمقاومة داخل المغرب وخارجه : في الأندلس وفي إفريقيا وفي "السودان" نضال مستمر من أجل الاستقلال والدفاع عن الإسلام وإغاثة المستجيرين من الجيران الذين عجزوا عن رد العدوان وحماية الأهل والبلد.
فجذبت فكرة الجهاد المجاهدين المغاربة ودفعتهم إلى استرخاص أرواحهم في سبيلها غير جزعين من بأس أعدائهم مؤمنين بأن كل شيء قد قدر تقديرا.
وكان هدفهم من جهادهم ليس لدوافع عدوانية وإنما هو إحساس غريزي لإعلاء كلمة الله- وكلمة الله هي نصرة الحق وإقرار العدالة وإحلال السلام- ولنشر دينه القويم وحماية دعوته ولقتال أعداء الإسلام في سبيل الله، وحبا في الاستشهاد حتى يلقوا ربهم شهداء وينعموا بما وعدوا به من جنان تحت ضلال السيوف وآخرة هي خير وأبقى.
ولما كان الجهاد في سبيل الله يحقق بوسيلة النفس أو المال أو السلاح أو حتى باللسان فقد جاهد أدباء المغرب بلسانهم وقلمهم دفاعا عن المغرب وحريته وعزته ودينه وإسقاطا لأعدائه والمتعدين عليه.
وكانت "حركتهم" الأدبية قوة دافعة يغذيها الإيمان العميق والإحساس بضرورة الانطلاق برسالة النضال والجهاد إلى المغاربة كافة.
فواكب الأدب المغربي وخاصة الشعر العربي "مسيرة" المغرب "الجهادية" وعبر على أن المغرب كان مسرحا لسلسلة من النضالات المتواصلة التاريخية، وخلد في طي دواوينه ملاحم رائعة لبطولات الجيوش المغربية وبلائها في ميادين الجهاد والاستشهاد داخل البلاد وخارجها، وارتبط شعر الجهاد والمقاومة ارتباطا وثيقا بحياة المجاهدين في الدفاع عن حوزة البلاد والذود عن حماها ومحاربة أعداء المسلمين وحماية راية الإسلام في العدوتين : المغرب والأندلس.
فكان شعر الجهاد والمقاومة جزءا صميما من حياة المغاربة ونضالهم وصوتا مدويا لجهادهم،ولسانا معبرا عن إراداهم وسلاحا منافحا عن شرفهم. وكانت كل قصيدة مربوطة بحادث يمت إلى تاريخه النضالي من قريب او بعيد.
وبذلك كان شعر الجهاد والمقاومة غزيرا ووفيرا، قويا ورفيعا، واقعيا وحيا - لا خياليا ولا صوريا- ملأ بطون دواوين الشعراء وأراجيز الناظمين ومصنفات الكتاب ورسائلهم وكتب المؤرخين وأسفار الأدباء منهم،وأصبح وثيقة تاريخية تؤرخ لمراحل حية من تاريخ المغرب الجهادي والنضالي وتخلد ما لم يستطع النثر أن يخلده أناشيد للبطولة والعزة والمجد.

وإذا قطعنا مراحل الجهاد والمقاومة من الفتح الإسلامي إلى نهاية الوجود المغربي بالأندلس نجد أن العدوان الخارجي على المغرب - لا سيما الإسباني منه والبرتغالي، جاء كرد فعل انتقامي للوجود السابق في الأندلس بصفة خاصة وللوجود الإسلامي بصفة عامة. وكان العدوان موجها مباشرة بالدرجة الأولى للمغرب لأنه كان أكبر مدافع عن الأندلس وأعظم مجاهد في سبيل الله لأجل إبقاء إسلام الأندلس راسخا على أرضها وبين أهليها.
وهكذا استغل البرتغاليون ضعف الدولة المغربية وفوضى الحكم التي ضربت أطنابها في خضم الصراع الحاد بين الوطاسيين ووزراء بني مرين، فقاموا بالهجوم على السواحل المغربية الأطلسية. وفي هذه الظروف الحرجة للجهاد في شفشاون واستطاع أهل الرباط من المجاهدين ان يصدوا منه بقيادة بني راشد، التوسع البرتغالي الذي كان يهدف إلى الوصول إلى فاس مقر دار الملك وكعبة العلم والفكر. وقد تعززت الحركة الجهادية بفلول الأندلسيين النازحين إلى العدوة المغربية ( 1018 هـ/ 1609م ). وقام الإسبان بنفس الهجوم على السواحل " الأبيض المتوسط" حسب الاتفاق المبرم بين البرتغال والإسبان، لتحديد مناطق الغزو المسيحي بإفريقيا سنة 894هـ/ 1494م. وكان لغزو السواحل المغربية من لدن البرتغال والإسبان ، وعجز الدولة الوطاسية عن تحريرها ومقاومة الغزاة المعتدين عليها - لضعف أمرها وتناحر أمرائها- رد فعل قوي في نفوس المغاربة الذين انتفضوا للجهاد في معارك عنيفة. وقد قاد فورته علماء وصلحاء ومتصوفة وشرفاء متطوعون في سبيل الله - كأشراف بني راشد في جبل العلم بالشمال المغربي والأشراف الجزوليين بجنوبه في سوس- ولما كان الشرفاء السعديون يحتلون في نفوس هؤلاء المجاهدين مكانة مرموقة - لشرف نسبهم - لجأوا إلى إقناعهم بقبول الملك عليهم لتنظيم مقاومة حربية جديدة ضد النصارى الذين احتلوا معظم الموانئ المغربية، ولتأسيس دولة سعدية محكمة وقوية تتبنى شؤون الدولة المغربية منها والحربية.
وقال الإمام عبد الله الهبطي الذي عاشر العهد السعدي منذ أوله في هذا المعنى :
فرحم الله أميرا قد سلك                    نهج الهدى وما سواه ترك
فإن رأى أمرا يضر بالمســـــــلمين            سده ولم يكن في الغافلين
وما أحوج الورى لدى شر الزمان          إلى إمام قائــــــم بالقرآن
وفي هذا "الخضم العارم" انبرى الأشراف السعديون- من قلب الجنوب المغربي لوصل حاضرة مراكش بحاضرة فاس - ولقيادة ثورة مسلحة وحركة جهادية منظمة ضد البرتغاليين.
وقد اعتمد السعديون على الجنوب المغربي وعلى رجاله وشعرائه وأدبائه، ولم يبق أي اتصال بالأندلس ورجالها، واقتصر المغرب السعدي على الدفاع عن الوطن وحمايته ومحاربة المتحالفين مع أعدائه ومقاومة الغيرين على سواحله. وأصيب الأدب السعدي بشيء من الخمول والركود لاضطرار أهله من علماء وفقهاء وكتاب وخطباء وشعراء إلى المشاركة في حركات الجهاد ورفع بنودها.
ولما تولى أبو عبد الله محمد المتوكل ملك المغرب دخل إلى طنجة وتقرب من البرتغاليين ، وفر عند "الطاغية" سبستيان" البرتغالي واستنجد به ضد عمه أبي مروان عبد الملك المعتصم. فاشترط عليه الملك البرتغالي أن يكون للبرتغاليين سائر السواحل المغربية وللملك السعدي ما ورائها. فلما علم المغاربة بهذا الاتفاق بايعوا عمه عبد الملك المعتصم بفاس، ونقض العلماء بيعتهم له، فوجه رسالة إلى علماء المغرب وشرفائه يعبيهم على ذلك فأجابه كافة أهل المغرب من شرفاء وعلماء وصلحاء وأجناد ورؤساء برسالة مطولة " دافعة لجيش أباطيله وفاضحة لركيك تأويله". فأمر الملك الجديد أخاه محمد أن يخرج من فاس بالجيوش، ولما نزل "سبستيان" البرتغالي بوادي المخازن قرب قصر كتامة وقطع الوادي أمر عبد الملك بتهديم القنطرة ونادى : " ان اقصدوا وادي المخازن للجهاد في سبيل الله" . وزحف إليه في جنود وخيل الله المسومة يوم 30 جمادى الأولى سنة 968هـ/ 4 غشت 1578م. "ولم يكن عندهم أحلى من الاستشهاد". فالتفت الفئتان،وتوفي عبد الملك المعتصم في الصدمة الأولى. وكتم أخوه أحمد وفاته، واستمر القتال على أشده حتى ولى المشركون الأدبار، وهب ريح النصر، ودارت على البرتغاليين وحلفائهم من الجنود الإسبان والبرتغاليين دائرة البوار وتقهقروا إلى الوادي وغرقوا فيه، وكان من بين الغرقى محمد المتوكل " المسلوخ" ( لأن المنصور أمر بسلخ جلده وحشوه بعد موته).

فتوفي في هذه المعركة ملوك ثلاثة : الشهيد عبد الملك وابن أخيه "المسلوخ" والملك "سبستيان" البرتغالي.
ومما جاء في درة السلوك فيمن حوى الملك من الملوك لأحمد بن القاضي التي تشتمل على وصف وقعة وادي المخازن شعرا :
وابن أخيه بالنصارى معتصما                   وصار يستنجدهم لــمن سما
أجابه اللعين بسبستيـــــــــان                بجيشـــــــه ومعـــــه الأوثان
فقيض الله له منصــــــــــورا               ملكا شجاعا أسدا هصـــورا
فخلص الإسلام من يد اللعين                     بصبره على لقاء المشــــركين
ما منهم إلا قتيل وأســــــــير                  في ساعة من الزمان ذا شهير
مات بها سبستيان اللعــــــين                    فما له على الردى معــــــين      
ثم محمد الذي أتى بـــــــــه                 مات غريقــــا يومــــه فانتبه
وبعد أن أذن الله بالنصر على الغزاة بويع أبو العباس أحمد المنصور ملكا على المغرب وبعث إلى سائر ممالك الإسلام المجاورين للمغرب وإلى الخليفة العثماني يخبرهم بأن "الله أنعم عليه بإطهار الدين وإهلاك عبدة الصليب".فكانت هذه المعركة بمثابة وقعة حاسمة في تاريخ الصراع بين الاسلام والمسيحية - حتى شبهت بغزوة بدر الكبرى - أنزلت ضربة قاضية بالقوة البرتغالية، ووضعت حدا لوجودها بالمغرب، وجعلت دول الأتراك والإسبان والبرتغال أنفسهم تعدل عن سياستها التوسعية بالمغرب.
فكانت بذلك معركة غرة في جبين تاريخ الجهاد والمقاومة بالمغرب، وخلفت للمغرب ذكرا خالدا في العالمين.
وقد سجل أصداء هذه المعركة الخالدة كثير من الشعراء، إلا أننا لن نطلع إلا على نزر قليل منها، وعلى "صبابة لا تروي غليلا". وربما توجد آثار شعرية أخرى مدفونة في "بطون الدفاتر وخبايا الخزائن" كما قال المرحوم الاستاذ الجليل العلامة عبد الله كنون.
ومن الشعراء الذين عاصروا الواقعة وأثرت شاعريتهم وكانت مصدر وحي لهم :

الشيخ داوود بن عبد المنعم الدغدوغي الذي عاش في أواخر القرن العاشر. وقد وصف المعركة وصفا دقيقا - لا يكتبه إلا شاهد عيان - وصور شهامة الجندي المغربي وبسالته في جحيم المعركة تصويرا رائعا، وهو يستشهد بقلب ثابث الانتصار، وكيف أظهر الله المغاربة على أعدائهم حتى خلص لهم وجه المغرب وأعادوا الأمور إلى نصابها في بأس وشجاعة مطلعها 
جنى النصر ما بين الظبا والكنائــن            على سابقات المذكيات الصوافن
ومن لم يخض بحر الحروب فلا يرى      لحوزته دون العدا خير صائــــن
وقد وقف الأستاذ عبد الله كنون رحمه الله على هذه القصيدة مخطوطة عن المرحوم محمد المختار السوسي. فبعدما وصف شاعرنا هجوم الجيش البرتغالي على المغرب وسواحله تعرض إلى مقاومة من جند الله مفتخرا بكتابئبه التي "تضرب الهامات ويهوي فيها الفرسان بأسلحتهم على الخصوم كالبزاة الكواسر" :
تجمع جند الله من كل جهـــة                 وقد غض من مدينة كل دائن
ونلوهم الأجناد والناس كلهم              تضل بهم أبصار كل معايـــن
ثم عاد الشاعر يصف المعركة وانهزام سبستيان فيها وصفا دقيقا وعميقا " تضمن صورا وملامح تدخل في صلب الحقائق التاريخية" - كما قال الأستاذ الدكتور عباس الجراري - قد تكون مدونات التاريخ أغفلت ذكرها والإشارة إليها.
فشبت لظى الهيجاء ليس وقــــــودها     سوى أنفس الشجعان وسطر الميادين
إذا أرعدت تلك المدافع أبرقــــــــت            صقيلات بيض الهند فـــــوق اليمائن
فلولا البروق الخاطفات من الظــــــبا      لما أبصرت عين خلال المداخــــــــن
قد انقضت الفرسان منا عليهم انقضا      ض صقور الجو فوق الوراشــــــــن
وسبستيان كفتنـــــة ميـــــــــاهــــه             هزيما وماء النهر أفظع كافــــــــــن
وحين قضى البتار في الكفر ما قضى      وأشلاؤه نتن بغير مدافـــــــــــــــــن
رأيت ألوفا من الرؤوس تجمعـــــت ويا ليتها أيضا جدار المــــــــــــآذن
  بغوا فجنوا جني البغاة فأصبحـــــوا      سماد الفيافي لأسماد الفـــــــــــدادن
إلى أن حقق الله النصر للمومنين على ذوي الكفر :
هنالك نصر المومنين مؤزرا       على كل ذي كفر تهجم ضاعــــن
وكان يوم مثل يوم بدر وحنين :
فذلك يوم مثل بدر وصنــــــــوه            حنين بأيدي المومنين الميامــن
لقد ذاق فيه "البردقيو" من الردى             جزاء مناحيس خزايا ملاعن
وقيل : الحمد لله :
فنحمد رب العرش إذا كان ديننا           لأهل الوغى والبأس خير المعادن
مواطن كانت للجهاد مشاهـــدا         بهن مياه العــــــز غــــير أواسن
مقارنا فيها بين أولئك المغاربة الذين صنعوا على عرش المغرب يوم النصر قام شاعره أبو فارس عبد العزيز الفشتالي - الذي بارى لسان الدين بن الخطيب في قصيدته التي مدح بها أبا سالم المريني :
أطاع لساني في مديحك إحســـــاني        ولقد لهجت نفسي بفتح تلمســــان
فأنشد نونيته العصماء - ليلة عيد المولد النبوي الشريف في تهنئة المنصور بهذا النصر واصفا بلاءه جنوده في هذه المعركة التاريخية التي لم يواكبها الشاعر في وقتها، ومطلعها :
هم سلبوني الصبر والصبر من شأني     وهم حرموا من لذة الغمض أجفاني
وبعد أن يشيد بحنكة كتائبه العسكرية في المعركة وبالانتصار الوطني الضخم :



وإن أطلعت غيم القتام جيوشــــــــــه وأرزم في مركومه رعد نـــــــــيران
صببن على أرض العداة صواعــــــــقا  أسلن عليهم بحر خسف ورجفـــان
كتائب لو يعلون رضوى لصدعــــــت     صفاه الجياد الجرد تعدو بعقبــــــان
عديد الحصى من كل أروع معلـــــــم    وكل كمي بالرديني طعـــــــــــــان
من اللائي جرعن من العدا غصص الردى   و      غفرن في وجه الثرا وجه بستيـــان
وفتحت أقطار البلاد فأصبـــــــــحت    تؤدي الخراج الجزل أملاك السودان
يخاطب ممدوحه المنصور مباركا له الفتح ويمنيه ما بين السودان وبغداد:
أيا ناظر الإسلام شم بارق الـــــنـا               وبارك لروض في ذرا المجد فـــــينان
قضى الله في علياك أن تملك الدنــا            وتفتحها ما بين سوس وســــــودان
وأنك تطوي الأرض غير مدافــــع           فمن أرض سودان إلى أرض بغــدان
فكم هنأت أرض العراق بك العلا          ووافت بك البشرى لأطراف عمان
فلو شارفت شرق البلاد سيوفكم           أتاك استلابا تاج كسرى وخاقــــان
فلا زالت للدنيا تحوط جهاتـــــها           وللدين تحميه بملك سليمـــــــــــان
فما المجد إلا ما رفعت سماكـــــه          على عمد السمر الطوال ومـــــرّان
ويقول أبو عبد الله محمد بن علي الهوزالي من قصيدة في مدح "السلطان المشهور والأسد الهصور" أبي العباس أحمد المنصور، مسجلا فيها هول وشدة معركة وادي المخازن التي قضى فيها على الشرك والكفر :
حروب طوت البغاة وملهـــــــــم             ومات لها ذكر البسوس وداحــــس
لعمرك لا أنساه يوما شهدتـــــــه        وقد سفرت بين الكماة المداعـــــس
وحسبك في وادي المخازن وقعــة             بها الشرك حتى آخر الدهر تاعــــس
بيمن أبي العباس صالت سيوفنــا              على الشرك حتى ليس للشرك حارس
فدانوا له حتى توقع بطشــــــــه        وذلت لنا منه الأنوف الغطــــــــارس
فجهز ما تحوي ذخائر ملكـــــــه         يذوذ بها عن نفسه ويداعـــــــــــس
فلا زال سيف الحد في كف أحمد          يذوذ بها عن دينه ويداعـــــــــــــس
وظل صدى هذه المعركة يرن في العصر السعدي وخصوصا في عهد المنصور الذي كان مزدحما بالفتوحات.فكلما هنأ الشعراء المنصور بالفتوح أو بحلول عيد المولد النبوي كانوا يشيرون إلى معركة وادي المخازن التي غذت " معلمة ومنار". وكانت تلك الإشارة من الشعراء السعديين ضرورية في هذا الظرف بالذات. وذلك لتعويد المغاربة على الاستمرارية في الجهاد وتحريضهم على تحدي الوجود البرتغالي في الثغور المغربية،وإذكاء روح المقاومة في نفوسهم الأبية:
فلأبي عبد الله محمد علي القشتالي مولدية في هذا الصدد ذكر فيها بجهاد المنصور بوقعة وادي المخازن ودفاعه عن الإسلام ضد أعدائه من حملة الصليب وعباده يقول فيها :
وجردت في ذات الإله صوارمــــــا        تصول بها والعاجزون نيــــام
ضربت بها التثليت للحتف ضربـــة           فلم يبق بعد للصليب قيــــام
وأمطرت وابلا "بالمخازن" قــطــــره       بموت الأعادي بندق وسهـام     
فكم لك من سيول مــــــــراكــــب         طلعت بها كالبدر فيه تمــــام
وحولك عقبان الكماة تساقــطـــــت             لبطشتها يوم الأعادي وهـام
ولاح وميض المرهفات كأنــــــــــــه      وميض نجوم والدياجي قتـــام
فأبرزت فتحا دوخ الأرض صيتـــــه وزين أشتات المعالي نظـــــام
ويقول من قصيدة أخرى وقد شبه المنصور بالصقر وهو ينقض ظافرا في وقعة وادي المخازن :
وحسبك من وادي المخازن إذ طمت       بحار المردى والخيل فيها جماح
فكان بها كالصقر ينقض ظافـــــــرا             تساعد منه مخلب وجنــــــاح
له حالتا سيف وسيب كأنمــــــــــا          تجمع في يمناه ســــــــم وراح
هذا وكلما حلت ذكرى هذه المعركة إلا وأثارت مشاعر شعرائنا المحدثين فأنشدوا مما يدل على أن معركة وادي المخازن لم تكن حدثا عابرا بل بقيت حافزا على إثارة الشعور الوطني سياسيا وأدبيا :
فللمرحوم علال الفاسي قصيدة بعنوان " ذكرى موقعة وادي المخازن أو غزوة الملوك الثلاثة" يقول في مطلعها  :



بفضلكم أبطال "وادي المخازن"            يردد فينا اليوم صوت الـــــــمـــــآذن
ولولا جهاد منكم بعزيــــــــمة                 وتضحية كبرى بيوم "الســـــواكـــــن"
وما جئتموه من ثبات وحكمة             وما بان  فيكم من عظيم التضامــــــن
لأضحت بلادي طعمة لعدوها       كأندلس أخت الأسى والتغابــــــــــن
إلى أن يقول في وصف هذه المعركة الخالدة :
من "القرويين" انتضى كل ذائــــــــد           عن الدين قوام على الحق ضائـــــــــن
فما وهنوا لما رأوه و لا انثنـــــــــوا  عن الصدع بالرأي السديد للاحــــن
وهب سبستيان في نشوة الرضــــــا      يرى النصر مضمونابأقدس ضامـــــن
وهاجم من ثغر العرائش زاحفــــــا       إلى القصر مجتازا بوادي المخــــــازن
وقد بث في كل الجهات عيونـــــــه             ونظم في الأحياء شتى المكامـــــــــن
ففرت جموع المسلمين كأنهــــــــــا         غثاء تردي في مسالك عايــــــــــــن
ولكن شهما من بني الجد لــــــــــم   يثبتهم حتى ارعوا للمساكــــــــــــــن
وجاء "أمير المومنين" بجيشـــــــــــه      كأنهم أسد شداد البرائــــــــــــــــــــن
وهبت جموع الشعب حول إمامهـا        يقودهم في البذل شيخ الضغائــــــن
وكان ضراب لم يسجل مثيلــــــــه             بما اشتد فيه من ثجيج المطاعـــــــــن
وأبلى بها المنصور خير بلائــــــــــه ودبرها بالحزم تدبير فاطـــــــــــــــن
فلله منه حين ضاع منـــــــــــــــوه          أدار الرحى في حكمة وتــــــــــوازن
وهبت رياح النصر في جانب الهدى       وأردت سباستيان بين المــطاحـــــــن
فلله من يوم الثلاثـــــة أنـــــــــــه          بداية عـــــهــــد للبنا والتصـــــــاون
فلله من وادي المخازن أنـــــــــــه        قد امتلأت منه جميع الخزائـــــــــــــن
وبعد يخاطب الشاعر أعداء من ملة واحدة :
فلسنا نمل الحرب حتى تعافنـــــــا       ولسنا نخاف البأس من أي كائــــــــن
لئن كنتم أرقى وأعظم عــــــــدة        فإيماننا أقوى وخير مدايـــــــــــــــــن
فلا تحسبوا الصحراء تبقى إليكـم        ولو سنتموها بالسلاح المطاعــــــــــن
فإن الصحاري أرضنا وديــــــارنا         وأبناؤها إخـــواننــــا فــــي المواطــــــن
ورغبتهم من رغبة الشعب كلـــه          فلا تنكروا حقــــا بــــــدا للمعايـــــن
وقد أخلصوا للعرش في كل حالة          ولم يخرجوا عن واجبات المواطـــــــــن
ويقول الشاعر عبد الواحد أخريف من قصيدته "الملحمة الخالدة" :
الحق جل جلالا زور ولا هــــــــدر                وادي المخازن ذكرى حفها الظفــــــر
وادي المخازن يا أنشوذة عبقــــــت              بعطرها صحف التاريخ والســــــــــير
فخر الملاحم في دنيا الجهاد فـــــــلا              تدنو إلى شأوها ملاحم أخــــــــــــــر
تبقى مدى الدهر شمسا لا تغيب ولا               يخفى نصاعتها غيم ولا مطــــــــــــــر
لولاك ما كانت الأمجاد كاملــــــــة                وان تعددت الأشكال والصــــــــــور
وينشد الشاعر مصطفى الطريق متغنيا ببطولة وشجاعة أبناء المغرب الأباة في معركتهم الكبرى ضد الغزاة اللئام بكل شمم وإباء :
فما يوم توانوا عن نـــــــــــداء           ينادي للفــــــــدى ضـــــــد اللئـــام
مغاربة أباة ليس فيـــــــــــــهم                    سوى ليث ومقــــتـــــدر هــــمــــام
ما خاضوا المعارك او تصــــدوا                   لها إلا وكانوا خـــيـــــــــر حــــــامي
معارهم لنا ذكرى انتصـــــــار                     وفيها للعدا ذكرى انهــــــــــــــــزام
ومعركة المخازن خير ذكــــرى                   وفي إحيائـــهــــا كــــل التســـــامــي
إلى أن يقول في ختامها  :
فلا نرضى بذل أو هـــــــوان                       ورد الــــــذل فــــــــي رفع الحســــام
فهذي أرضنا الصحراء عادت                      بفضل مسيرة الشـــعـــــب الـــهــمام
ويقول الشاعر المرحوم قدور الورطاسي في قريضه مع ذكرى وادي المخازن يعاتب البرتغاليين على هجومهم السافل على حرمة المغرب وعزته وأمجاده :
أليس غريبا أن يشط جـــوارنا        من البرتغال إذا تنادوا ليغـــضبــــوا
يسقون للحمام جيشا عرمـرما           غرورا ب "الممسوخ" به الملك يلعب
ألم يذكروا بالله سالف مجــدنا          وما لنا من قوى إذا الخصم "أشعـب"
ألم يعلموا أنا نرى العيش عزة           وإلا فإن الموت أولى وأعـــــــــذب
ويقول الشاعر محمد الغربي هائما في وادي المخازن وذكرى جهاده واستبساله وبطولة رجاله :
أهيم فيك وأجني منك أشعاري            كأمس يا سيد الوديان يا جـــــــاري
يظن أنك من عهد الزواحف لم            تهدر ماؤك لا يجــــــــري بتيـــــــار
وأنت أنت كعهد الناس مندفع             إلى الأمام بسرفيك مـــــــــــــــدرار
إن الأولى هزموا فيه العــدو بما        أتوا من الصبر في شهره الـــــــــحار
فاثخنوهم جراحا لا بأسلـــحة          فتاكة بل بحصبـــــــــاء وأحجــــــار
ثم يخاطب شباب الحمى من المغاربة شارحا لهم مغزى ذكرى المخازن :
ذكرى جهاد وتحذير وتوعيـة            وقصة تبتدي من يوم ذي قـــــــــــار
حتى يكون لنا مجد تحـــس به        أسفار تاريخ لا تاريخ أسفـــــــــــــار
ويلقب الشاعر عبد الواحد السلمي وادي المخازن بالوادي المقدس الوادي المتحدي بكل شمم وإباء لكل معتد وظالم للمطمئنين الآمنين على ضفافه :
فاض من منبع الجبــــــل                       يتمشى على مهـــــل
وجرى سلسا وســــــــ                       ال رفيقا بلا عجـــــل
ثابت الخطو راسخــــــا                  يتحدى كل الـــدول
تتلاشى غزاتـــــــــــــه                      وهو في الصدر لم يزل
إلى أن يقول بعد وصف لغزوة المخازن محذرا من سوء المصير كل غازي أثيم :
قل لمن رام غــــــــزونا                     هاهنا الموت فارتحـــل
إن ترم قهر جيشنـــــا                     تجد الرمس والأجـــل
فاعتزل إن أرضــــــنا                    خبرتنا كــــــل الدول
إن توهمت قــــــهرنا                     أو تشككت فلـــتسل
ويناجي الشاعر أحمد السفياني شهداء وادي المخازن من قصيدة منشدا :
قوم إذا رفعت في الحرب رايتهم          استشهدوا في سبيل المجد راضينا
هذي قبورهم إن زرتها نطقت             بل تلك أرواحهم منها تناديــنا 
أرواحهم من سما عليائها نزلت           قد رفرفت وهوت شوقا تهنينا
وقد يستعطف وادي المخازن ليذكرنا بصور الشهامة والبطولة والأمجاد التي عاشها الوادي في وقعته الكبرى :
وادي المخازن ذكرنا بموقعــة          وادي المخازن قم واخطب بها فينا
وادي المخازن لنا صـــــــورا           فوق الرؤوس وذكرنا بماضــــــينا
وادي المخازن بما بلغـــــــت            من المجد رايتنا نلقاك صاغـــــــينا
إن الحقيقة في التاريخ يعلمها            كل الورى فاقترب وناجــــــــينا
ويعتبر الشاعر المرحوم محمد الخمار أن معركة وادي المخازن هي أنشوذة النصر والظفر على لسان الدهر وأبطالها الصناديد هم معجزة العصور والأزمان قائلا :
وصرت على شفة الدهر أنشو            دة المجـــد والـــنصــــر والـظفــر
فما كان يومـــك إلا كـــبدر               وإلا كــطـــحــين أو خـبـــيــــــر
ومــــا كــان أبطال يومك إلا              صـــنــــاديد مفــخـــرة الأعـــصر
أعادوا لنا المجد صرحا أقامــــ              ــــــــوه بالسيف والدم والـــعــــتير
ويتساءل متعجبا الشاعر حسن الطربيق عن وادي المخازن : أي واد واد المجد وإباء الضيم ودماء الفداء ؟ ؟
أي واد يسرى ندى الحواشي             بــيـــن جبـينيــــه فـــــي ثرى آبائي
أي مجد على التعاقب يزجيـــ          ـــه ويلقيه مثل الضوء ضوء السماء
فخقـــت كــــل رايــــة ولواء              بــــدماء مــــوصــــولــــة بـــــدماء
إلى أن يقول في ختام قصيدته بعد أن وصف هذه الملحمة الخالدة :
هكذا هكذا الرجال من المغــر            ب فــــي كــــل وقــعــــة ولــقـــاء
إلى غير ذلك من القصائد التي أشار إليها أستاذنا الدكتور عباس الجراري في كتابه "معركة وادي المخازب في الادب المغربي" وغيرها من القصائد المنشورة في بعض الدواوين الشعرية - كقصيدة عبد الكريم الطبال في ديوانه الأشياء المتكسرة - والملاحم الشعرية مثل " وادي المخازن" للشاعر محمد طريبق و "المعركة الكبرى" للشاعر علي الصقلي.
ولا يعزب عن البال أن الأستاذ عبد المجيد بنجلون كتب قصيدة نثرية عن هذه المعركة الخالدة بلغة شعرية رائعة تحت عنوان " معركة الوادي".
وهكذا ظهر من خلال هذه الصفحات أن الأمة المغربية أمة محاربة مجاهدة، لا تستكين على ضيم، أسال أعداؤها دماءها وأسالت دماءهم على جنبات الوادي دفاعا عن الحمى.
وكانت هذه الحرب انتصارا للحق على الباطل وللهدى على الضلال، ومن أجل تحرير الإنسان المغربي والأرض المغربية. فمعركة وادي المخازن رغم ضراوتها ومرارتها لم يكن للأمة المغربية خيار آخر غيرها فكانت هي الوسيلة الوحيدة لوضع الحق في نصابه. وإذا قدر لجنود المغرب أن يخوضوا غمارها، ويقتحموا دوربها، فلأنهم أجبروا على ركوبها، بعد أن وجدوا أنفسهم يتعرضون للتحديات، وهذا ما دفعهم ليظلوا متوثبيت يقظين متحفزين، محتفظين بسلاحهم كي يدفعوا به عن أرضهم وملتهم ضد نوازع الشر و يحموا بيوتهم ودولتهم من الأخطار التي تتهددها من الداخل والخارج.
فهذه الصور الرائعة من البطولة والشهامة والنجدة والإباء التي ظهرت من خلال معركة وادي المخازن، ألهمت شعراءنا القدماء والمحدثين فخاضوا معارك الجهاد والنزال من خلال أشعارهم، يرسمون صورا خالدة للشهامة المغربية، ولأساليب التصدي والهجوم في حومات معركة وادي المخان، ويسجلون الخوالد والخوارق، ويشيدون بالفتوح والانتصار ويهيبون بالمجاهدين للدفاع دوما عن الأرض والذود عن الحمى، وإعلاء كلمة الله، ويثبتون في نفوسهم الإحساس بقوة العدالة والحق، والاستهانة بالباطل-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق