الجمعة، 27 يوليو 2012

الحركات الاجتماعية.. تحولات البنية وانفتاح المجال 

الحركات الاجتماعية هي تلك الجهود المنظمة التي يبذلها مجموعة من المواطنين بهدف تغيير الأوضاع، أو السياسات، أو الهياكل القائمة لتكون أكثر اقترابا من القيم الفلسفية العليا التي تؤمن بها الحركة.
وبالرغم من تراجع مفهوم "الحركة الاجتماعية" خلال العقدين الأخيرين في العلوم الاجتماعية كمفهوم تحليلي لصالح مفهوم "المجتمع المدني"، فإن هناك من لا يزال يدافع عنه من المفكرين المرموقين، منهم على سبيل المثال عالم الاجتماع الفرنسي "آلان تورين" الذي يبني دفاعه عن مفهوم الحركة الاجتماعية على أساس موقفه النقدي الرافض لفكر ما بعد الحداثة الذي أعلن انتهاءها لصالح النسبية وتفضيلا لمفهوم الجماعات المدنية المتنازعة في المجال العام التي تدير نزاعاتها عبر آلية التفاوض المستمر وليس الحركات الواسعة الأيدلوجية، فقد انصب نقد تورين على ما بعد الحداثة باعتباره فكرا هداما للنموذج العقلاني الذي وصلت إليه المجتمعات الحديثة عبر نضالات مريرة على مدى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والذي يقوم بالأساس على السعي لبناء إجماع رشيد.
ولا يبدو أن هناك تعريفا جامعا مانعا لمفهوم الحركة الاجتماعية، حيث يتسع حينا ليشمل في طياته مختلف المسارات أو السيرورات الاجتماعية مهما تنوعت أو تعددت، ويضيق حينا آخر؛ بحيث يشير فقط إلى سلوك جمعي له فرادة تميزه، وله بناء وتنظيم وقيادة، ويهدف إلى تغيير الأوضاع القائمة، أو تغيير بعض جوانبها الأساسية على الأقل.
وثمة تصنيفات عديدة للحركات الاجتماعية، فالبعض يصنفها إلى حركات ريفية وأخرى حضرية، أو حركات قومية وأخرى عالمية، وغير ذلك من التصنيفات التي تستند إلى أسس فئوية أو عرقية. ويرى كل من ريمون بودون وفرانسوا بوريكو أن الحركات الاجتماعية تتشكل في الفترات التي تعاني فيها المجتمعات من أزمة، وتسهم هذه الحركات في عملية التغيير وتجاوز الأزمة.
أنواع الحركات الاجتماعية
ويميز البعض بين نوعين من الحركات الاجتماعية هما: الحركات التي تسعى إلى تغيير القواعد والأحكام المعمول بها، والحركات التي تهدف إلى تغيير القيم وتجديد الأخلاق. ويتحفظ كل من بودون وبوريكو على هذا التمييز، فالمواجهة بين مفهوم نفعي وآخر مثالي للحركة الاجتماعية -في رأيهما- هي مواجهة خادعة؛ إذ المشاركون في حركة اجتماعية واحدة قد تحركهم دوافع مثالية وأخرى نفعية في آن واحد. وفضلا عن ذلك فإن الحركات الموجهة نحو القيم لا تشكل كلا متجانسا؛ فالإرهاب "الروسي" كان حركة اجتماعية على غرار المقاومة السلبية لغاندي، وإن كان الأول يلجأ إلى العنف، والثاني يجعل من تنكره للعنف أحد مبادئه الأساسية. ومع ذلك يمكننا اكتشاف سمة مشتركة بين كل الحركات الموجهة نحو القيم، وهي أنها المكان الراجح لليقين الذاتي حسب تعبير ماكس فيبر.
أما الفكر الماركسي فنجده في عمومه يميز بين خمسة أنواع من الحركات الاجتماعية وهي (العمالية، والطلابية، والفلاحية، والنسائية، والثقافية)، ويستند هذا التمييز إلى أن الفئات الاجتماعية الداخلة فيه هي التي تشكل القوى الرئيسية المكونة لأغلبية الشعوب والمجتمعات المعاصرة، وهي في الوقت ذاته القوى الرئيسية للإنتاج، كما أنها أكثر القوى الاجتماعية تخلفا فيما يتعلق بظروف عملها وأحوال معيشتها.
ولكن كيف تظهر الحركة الاجتماعية إلى حيز الوجود؟
وما أهم المراحل التي تمر بها؟
إن تاريخ كل حركة اجتماعية يبدأ في الغالب الأعم بمرحلة من "التعبئة" الأولية؛ بالمعنى الذي قصده باحث بارز مثل كارل دويتش، حيث قصد بالتعبئة حالة اجتماعية متسمة بتزايد الحركية الجغرافية (الهجرة الداخلية) والمهنية، وسرعة توصيل الأفكار وانتشارها، وكثافة الاتصالات؛ أي أن تعبئة المجتمع -في المعنى الذي استعمله دويتش- تشكل واحدة من مقدمات ظهور الحركات الاجتماعية، ولكن هذا الشرط لا يكفي؛ إذ يقتضي أن يتحرر الأفراد من القيود التقليدية، وأن يطوروا قدرة تنظيمية يستطيعون بفضلها تحديد أهداف مشتركة، ووضع الموارد المطلوبة للوصول إلى هذه الأغراض موضع العمل.
وعادة ما يلاحظ في بدء عملية التعبئة وجود مرحلة مبادرات لا مركزية وغير منسقة تطبع بدايات الحركة، وتليها مرحلة العمل المنظم. ويختزل بعض علماء الاجتماع مراحل تطور الحركات الاجتماعية في مرحلتين: الأولى هي المرحلة التلقائية؛ حيث لا تتميز إلا بشيء قليل من التنظيم، وتكون الأدوار غير واضحة، والأهداف غير متبلورة بشكلٍ كافٍ، والثانية هي مرحلة التنظيم الواضح، والبناء الاجتماعي الذي تحددت فيه الأدوار، وتبلورت الأهداف في إطار أيديولوجية متكاملة.
ويمكن القول بأن الحركات الاجتماعية بشكل عام تمر بثلاث مراحل هي:
1 - تبلور فكر الجديد واتساع دوائر انتشاره.
2 - حشد التأييد الاجتماعي له.
3- تغيير الواقع، أو الإسهام في تغييره.
ويغلب على كل مرحلة نمط خاص من النشاطات والبرامج التي من المفترض أن تسهم في تحقيق أهداف الحركة.
بقيت الإشارة في هذا السياق إلى أن الحركات الدينية هي نوع من الحركات الاجتماعية، وإن كانت تتميز عن غيرها بكونها تمتلك مطلقات ومراجع كونية؛ كما هو الحال مثلا في الحركات الإسلامية، فلديها "مطلقات" عقيدية وإيمانية تجعل المنتمين إليها مستعدين للموت في سبيلها، كما أن لديها مرجعية متجاوزة للواقع المادي وتفسيراته الوضعية؛ كما أن رسالتها تسمو فوق الفوارق بين التجمعات الطبقية والإثنيات العرقية، واللون والجنس؛ ولذلك نجد أن خطاب هذه الحركات يتجه إلى الناس أجمعين دون تمييز، وتتسم أهدافها بالشمول والكلية، مثل هدف "تغيير الحياة"، و"تجديد الأخلاق"، و"إصلاح المجتمع والقضاء على الفساد" و"إقامة حكم الله في أرضه".
المكون الديني في الحركات الاجتماعية
ويؤكد بعض علماء الاجتماع -من ذوي النزعة النقدية- على أن المكون الديني حاضر في جميع الحركات الاجتماعية وليس في الديني منها فحسب، فحتى أولئك الذين يتصرفون على أنهم مجموعات ضغط في خدمة مصالح ضيقة جدا، نجدهم يستدعون قيما مقدسة، وفي رأي ر. بودون وف. بوريكو أن هذا هو ما توحي به الحركة العمالية في الديمقراطية التعددية للغرب الصناعي؛ حيث تقوم النقابات بالطريقة الأكثر واقعية بالدفاع عن مصالح فئوية ساعية إلى المحافظة -في الوقت نفسه- على الصلة بين إستراتيجية النقابة المهنية هذه، وبين تراث من المساواة والأخوة الشاملة. ولعل هذا هو ما يفسر لنا لماذا اتسم - تاريخيا- عدد مهم من الحركات الاجتماعية بالطوباوية - المثالية (والأمثلة على ذلك كثيرة منها: الحركة الاشتراكية، والحركات الوطنية).
من المهم أن نؤكد إذن على أن مفهوم الحركة الاجتماعية لا يزال ينبض بالحياة، بالرغم من التراجع الذي أصابه بفعل صعود موجة المد الأخيرة لمفهوم المجتمع المدني -الوطني والعالمي. ومن الشواهد على ما نقول أن عددا من الجماعات والتنظيمات التي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية بهدف مناهضة العولمة ومناطحة "النيولبيرالية" أصرت على تسمية نفسها باسم الحركات الاجتماعية، وتصدر بياناتها تحت هذا الاسم، ومنها مثلا: "نداء الحركات الاجتماعية/ بورتو أليجري 2003 ومومباي 2004، ضد الليبرالية الجديدة والحرب، ومن أجل السلام والعدالة الاجتماعية.
والخلاصة هي أن الحركة الاجتماعية تتشكل حول مبادئ و"مصالح معينة" بهدف الدفاع عنها، أو للسعي من أجل تحقيقها، وتشمل كلمة "المصالح" -هنا- الجوانب المادية الملموسة، والجوانب الأخلاقية والمعنوية والقيمية.
سياقات تطور وتنامي الحركات الاجتماعية:
السياق التاريخي العام (الاجتماعي والسياسي) الذي تنشأ فيه الحركات الاجتماعية عادة هو سياق "الأزمة"، ومن أهم عناصر هذه الأزمة التي شكلت المناخ العام لظهور تلك الحركات العوامل الآتية:
أزمة الديمقراطية:
تنشأ الحركات الاجتماعية في مواجهة الدولة نتيجة تعثر الدولة في أداء دورها وتدخل الدولة المتزايد للسيطرة على السوق وتدعيم قوتها وتوسعها على حساب المجتمع المدني، وهو ما يتزامن عادة مع تآكل دور الأحزاب السياسية كمنظمات للتعبئة والتمثيل الشعبي، وعندما تندمج الأحزاب السياسية مع النظام وتدور في فلك الحكومة رغبة ورهبة، وتأخذ شكل الأجهزة الملحقة بالدولة، ومن ثم تفشل الأحزاب في أداء وظيفتها الطبيعية في الرقابة وتقديم سياسات بديلة؛ وحتى أوقات الانتخابات نجدها تتوخى الابتعاد عن القضايا الملحة والخلافية، ولا تركز عليها في برامجها وحملاتها الانتخابية.
ويمكن القول بشيء من الثقة أن دور الأحزاب أصبح أكثر ميلا إلى إضفاء الشرعية على الدولة، وفي أكثر من مناسبة بدت الهوية الأيديولوجية لهذه الأحزاب باهتة؛ إذ طغت براجماتيتها على أيديولوجيتها، وتمثلت هذه البراجماتية في التزام الأحزاب المحافظة على الاستقرار المؤسسي. وليس أدل على ذلك من الانخفاض الملحوظ في المشاركة بالانتخابات العامة في الدول الغربية عموما وفقدان الثقة بالسياسيين خصوصا.
وتنشط الحركات الاجتماعية في ظل هذا العجز لتقوم بمهمة تمثيل المصالح وتقديم خطط بديلة والدفع باتجاه التغيير من خارج النظام، ولتمثل قوة ضاغطة تفرض على الدولة تعديل سياساتها وتطوير أدائها.
وهي تضم قطاعات واسعة من المواطنين -خاصة أولئك البعيدين عن مراكز القوة- للدفاع عن حقوقهم المدنية من الناحية الفعلية. ومع اتساع ظاهرة اللامنتمين الذين لا يشاركون عادة في التصويت وقد ينضمون للحركات تطلعا لتحقق تغيير، وأيضا ذوي الأصوات المستقلة.
وقد يكون الضغط سلميا، كما قد يؤدي لظهور أعمال تمرد.
الدولة والسوق والمجتمع المدني
إن ما سبق يدل دلالة على اختلال التوازن -النظري والعملي- بين ثلاثية "الدولة، والسوق، والمجتمع المدني"؛ فالدولة تضع نفسها نظريا فوق القوى الاجتماعية المتصارعة، ولكنها في الواقع تفرض نفسها على كافة جوانب الحياة الاجتماعية من خلال الأوامر التكنوقراطية، واستيعاب المطالب الشعبية في الحدود الإدماجية، ولكن ما أن تبدأ هذه التركيبة في مواجهة مشاكل الركود والضغوط الاجتماعية الكثيفة فإنه سرعان ما يتآكل النموذج الإدماجي ويحتدم الصراع من جديد.
الآثار السلبية للتحول الرأسمالي:
إن حالة الاحتقان الاقتصادي الذي أخذ مظاهر متعددة: مثل ضعف معدلات النمو، وعدم استقرار العملة، والأزمات المالية الحادة، وتصدع دولة الرفاهة بصفة عامة، بل والانقلاب عليها بشكل واضح وتقليل فرص العمل، وزيادة حدة البطالة، كل ذلك أدى لنمو وازدهار الحركات الاجتماعية الاحتجاجية.
وفي غمار تلك العمليات، حدثت هوة واسعة بين المجال السياسي والمجال الاجتماعي، مع غلبة الطابع السياسي على الاجتماعي "كأن الحياة الاجتماعية لم تَعُد سوى إطار للمنظومة السياسية" (على حد تعبير آلان تورين)؛ لذا تسعى هذه الحركات لكي تحقق مزجا بين مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، وتؤدي أفكارها إلى توسيع النشاط السياسي ليشمل جوانب أخرى غير الصراع على السلطة، ومن ثَم فهي تقدم بديلا جديدا في كيفية ممارسة السياسة، مما جعل بعض المفكرين يطلق عليها اسم "الهيمنة الصاعدة". وتسهم فعاليات الحركات الاجتماعية في بناء مفهوم الهيمنة بهذا المعنى، وفي إعادة تشكيله أيضا؛ ذلك لأن تلك الفاعليات تعني في جوهرها إعادة تعريف علاقات القوة كعمليات غير مؤسسية، والاتجاه نحو الانفتاح والمشاركة في صنع السياسات في مواجهة النموذج التقليدي بتراتبيته المحكمة، وقيادته الحازمة، وتسعى إلى توسيع المجال أمام المبادرات الشعبية عن طريق بناء هياكل محلية (منظمات - اتحادات - عيادات صحية... إلخ)، وتنظيم المظاهرات، والإضرابات، والمقاطعة، والاحتجاج... إلخ.
وهذه الحركات الاجتماعية الجديدة تتميز بأنها لا تسعى لامتلاك مؤسسات السلطة، ولا تزاحم الأحزاب السياسية في مجال نشاطها، فقط هي تأمل في ترسيخ نمط فعال من المشاركة الاجتماعية، على المستويات المحلية والقومية في بلدانها، وعلى المستوى العالمي بالنسبة للحركات التي تنزع نحو هذا الاتجاه، وذلك بغرض التأثير على سلطات صنع القرار وتحقيق مكاسب جماهيرية على مستوى أو أكثر من تلك المستويات.
فهذه الحركات تمثل مرحلة جديدة من مراحل الصراع من أجل الديمقراطية، من خلال الإسهام في إعادة تعريف مفاهيم أساسية مثل الديمقراطية والقوة وأدوات الهيمنة، فهذه الحركات لا تريد منافسة السلطة الرسمية، ولا تعتمد على المنظمات الجماهيرية المعتادة (كالنقابات مثلا) لتوصيل مطالبها إلى السلطة، وتقع في موضع وسط بين المؤسسات الرسمية والمؤسسات الجماهيرية التقليدية، ومع ذلك تنشغل دوما بقضايا عامة تصب في نهاية المطاف في صالح الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
والواقع أن هذه الحركات تمارس الديمقراطية بمعناها شبه المباشر عن طريق أصغر الوحدات الاجتماعية الممكنة (مثل: الأسرة - المدرسة - الحي... إلخ)، وبالتالي فهي تعمق الممارسة الديمقراطية وتجذرها كممارسة على المستوى الشعبي، ربما أكثر مما تفعله المؤسسات التقليدية (الأحزاب - النقابات)؛ أي أنها تمارس السياسة على المستوى الشعبي -القاعدي.
وهذه الحركات تساعد بذلك على تنمية الوعي الجماهيري، وتترجمه على مستويات تنظيمية دنيا، وهذا النمط من الممارسة الديمقراطية هو الأكثر فعالية على المدى الطويل في تحدي الهياكل المسيطرة، وفي مواجهة الهيمنة القائمة، وبناء هيمنة بديلة على المدى الطويل نسبيا.
وهي تدعو إلى الحل غير العنيف لمختلف الصراعات، ولا شك أن انتشار الرؤية السلمية -من وجهة نظر هذه الحركات- يمكن أن يؤثر على الطريقة التي يتم بها حل قضايا عالمية كبرى مثل مشكلة سباق التسلح، وانتشار الأسلحة النووية.. هذا إلى جانب أن الدعوة إلى الحل السلمي للصراعات يسلب الترتيبات -السياسية والاجتماعية- سطوتها؛ لأن هذه الترتيبات تستمد شرعيتها من قدرتها على التدخل بالقوة لحل الصراعات.
من معالم السياسات الجديدة للحركات الاجتماعية:
1 - بناء تحالفات جديدة لا طبقية وعابرة للأيديولوجيا
ثمة الحركات الاجتماعية الجديدة تحالفا عريضا يتشكل -وطنيا ودوليا- ضد الليبرالية الجديدة المتوحشة، يشمل الحركات الاجتماعية القديمة، والجديدة، ونشطاء المجتمع المدني، وأحزاب الخضر، والأحزاب الاشتراكية، والحركات السلمية، والإنسانية، وجماعات تحرير المرأة، والراديكالية الدينية المنحازة للفقراء والمستضعفين، ولاهوت التحرير والحركات المناهضة للعنصرية... إلخ، كذلك فإن من أهم سمات هذا التحالف هو أنه لا يقوم على أساس طبقي مغلق مثلما كان حال الحركات الراديكالية والتنظيمات النقابية العمالية التي استلهمت الأفكار الماركسية في المراحل السابقة، كما أنه تحالف عابر للأيديولوجيات.
وقد أدى هذا الانفتاح إلى تنوع في الإستراتيجيات التي تتبناها، فمنها إستراتيجية المقاومة العنيفة، وإستراتيجية مقاطعة بضائع الشركات المتعددة الجنسية، وإستراتيجية المنتديات البديلة، والحملات والمظاهرات المتزامنة. وتنهمك بعض الحركات في صياغة رؤى بديلة يتم التركيز فيه على تحرير الموارد من الاقتصاد العسكري، وتوجيهها إلى الخدمات الاجتماعية، والاكتفاء بمجرد الدفاع الوطني فيما يخص عمليا التسلح، مع بذل قصارى الجهد لإيجاد نشاطات كثيفة العمالة بدلا من أن تكون كثيفة رأس المال لدعم الفئات الأضعف ومكافحة البطالة في الغرب وفي العالم الثالث، وإلغاء المركزية التكنوقراطية، والتحول إلى اللامركزية، وإتاحة فرص المشاركة الديمقراطية والقضاء على آليات الإقصاء، وتبني سياسات للاستيعاب عوضا عن سياسات الاستبعاد.
وما نود التأكيد عليه هنا هو أن مثل هذه التحالفات تتضمن تحولا نوعيا في اهتمامات الحركات الاجتماعية نحو الجمع بين المطالب المادية والأخلاقية في الوقت نفسه، بدلا من التركيز على إعلاء النبرة الأخلاقية فقط كما كان يحدث في السابق، حتى إن الحركات المطالبة بحقوق الإنسان أصبحت تعتبر أن التخلص من الفقر هو حق من حقوق الإنسان. ولا تقتصر هذه التحولات التي أشرنا إليها على الديمقراطيين الاجتماعيين والحركات الشعبية الجديدة وجماعات الخضر في الدول الصناعية فحسب، وإنما تشمل أيضا نظراءهم في عديد من بلدان جنوب العالم وشماله. وثمة شواهد تؤكد أن الجميع بات يدرك أهمية تكوين روابط وتحالفات واسعة بين مختلف القوى المناهضة للممارسات السلبية التي تعاني منها الشعوب والفئات الفقيرة من جراء سياسات العولمة.
وتوضح مواقف الحركات الاجتماعية بتوجهاتها الجديدة خلال السنوات العشر الماضية أنها تعيد صياغة تصوراتها التي انطلقت منها في المراحل السابقة بشأن قضايا أساسية تأتي في مقدمتها قضية الدولة وعلاقتها بالمجتمع المدني، والإستراتيجية السياسية للسلطة في إدارة المجتمع، والمشاركة الديمقراطية؛ وذلك بسبب الأهمية القصوى لتلك القضايا بالنسبة لأية محاولة تسعى لبناء مجتمع جديد من جهة، ولعمق التغيرات النظرية والعملية التي طرأت عليها في السنوات الأخيرة من جهة ثانية.
إن التوجه الجديد الذي تنخرط فيه الحركات الاجتماعية سواء في صورة شبكات إقليمية أو تحالفات عالمية هو ظاهرة إيجابية، يمكن أن تسهم في الجمع بكفاءة بين "الدولة" و"المجتمع المدني" ضمن مفهوم إستراتيجي موحد يستهدف أنسنة سياسات التنمية الاقتصادية وربطها بقيم العدالة الاجتماعية والحريات الديمقراطية.
2 - مواجهة الإمبراطورية وبناء بدائل جديدة
تشير ممارسات الحركات الاجتماعية خلال العقد الأخير إلى انحيازها للمنهج التدريجي الإصلاحي في مواجهة قوى الهيمنة المسيطرة على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، خاصة الإمبراطورية الأمريكية. ويبدو أن الخبرات التي اكتسبتها من ممارساتها السابقة التي اعتمدت في كثير من الأحيان على المنهج الراديكالي العنيف قد أقنعتها بعدم جدوى هذا النهج وأوصلتها إلى طريق مسدود في محاولاتها للتصدي للهيمنة القائمة، وفي سعيها لبناء هيمنة مضادة على حد سواء. لذا نجد تنامي الاتجاه إلى التعريف بمطالبهم وطرح رؤاهم وحشد التأييد لها عبر وسائل الإعلام ووسائط الاتصالات فائقة السرعة التي عادة ما تولي اهتماما مكثفا بمثل تلك المواجهات. وتكون النتيجة هي أن الحكومات والمؤسسات التي ترفع لواء الليبرالية والحريات الديمقراطية تظهر بمظهر ديكتاتوري، بل وفاشي في بعض الحالات.
وحتى يمكن أن تنجح الحركات الاجتماعية وتحالفاتها وشبكاتها في بناء هيمنة مضادة وجديدة في الوقت نفسه، فإن أمامها أشواطا طويلة عليها أن تقطعها على درب المنهج التدريجي، باعتبار أنه النهج الأنسب الذي يمكنها من القيام بأداء دورها في عملية المزج الخلاق بين اعتبارات نظام السوق من ناحية، واعتبارات التضامن الاجتماعي وتفعيل مؤسسات وهيئات المجتمع المدني من ناحية أخرى، مع اعتماد الوسائل السلمية الجديدة التي بدأت تأخذ طابعا عالميا هي الأخرى.
وإذا كان صعود مفهوم المجتمع المدني خلال الربع قرن الأخير قد خطف الأضواء من الحركات الاجتماعية، فإننا نعتقد أن النشاط المكثف لهذه الحركات خلال العقد الأخير وبخاصة على الصعيد الدولي في مواجهة سلبيات العولمة، ومن منظور مستقبلي يمكن القول أنه كلما ترسخت هذه السمات اتسع المجال أمام الحركات الاجتماعية الجديدة كي تصبح قوة مضافة للقدرة التمدينية Civilizing Potential للنظام الديمقراطي، بشرط الانحياز للإنسان أولا وقبل كل شيء؛ وذلك حيثما تيسرت أمامه سبل الحياة، واتسعت أمامه حرية الاختيار بين بدائل متعددة وجيدة، سواء كان في شمال العالم أو جنوبه، في غربه أو شرقه.
وفي العالم الإسلامي نلاحظ أن التيار العام للحركات الاجتماعية ارتبط بالإسلام وتجديد الخطاب الديني؛ ليصبح مرتبطا بواقع الناس وقضايا العدل والمشاركة السياسية، ودارت الحركات الإسلامية حول مفهوم استعادة تطبيق الشريعة في مواجهة تحديث الدولة قبل وبعد الاستقلال، وإن ميزنا هنا بين ما يمكن بثقة تصنيفه حركة اجتماعية واسعة كالإخوان المسلمين، وبين حركات تغيير بالقوة لا تندرج تحت وصف "الاجتماعية"، بل هي سياسية صرفة. ونمت بجوار هذا التيار العام حركات اجتماعية عمالية/ نقابية وأيدلوجية (ليبرالية ويسارية)، ولم تبرز حركات مساواة المرأة (بالمعنى الحركي وليس النخبوي) إلا متأخرة -على ضعفها- وكذا أنصار البيئة، مع دور ما زال للأسف محدودا لحركة حقوق الإنسان العربية وارتباط للحركة النقابية العمالية بالدولة إلا فيما ندر من انتفاضات عمالية، وشبه غياب لحركة فلاحية قوية.
وقد كشفت تجارب تلك الحركات على مدى النصف الثاني من القرن العشرين عن وجود اختلافات في مستويات أدائها ودرجات فعالياتها؛ وذلك في ضوء الأهداف التي سعت إليها، والآليات التي استخدمتها، والسياق الاجتماعي الذي عملت ضمنه، واللحظة التاريخية التي نشأت فيها أو مرت بها... إلخ، ولكن الصعوبة الكبرى التي واجهتها ولا تزال تواجهها هي أنها تعمل بعيدا عن الأطر الرسمية للنظام السياسي، بمعنى أنها تفضل العمل من خارجه، لا من داخله، وهي وإن كانت بمثابة قاعدة لانطلاق النقد الاجتماعي وممارسته بشكل فعال والسعي للتغيير، إلا أنها تظل في أغلب الأحوال تشكل في مجموعها الكلي غير محدد الملامح وغير متجانس إلى حد كبير؛ الأمر الذي يؤدي إلى آثار سلبية متعددة تتركز في انكفاء هذه الحركات على ذاتها، وتقليل فعاليتها بصفة عامة.
العمل المدني
وإذا كان العمل المدني هو عصب نشاط الحركة الاجتماعية، إلا أنه غير كافٍ لضمان نجاحها، فالنجاح يتطلب تغيير التركيبة السياسية المهيمنة في المجتمع، ومن ثَم فإن أي حركة اجتماعية تواجه تحديا أساسيا من أجل تطوير إستراتيجية سياسية شاملة تكفل إنجاز هذا التغيير الذي تسعى إليه.
وعندما يثور الحديث عن وجود "مجتمع مدني عالمي" يصبح السؤال: كيف يمكن الحديث عن تجانس بين حركات تأتي من مجتمعات تتفاوت في نوعية تطورها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي؟ فالحركات الاجتماعية العربية مثلا مختلفة عن نظيرتها في البلدان المتقدمة؛ وذلك لاختلاف مسار ووضعية التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي لكل منها، ومن ذلك على سبيل المثال: وجود شريحة واسعة من المواطنين "المهمشين" الذين يقفون خارج النظام الاقتصادي الرسمي لبلدان العالم الثالث، ووجود فوارق طبقية حادة في مجتمعات هذه البلدان، خاصة البلدان العربية، وتعدد عناصر الانقسام الرأسي التي تقوم على أسس عرقية وإثنية ودينية، وكل هذه العوامل توفر بيئة ملائمة لظهور ونمو الحركات الاجتماعية: إما على أساس شعبوي أو ديني أو ثقافي أو إثني.
وغالبا ما تكون مطالب هذه الحركات متسمة بالعمومية البالغة، كما أنها تتميز بالقدرة على الاستمرار مقارنة بالأحزاب السياسية التي لا تجد في ظل مناخ الاحتقان السياسي والتعثر الديمقراطي بيئة ملائمة لوجودها أو تطورها، وهذا عكس الحال في المجتمعات الغربية المتقدمة التي تمتعت فيها الأحزاب بوجود قوي، ولكنها أدت إلى تجميد التطور الاجتماعي، ومن ثَم إلى نشأة حركات اجتماعية تعبر عن اهتمامات جديدة غير اقتصادية أو "ما بعد مادية"، مثل قضايا البيئة، والمحافظة الأخلاقية، وحركات التجديد الديني المسيحية بأنواعها، وحركات المرأة والنسوية على تنوعها، وأخيرا حركات مناهضة العولمة.
وبينما تكون الفرصة كبيرة لتطوير عناصر الاتفاق بين الحركة الاجتماعية والأوضاع القائمة في النظم المتقدمة عبر تقاليد الحوار والحريات التي تتيحها تقاليد الممارسة الديمقراطية، فإنها على العكس من ذلك في البلدان المتخلفة، حيث تنعدم مثل هذه التقاليد -أو تكاد- وتأخذ علاقة الحركة الاجتماعية بالدولة طابعا تصادميا، وأكثر عنفا وثورية، مقارنة بما عليه الحال في المجتمعات الصناعية المتقدمة، حتى لو كان هدفها مجرد تنظيف الشوارع كما حدث في بلد عربي بالمشرق.
وأيا كان الأمر فإن الحركات الاجتماعية سواء كانت في شمال العالم أو في جنوبه لها بلا شك أهداف سياسية معلنة أو مضمرة؛ ولا يعني هذا الرغبة في الاستيلاء على السلطة، بل تغيير علاقات القوة الذي هو شرط للتغيير، فهي تستهدف نقد السلطة عبر وسائل متنوعة، وتهدف لإحداث تغييرات في النظام القائم أو في بعض جوانبه على الأقل.
ومع دخول حقبة العولمة منذ تسعينيات القرن العشرين الماضي مرحلة جديدة توحشت فيها جوانبها الاقتصادية والعسكرية اتجهت الحركات الاجتماعية الفاعلة -وبخاصة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة- إلى تبني رؤى جديدة تكاد تكون مغايرة تماما للرؤى التقليدية الضيقة التي تبنتها خلال الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وهذه الرؤى الجديدة تستمد مضامينها الفلسفية والفكرية من مبادئ إنسانية عامة مثل مبادئ حقوق الإنسان، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، والمحافظة على البيئة من أجل الأجيال القادمة... إلخ.
فهل تتمكن بأن تسهم في حل مشكلات المجتمعات المعاصرة والتحديات التي تجابهها في عصر العولمة؟ طموح مشروع وأفق مفتوح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق