السبت، 28 يوليو 2012


" المهمشون في التاريخ الإسلامي " للدكتور / محمود إسماعيل كتابة جديدة لتاريخ الحركات المجهولة والمشوه

   ربما لا يُعد اهتمام د. محمود إسماعيل بالحركات الاجتماعية شيئاً جديداً، من حيث تبنيه للمادية التاريخية كمنهج للبحث، وهو ما يشترك فيه معظم الباحثين التاريخيين الماركسيين، إلا أن أبحاث د.محمود إسماعيل تتميز بأنها الأكثر وعياً ونضجاً في استخدام المنهج المادي والتعامل مع النص، وهو ما تفتقر إليه مثيلاتها من الأبحاث الماركسية والتي تعاني من الازدواجية في تعاملها مع النصوص فترفض بكل جرأة الاتهامات التي يوجهها مؤرخو السلطة لهذه الحركات بالفساد الأخلاقي، ومن ناحية أخرى تقبل بكل بساطة الاتهامات التي يوجهها نفس المؤرخون وفي نفس النصوص لهذه الحركات بالفساد الديني، وهي مفارقة لم يقع فيها الدكتور محمود إسماعيل والذي أدرك مدى الربط المتعمد والمدروس الذي تقوم به هذه النصوص بين الخروج على الحاكم والخروج على الدين.
   في كتابه الأخير " المهمشون في التاريخ الإسلامي " يواصل د. محمود إسماعيل رصده للحركات المجهولة والمشوهة في التاريخ الإسلامي المدون، وهو ليس الكتاب الأول في هذا المجال حيث سبقه كتابيه المهمين " فرق الشيعة "، " الحركات السرية في الإسلام " وقد عالج فيهما الدكتور محمود إسماعيل العلاقة بين التطورات الاجتماعية ونشوء الفرق الدينية في التاريخ الإسلامي، ويبدو الكتاب الأخير كتتويج – ليس نهائياً – لأبحاثه في هذا الموضوع، وقد صرح الدكتور محمود إسماعيل في مقدمة الكتاب أن غايته الأساسية هو تقديم تاريخ لحركات المهمشون في صورة مقالات مبسطة للمثقفين العاديين لنشر الوعي التاريخي والذي يؤكد الكاتب على أهميته في قراءة حاضرنا المعقد والمضبب في آن، ولعل هذا ما يفسر عدم احتواء الكتاب على أي هوامش توثيقية، على أساس أن الكتاب هو تجميع مختصر لنتائج أبحاثه ودراساته في كتبه السابقة.
   في هذا الإصدار الأخير قدم د. محمود إسماعيل عدة نماذج لحركات وهبات المهمشين، وقد راعى أن تكون متضمنة لكافة الأشكال والأساليب التي استخدمها العوام في الثورة، وقد تنوعت ما بين الهبات العفوية، والثورات المنظمة التي امتلكت فكراً عقائدياً وبرنامجاً بديلاً للوضع القائم، وأخيراً التنظيمات العشوائية والتي رغم صدامها مع السلطة لم تكن تمتلك أي برنامج أو أهداف تسعى لتحقيقها، ورغم هذا التنوع فقد افتقد هذا الكتاب الإشارة إلى بعض الثورات الأخرى للمهمشين كانت أكثر قوة وأوسـع تأثيراً، لعل أهمها ثورة " بابك الخُرمي " في آذربيجان، والثورة " السربدارية " في خُراسان، والواقع أن أحد سلبيات هذا التنوع هو وضع هذه الأشكال من التعبير الثوري في مستوى واحد فقد افتقد الكتاب تقييماً نهائياً لمدى جدوى هذه الأشكال من التعبير الثوري في تحقيق مصالح الكادحين، ورغم أن الأبحاث ذاتها احتوت على انتقادات خاصة بكل حركة إلا أنها لم تتطرق إلى نقد الشكل الأصلي بقدر ما انتقدت الممارسات التفصيلية.
   يبدو واضحاً من مقالات الكتاب استهدافها لتأكيد عدة قواعد في تاريخ الثورات الاجتماعية استقاها الدكتور محمود إسماعيل من أبحاثه الطويلة في هذا المجال :
   1 – عدم براءة المادة التاريخية المتاحة.
   2 – دور البرجوازية في رعاية الحركات التنويرية والثورية للمهمشين.
   3 – ضعف الوعي الطبقي في هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي.
   4 – وحدة تاريخ العالم الإسلامي من حيث حركيته وصيرورته.
   5 – الدور الثانوي للمذاهب الدينية في الصراع الطبقي.
   إن مناقشة هذه القواعد تمثل في الواقع مناقشة لجزء كبير من رؤية الدكتور محمود للتاريخ الإسلامي والتي تتضح في كتاباته عموماً وعلى الأخص الكتاب الأكثر أهمية في هذا المجال، والذي يمثل مشروعه الفكري والتاريخي " سوسيولوجيا الفكر الإسلامي ".
   ! إن استعراض بدايات التدوين التاريخي يؤكد لنا صحة القاعدة الأولى التي تنص على عدم براءة المادة التاريخية المتوافرة، ففي عام 143 هـ قام الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور بالتشجيع على تدوين العلوم المختلفة وخاصة علمي الحديث والتاريخ، بهدف خدمة الأغراض الدعائية والإعلامية للسلطة العباسية الجديدة، ومن الواضح أن هذين العلمين على وجه الخصوص وضعا تحت مراقبة السلطة التي استخدمتهما في مواجهة الحركات المناهضة، بل أن المرويات التاريخية تذكر أن الخليفة العباسي هارون الرشيد قام بتلفيق ألف حديث على لسان النبي (ص) بمساعدة محدث مشهور وهو عبد الله بن المبارك، على مستوى التاريخ يلاحظ أن العباسيين استطاعوا القضاء على أي مؤلفات تحوي مرويات تاريخية غير خاضعة لسيطرتهم، ولم يكتب البقاء إلا للمصادر المتأخرة عن الحدث والتي تأثر كُتّابها بكم ليس قليلاً بما تطرحه مصادر السلطة، وبالتالي فقد ظلت مصادر السلطة تمثل المصدر الأساسي لأي بحث تاريخي، بل أن السلطة في بعض الفترات قامت باختراق التجمعات العلمية للفرق المعارضة لها واستطاعت دس المرويات المنسوبة لقياداتها التاريخية والفقهية والتي تؤيد الرؤية العباسية تجاه الحركات الاجتماعية المعارضة بطرق غير مباشرة.
   والواقع أن وجود صدام طبقي، أو عقائدي، أو سياسي ما بين راوي النص التاريخي والقائمين على الحدث التاريخي الذي يرويه يجعل من المستحيل الحديث عن نصٍ محايد تماماً، فأغلب المصادر التاريخية تتعارض مع الحركات الاجتماعية من النواحي الثلاث، كما أن الاتفاق في ناحية أو ناحيتين لا يعني إهمال نقطة الخلاف الموجودة والتي تلقي بظلالها على ما يرويه المؤرخ.
   وعلى سبيل المثال فإن المرويات الشيعية الرسمية من صاحب الزنج تتخذ مواقف سلبية عموماً، ومع ذلك فقد ذكرت المعاجم الشيعية أسماءً لمؤلفات ألفها بعض الشيعة المقربين من صاحب الزنج، والتي لم يكتب لها البقاء للأسف، ككتاب (أخبار صاحب الزنج) لأحمد بن إبراهيم العمي، وقد كانت كفيله بمنحنا رؤية صحيحة ومختلفة تماماً عن هذه الثورة.
   ! بالنسبة للقاعدة الثانية فقد عزا الدكتور محمود إسماعيل قصور الوعي الذي شاب معظم حركات المهمشين في بعض جوانبه إلى غياب دور البرجوازية والتي وصفها بأنها " عاجزة وهزيلة دافعت عن وجودها والحفاظ على مصالحها، بمهادنة الحكومات القائمة وليس بالثورة عليها وتقويض حُكمها "، وقد أرجع هزال البرجوازية وعجزها إلى عوامل " جغراتاريخية " تتعلق بطبيعة المجتمعات الإسلامية الزراعية الرعوية أساساً وبالتالي فلم تتخلق طبقة وسطى قوية وقادرة على الصراع مع الإقطاع العسكري، بل هونت من هذا الصراع وخففت حدته، الأمر الذي أتاح للنظم القائمة الدوام والاستمرار.
   إن هذا التصور صحيح بكل تأكيد ومن الممكن إضافة عوامل أخرى لضعف البرجوازية، فالملاحظ أن هناك خلافات بين العالمين الشرقي والغربي في نشأة الدول واضمحلالها، فبينما تنشأ الدول في العالم الغربي بناء على تطور نمط إنتاج معين، فإن نمط الإنتاج في الشرق ينشأ ويتطور بناء على رعاية ودعم الدولة، وهو يعود بالطبع إلى العوامـل الـ " جغراتاريخية " التي أشار إليها الدكتور محمود، فالمسألة الزراعية لم تطرح نفسها بقوة إلا عقب تكوين الوحدة السياسية لا العكس، وهذه الوحدات تنشأ في الواقع بالاعتماد على وضعها القبلي والجغرافي وليس الطبقي، وبالتالي ينشأ كلا النمطين الإقطاعي والتجاري تحت سيطرة الدولة الممثلة في الحاكم، ويتخذ تطورهما ووضعهما خطاً موازياً لمصلحة هذا الحاكم، وعقب تحقيق التوسعات السياسية تبدأ المسألة الزراعية في البروز وينتج عنها خروج الإقطاع في صورته العسكرية عن سيطرة الدولة وضعف السلطة المركزية في مواجهته، مما يؤدي إلى تردي وضع التجارة بسبب قيام الصراعات الداخلية بين الإقطاعيين الجُدد، واضمحلال الدولة ثم سقوطها، أما الطبقة التجارية فهي غير قادرة على خوض صراع مع الإقطاع بشكل منفرد بسبب عدم استقلاليتها وارتباطها بالحكم المركزي، وخضوعها للأعراف القبلية، وتحول الكثير من أبنائها إلى حيازة الأرض الزراعية، وبالتالي فالازدهار التجاري كقاعدة يعبر دائماً عن قوة وضع الحكومة المركزية في مواجهة الطموحات الاستقلالية للإقطاعيين العسكريين، في حين يشير الانهيار التجاري إلى سيطرة الإقطاع العسكري وسقوط قوة الحكم المركزي، إن أهم صور هذا الهزال البرجوازي تبدو واضحة في المذاهب الفقهية والعقائدية، فلم يصمد مذهب واحد من المذاهب التي أنتجتها البرجوازية التجارية كالمعتزلة والكرامية والمرجئة، بل أن المذهبين الوحيدين الباقيين من منتجات البرجوازية وهما الزيدية والإسماعيلية يعانيان من الحصار الجغرافي، فلا يتواجد المذهب الزيدي إلا في اليمن وبعض المناطق الخاضعة لسيطرة السعودية والتي ينتمي أبنائها إلى قبائل يمنية كعسيـر ونجران، كما لا يتواجـد الإسماعيليين إلا في مناطـق محدودة مـن العالم الإسلامي، وهي أشبه بالجيتو الذي لا يتناسب مع كم النشاط السياسي والفكري للإسماعيلية في التاريخ الإسلامي، وهو ما أدى إلى توقف انتشار المذهبين خارج نطاق العائلات المنتمية إليه بالوراثة، وضعف حركتهما الفكرية والفقهية، فحتى الآن ما زال كتاب " دعائم الإسلام " الذي ألفه القاضي النعمان بن محمـد في النصف الثاني من القرن الرابع هو كتاب الفقه الأساسي لدى الإسماعيلية، بل أن تحول خوارج مدينة سجستان الإيرانية إلى الاستقرار وممارسة التجارة أدى بمذهبهـم إلى نفس النتيجة ولم يجد الشاه إسماعيل الصفوي الكثير من الصعوبة في إقناعهم بالتحول إلى التشيع، والواقع أن هذا يشير بقدر أكبر إلى أن المذاهب البرجوازية لا تمثل سوى مرحلة زمنية معينة بينما تتميز المذاهب المعبرة عن الكادحين أو الإقطاع بالرسوخ وبقدرتها على التكيف مع الأوضاع المتغيرة.
   ! القاعدة الثالثة تمثل السبب الثاني في قصور حركات العوام وهو " ضعف الوعي الطبقي "، يطرح الدكتور محمود إسماعيل هذه القاعدة كتفسير لقصور كل الحركات الاجتماعية، إلا أن الواقع أن ضعف الوعي الطبقي لا يشمل سوى الحركات والتنظيمات العشوائية كـ " الحرافيش " في مصر، وحركات " الأحداث " في الشام، و" الصقورة " في المغرب والأندلس، و" الفتاك " في آسيا الوسطى، وحركات " الفتوة " في الشام والعراق، إضافة إلى الحركات الحرفية كـ " العيارين " في العراق، والتي لم تكن تملك أي أهداف أو طموحات سياسية، ولم يكن لها برنامجاً اجتماعياً بديلاً، وبالتالي فقد كان بمقدور السلطة القضاء عليها بسهولة بل واستخدامها في مواجهة أعدائها في بعض الأحيان، فيروي ابن جبير في رحلته عن مشاهداته بدمشق، أن حركات " الفتوة " بالشام والتي كانت مؤيدة من صلاح الدين الأيوبي، كانت تقوم بعمليات اغتيال ضد الأهالي الشيعة في دمشق والذين كانوا يمثلون الغالبية العظمى من سكانها في تلك الفترة، والغريب أن المثل الأعلى لزعماء هذه الحركات كان علي بن أبي طالب !! وهنا يبدو من الواضح استخدام صلاح الدين لهذه الحركات في مواجهة الشيعة الذين اعتبرهم أعدائه التقليديين لإحداث تغيير في الانتماءات المذهبية لسكان دمشق، وبالتأكيد فإن هذه العمليات لا تنم عن أي وعي طبقي أو سياسي، أما حركات العيارين في العراق والحدادين في الأندلس فلم تكن لها أي مشروعات في مواجهة السلطة القائمة لذلك فقد كان من السهل على السلطة التعامل معها والسيطرة عليها، ومن ثم استغلالها.
   ومن البديهي أن نجاح الثورة أو فشلها ليس دليلاً على وجود الوعي الطبقي أو انتفائه، ومع ذلك فنفس هذا القدر من الوعي هو الذي نجح العوام عن طريقة في تأسيس دولة القرامطة، والدولة الصفارية، إن الحركات الشيعية والخارجية كانت تمتلك قدراً كبيراً من الوعي الطبقي كما امتلكت برامجاً اجتماعية بديلة، وبينما كان الشيعة يمثلون مصالح الفلاحين والحرفيين وصغار التجار وهي الطبقات والشرائح التي استفادت من الإجراءات الاقتصادية التي أصدرها علي بن أبي طالب، كان الخوارج يروجون لبرنامج خليط ما بين الفكر التجاري والقبلي، كما روج السلفيين بزعامة "ابن تيمية" للإقطاع في العصر المملوكي، على أنه كما هو واضح فإنه من غير الممكن القول باكتمال الوعي الطبقي لدى هذه الحركات، فقد كانت محصورة في إطار الولاء الديني بحيث كانت ثوراتها ليست فقط تعبيراً عن طبقة وإنما عن الانتماء الطائفي، ومع ذلك فقد كان هذا القدر من الوعي الطبقي كافياً لنجاح هذه الثورات في تلك الفترة.
   والواقع أنه حتى الحركات الاجتماعية والتي فشلت في البقاء لفترات طويلة كانت تمتلك وعياً طبقياً كثورة بابك الخرمي، وثورة أبي الخطاب الأسدي، وثورة المقنع الخراساني، ولم يكن فشلها ناتجاً عن ضعف الوعي الطبقي بقدر ما كان ناتجاً عن أخطاء تنظيمية أو سياسية، وتشير عبارة الثائر الشيعي التركي " بركليوجه مصطفى " الذي قاد ثورة ضد العثمانيين بمشاركة الفلاحين الأتراك واليونانيين المسيحيين: " إنني أدخل منزلك مثلما أدخل منزلي، وادخل أنت منزلي مثل دخول منزلك باستثناء الحريم " إلى وجود برنامجاً اجتماعياً واضحاً ووعياً طبقياً لدى هذه الحركات، وقد استطاعت بعضهـا تأسيس دول استمرت لفترات طويلة، كدولة السربداريين والتي قامت بناء على الفلاحين في خراسان، ودولة آل المشعشع والتي قامت على يد الفلاحين والعيارين في خوزستان، ودولة السادات والتي اعتمدت على الحرفيين والفلاحين في مازنداران، وكان الطابع المشترك ما بين هذه الدول هو المطالبة بتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية والعداء للإقطاع، ولذلك فهي تشترك أيضاً في أن أتباعها كانوا يقسمون النعم الدنيوية عليهم.
   ! القاعدة الرابعة تبدو مرتبطة برفض الدكتور محمود إسماعيل لنظرية بعض المثقفين المغاربة حول حدوث قطيعة بين المشرق والمغرب الإسلاميين، وبالتالي فقد ضمن الكاتب خمس نماذج لحركات وهبات قام بها المهمشون في المغرب الإسلامي والأندلس، وهي بالفعل حملت الكثير من عناصر التشابه مع مثيلاتها في المشرق.
   وبالتأكيد لا يمكن الاتفاق على وجود قطيعة معرفية بين المشرق والمغرب الإسلاميين في حين أن كل المذاهب الدينية التي اعتنقها المغاربة قادمة أصلاً من الشرق، إلا أنه وفي المقابل هناك بالفعل خصوصية في التاريخ المغربي، ففي حين أدت الإجراءات الاقتصادية للخلافة الأموية بالشرق إلى القضاء على الإقطاع القبلي تماماً، كما أدت الثورات العلوية وصعود العباسيين إلى ضعف الانتماء القبلي كوضع اجتماعي، استمرت سيادة هذا النمط في مناطق المغرب إلى فترة متأخرة من الخلافة العباسية، وكانت معظم الحركات المعارضة للحكم العباسي تعبيراً عن الصراع ما بين الوضع القبلي السائد في المغرب والأشكال الأخرى للإقطاع في الشرق والتي كانت الدولة العباسية تطمح إلى سيادتها، وقد قامت معظم الدول المعارضة للعباسيين بناء على تأييد زعماء قبائل أمازيغية (بربرية) لها، فالدولة الفاطمية اعتمدت على تأييد قبيلة كتامة، في حين اعتمدت دولة الأدارسة على قبيلة أوربة، واعتمدت الدولة المدرارية على قبيلة مكناسة، وعلى الرغم من ذلك فلم توفق أي من هذه الدول في نشر عقيدتها بتوسع بين المغاربة ربما بسبب عدم توافق هذه المذاهب في الأصل مع التراث القبلي المغربي، والواقع أن المذهبين الذين حققا نجاحاً في الأوساط الشعبية المغربية هما المذهب المالكي والمذهب الإباضي (أحد مذاهب الخوارج)، ومازال لهما نفس السطوة حتى الآن في المغرب العربي، ولعـل السبب فـي ذلك هو أن كلا المذهبين يبدي قدراً أكبر مـن المرونة في التعامل مـع الإقطاع والطموحات القبلية، وبالتالي فقد شهد المذهبين تنوع الانتماءات القبلية والعنصرية والطبقية للمعتنقين مـن المغاربة، وفي حين لم ينتج المتشيعين مـن المغاربة أي انتاجات فكرية أو فقهية تذكر سواء في العهـد الفاطمي أو الإدريسي، فإن الإنتاجات الفقهية والعقائدية المغربية في المذهبين المالكي والإباضي هي الأكثر نضجاً وتأثيراً في أتباع المذهبين سواء في الشرق أو الغرب.
   لقد استدل د. محمود إسماعيل على التشابه فيما بين المشرق والمغرب بحركة " عمر بن حفصون" التي قامت في الأندلس، ورغم اتفاقي مع الدكتور محمود على عدم وجود القطيعة المدعاة بين الشرق والغرب فإن الاستدلال بثورة عمر بن حفصون ربما لا يمثل الدليل الأكثر واقعية، إن من الخطأ الربط بين تاريخ المغرب وتاريخ الأندلس الذي يمتلك وضعاً اقتصادياً واجتماعياً مختلفاً تماماً عـن المغرب، فقد كان التنوع ما بين عناصر المسلمين ما بين العرب والأمازيغ إضافة إلى خليط من الموالي الفرس والأفارقة وأكثرية من المسلمين من أصول أسبانية دوره في القضاء على سيادة الانتماءات القبلية، خاصة أن المجتمع الأندلسي ذاته لم يكن مجتمعاً قائماً على القبلية قبل دخول الإسلام، فرغم الارتباط الجغرافي والإثني بين المغاربة والأندلسيين، فإن الأندلس أقرب إلى الشرق في الناحية الاجتماعية والمعرفية، فبعكس المغرب فقد تنوعت المذاهب الدينية في أوساط الأندلسيين بالإضافة إلـى المذهـب المالكي، حيث انتشر المذهب المعتزلي، كما انتشرت المذاهب الشيعية على نطاق واسع كالمذهب الإسماعيلي، والمذهب الإثنى عشري بل أن ظاهرة العزاء الحسيني المنتشرة الآن بين الشيعة في العالم الإسلامي بنفس طقوسها بدأت أصلاً في مدينة مرسية وشرق الأندلس، حيث كان يقام مشهداً جنائزياً يجسد استشهاد الحسين بطريقة تمثيلية، ويحضر القراء والمنشدون لقراءة المراثي الحسينية، كما ألف الموريسكيون كتاباً في مغازي الإمام علي بن أبي طالب يبدو فيه بوضوح آثار الكثير من العقائد المتداولة بين الشيعة، وبالتالي فقد مثلت الأندلس إقليماً أوروبياً له صفاته الخاصة المختلفة عن الشرق الآسيوي والغرب الإفريقي.
   إن النماذج الخمسة التي أوردها د. محمود إسماعيل لا يُمَثلُ المغرب فيها إلا بنموذجين وهما حركة " حميم المفتري "، وحركات " الصقورة " وبينما تنتمي الحركة الأولى إلى الطابع المغربي القبلي التقليدي، فإن حركات "الصقورة " هي المثال الأكثر وضوحاً على عناصر التشابه والتواصل الموجودة بين المشرق والمغرب والأندلس، بل يمكننا أن نؤكد أن التشابه ما بين المشرق الإسلامي والأندلس أكبر من التشابه بينه وبين المغرب، ولعل من الملاحظ على الثورات والحركات الأندلسية رغم اتسامها بانعدام الأيدلوجية المذهبية - وهي سمة كل النماذج الأندلسية التي أوردها د. محمود إسماعيل – ارتباطها أكثر بطموحات العوام وعد اتسامها بأي ملامح قبلية، وتمثل ثورة " عمر بن حفصون " الدليل الأكبر على ما للأندلسيين من خصوصية، فبينما اعتمدت معظم الحركات الشرقية على المعتقد المذهبي في المقام الأول، واعتمدت معظم الحركات المغربية على الانتماء القبلي في المقام الأول، كانت هذه الحركة منفلتة عن الاتجاهين، وربما يرجع ذلك إلى استطاعة الأندلسيين الجمع مـا بين العديد من المذاهب في وقت واحد، فبينما يسود المذهب المالكي في الفقه فإن التعاطف مع آل البيت والميل لهم والغضب على أعدائهم هو السائد من ناحية عاطفية، وهذا الوضع الديني الفريد لا يماثله إلا الوضع المصري والذي يرفض التحفظات والتشنجات التقليدية بين أتباع المذاهب المختلفة.
   ! يبقى القاعدة الخامسة والتي أشار لها الدكتور محمود إسماعيل في الكتاب في إطار عرضة لثورتي " الخشبيـة "، و" الزنج الأولى والثانيـة "، حيـث أشار إلى ثانوية دور المذاهب الدينية في الصراع الطبقي، إن هذه القاعدة ربما تصدق على الوضع في الأندلس كما أشرت سالفاً، إلا أن الأوضاع الاجتماعية في مناطق العراق كانت مختلفة، فبغض النظر عن الدلائل التاريخية فإن معظم الثورات الاجتماعية كانت لها انتماءات مذهبية وخاصة التشيع، فقد استفاد الكادحون والحرفيون ومعظمهم مـن الموالي – كما أشار د. محمود – من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية لعلي بن أبي طالب، وبالتالي فقد كان للتيار الشيعي شعبيته الجارفة في أوساط الفلاحين والحرفيين بالكوفة وهم الذين قاموا أساساً بثورة الخشبية بقيادة المختار بن أبي عبيد، ولعل ما يذكره الطبري عن الشخصية المرتبطة أكثر بهذه الثورة " أبا عمرة كيسان التمار "، وهو مولى فارسي والمحرك الرئيسي للأحداث، أنه عوقب في عهد معاوية بن أبي سفيان بتهمة التطاول على الأمويين والسبئية تدليل واضح على تشيع الثورة.
   إن السبب الرئيسي لشكوك الدكتور محمود إسماعيل حول ثورة الخشبية هو هذا الكم من المرويات عن المختار والذي يشكك في انتماءاته ويصفه بالانتهازية والتقلب الفكري والمذهبي ما بين الانتماء للأزارقة ثم لابن الزبير ثم التشيع، وأخيراً استغلال اسم محمد بن الحنفية والزعم بكونه المهدي المنتظر لجذب شيعة الكوفة إليه.
   إن نقد هذه المرويات في الواقع يظهر ما تعانيه من ضعف وتناقض، فقد فسرت هذه المرويات اشتراك المختار في الدفاع عن مكة ضد جيش يزيد بن معاوية مع الأزارقة أنه انتماءً لهذه الفرقة، على الرغم من أن هذا الدفاع لم يكن بقيادتهم وإنما بقيادة عبد الله بن الزبير، والغريب أن المرويات التاريخية لم تدعي أبداً أن نافع بن الأزرق زعيم الأزارقة من الموالين لابن الزبير بناءً على محاربته للأمويين تحت قيادته، في حين فسرت مبايعة المختار لعبد الله بن الزبير كمناورة سياسية لتحييده مؤقتاً في أثناء محاولته السيطرة على الكوفة على أنه ولاءً لابن الزبير، والواقع أن المختار كان ولاؤه للشيعة منذ البداية، كما شارك في ثورة الحسين وكان أول المستقبلين لمندوب الحسين للكوفيين مسلم بن عقيل واستضافة في منزله لفترة، أما المرويات التي تنقل عنه الترويج لمهدية محمد بن الحنفية، فقد نقلت معظمها على لسان المعادين له وللعلويين كعامر الشعبي راوي البلاط الأموي وأبو الحسن المدائني راوي العباسيين، إن الموقف الإيجابي للأئمة العلويين وخاصة علي بن الحسين من الثورة والتي حصلت على مباركته، تدليلاً واضحاً على عدم صحة هذه الاتهامات والتي تعد تقليدية في مواجهة ثورة امتلكت عقيدة مخالفة للأرستقراطية ووعياً طبقياً في مواجهتها.
   الأمر ذاته ينطبق على الأوضاع في البصرة والتي لم تخلو من وجود موالين للعلويين وبرز دور هؤلاء بوضوح في أثناء ثورة الحسين حيث استطاع زعيمهم يزيد بن مسعود النهشلي حشد أتباعه من بني تميم وبني حنظلة سراً وتجهيزهم انتظاراً لوصول الحسين إلى الكوفة، والمعروف أن علي بن أبي طالب هو أول من استخدم الزنج وعنصر الزط (السبابجة) في الدولة كحرس على بيت مال البصرة، وهـو مـا يعني أن جلبهم تم قبل سيطرة الأمويين على العراق، وقد تحسنت أوضاعهم في عهده كغيرهم من الموالي، إلا أن مشاركتهم في الأحداث ظلت قليلة، وتذكر المرويات أن أول انتفاضاتهم كانت في عهد مصعب بن الزبير، الذي خاض صراعاً مع المختار عقب استيلاء الأخير على الكوفة، مما قد يشير إلى علاقتهم بثورة المختار الثقفي.
   لقد استدل د. محمود إسماعيل على اعتناق الزنج لمبادئ الخوارج بتلقُب زعيمهم " شير زنجي " بلقب الخلافة " أمير المؤمنين "، إن إذاعة الأمويين لهذا الادعاء يمثل مبرراً فقهياً للبطش بهؤلاء الثوار، إضافة إلى إزكاء سلاح العصبية العنصرية لدى القبائل العربية وهو ما حدث بالفعل – كما ذكر د. محمود -، والواقع أن الفكر الخارجي على الرغم من إعلانه أحقية كل المسلمين بالإمامة، فإنه على مستوى التطبيقفي مناطق الشرق – ظل عربياً متزمتاً ولم يتقبل بالفعل أي حقوق للموالي في هذا الشأن، وبالتالي رغم تعاطف الكثيرين من الموالي مع الثورات الخارجية نكاية في الأمويين فإن قليلاً منهم فقط هم من اعتنقوا هذا المذهب بالفعل، بل أن المرويات التاريخية تذكر أن محمد بن بشير الخارجي قدم احتجاجاً إلى والي المدينة بسبب سماحه بزواج امرأة عربية من بني سليم لأحد الموالي، وقد كلف هذا الاحتجاج المولى الفارسي مائتي سوط وحلق شعر رأسه ولحيته، إن الفكر الخارجي كان معبراً عن عداء القبائل العربية لسيطرة القرشيين وهم مع طرحهم لفكرة حق كل مسلم في الإمامة لم يتوقعوا أبداً أن يطمح الموالي لهذا المنصب، بل أن أصحاب نجدة بن عامر الحنفي عقب عزلهم له رفضوا قبول تولي ثابت التمار منصب زعامتهم لكونه فارسي وإن كلفوه باختيار زعيماً عربياً لهم، الأمر الذي يجعلني أستبعد أي علاقة للفكر الخارجي بهذه الثورة.
   على أن علاقة ثورة الزنج الثانية بالفكر الشيعي أكثر وضوحاً، فقد انتسب علي بن محمد إلى الإمام علي بن أبي طالب، وعلى الرغم من المرويات الكثيرة المشككة في نسبه فقد اعترف به العلويون المعاصرون، وانضم بعضهم إليه، كعلي بن زيد وطاهر بن أحمد بن القاسم، ومحمد بن القاسم، والواقع إن إعلان صاحب الزنج لنسبه العلوي هو تدليل على تشيعه، إضافة إلى مناصرة هذا الكم من العلويين له، ووجود شخصيات شيعية إثنى عشريـة كالمعلى بن أسد العمي بين المقربين له، ولابد من الإشارة إلى الرقابة اللصيقة التي تعرض لها الحسن بن علي (الإمام الحادي عشر) والمعاصر لهذه الثورة في تلك الأثناء والتي انتهت باغتياله كما تروي المصادر الشيعية، ولعل وفاته في سن صغيرة تدليلاً على أنها تمت بطريقة غير طبيعية، وعلى الرغم من محاولة المرويات التاريخية الإشارة إلى أن هذا الإمام العلوي لم يكن له أي ممارسات سياسية، فمن الواضح من هذه الإجراءات العباسية صلته بثورة الزنج والتي تبرر إقدام العباسيين على قتله، وهنا أشير إلى أن من المستبعد أن يدعي صاحب الزنج المهدية، في حين لا تنطبق عليه مواصفات المهدي المذكورة في كتب الفرق الإسلامية المختلفة، وإن كان الأقرب هو أنه دعـا إلى المهدي والذي اعتقد العلويون أنه الثاني عشر مـن الأئمة، ممـا يفسر سعي السلطة العباسية الحثيث للتأكد من وجود أي طفل للحسن بن علي يصلح لمنصب الإمامة، لقد اعتاد العباسيون عموماً التشكيك في نسب العلويين الثائرين عليهم، وهو ما حدث للأدارسة، والفاطميين، وما حدث أيضاً لصاحب الزنج الذي جرى تشويه ثورته بقدر ما سببته من إزعاج للعباسيين.
   إن الجانب المذهبي لم يكن ثانوياً في هذه الثورات المُطالبة بتطبيق الشعارات الإسلامية في العدل الاجتماعي والمساواة، وبالتالي فقد كان يجب صياغة هذه المطالب والاستدلال عليها بالآيات القرآنية والسنة النبوية وممارسات الصحابة الأوائل، والتي تعني بداهة اعتناق الثوار لمذهب عقائدي يواجه مذهب وفقهاء الدولة، وتصور التئام كل المستضعفين بمختلف انتماءاتهم المذهبية تحت راية زعيم واحد يعد مثالياً بالنسبة لهذه المرحلة التي كانت السيادة فيها للفكر الديني، فمما تشترك فيه الثورات عموماً أن زعمائها يستمرون فترة قبل الإعلان عنها يدعون لمذهبهم سراً بين العوام والكادحين الأمر الذي يؤكد التلازم ما بين الثورة وعقيدتها الدينية والتي تعبر أيضاً بصورة ضمنية عن مصالح طبقة معينة كما أشرت سابقاً.
   لقد احتوى الكتاب إضافة إلى القواعد السابقة على مناقشة لبعض التساؤلات التاريخية والتي ما زالت محل بحث ودراسة الكثير من المتخصصين، وخاصة في الفصلين الأخيرين، الذين خصصهما د.محمود إسماعيل لبحث وضع مصر من المد الثوري في التاريخ الإسلامي، والإنتاج الأدبي والإبداعي للمهمشين، وقد أنتج هذا البحث آراءً مهمة سواء من ناحية النظرية أو التطبيق، وعلى الرغم من أن التوصل إلى نتائج حاسمة في هذين المبحثين يحمل الكثير من الصعوبة، فإن طرح د. محمود إسماعيل هذين المبحثين للمناقشة يمثل بكل تأكيد أحد عناصر التميز في هذا الكتاب.
   ! في الفصل قبل الأخير المعنون " حرافيش مصر والنضال باللسان " من الكتاب ناقش د. محمود إسماعيل الانتفاضات الاجتماعية في مصر، حيث تساءل عن سر إحجام المصريين عن النضال المسلح في صورته الثورية ؟!، وقد فسر الدكتور محمود إسماعيل هذه الظاهرة إلى أسباب " جغراتاريخية " فحواها كون المجتمع المصري أساساً مجتمعاً زراعياً بامتياز، ومعلوم أن سيكولوجية الفلاح –المستمدة من طبيعة عمله – تجعل منه " تواكلياً " " قدرياً " " زاهداً " في متع الحياة، أو بالأحرى تجعل من الفلاحين احتياطاً تعبوياً للنظام القائم، حسب القاعدة الماركسية المعروفة.
   إن التجارب الثورية والتي سبق وأن ذكرتها كالثورة السربدارية، وثورة السادات في إيران إضافة إلى الثورات الأخرى كالقرامطة اعتمدت بالأساس على الفلاحين وقد نجحت في تأسيس كيانات سياسية استمرت لفترات متباينة، وأخيراً فقد أثبتت الثورات الشيوعية في القرن العشرين كالثورة الصينية، والثورة الكورية واللتان اعتمدتا بالأساس على الفلاحين مدى خطأ هذه القاعدة، وهنا أشير إلى تجربة ثورية قام بها الفلاحون في منطقة " خونان " الصينية سنة 1927، وقد كتب " ماو تسي تونج " تقريراً عن هذه التجربة للتدليل على أهمية مسألة الفلاحين، ففي هذه التجربة حطمت اتحادات الفلاحين والتي ضمت ما يزيد عن مليوني فلاح امتيازات الوجهاء المحليين، واستطاعت القيام بـ 14 إنجاز ثوري - على حد تعبير ماو تسي تونج – لعل أهمها الإطاحة بحكـم الإقطاعيين، وتأسيس قوات مسلحة مـن الفلاحين، وعلى المستوى الاجتماعي استطاعت القضاء على العشائرية كبناء اجتماعي، والسلطان الديني لآلهة المدن وسيطرة الأزواج على الزوجات، والقيام بإصلاح السدود وبناء الطرق، فالمشكلة إذن ليست في الفلاحين.
   ومع ذلك يبقى التساؤل حول السبب في اختلاف أساليب نضال الشعب المصري عن هذه الشعوب رغم عوامل التشابه السابقة ؟! إن الأسباب لا ترجع إلى طبيعة الشعب المصري، فقد شهدت مصر العديد من الثورات والتي تنوعت في انتماءاتها ما بين القبطية، والشيعية، والخارجية، والأموية، ولعل أكثرها عنفاً تلك التي قامـت في عهد المأمون سنة 216 هـ ولجأ الخليفـة العباسي للتوحش من أجل القضاء عليها، وربما كانت هذه الثورة من أعنف الثورات التي قامت في وجه العباسيين، كما قامت ثورة أخرى ذات ملامح شيعية في سنة 252 هـ، وكانت بنفس ضخامة الثورة السابقة، وكبدت الخلافة العباسية الكثير من الخسائر، وقد أحجمت المرويات التاريخية عن الاسترسال في ذكر أحداث انتفاضات أخرى بدون سبب واضح إلا أن يكون كما ذكرت سابقاً مرتبطاً بخضوع هذه المرويات لرقابة السلطة العباسية.
   إن عدم قدرة أي من هذه الثورات على النجاح يرجع إلى ثلاثة أسباب أولهم : الطبيعة الجغرافية لمصر سواء من ناحية الأرض أو الانتشار السكاني، حيث يتركز التواجد السكاني حول شريط وادي النيل الذي يتميز عموماً بعدم وعورة أراضية، في حين يكاد ينعدم في المناطق الأخرى من مساحتها الكلية، وبالتالي فقد تمكنت السلطات الحكومية (أموية / عباسية) من فرض سيطرتها بسهولة على المصريين، كما مكّنها ضيق مساحة التواجد السكاني من القدرة على مراقبة تحركات المعارضة ثم التعامل معها والسيطرة عليها مبكراً قبل اتخاذها الخطوات اللازمة لقيام الثورة، وفي أحيان أخرى وبسبب ضعف الأجهزة الأمنية كان الثوار يتمكنون من إنجاح تحركهم الثوري، وهي المرحلة التي تليها المواجهة العسكرية مع جيوش الخلافة، وفي الغالب كانت هذه المواجهات لا تنتهي لصالح الثوار، ففرص التحصن أو المناورة مع هذه الجيوش ذات الإمكانيات والاستعدادات الضخمة معدومة بسبب افتقاد الطبيعة المصرية للظواهر الجغرافية المساعدة، والتي سمحت لثورات أخرى بالبقاء لفترات طويلة، فقد كانت وعورة جبل البدين والذي أقيمت عليه مدينة " البُذْ "، السبب الرئيسي في صمود الثورة البابكية، كما أن وعورة الطبيعة الجغرافية للمغرب كانت من عوامل صمود حركات الخوارج في جبل نفوسة، وإقليم تافيللت، وهي نفس عوامل بقاء الإسماعيلية والعلويين في الشام حتى الآن رغم عصور الاضطهاد الطويلة التي مارسها ضدهم الأيوبيون والمماليك والعثمانيون، وقد أدركت الحركات الخارجية في مصر هذه الحقيقة فاستغلت وعورة الطرق ما بين وادي النيل والواحات المصرية واستقرت في تلك الواحات بعيداً عن رقابة الحكومات الأموية والعباسية.
   السبب الثاني يرتبط بالأيدلوجيات الدينية التي اعتنقها المصريون حيث حرص كل من الأيوبيين والمماليك على إبعاد أي أيدلوجية ثورية من الممكن أن تمثل تهديداً لوجودهم، واستخدموا في سبيل ذلك كل الوسائل، إلى درجـة صدور قرارات بمنـع تدريس قصائد الشعراء الموالين لآل البيت فـي الكتاتيب والمدارس الدينية، كما أصدر السلطان المملوكي قلاوون قراراً بتحريم اعتناق أي مذهب سوى مذاهب السنة الأربعة، وقد أدت هذه السياسة المتطرفة إلى القضاء على التنوع المذهبي والفكري في مصر والذي مثل الأرض الخصبة لإنتاج أي حالة ثورية في المناطق الإسلامية الأخرى، وأصبحت الحالة الدينية في مصر تحت سيطرة فقهاء السلطة والذين ساهموا إلى حد كبير في تدعيم الحكم الأيوبي والمملوكي ومنحهما الغطاء الديني لكل ممارساتهما.
   أما السبب الثالث، والذي ساعد سلاطين هاتين الدولتين على تنفيذ سياساتهم، قلة القبائل العربية المهاجرة لمصر من ناحية العدد إذا ما قورنت بمثيلاتها في العراق وإيران والشام، وهي القاعدة الأولى التي نشأت داخلها الانتماءات المذهبية، حيث كان التشيع أكثر انتشاراً في أوساط اليمنيين والعبد قيسيين، في حين انتشر الخوارج في أوساط بني تميم وبكر، في مقابل تأخر الأقباط نسبياً في اعتناق الإسلام وبالتالي تأخر إقبالهم على اعتناق هذه المذاهب بتنوعاتها العقائدية، يضاف إلى ذلك إصرار الحكومات المتتالية على عدم الاعتماد على العنصر المصري في الجيش، ففي العصر الأموي كان الاعتماد على العنصر العربي هو الأساس، أما في العصر العباسي فقد اعتمدوا على العناصر التركية والفارسية، والزنجية، وهو ما سمح للفرق العسكرية الأجنبية والتي كانت موالية تماماً لسلاطين الدولتين بتنفيذ هذه السياسة بنجاح دون معارضة تذكر، في حين فشلت في الأقاليم الشامية التي كانت تحت سيطرة الأيوبيين والمماليك، ومازالت تعيش هذا التنوع المذهبي.
   إن كثافة القبائل العربية في العراق وإيران – على سبيل المثال - ساهم في سرعة اعتناق الفرس للإسلام وبالتالي تأثيرهم القوي في أوضاع الدولة سلباً وإيجاباً، وانتشار الحركات الثورية المعارضة القائمة على العقائد الدينية، كالتشيع والإرجاء والاعتزال في أوساطهم، ورغم محاولات الأمويون القضاء على هذا التنوع المذهبي فإن تبني القبائل العربية لهذه العقائد أفشل خطط الأمويين خاصة أن هذه القبائل كانت تمثل الركيزة الأساسية في الجيش الأموي وبالتالي فهي تملك السلاح والقدرة القتالية، وفي العصر العباسي والذي اعتمد أكثر على العنصر التركي والفارسي في الجيش امتلكت هذه العناصر نفس القدرات العسكرية والنفوذ، وهي المميزات التي حُرم منها العنصر القبطي بلا سبب واضح سوى إبقاء هذا العنصر بجوار الأراضي الزراعية.
   ! في الفصل الأخير من الكتاب أشار الدكتور محمود إسماعيل إلى ثقافة المهمشين ، وقد استعرض في هذا الفصل الوسائل الثقافية التي استخدمها المهمشون في صراعهم الطبقي مع السلطة الإقطاعية، إلا أن د. محمود إسماعيل اكتفى بعرض صور هذه الثقافة دون نقد لها، ربما لأن الغرض من الفصل أساساً هو إثبات أن ثقافة العوام " لا تخلو من إبداع، بما ينفي الاتهام الشائع بجدب ثقافة العوام والمهمشين " ولا جدال في اتفاقي مع د. محمود إسماعيل في هذه النقطة، إلا أن الملاحظ في ثقافة العوام، وعلى الأخص السيّر الشعبية، أنها تُسقط تصوراتها البطولية على الشخصيات التاريخية دون انتقاء محدد، وهذا العنصر تشترك فيه الثقافة الشعبية في العالم الإسلامي عموماً، في مصر أوجد المصريون سيراً شعبية لكل من الإمام علي بن أبي طالب، والظاهر بيبرس، وربمـا كان من المفهوم الإعجاب بعلي بن أبي طالب كشخصية صحابية وتمتلك تراثاً كفاحياً كبيراً بالإضافة لانحيازه المشهور للطبقات الكادحة، لكن من غير المفهوم هذا التصوير الإيجابي الغريب للظاهر بيبرس وهو المؤسس الفعلي للحكم المملوكي بكل مساوئه وسلبياته التي عانى منها المهمشون، ونفس هذه الظاهرة توجد في الأدب الشعبي الإيراني حيث يلاحظ مدى اهتمام الإيرانيين بشخصية الإسكندر الأكبر على الرغم من أنه الشخصية التي حطمت الإمبراطورية الفارسية القديمة، إلا أن الحكايات الشعبية تشير إليه دائماً بإيجابية إلى درجة تصويره في بعض هذه الحكايات كشيعـي ينادي بولاية علي بن أبي طالب، ويبدو أن معظم هذه السير الشعبية على الرغم من دلالاتها الاجتماعية لم تكن تمثل أكثر مـن مجالات للترفيه بأسلوب مشوق يقبله العامة، وقد استخدمت للتخدير أكثر منها كوسيلة للتوعية والتثوير، فالملاحظ في سير الإمام علي – على سبيل المثال – خلطها ما بين البطولة العسكرية، الكفاحية والخرافة، وهما العنصرين الأكثر تشويقاً بين العامة عموماً، وهذان العنصران يمثلان عاملاً مشتركاً بين معظم هذه السير، وذلك بعكس وسائل أخرى كالمقامات والتي كانت تمثل سخرية لاذعة من الأوضاع الاجتماعية القائمة.
   أخيراً .. يبقى كتاب " المهمشون في التاريخ الإسلامي "، للدكتور محمود إسماعيل مبادرة مهمة كانت تحتاجها الساحة الثقافية المصرية والتي تعاني من الأمية في هذا المجال، وإضافة لمشروع د.محمود إسماعيل حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، واكتشاف حقيقة أوضاع العوام بصفة عامة وتاريخهم وممارساتهم الثقافية والسياسية، بعد أن تعمّد المؤرخين القدامى استخدام التاريخ كوسيلة دعاية للسلطة القائمة واختزاله في سرد البطولات العسكرية والسياسية للحكام، وتلفيق الاتهامات والشائعات ضد خصومهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق