السبت، 28 يوليو 2012

ملاحظات عن اللباس الموحدي

]لم يحض اللباس المغربي في " العصر الوسيط " بأية دراسة تذكر وعدم اهتمام الباحثين بهذا الموضوع يرجع في الأصل إلى قلة المصادر ونذرة المعلومات. ويفاجأ الباحث عندما يرى أن فكرة ما تطغى على عصر بأكمله, مثلا فقد اعتمد وتناقل الباحثون فقرة المؤرخ عبد الواحد المراكشي بشان الزي الخاص الذي الزمه الخليفة المنصور اليهود واتهم بالتالي العصر الموحدي كله بالتظرف ومحاربة " أهل الذمة "(*) . وسنحاول من خلال هذا العرض الموجز وضع الأمور في مسارها وإرجاع هذه الحلقة إلى مكانها و ذلك من خلال قراءة لتاريخ اللباس في الفترة الموحدية.

قبل أن ينتقل إلى نقد السلطة و الثورة على الحكام و الخليفة, دشن ابن تومرت " حسبته " بإصلاح المجتمع و النهوض ضد بعض العادات و التقاليد الموروثة. فبوصوله مثلا إلى مدينة بجاية نراه " ينهى الناس عن الاقراق الزرارية و عمائم الجاهلية و لباس الفتوحيات و يقول : " لا تتزيوا بزي النساء لانه حرام "(1). و يصور لنا البيذق دخول المهدي على الخليفة المرابطي علي بن يوسف في المشهد التالي : " … فوجد علي بن يوسف قاعدا على غفارة ابن تيزمت و الوزراء واقفون, فقال له الوزراء : ود الخلافة على الأمير. فقال لهم و أين الأمير؟ إنما أرى جواري منقبات , فلما سمع ذلك علي بن يوسف حط النقاب عن وجهه و قال لهم صدق " (2). وبعيدا عن مصداقية هذا النص و مدى "صحته" فانه يؤكد لنا نقطة أشارت إليها كل المصادر الوسيطية ألا وهي لثام رجال المرابطين في حين النساء يسفرن عن وجوههن(3). ويظهر أن المهدي ابن تومرت لم يكن راضيا عن هذه العادة فحاول الوقوف ضدها و إزالتها. ولقد سار عبد المؤمن على هذا النهج, فقبيل فتح مراكش, يقول ابن عذاري : " ووصل لعبد المؤمن يحيى بن إسحاق انجمار في جملة من إخوانه مسوفة و كلهم ملثمون ثم أزالوه بظاهر فاس و صاروا في زي الموحدين " (4). و إلى نفس المعنى يشير صاحب " الروض الهتون " عند حديثه عن القائد الإسباني عنصاليس الذي انضم إلى الصف الموحدي " فكان في زي الموحدين " (5). وللأسف لم يظهر لنا المؤلفان نوعية هذا اللباس, كما أن لفظة " الموحدين " تبقى غامضة, فهل المقصود بها الطبقة الحاكمة أم عامة السكان ؟ لكن يبدو جليا أن الموحدين جعلوا علاقة وطيدة ما بين اعتناق مذهبهم وارتداء زيهم الجديد.

ومما لا شك فيه أن الموحدين اتخذوا مند بداياتهم الأولى لباسا لهم خالفوا فيه خصومهم و بالأخص المرابطين. وكان للباس دور كبير في خدع الموحدين الحربية, يقول ابن غازي : " فبينما هم (أهل حصن قرب مكناسة) يوم أحد قد اجتمعوا …إذ اشرفوا على خيل مقبلة إليهم في زي المرابطين : اللثم و الغفائر القرمزية و المهاميز التاشفينية و السيوف المحلاة و العمائم ذوات الذؤابات, فلما رأى القوم هذا الزي قالوا : تقوية السلطان جاءتنا و سارعوا للقائهم فرحين بهم و هبطوا عن أخرهم, فلما خرجوا عن منع القصر و السوق حسر الفرسان اللثم و نادوا : أبابا يا المهدي! وكان ذلك شعارهم و أجالوا السيوف عليهم " (6). فالظاهر أن الموحدين تقنعوا بالزي الحربي المرابطي و تمكنوا من خدع حامية هذا الحصن و أفنوهم عن أخرهم.

من خلال قراءتنا لبعض مصادر الفترة يظهر جليا ان الزي الموحدي في اولياته, كرموز السلطة, كان جد بسيط خال من كل تعقيد, يقول ابن عذاري واصفا مجلس عبد المؤمن اوائل سنة 546هج (خمس سنوات فقط بعد فتح مراكش) " في اول يوم من هذا العام المؤرخ امر امير المؤمنين الوافدين بدخولهم اليه و سلامهم عليه, في رحبة دار ابن عشرة وهو جالس على حصير في الرحبة المذكورة و عليه غفارة زبيبية, و على راسه عمامة صوف "(7). فالخليفة لم يرتد فاخر الثياب انما هي غفارة و عمامة صوف, اما المجلس فخال من كل ابهة اقيم برحبة و عماده حصير. و لتكتمل الصورة فقد تكلم بهذا المجلس كل من هب و دب كابي القاسم بن الحجام رئيس الوفد الاندلسي الذي " غلط في مقاله …و خجل جميع الوفد من مقاله ".

لم يكتفي الموحدون باتخاذ زي لهم يميزهم عن خصومهم, بل سيحدثون ما يمكن أن نطلق عليه " ثورة لباسية " . فبالرغم من قلة المعلومات يظهر انهم جعلوا لكل طبقة من طبقاتهم الشهيرة لباسا يعرفون به. يقول الذهبي و غيره أن " عبد المؤمن كان يتزيا بزي العامة ". ويصف البادسي أحد الصالحين فيقول " عليه ثياب فاخرة من ثياب العامة " (8). هذا و لا نعلم شيئا عن ثياب العامة هذه, لكن ما يمكن استنتاجه هو أن " طبقة العامة " كان لهم لباس يختلف عن لباس أهل الرتب في التراتبية الموحدية. وفي فقرة أخرى من كتابه " المقصد الشريف " يصف البادسي المتصوف محمد بن دوناس قائلا : " كان يتستر بلباس العامة من البرابر كساء صوف مطرفة الاجوان, و يعمل على رأسه جلموسا غليظا, ويتقلد بسراف –وهو سكين كبيرة- فمن لقيه قال هذا لص أو محارب " (9). فنحن أمام لباس خاص شبيه بزي اللصوص و المحاربين, لكن بداية النص يطرح مشكلا عويصا يصعب الخروج منه : فهل هناك فرق بين لباس العامة ولباس العامة من البرابر؟ و من يكون يا ترى هؤلاء " العامة " ؟ امام نذرة المصادر وعدم دقة المصطلحات يبقى هذا النص محتفظا بلغزه.

من بين الطبقات الموحدية التي حظيت بوصف دقيق لهندامها نجد طبقة الحفاظ إحدى دعائم الحركة الموحدية مند عهد المهدي. يقول البادسي اثر حديثه عن الشيخ الولي علي بن محمد المراكشي : " عليه جبة صوف خضراء رائقة اللون, و حزام صوف تلمساني و عمامة بيضاء, و نعلان لطيفان و هو شيخ بهئ وضاء يظنه كل من يراه انه من حفاظ الموحدين " (10). فالملاحظ إذن وبالرغم من قلة المعلومات أن لكل طبقة موحدية زي خاص بها تعرف به أينما حلت أو ارتحلت, لكننا نجهل تماما متى بدا العمل بهذا التنظيم. الراجح أن لا هذا الزي و لا التنظيم لم يظهرا في حياة المهدي المعروف بزهده و تقشفه كما أن رموز السلطة و الخلافة ما زالت غائبة, فالدولة مازالت في بدايتها تطبعها السذاجة و الخشونة (11).

لقد كانت فرص الأعياد و الاحتفالات التي تقيمها السلطة (تنصيب وال أو قدوم أحد السادة أو بشارة فتح …) مناسبة للاطلاع و التعرف على بعض أنواع الألبسة المعروضة أو الممنوحة للوافدين, يقول ابن صاحب الصلاة : " ثم انعم عليهم [على الوافدين] بالكسوة التامة من العمائم والغفائر والبرانس و الأكسية بان حصل لكل فارس غفارة وعمامة وكسا وقبطية و شقة " (12). ولربما على اثر إحدى هذه الاحتفالات سيقوم الخليفة الثاني أبو يعقوب يوسف بتغيير زي فرقة العبيد. يقول صاحب المن بالإمامة : " و كسا العبيد بالثياب المصنعة بالألوان " لكننا نجهل تماما تفصيلات هذه الألوان مما ضيع علينا فرصة التعرف عليها(13).

إن المتتبع لحديث ابن صاحب الصلاة من خلال السفر المتبقي من كتابه ليظهر له امتعاض المؤلف اتجاه العرب و عدم رضاه بما يقترفونه من أعمال, و إبان إحدى مساجلاته ضدهم اثر عملية " تمييز" يتحفنا المؤلف بصورة للعمامة قل ما يقال عنها أنها " كاريكاتورية " مخجلة, يقول : " فلقد رايتهم في أيام التمييز المذكور ينزل الخارج من الدار المعظمة من تمييزه عن فرسه و يركبه أخر من الرجالة لهم و يدخل عليه و يغير بعض ثيابه و آلته, و كان العربي إذا دخل يأخذ عمامة صاحبه فيبدا بتعميمها و هي في راس الخارج, فلا يزال يعتمها في رأسه و هي تنحل من راس صاحبه حتى تتم باعجل الاستعجال بمرأى يضحك الحاضرين, و كذلك في إعارة الثياب و آلات الركوب يجرد بعضهم بعضا على مرأى من الناس, لا يهابون أحدا ولا امرا "(14). و بالرغم من هذه اللامبالاة فان الخليفة انعم على العرب " وكسا جميعهم بالقباطي و القمص و الغفائر و العمائم ". و في تظاهرة مماثلة سنة 566هج لم يتوانى " اتباع العرب " عن احذاث " هوشة " ادت الى " اختطاف الثياب و استلاب الجلباب " و ذهب ضحيتها على حد قول ابن صاحب الصلاة " اربعة اشخاص من عبيد الناس و بعض احرار من سائر الاجناس " مما دفع بالخليفة الى " رفع الطعام مدة ثلاثة ايام, عتبا على العرب بسبب جراتهم على سوء الادب ".

مع الخليفة يعقوب المنصورتخرج المصادر عن صمتها و تتحفنا بمجموعة من الاشارات عن التغييرات اللباسية التي احدثها الخليفة, أولها استهدفت الجالية اليهودية بالمغرب. فلقد الزمهم الخليفة المنصور ارتداء شكلة خاصة بهم يعرفون بها عن غيرهم. يقص علينا ذلك المؤرخ عبد الواحد المراكشي في فقرة عنونها كالتالي : " اليهود في عهد أبى يوسف ". يقول المؤلف : " و في آخر أيام أبى يوسف أمر أن يميز اليهود الذين بالمغرب بلباس يختصون به دون غيرهم, و ذلك ثياب كحلية وأكمام مفرطة السعة تصل إلى قريب من أقدامهم و بدلا من العمائم كلوتات(15) على أشنع صورة كأنها البراديع تبلغ إلى تحت آذانهم, فشاع هذا الزي في جميع يهود المغرب, ولم يزالوا كذلك بقية أيامه و صدرا من أيام ابنه أبي عبد الله, إلى أن غيره أبو عبد الله المذكور, بعد أن توسلوا إليه بكل وسيلة, و استشفعوا بكل من يظنون أن شفاعته تنفعهم, فأمرهم أبو عبد الله بلبسان ثياب صفر و عمائم صفر فهم على هذا الزي إلى وقتنا هذا –وهو سنة 621 " (16).

لعل أول استنتاج يمكن الوصول إليه هو السكوت المطبق للمصادر إزاء دوافع هذا الإجراء. صحيح أن المراكشي في آخر هذه الفقرة سيعلل اتخاذ هذا القرار بشك المنصور في " إسلامهم" و " تردده في أمرهم ". أما ابن عذاري فيوافق صاحب " الاستبصار " و يرى أن اليهود " علوا على زي المسلمين وتشبهوا في ملابسهم بعليتهم و شاركوا الناس في الظاهر من أحوالهم فلا يميزون من عباد الله المؤمنين " (17).
إن تعليل المراكشي و هو المهم عندنا [ لانه عليه اعتمد جل المؤرخين اللاحقيين ] لا يخلو من تناقض و يشوبه غموض كثير. فالمؤرخ نفسه يؤكد أن " اليهود عندنا [في المغرب] يظهرون الإسلام و يصلون في المساجد و يقرؤون القران, جارين على ملتنا و سنتنا " بعبارة أخرى انهم ولو ظاهرا " مسلمين ", فلماذا إذن يصفهم بأنهم " يهود " و لماذا يلزمهم بلباس " يختصون به دون غيرهم ". أما إذا كانوا فعلا " يهودا " فيجب معاملتهم كاهل ذمة لا كما يرى المؤرخ " لو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم و سبيت ذراريهم و جعلت أموالهم فيئا للمسلمين ". و لا ننسى أن المهدي ابن تومرت الذي عرف بتشدده قد أصاب عين الشريعة في قضية جثة اليهودي بالحضرة التونسية, يقول البيدق : " فلما صليت الفريضة صلى على الجنائز, فنظر الإمام إلى جنازة من وراء الناس فقال لهم : لم لا تصلون على هذه الجنازة ؟ قالوا له هو يهودي و كان يصلي, فقال لهم رضي الله عنه افيكم من يشهد له بالصلاة ؟ فقال الناس نعم من كل جانب و مكان, فقال لهم قد شهدتم له بالإيمان, ثم أمر من يقيم الصفوف وصلى عليه و نحن من ورائه " (18). ولم يقف المهدي عند هذا بل " دعا الفقهاء ووبخهم و عرفهم بالسنة وبين لهم الكتاب العزيز, فقالوا له بعد أن عرفوا الحق جهلنا يا فقيه " . على كل يبقى المراكشي المؤرخ الأول الذي أشار إلى لباس اليهود و صلابة موقف المنصور إزاءهم. وهو راي اعتقد ان فيه كثير من الغلو و الاجحاف اراد المؤلف من خلاله " التباهي على المشارقة نظرا لوضعية اليهود لديهم" (19).

ولنعد لزي اليهود هذا, فالمراكشي يؤكد على انه كان لباس " على أشنع صورة " أما ابن عذاري فيراه شكلة " كحداد ثكلى المسلمين ". و في الوقت الذي يراه المؤرخ الأول على انه "ثياب كحلية " غير لونها إلى الأصفر في عهد المستنصر, يذهب المؤرخ الثاني منحى اخر ويصف لونها بأنه ازرق ويأتي بأرجوزة لليهودي ابن نغرالة يتفاؤل فيها بهذا اللباس الأزرق و بدنو نهاية الخليفة المنصور(20). اما الزركشي فله راي اخر, فهو يرى ان المنصور امرهم " بعمل الشكلة وجعل قمصهم طول ذراع في عرض ذراع و جعل لهم برانس و قلانس زرق "(21).

ان لون هذا الزي اليهودي لغريب فهل هو ابيض (حداد ثكلى المسلمين) ام عكسه اسود (اكحل) ؟ والى ما غير ا الى الاصفر ام الازرق ؟ وهل هو لباس ام فقط شكلة ؟.
بالرغم من ان المراكشي معاصر للاحداث, الا ان تاكيده على اللون الاصفر هو من قبيل " الغريب المستغرب " كما تقول الاستاذة عصمت دندش(22), فهذا اللون حرموا منه لانه " لباس الصحابة و الخلفاء و الاشراف, و باللون الاصفر تباهى عبد الرحمان بن عوف حين تزوج عند قدومه المدينة, و اردية الانصار رضي الله عنهم كانت مصبوغة بالاصفر, و بذلك كانوا يشهدون المجالس و المحافل ... " (23). وفي اعتقادي ان خليطا من اللون الاسود ( ثياب كحلية) والازرق ( برانس و قلانس) كانا دعائم هذا اللباس او الشكلة اليهودية في العصر الموحدي. كما لا يخفى ايضا التشابه الواضح بين هذين اللونين خصوصا اذا كان اللون الازرق مغموقا. وفي الابيات المتبقية من ارجوزة ابن نغرالة (24) نقرا :
في صبغ ذا الازرق لشرفه خيارا فافهموا يا قوم هذي الاشارا
نجم زحل اخبر بذي العلاما و بدل الشكلا و هي سلاما
شاشية زرقا بدل العماما و شاش ازرق بدل الغرارا

هذا و لوضع الأمور في مسارها الصحيح, لا ننسى انه مند أواخر سنة 580ه أي في أوليات خلافته, أمر المنصور " بقطع لباس الغالي من الحرير,والاجتراء منه بالرسم الرقيق الصغير, و منع النساء من الطرز الحفيل, أمر بالاكتفاء منه بالساذج القليل, و أمر بإخراج ما كان في المخازن من ضروب ثياب الحرير و الديباج المذهب فبيعت منه ذخائر لا تحصى بأثمان لم توف و لم تستقص "(25) ولم يشر ابن عذاري إلى سبب اتخاذ هدا الإجراء. أما المراكشي فيؤكد انه بعد قتل أخيه أبي حفص عمر الرشيد و عمر سليمان اللذان تخلفا عنه, اظهر الخليفة " زهدا و تقشفا وخشونة ملبس و مأكل "(26).

أما التغيير الثاني الذي أحدثه المنصور والسابق أصلا عن شكلة اليهود فترجع أحداثه إلى سنة 582ه اثر حركة المنصور إلى مدينة قفصة. لما وصل الركب الخلافي إلى رباط تازة لاحظ المنصور أن " اكثر القرابة من الاخوة و العمومة قد اصطفوا و اختصوا بلباس الغفائر الزبيبية و البرانس المسكية, فانكر عليهم ملازمة ذلك الزي لكونه من زي الخليفة في حالتي ركوبه و جلوسه في كل موطن " (27). فالأمر جد واضح, فالخليفة نهى قرابته من اتخاذ الزي و الألوان الخليفية الخاصة به, و كلف السيد أبو زيد أقربهم إليه بإيصال الأمر إليهم. و إذا ما تتبعنا أقوال ابن عذاري " فلم يعد أحد منهم بعد ذلك للباس تلك الألوان المختصة بالسلطان ". لكن يظهر أن الأمر لم يتم حله بهده السهولة , فلربما رأى أهل قرابة الخليفة في هذا الإجراء حدا من سلطاتهم خصوصا و انهم " كانوا متهاونين بأمره (المنصور) محتقرين له " فلم يقبلوا أن يحد من صلاحياتهم و منعهم من اتخاذ أزياء وملابس كانوا قد ألفوها. و في هدا الإطار يقول المراكشي انه بعد قتل المنصور لبعض أفراد قرابته " لم يزل أمر القرابة من يومئذ في خمول و هلم, و قد كانوا قبل ذلك لا فرق بين أحدهم و بين الخليفة سوى نفوذ العلامة " (28).

و خلاصة القول اذا كانت كل هذه التغييرات قد تمت و احدثت فعلا في عهد المنصور, فقد نسيت او بالاحرى تنوسيت وطويت وعلاها النسيان ولم تحتفظ الذاكرة الا " بنكبة " اليهود وما اعتراهم من اجحاف و بالتالي ينعت عصر وخلافة باكملها (الخلافة الموحدية) بالتطرف واضطهاد اهل الملل و النحل الاخرى. و الغريب ان المؤرخ الشهير لسان الدين ابن الخطيب في "احاطته" كان قد نقل عن صاحب " اعلام مالقة " المعاصر للموحدين مساجلة بين المنصور و كاتبه الصقيل عبد الله بن عياش التجيبي في شان بر و كرامة اليهود. ومن حسن الحظ ان كتاب " اعلام مالقة " ثم العثور عليه وطبعه مؤخرا, و نصه : " حدثني خالي ابو عبد الله بن عسكر رحمة الله عليه, ان الكاتب ابا عبد الله هذا, كتب يوما كتابا ليهودي, فكتب فيه : و يحمل على البر و الاكرام. فقال له المنصور : من اين لك ان تقول في كافر: يحمل على البر و الكرامة. قال : ففكرت ساعة, و قد علمت ان الانفصال يلزمني عما ذكرت. فقلت له : قال رسول الله (ص) : " اذا اتاكم كريم قوم فاكرموه ", و هذا عام في الكافر و غيره. فقال لي : نعم, هذه الكرامة. فالمبرة من اين اخذتها. قال : فسكت لم اجد جوابا. قال : فقرا المنصور : اعوذ بالله من الشيطان الرجيم, بسم الله الرحمن الرحيم, " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم و تقسطوا اليهم, ان الله يحب المقسطين ". قال : فسررت بذلك كثيرا و شكرته عليه "(29).



الهوامش


(*) حبذا لو قارنا ما ذكره عبد الواحد المراكشي عن وضعية اهل الذمة لدى الموحدين مع خلفه عن تفس الفترة تقريبا و نفس الجالية المؤرخ ابن حماد لدى العبيديين , يقول : " و في هذه السنة 403هج امر (العزيز العبيدي) النصارى و اليهود الا الحبابرة بلبس العمائم السود و الطيالسة السود , و ان تحمل النصارى في اعناقهم من الصلبان ما يكون طوله ذراعا ووزنه خمسة ارطال, و ان تحمل اليهود في اعناقهم قرائن الخشب على مثل الوزن المذكور, و ان لا يركبوا شيئا من المراكب المحلاة , ولا يستخدموا احدا من المسلمين , وان لا يركبوا حمارا الا ان كان لمسلم و لا سفينة يؤتيها مسلم و ان يكون في النصارى اذا دخلوا الحمام الصليب و في اعناق اليهود الجلاجل ليتميزوا بها عن المسلمين ... " و بالرغم من كل هذا لم يتهم العبيديون ب " التطرف " و محاربة اهل الذمة ( اخبار ملوك بني عبيد و سيرتهم, ص 99).
1. البيدق ," اخبار المهدي بن تومرت و بداية دولة الموحدين ", الرباط, دار المنصور للطباعة و الوراقة, 1971, ص 13.
2. نفسه , ص 27.
3. يقول الشاعر سراج بن عبد الله العثماني واصفا لباس اللمثونيين :
اذا لثموا بالريط خلت وجوههم ازاهير تبدو من فتوق كمائم
و ان قنعوا بالسابرية ابرزوا عيون الافاعي في جلود الاراقم
(عبد الملك المراكشي : " الذيل و التكملة ", ج4, ص9).
4. ابن عذاري , " البيان المغرب في اخبار الاندلس و المغرب ", (قسم الموحدين), تحقيق الكتاني و غيره, الدار البيضاء, دار الثقافة للنشر و التوزيع,1985, ص25.
5. ابن غازي , " الروض الهتون في اخبار مكناسة الزيتون ", تحقيق ابن منصور, الرباط, المطبعة الملكية, 1988, ص29.
6. نفسه, ص18.
7. البيان المغرب , ص 44.
8. البادسي , " المقصد الشريف و المنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف " , تحقيق سعيد اعراب, الرباط, المطبعة الملكية, 1982, ص 67.
9. نفسه, ص 59.
10. نفسه, ص 72. وفي طبعات اخرى نقرا " يظنه كل من يراه انه من عمال الموحدين ".
11. يرى الشاطبي ان ابن تومرت كان ينهى عن الصلاة " خلف من لبس الثياب الرفيعة ".
12. ابن صاحب الصلاة , " المن بالامامة ", تحقيق د. عبد الهادي التازي, بيروت, دار الغرب الاسلامي, 1987, ص 215.
13. نفسه, ص213.
14. نفسه, ص 345.
15. كلوتات : مفردها كلوتة و هي حسب محمد قنديل البقلي, عبارة عن طاقية توضع على الراس كان يلبسها الاعيان بالمشرق في فترات تاريخية متعددة. (راجع التعريف بمصطلحات صبح الاعشى, القاهرة, 1984, ص 288).
16. عبد الواحد المراكشي , " المعجب في تلخيص اخبار المغرب ", تعليق سعيد العريان و محمد العلمي, القاهرة, مطبعة الاستقامة, 1950, ص304.
17. البيان المغرب , ص 228. وجاء في نازلة بشان الحكيم اليهودي ابن قبنال (قمنال) طبيب الخليفة المرابطي علي بن يوسف : " يتعمم و يتختم ويركب السروج على فاره الدواب و يقعد في حانوته من غير غيار ولا زنار, و يمشي كذلك في الاسواق بغير غيار يعرف به, بل بافضل زي كبار المسلمين و احسنه " ( المعيار المغرب, ج2, ص 254-259).
18. البيدق , ص 10.
19. و في نفس الاطار يمكن وضع اقوال المؤرخ النويري عن صلابة موقف عبد المؤمن من الجالية اليهودية و المسيحية : " و لا مشرك في بلاده و لا كنيسة في بقعة منها, لانه كان اذا ملك بلدا اسلاميا لم يترك فيه ذميا الا عرض عليه الاسلام, فمن اسلم سلم, و من طلب المضي الى بلاد النصارى اذن له في ذلك و من ابى قتل " ( تاريخ المغرب الاسلامي في العصر الوسيط من كتاب نهاية الارب في فنون الادب, ص 430 . محمد بنشريفة ,"حول التسامح الديني : ابن ميمون والموحدين ", ندوة حلقة وصل بين الشرق و الغرب : الغزالي و ابن ميمون, اكادير,1985 ).
20. البيان المغرب, ص229.
21. الزركشي, " تاريخ الدولتين الموحدية و الحفصية ", تحقيق ماضور, تونس, المكتبة العتيقة, 1966, ص 16.
22. عصمت دندش , " اضواء على معاملة المرابطين لليهود من خلال نازلة الحكيم ابن قمنيل ", الاكاديمية , عدد 18, سنة 2001, ص 153-174.
23. محمد بنشريفة , " اوائل الافتاء و المفتين بالمغرب " , في التاريخ و ادب النوازل , دراسات مهداة للفقيد محمد زنيبر, جامعة محمد الخامس , سلسلة ندوات و مناظرات رقم 46, سنة 1995, ص 33-59.
24. يرى ابن خلدون ان هذه الارجوزة في علم الحدثان هي " ملعبة من الشعر الزجلي في نحو 500 بيت " ولم يشر الى اسم مؤلفها ويعتقد ان قائلها تنبا بانه " سيقتل و يصلب بفاس في يوم عيد " اذ يقول :
قد ثم ذا التجنيس لانسان يهودي يصلب في بلدة فاس في يوم عيد
ابن خلدون , " المقدمة " , بيروت , دار احياء التراث العربي , بدون تاريخ , ص 339.
25. البيان المغرب , ص174.
26. المعجب , ص 362.
27. تفسه , ص 187.
28. تفسه , ص 404.
29. ابي بكر بن خميس : " اعلام مالقة " , تقديم وتعليق د. عبد الله المرابط الترغي, بيروت, دار الغرب الاسلامي, 1999, ص 154.

البيبليوغرافيا

1. ابي بكر بن خميس : " اعلام مالقة " , تقديم وتعليق د. عبد الله المرابط الترغي, بيروت, دار الغرب الاسلامي, 1999.
2. ابن خلدون , " المقدمة " , بيروت , دار احياء التراث العربي , بدون تاريخ .
3. . الزركشي, " تاريخ الدولتين الموحدية و الحفصية ", تحقيق ماضور, تونس, المكتبة العتيقة, 1966.
4. النويري , " تاريخ المغرب الاسلامي في العصر الوسيط من كتاب نهاية الارب في فنون الادب ", تحقيق ابو ضيف , البيضاء, دار النشاط المغربية, 1985.
5. عبد الواحد المراكشي , " المعجب في تلخيص اخبار المغرب ", تعليق سعيد العريان و محمد العلمي, القاهرة, مطبعة الاستقامة, 1950
6. ابن صاحب الصلاة , " المن بالامامة ", تحقيق د. عبد الهادي التازي, بيروت, دار الغرب الاسلامي, 1987.
7. البادسي , " المقصد الشريف و المنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف " , تحقيق سعيد اعراب, الرباط, المطبعة الملكية, 1982.
8. ابن غازي , " الروض الهتون في اخبار مكناسة الزيتون ", تحقيق ابن منصور, الرباط, المطبعة الملكية, 1988.
9. ابن عذاري , " البيان المغرب في اخبار الاندلس و المغرب ", (قسم الموحدين), تحقيق الكتاني و غيره, الدار البيضاء, دار الثقافة للنشر و التوزيع,1985.
10. البيدق ," اخبار المهدي بن تومرت و بداية دولة الموحدين ", الرباط, دار المنصور للطباعة و الوراقة, 1971.
11. عبد الملك المراكشي : " الذيل و التكملة لكتابي الموصول و الصلة ", تحقيق العبادي, الرباط , مطبعة المعارف الجديدة , ج4, ص9, 1984.
12. محمد بنشريفة : " حول التسامح الديني و ابن ميمون و الموحدين, ندوة حلقة وصل بين الشرق و الغرب : الغزالي و ابن ميمون, اكادير, 1985.
13 . محمد بنشريفة , " اوائل الافتاء و المفتين بالمغرب " , في التاريخ و ادب النوازل , دراسات مهداة للفقيد محمد زنيبر, جامعة محمد الخامس , سلسلة ندوات و مناظرات رقم 46, سنة 1995.
14. عصمت دندش , " اضواء على معاملة المرابطين لليهود من خلال نازلة الحكيم ابن قمنيل ", مجلة الاكاديمية , عدد 18, سنة 2001.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق