الأحد، 29 يوليو 2012


الفرق الإسلامية والسلطة



       أظهرت الأحداث السياسية التي رافقت مسألة الخلافة اتجاهات فكرية قامت على أساسها نظريات ذات طابع سياسي ما لبثت أن تحولت إلى مذاهب دينية, وقد عالجت أصول الحكم على أساس تفكيرها ومنها استمدت المبادئ التي ينبغي أن تحكم هذه الأصول.
 وتتمثل هذه الاتجاهات في أربعة مذاهب هي: الشيعة والخوارج والمرجئة وأهل السنة.
1- الشيعة
أ- الشيعة الإمامية
       يقوم مذهب الشيعة الإمامية في أصول الحكم على الاعتقاد بأن عليا ابن أبي طالب أحق الصحابة بخلافة النبي صلى الله عليه وسلم, لا من طريق القرابة أو الإرث, إذ أن حق الأقربين في الإرث, لم يكن معروفا به عند العرب, وبالأولى لم يعترف به الإسلام, بل لأن عليا أفضل الصحابة الأقدمين, وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعترف له بهذه الأفضلية حين جعله وليا على المسلمين.
فقد روى الإمام الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلس وأصحابه في غدير (خم) وهو عائد في السنة العاشرة من حجة الوداع وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه, اللهم وال من ولاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله .
       ويرى الشيعة الإمامية أن هذا الحديث فيه نص صريح على اختيار علي خلفا للنبي صلى الله عليه وسلم, وإن هذا الاختيار وصية من الله تعالى, وقد أمر نبيه بتبليغها في الآية التي نزلت عليه عندما فرغ من حجة الوداع وهي:  يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ  سورة التوبة, ويستدلون في تعيين علي خلفا للنبي بآيات قرآنية أخرى.
       وعلى ذلك يكون كل من أبي بكر وعمر وعثمان متجاوزا على حق علي ومغتصبا له, وأن هذا الحق المقرر لعلي يستمر في ذريته من زوجته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالخلافة أو (الإمامة) عندهم, كما يفسرها الشهرستاني وابن خلدون: ( ليست من مصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة ويتعين القائم فيها بالتعيين, بل هي قضية أصولية وركن من أركان الدين وقاعدة الإسلام, ولا يجوز لنبي إغفالها وتفويضها إلى الأمة, بل يجب تعيين الإمام لهم, ويكون معصوما من الكبائر والصغائر) .
       وهذه العصمة متأتية من أن عليا هو وصي النبي صلى الله عليه وسلم ومستودع علمه, وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأخص صفة من صفاته وهو القضاء, فقال: أقضاكم علي والقضاء يستدعي كل علم يتصل بالشريعة, وبذلك يحيط علي بكل ما يتصل بالشريعة, وعلمه وديعة نبوية بها يتم ما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم, وينتقل هذا العلم إلى الأوصياء من بعده وهم بنوه من فاطمة, فهم معصومون عن الخطأ وعن السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله تعالى, أما ما سواه فيجوز عليهم الخطأ والنسيان .
      والإمامة عند الشيعة الاثني عشرية تتسلسل بعد علي ابن أبي طالب في ابنيه الحسن ثم الحسين, ثم تنتقل إلى علي (زين العابدين) ابن الحسين, ثم إلى ابنه محمد (الباقر), ثم إلى ابنه جعفر (الصادق), ثم إلى ابنه موسى (الكاظم), ثم إلى ابنه علي (الرضا), ثم إلى ابنه محمد (الجواد), ثم إلى ابنه علي (الهادي), ثم إلى ابنه الحسن (العسكري), ثم إلى ابنه محمد المنتظر (المهدي) الذي اختفى في كهف بسامراء سنة 256هـ وهو عندهم في حالة غيبة ينتظرون عودته ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا ..
     وعندهم أن تسلسل الإمامة في اثني عشر إماما, قد نص النبي صلى الله عليه وسلم على تسميتهم بالاسم, ومن ثم عرفوا بالإمامية الاثني عشرية .. ويذهبون إلى أن الاعتقاد بالإمامة وطاعة الإمام فرض ديني وواجب شرعي يأثم تاركه ويعد مشركا, لأن الإمامة منصب إلهي, وهي بمرتبة التوحيد وركن من أركان الإسلام .
ب- الشيعة الزيدية
       هم أتباع زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي ابن أبي طالب, ويذهبون إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين عليا بالنص الصريح, كما يعتقد الشيعة الإمامية, وإنما عينه بالأوصاف, غير أن الأوصاف التي عرفت عن علي تجعله المقصود بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم, لأنها لن تتحقق في أحد كما تحققت في علي, ويشترط الزيدية في الإمام أن يكون هاشميا, ورعا, تقيا, سخيا, ومن بعد علي يشترط أن يكون فاطميا, أي من نسل فاطمة بنت رسول الله, سواء أكان من نسل الحسن أم من نسل الحسين, ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم.
      غير أنهم خلافا للشيعة الإمامية, يرون جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل, إذا قضت المصلحة بذلك. فالصفات التي يجب أن تجتمع في الإمام ليست هي الصفات الواجبة لصحة الإمامة, وإنما هي صفات الإمام الكامل, وهو أولى بها من غيره, فإن اختار أهل الحل والعقد إماما لم يستوف بعض هذه الصفات وبايعوه صحت إمامته ولزمت بيعته, ولهذا أقر الإمام زيد إمامة الشيخين: أبي بكر وعمر, ولم يكفر أحدا من الصحابة, ولما سمعت شيعة الكوفة رأيه وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين رفضوه, ومن ثم عرفوا باسم (الرافضة) .
جـ- الكيسانية
     هم أتباع محمد بن علي ابن أبي طالب من زوجته خولة بنت جعفر الحنفية والمعروف بابن الحنفية وقد جرت تسميتهم بالكيسانية نسبة إلى (كيسان) مولى أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب, وهو الذي اقتبس من علي ابن أبي طالب ومن ابنه محمد الأسرار كلها من علم الباطن وعلم التأويل وعلم الآفاق والأنفس.
وينادي أتباعه بإمامة محمد بن الحنفية وبنيه من بعد أخويه الحسن والحسين. وقد تبنى هذا المذهب المختار ابن أبي عبيد الله الثقفي, وتوجه إلى العراق سنة 64هـ بعد موت يزيد بن معاوية داعيا لمحمد ومدعيا أنه من دعاته, وأخذ يذكر علوما يزخرفها بترهات ويعزوها إليه, وقد صحب معه كيسانا وجعله على شرطته.
      وتتبع قتلة الحسين وقتل من ظفر به. وقد حمله على الانتساب إلى محمد بن الحنفية حسن اعتقاد الناس فيه وامتلاء قلوب الناس بمحبته, فقد كان محمد كثير العلم, غزير المعرفة, وقد أخبره أبوه علي ابن أبي طالب بأحوال الملاحم وأطلعه على مدارج العالم, فكان مستودع علمه. ويروي الشهرستاني أن محمدا بن الحنيفة تبرأ من المختار حين وصل إلى علمه أنه خدع الناس وادعى أنه من دعاته ..
    وكان أتباع هذا المذهب يعتقدون أن محمدا بن الحنفية يقيم في جبل (رضوى) من جبال تهامة بين أسد ونمر يحفظانه, وعنده عينان تجريان بعسل وماء, وأنه يعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا. وهذا أول حكم بعودة الإمام بعد غيبته عند الشيعة .
د- الإسماعيلية
       هم أتباع إسماعيل بن جعفر الصادق وهو أكبر أبنائه, وقد توفي في حياة أبيه. وهنا افترق الشيعة إلى فرقتين: فرقة قالت إن الإمامة انتقلت إلى موسى (الكاظم) ابن جعفر الصادق مدعية أن الإمامة سقطت عن إسماعيل بوفاته, وسميت (الموسوية) أو (الجعفرية), وفرقة ادعت أن الإمامة انتقلت من إسماعيل, وهو عندهم الإمام السابع, إلى ابنه محمد ودعيت باسم (السبعية) واشتهرت باسم (الإسماعيلية)
 ومن بعده بدأ دور الأئمة المستورين, الذين كانوا يسيرون سرا خوفا من بطش العباسيين, وكان أول من ظهر منهم بعد الستر عبيد الله (المهدي) مؤسس الدولة العبيدية بأفريقية والتي عرفت فيما بعد باسم الدولة الفاطمية, وكانت أكبر الدويلات التي نشأت في العصر العباسي .
هـ - الشيعة الغلاة
       هم فرق تظاهرت بولائها لأهل البيت ونسبت إلى الشيعة ظلما. وقد غلت في حق أئمتها وزعمت أن روح الإله تناسخت فيهم, وقد تأثرت مذاهبهم بمذاهب الحلولية ومذاهب التناسخ الفارسية والهندية.
 وأول هذه الفرق الفرقة السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ فقد ادعى أن في علي ابن أبي طالب جزءا إلهيا يتناسخ في الأئمة من بعده, ومنهم البيانية أصحاب بيان بن سمعان النهدي التميمي, وقد ادعى حلول جزء من الإله في علي ابن أبي طالب ثم في ابنه محمد ابن الحنفية ومنه انتقل إلى ابنه عبد الله أبي هاشم, ثم ادعى الألوهية لنفسه. ومنهم المغيرية أو المنصورية أصحاب أبي منصور المغيرة بن سعيد العجلي, وقد غلا في حق علي ابن أبي طالب, ثم ادعى الألوهية لنفسه واستحل المحارم, ومنهم الخطابية أصحاب أبي الخطاب محمد ابن أبي زينب الأسدي, وفد زعم أن الأئمة أنبياء ثم آلهة, وزعم أن جعفر الصادق إله زمانه , .
       ومنهم الغرابية, وهم القائلون بأن الله أرسل جبريل لعلي ابن أبي طالب, ولكنه جاء خطأ إلى محمد لأنه يشبهه كما يشبه الغراب الغراب, فعلي عندهم هو الرسول وأولاده من بعده هم الرسل. ومنهم فرق أخرى نحت هذا النحو وقد اندثرت وأتت على تفصيلها كتب الملل والنحل .
2- الخوارج
       رأينا أن الخوارج كانوا من شيعة علي ابن أبي طالب ثم فارقوه وخرجوا عليه وقاتلوه لأنه لم يتب كما تابوا, وأضحى لهم عقيدة دينية وأخرى سياسية, خالفوا فيها الشيعة والمذاهب الأخرى.
فأما عقيدتهم الدينية فإنهم لا يعتبرون الإيمان بالقلب كافيا, بل لا بد أن يقترن بالإيمان عمل صالح, عملا بقوله تعالى:  مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا  سورة الكهف، وقوله:  الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ  سورة البقرة. فالله تعالى يقرن الإيمان بالعمل, فمن آمن بقلبه ولم يقرن إيمانه بعمل صالح فهو كافر. والعمل الصالح هو الذي يفرضه الدين, ولذلك نراهم يكفرون عليا ابن أبي طالب لأنهم طلبوا إليه أن يتوب توبة مقرونة بالعمل, والعمل المطلوب منه أن يرفض وثيقة التحكيم ويعود إلى قتال معاوية فأبى, فاعتبروه رافضا العمل بأحكام الدين, لأنه بقبوله وثيقة التحكيم يكون قد خلع نفسه من إمارة المؤمنين وسوى نفسه بمعاوية, وهو وال من ولاة الدولة, وأن الحكمين حكما برأيهما ولم يحكما بحكم الله, وحكم الله يقضي بتأييد حق علي في الخلافة, لأنه هو الخليفة الذي بايعه المسلمون, فكان رفض طلبهم كبيرة, أحلوا من أجلها قتال علي وقتله.
       وأما عقيدتهم السياسية فهي تستند إلى مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام, وهو المساواة بين المسلمين فالمسلمون متساوون في الحقوق والواجبات, لا تمييز بينهم ولا تفاضل إلا بالتقوى عملا بقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  سورة الحجرات. وعلى أساس هذا المبدأ أقاموا قاعدتهم في أصول الحكم وهي أن الخلافة حق من حقوق المسلمين يتساوى فيه العربي وغير العربي, كما يتساوى فيه الأحرار والأرقاء. وترجع فكرة المساواة إلى أصولهم القبلية, فالخوارج كانوا من أعراب تميم وحنيفة وربيعة, وكان لهم شأن كبير بين العرب, وقد أعجبوا بمبادئ الإسلام, التي تلائم فطرتهم, فاعتنقوه, وقد ساءهم أن تدعي أرستوقراطية مكة والمدينة (قريش) حقها في الحكم وحصره فيهم من دون المسلمين, فكان أول ظاهرة لاستيائهم حركة الردة, حين امتنعوا عن دفع الزكاة لقريش, مع بقائهم على الإسلام, فحاربهم أبو بكر وأخضعهم وألزمهم بالزكاة, غير أنهم ظلوا متمسكين بعقيدتهم السياسية, وهي أن الخلافة ليست للقرشيين وحدهم وإنما هي حق للأفضل من جميع المسلمين, على اختلاف ألوانهم وأجناسهم. وقد انضم إليهم الأنصار والموالي وغيرهم من الناقمين على الحكم الأموي والعباسي, لما نالهم من الظلم والجور, كما انضم إليهم كثير من أعراب البادية, ممن ظلوا على سذاجة تفكيرهم, ولم يتجردوا من النزعات القبلية التي ظلت تسيطر عليهم, وهم بطبيعتهم يعيشون في بواديهم أحرارا لم يتعودوا الخضوع للسلطان, ولم يألفوا الحكم المفروض عليهم, ولهذا نجد فريقا من الخوارج يرى أن الإمامة (الخلافة) ليست من الضرورات التي لا بد منها, وإنها غير واجبة في الشرع ويمكن الاستغناء عنها, لأنها مبنية على معاملات الناس وعلاقة بعضهم ببعض, فإذا تعادلوا وتناصفوا وتعاونوا على البر والتقوى, واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه, فإن تشابك مصالحهم وتقواهم يحتم عليهم أن يعدلوا ويتبعوا الحق, وبذلك يستغنون عن الإمام, غير أنهم يرون الحاجة إلى الإمام إذا احتاج المسلمون إلى من يحمي ديار الإسلام ويجمع شمل الناس, وفي هذه الحالة يشترط في الإمام العدل, فالعدل عندهم حق أمر الله به في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ  سورة النحل. فإذا حاد الخليفة عن العدل, فجار وظلم وفرض طاعته بالقهر والغلبة فيكون معاندا لأمر الله, مخلا بأحكامه, والإخلال بأمر فرضه الله خروج عن الدين وكفر به, وكبيرة تبيح خلع الخليفة, أو قتله إذا أبى أن يخلع نفسه.
       إنهم لا يعترفون بشرعية السلف إلا لأبي بكر وعمر وست سنوات من خلافة عثمان, لأنه حاد عن الطريق المستقيم الذي سلكه الشيخان من قبله وهما: أبو بكر وعمر, فآثر قرابته وولاهم الأعمال وأغدق عليهم الأموال من بيت المال, كما لا يعترفون بشرعية خلافة علي ابن أبي طالب إلا ابتداء من مبايعته بالخلافة حتى قبوله التحكيم, وقد أباحوا قتل من لا يرى رأيهم, ومن يقول بشرعية خلافة عثمان بعد السنوات الست, وشرعية خلافة علي بعد قبوله التحكيم, فهو عندهم يستحق القتل هو ونساؤه وأولاده .
      وقف الخوارج أنفسهم لنصرة العدل ومقاومة الظلم وحماية المستضعفين, وفي ذلك فجروا الثورات ضد الأمويين وضد عمالهم, وانضم إلى الموالي من الفرس والبربر من أهل شمالي إفريقية, لما كانون يلقونه من حرمانهم العدل والمساواة. وكان الخوارج يشترطون في زعمائهم الشجاعة والتقوى ويبايعونهم على الموت ويلقبونهم بأمير المؤمنين. وكان قتالهم لمخالفيهم من الأشواق التي كانت تجذبهم إلى مزيد من التضحية والاستشهاد, وهم يعتبرون أنفسهم المسلمين حقا دون سواهم, أما من عداهم فكفار يبيحون قتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم. وقد افترق الخوارج إلى فرق منها: الأزارقة أصحاب أبي راشد نافع بن الأزرق وإلى نجدات أصحاب نجدة بن عامر الحنفي, وإلى عجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد, وإلى أباضية أصحاب عبد الله بن أباض وإلى صفرية أصحاب زياد بن الأصفر وعمران بن حطان, وقد أوضحت كتب الملل والنحل ما بينهم من فروق.
3 - المرجئة
      هم فئة من المسلمين, خالفوا رأي الخوارج في مرتكب الكبيرة وقالوا بأن كل من آمن بوحدانية الله لا يمكن الحكم عليه بالكفر, لأن الحكم عليه موكول إلى الله تعالى وحده يوم القيامة, مهما كانت الذنوب التي اقترفها. وهم يستندون في اعتقادهم إلى قوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  سورة التوبة. والعقيدة الأساسية عندهم عدم تكفير أي إنسان, أيا كان, ما دام قد اعتنق الإسلام ونطق بالشهادتين, مهما ارتكب من المعاصي, تاركين الفصل في أمره إلى الله تعالى وحده, لذلك كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية, كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وقد نشأ هذا المذهب في أعقاب الخلاف السياسي الذي نشب بعد مقتل عثمان بن عفان وعلي ابن أبي طالب, وعنه نشأ الاختلاف في مرتكب الكبيرة. فالخوارج يقولون بكفره والمرجئة يقولون برد أمره إلى الله تعالى إذا كان مؤمنا, وعلى هذا لا يمكن الحكم على أحد من المسلمين بالكفر مهما عظم ذنبه, لأن الذنب مهما عظم لا يمكن أن يذهب بالإيمان, والأمر يرجأ إلى يوم القيامة وإلى الله تعالى مرجعه. ويذهب الخوارج, خلافا للمرجئة, إلى أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار. وقد وقف أكثر الفقهاء من أهل السنة والمحدثين موقفا وسطا, فرأوا أن قول المرجئة بعفو الله عن المعاصي قد يطمع الفساق, فقرروا أن مرتكب الذنب يعذب بمقدار ما أذنب ولا يخلد في النار, وقد يعفو الله عنه. ويعرف هؤلاء بمرجئة السنة ومنهم سعيد بن جبير وحماد ابن أبي سليمان وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني, وآخرون .
ويذهب أكثر المرجئة مذهب أهل السنة في أن الخليفة يجب أن يكون قرشيا, وأن الإمامة لا تجوز إلا في قريش لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش
4- أهل السنة
        وهم الجماعة الكبرى من أهل الإسلام, وتضم أنصار بني أمية والموالي, كما تضم المرجئة وأهل الحديث والفقهاء, ومن ورائهم جماهير الناس الذين كانوا يوالون الحكام رهبة أو رغبة أو محبة, ومن هذه الجماعة تألفت القاعدة العريضة للإسلام. وقد قرر فقهاؤهم شروطا للخليفة, وهي أن يكون من صميم قريش وأن يكون حرا بالغا, عاقلا, من أهل العلم بأحكام الشرع, واستنبطوا من الطرائق التي تتم بها اختيار الخلفاء الراشدين قواعد لتولي الخلافة وهي:
       أ-   أن يتم اختيار الخليفة من قبل أهل الحل والعقد, وهم أهل الرأي والحكمة والعدالة في بلد الخلافة, على أن لا يقل عددهم عن خمسة, يجمعون على اختيار الخليفة من بينهم, كما جرت بيعة أبي بكر بخمسة وهم: عمر بن الخطاب وأبو عبيدة ابن الجراح وأسيد بن الحضير وبشير بن ثعلبة, وسالم مولى أبي حذيفة, ثم تبعهم الناس. كذلك جعل عمر بن الخطاب الشورى في ستة ليختاروا من بينهم أحدهم للخلافة .

       ب-  أن يعهد الخليفة بالخلافة لمن يختاره لها, ممن تتوفر فيه شروط الخلافة, ولا يحتاج إلى شهادة أهل الحل والعقد, كما فعل أبو بكر حين عهد بالخلافة إلى عمر بن الخطاب فأثبت المسلمون خلافته بعهده .

       جـ-  ولما تحولت الخلافة إلى ملك, أجاز الفقهاء أن يعهد الخليفة إلى ابنه أو إلى أخيه, إذا كانت تتوفر في المعهود له صفات الخليفة, كما أجازوا للخليفة أن يعهد إلى اثنين أو أكثر من أبنائه, إذا رتب الخلافة فيهم .
د- كذلك أجاز الفقهاء الخلافة لمن ينالها غصبا بالقهر والغلبة, حتى ولو كان برا أو فاجرا, لكيلا يبيت المسلمون بغير إمام . ومن الواضح أن فقهاء السنة لم يستطيعوا وضع قواعد ثابتة للخلافة, كما فعلت المذاهب الأخرى, بل نزلوا على حكم الواقع الذي كان كثير ما يتقرر بالقوة, فكان يرقى إلى سدة الخلافة من لا تتوفر فيه الشروط المطلوبة التي باتت شروطا نظرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق