السبت، 28 يوليو 2012

مجلة التاريخ العربي 1997


لأساطيل العربية الإسلامية في البحر الأبيض المتوسط المعروف بالبحر الشامي والعربي
                 
                             الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله
      عضو أكاديمية المملكة المغربية والمجامع العربية والهندية

البحر الأبيض عرف أوائل القرن الخامس الميلادي عصر هدوء طوال مائة عام تحت إشراف الجرمان الذين دشنوا ألفية العصور الوسطى ( عام 378 م) بإزاء البيزنطيين في الامبراطورية الشرقية والوندال غربي المتوسط غير أن خلفاء ( جنسيريك أو جيسيريك) ( Geiseric ou Genseric) المتوفى عام ( 477 م ) وهو أول ملك وندالي في إفريقيا - انهزموا أمام ثورة البرابرة الأشاوش الذين انحدروا من الجبال فزحزحوا المغيرين إلى مدن ساحلية بجانب " أفريكا" الرومانية القديمة.
وكان البحر المتوسط منذ ذلك مركز التجارة العالمية احتكرته بيزنطة طوال القرن الخامس وقبله وكانت التوابل والحرائر هي مادة هذه التجارة مع إيران والهند والصين والدينار الذهبي هو عملة التبادل خاصة في القرنين الثاني والثالث غير أن الإمبراطورية الشرقية لم تهتم - رغم سيطرتها الاقتصادية - بقوتها البحرية نظرا لاعتمادها خاصة على طرقها وحصونها البرية يؤكد ذلك سهولة انقضاض الوندال أواخر القرن الخامس انطلاقا من الشمال الإفريقي على جزر البليار وسردينية وكورسيكا بل نهبهم لروما عام ( 455 م ) واندحار حملتين بحريتين رومانيتين غير أن هزيمة الرومان الشرقيين حدتهم إلى التفكير في إنشاء قوة بحرية تبلورت عام ( 508 م) في أسطول عدته مائة سفينة مسلحة وخمسة ألاف بحار وكان هذا الأسطول قوة عارضة ما لبث نفس الأمبراطور وهو ( أنسطاسيوس) أن جدد، عام ( 516 م ) بقطع قارة عزرت بمواد متفجرة أشبه بما عرف بعد ذلك بالنار الإغريقية.
واحتفظ البيزنطيون بأسطولهم الدائم الحركة عصر ( جستنيان الأول) المتوفى عام ( 565 م ) فكان له طوال القرن السابع قواد ودور صناعة في الإسكندرية والقسطنطينية وقرطاج وعكا وسرقوسة والبليار وحتى سبتة وكانت في طليعة القطع البحرية السفن الحربية السريعة الخفيفة المجذافية المعروفة ب ( Dromono) .
وظل الأسطول البيزنطي يجول ويصول في البحر الأبيض المتوسط دون منازع إلى الفتح الإسلامي حيث تعززت السيادة البحرية بمحاولات دعم اقتصادية استهدفت ولو جزئيا استئصال سيطرة فارس الاقتصادية بقطع أرباحها من تجارة التوابل والحرير وذلك باستجلاب دودة القز التي انتشرت بفضلها صناعة الحرائر وأقشمة الديباح علاوة على مختلف فنون العمارة وفي الفسيفساء في عديد من الجزر والموانئ والحواضر فكانت القسططينية خلال القرنين السادس والسابع الميلاديين أعظم مدينة في الشرق بلغت حضارتها الأوج وسكانها المليون نسمة (1) وغزت تجارتها حواضر العالم تليها قوة مدينة الإسكندرية التي كانت أعظم مدن البحر الأبيض المتوسط وربما اخترقت مضيق جبل طارق لتصدير القصدير إلى بريطانيا.
                                   ****
وقد استهل العرب فتوحهم في البحر الأبيض المتوسط بفتح الإسكندرية عام ( 21 هـ/ 641 م) وبذلك بدأ عهد جديد في تاريخ البحر الأبيض المتوسط دفع الفاتح العربي عمرو بن العاص إلى التفكير في البحر كوسيلة للدفاع إذ ما كانت تبزغ سنة ( 25 هـ / 645 م) حتى استعادت بيزنطة في حملة بحرية عارمة مدينة ( الإسكندرية) غير أن الجيش الإسلامي تمكن من إجلاء القوات الرومانية وهدم حصون الإسكندرية درءا لكل خطر في المستقبل وكانت هذه وسيلة عابرة مؤقتة حدت الأمير معاوية إلى تنظيم أول أسطول بحري قام بأول حملة عربية لغزو البحر المتوسط وقد اتجهت قطع هذا الأسطول - التي أوصلها مؤرخون عرب إلى 1.700 سفينة - عام

( 28 هـ / 648 م) إلى ( جزيرة قبرص) كما أغارت على إفريقية التي ثار حاكمها( البطريق جويجوري) ضد القسطنطينية نفسه أمبراطورا في حملتيم بدأت الأولى عام ( 27 هـ / 647 م) والثانية عام (34 هـ / 654 م ) ولعل ذلك العدد من السفن مبالغة لأن البحرية العربية كانت في منطلق نشأتها ولم تكن تتوفر على بحارين نظرا للطابع البري للجزيرة العربية حيث اضطر الخليفة الأموي في دمشق عام ( 43 هـ / 663 م) إلى استقدام نوتية فرس لملء بعض ثغور الشام انضاف إليهم عام ( 49 هـ / 669 م ) ملاحون عراقيون ومع ذلك بدأ الجانب العربي يتعزز بحريا حيث إن الوالي ( عمرو بن العاص) ما لبث أن أعاد عام ( 50 هـ/ 670 م ) بناء ما حطمه قبل من حصون وقلاع ساحلية في الإسكندرية كما تغزز اقتصاديا لأن ( عبد الملك بن مروان) ضرب لأول مرة ( الدينار العربي) ونقش عليه حروفا عربية مغفلا صورة القياصرة البيزنطيين مما أحنق جوستسنيان الثاني الذي توفى عام
( 711 م ) وانتهت انتفاضته ضد دمشق بهزيمة منكرة على حدود آسيا الصغرى وأحرز الأمويون نصرا عظيما في الشمال الإفريقي عام ( 74 هـ/ 693 م) في حملة ضخمة قوامها أربعون ألف جندي بقيادة ( حسان بن النعمان) ما لبث أن أخضعت عام ( 76 هـ / 695 م) ( قرطاجة) التي تفلتت من أيديهم بعد تدخل ( الكاهنة الجراوية) لتعود بعد ثلاث سنوات ( 79 هــ/ 698 م) وبموت الكاهنة عام ( 81 هـ/ 700 م) انقرض الحكم البيزنطي في إفريقيا.
وقد تزايد اهتمام الخليفة عبد الملك بالأسطول البحري حيث أمر واليه على إفريقية ( موسى بن نصير) ببناء قاعدة بحرية أي ( دار صناعة) ساعده على إنشائها ألف قبطي من بناة السفن بمصر وكان الأسطول العربي قد استولى على جزيرة قوصرة قرب الشاطئ الإفريقي وعلى المضيق الفاصل بين الشاطئ وجزيرة صقيلية وقد تبلورت الاستراتيجية البحرية العربية آنذاك في إقامة دار الصناعة بالمكان الأمين الذي قامت فيه حاضرة ( تونس) وذلك بحفر قناة وصلت هذا المكان بالخليج القريب وهجرت قرطاجة آنذاك وقد أنشأ موسى بن نصير في القاعدة الجديدة مائة سفينة حربية فتعزز الأسطول الأموي عام ( 85 هـ / 704 م) بالقطع البحرية الجديدة وأصبح الشمال الإفريقي منطقة بحرية ثالثة عززت المركزين العربيين في مصر وسوريا وبذلك أمسى

البحر الشامي الذي كان شبه محصورا في الشق الشرقي للبحر المتوسط بحرا عربيا امتد إلى الشق الغربي وقد برهنت السفن الجديدة على فعاليتها حيث أغارت منذ سنتها الأولى على كل من صقيلية وسردينية ثم قاد ( موسى بن نصير) شخصيا عام ( 90 هـ/ 708 م ) أسطوله نحو ( جزر البليار) حيث أسر حاكم ( ميورقة) ليظفر بعد سنتين بالاستيلاء على جزيرة ( سردينية) وبذلك استطاع ابن نصير أن يدرأ خطر الأسطول البيزنطي عن الجزر الثلاث وانضم آنذاك إلى العرب( الكونت جوليان) حاكم سبتة الذي مكن طارقا بن زياد أحد قواد ابن نصير من سفنه الأربع لاجتياز المضيق إلى سفح جبل الشاطئ الشمالي الذي حمل اسمه بعد ذلك وقد أمر ابن نصير قائده بخمسة ألاف مقاتل ولعله استطاع بناء قاعدة في الشاطئ الإفريقي تنطلق منها جيوشه الزاحفة نحو العدوة الشمالية وبذلك تمكن العرب من " الالتفاف" بين عامي ( 74هـ / 693 م و  99 هـ/ 717 م) حول الجناح الأيمن لقوة البيزنطيين البحرية واختراق مراكز الدفاع البيزنطي في شمال إفريقية "فصار الإسلام كالهلال على ما يقرب من ثلث شواطئ البحر (2) المتوسط بين نهر الرون وبلاد أرمينية وهنا يجدر أن نقارن بين الأسطول البيزنطي والأسطول العربي ونظامي القوتين إلى أوائل القرن الثامن الميلادي فقد كان أسطول بيزنطة يتألف من مجموعة مركزية وأربعة أساطيل إقليمية ترابط ثلاثة منها شرقي المتوسط واثنان في غربه (3) والمركز الجامع هو القسطنطينية وكان للأسطول قائد أعلى للأمبرالية البحرية يخضع له نائب أميرال وكان لكل منهما بحارته ودور صناعته وأحواض بنائه ومعداته البحرية نفقاتها عن الأقاليم التي ترابط بها.
أما البحرية الأموية فمن الصعب تحديد تنظيماتها بنفس الدقة إلا أن المفروض هو وجود ثلاثة أساطيل لكل واحد منها استقلال ذاتي ويرابط في إقليم خاص به ( مصر أو سورية أو شمال إفريقية) بالإضافة إلى وحدة بحرية ( في بحر القلزم أو البحر الأحمر) خاضعة للأسطول المصري وانعقد لواء كل أسطول لأمير من أمراء البحر وكان كل أسطول يواجه الأساطيل القريبة منه في آسيا الصغرى أو صقلية أو الأسطول المركزي في القسطنطينية وقد كان أمير البحرية المصرية هو القائد العام للأساطيل (4) الثلاثة التي اشتركت مجمتعة في الحصار الثاني للقسطنطينية إلا أن الأسطولين العربي والبرنطي امتاز كلاهما بالاستقلال الذاتي في الغرب أمام مراكز دور الصناعة في العصر الأموي فقد كانت في الفسطاط والقلزم القواعد الأولية لبناء الأسطول العربي منذ الإنطلاقة الأولى في عهد معاوية وكذلك في ( عكا) التي أصبحت أعظم قاعدة في سوريا في حين أقام ( عبد الله بن مروان) على غرار سلفه ( معاوية) دار صناعة لأول أسطول عربي في إفريقية بعد عام ( 81 هـ/ 700 م) ومع ذلك فلم يكن للقوة البحرية العربية أثر في دعم الزحف الإسلامي في إسبانيا وجنوب فرنسا رغم تفوق هذه القوة على السفن الفرنجية ومما يدل على مدى سمة الدعوة والتمدين في الحركة الإسلامية في البحر المتوسط آنذاك أن العرب لم يستغلوا فتوحاتهم لاكتساح السوق التجارية في البحر المتوسط عدا التخلص من وطأة ( ضريبة القموح) التي كانت تدفعها مصر لقسطنطينية والتي أصبحت تكدس في الأسكندرية لتوجه بدلا من تموين بيزنطة إلى إمداد مكة والمدينة المنورة على أن الفاتح العربي بدأ يضع تشريعات بحرية جديدة مغايرة لما فرضه ( جبستنيان) في القرن السابع خاصة بصدد الإيراد والتصدير و أصبح الشمال الإفريقي الثري خير مصدر للذهب وزيت الزيتون والحبوب والخيول والجمال ما بين ( 76 هـ/ 695 و 87 هـ / 705 م) بالإضافة إلى ما كان يصنع فيه آنذاك من طنافس فاخرة وهذا العهد الجديد الذي خلقه العرب في البحار أدى على الأقل إلى إيقاف التجارة التي كانت منبع ثراء بيزنطة لتصبح تجارة حرة لفائدة الجميع فانطلقت بيزنطة مجهدة نفسها في تخريب الأسسية الاقتصادية في المتوسط وتفكيك الوحدة التي رجع الفضل إليها قديما في ربط أجزاء البحر المتوسط بعضها ببعض ورغم ما يدعيه بعض المغرضين من مشوهي تاريخ الفتوح العربية فإن البيزنطيين هم الذين كرسوا كل قواهم الحربية المدمرة للانتصار بين ( 97 هـ / 715 م و 135 هـ / 752 م) على الأمويين ولو على حساب رخاء ورغد البحر المتوسط وقد تدهور الوضع في إفريقية الشمالية من جراء ذلك وخاصة بسبب السياسة العنصرية التي نهجها بعض الأمويين في تخميس البربر مما أدى إلى ثورة ( ميسرة المضغرى) حول طنجة عام ( 122 هـ/ 739 م) وفي نفس السنة تخربت المدن الجنوبية بفرنسا نظرا لتوقف استغلال بيزنطة لتجارة سورية ومصر مما أدى إلى الكساد الاقتصادي الذي عرفته فرنسا الكارولنجية منذ عام ( 98 هـ / 716 م).
ويظهر أن بيزنطة احتفظت بقوة فعالة في مياه البحرين المتوسط والأسود إلى أوائل القرن الثامن الميلادي لأن القوة البحرية الأندلسية التي تركزت في إمارة سرقسطة كمركز لحماية حدود الأندلس ضد هجمات الكارولنجيين لم تستعمل إلى عام ( 182 هـ / 798 م) للإغارة على مرسيليا عام ( 798 م) وإيطاليا عام ( 162 هـ / 778 م ) وناربون عام ( 177 هـ / 793 م) مما يدل على أن الأسطول الأموي في الأندلس وجه ضرباته لامبراطورية الفرنجة لا البيزنطيين الذين كانوا في عداء مسلح مع هؤلاء والحقيقة أن القوة النسبية التي ظهرت بها السفن البيزنطية ترجع أيضا إلى ضعف الأسطول السوري الذي لم يستطع إيقاف انفصال ( عبد الرحمن الأول) الأموي عام ( 139 هـ/ 756 م)عن الخلافة العباسية التي لم تتمكن حملات أسطولها من الوصول إلى الشواطئ الأندلسية وقد مهد ذلك لانبثاق مملكة الأدارسة المستقلة بالمغرب الأقصى عام ( 172 هـ/ 788 م) ثم الأغلبية عام ( 184 هـ / 800 م) وظلت مصر وحدها خاضعة للعباسيين ورغم ما كان للبحرية العربية من قوة غربي المتوسط فإن العواصم الجديدة كفاس وتونس وقرطبة اتسمت ببعدها عن البحر أي عن خطر الأساطيل الفرنجية لأن بيزنطة بدأت تفقد قوتها البحرية منذ أوائل القرن الثامن الميلادي ولذلك استطاع الأسطول الأندلسي الإغارة منذ عام ( 182 هـ / 798 م) على ( جزر البليار) وبعض مدن الساحل الشمالي إلى أن استفحلت مغامرات السفن العربية عام ( 199 هـ/ 814 م) بوصول ثوار ربض قرطبة (5) الذين استطاعوا فرض سيطرتهم على الإسكندرية مدة اثني عشر عاما حتى طردهم العباسيون الذين تحركت نخوتهم منذ عام ( 191 هـ/ 806 م) - بعد عشرين سنة من خمود الأسطول السوري فأغار أسطولهم على ( قبرص) ثم في العام التالي على ( رودوس) مع فرض جزية سنوية  أصبحت القسطيطينية تدفعها لبغداد ولعل تدخل أسطول الأغالبة في إفريقية عام ( 190هـ/ 805م ) هو الذي ساهم في هزيمة البيزنطيين برا وبحرا لا سيما بعد أن فرض الأغالبة اتفاقية لعشر سنوات مع بطريق صقلية جددت عام ( 198 هـ/ 813م) دون أن يحول ذلك بينهم وبين مهاجمة ( سردينية) في السنة نفسها - رغم تعرض مائة سفينة عربية للغرق من جراء العواصف- ثم الإغارة على صقلية عام ( 209 هـ/ 820 م) واحتلال سردينية في السنة التالية وهذا التناسق الذي كان تلقائيا أحيانا - بين أساطيل المسلمين في سورية والأندلس والشمال الإفريقي والذي تحدى سلطان بيزنطة هو الذي حدا ( شرلماني) الذي كان يعاني الأمرين من ظغط بيزنطة والأندلس معا - إلى إنشاء أسطول ضخم بلغ ( ألف سفينة) بحرية في قاعدتين إحداهما على ساحل طرطوشة وبرشلونة ( اللتين احتلهما شرلماني عام ( 197هـ/ 812م)) على طول الساحل الإيطالي مما ساعد الأسطول الجديد على الإنتصار قرب ( جزيرة ميورقة) مما أتاح للبيزنطيين أن يتنفسوا الصعداء ولو لفترة قصيرة إلى أن قامت ثورة داخلية في صقيلية أطاحت بقوة القسطنطينية البحرية بين عامي ( 206 هـ/ 821 م) و ( 208 هـ/ 823 م) وقد انكشف ذلك عام ( 212 هـ/ 827م ) عندما أغار الربضيون المسلمون النازحون عن الاسكندرية على جزيرة ( كريت) ونزلوها دون مقاومة وظلوا مثارا للرعب للامبراطورية البيزنطية طوال قرن ونصف.
وفي تلك الأثناء استطاع الأغالبة مهاجمة صقلية أحد مفاتح المتوسط وانتصروا على أسطولها البيزنطي بسفن انطلقت من ( سوسة) بلغت ما بين السبعين والمائة سفينة مجهزة بعدة ألاف من الرجال وبذلك انفتح عهد جديد انهارت فيه قوة بيزنطة البحرية وازدادت السيادة الإسلامية على البحار بعد أن تعززت قوة الأغالبة تلقائيا بأسطول الأندلس وهي الدولة الوحيدة في غرب البحر المتوسط التي لم تخضع للسيطرة التجارية البيزنطية وقد ظل التجار البندقيون يواصلون نشاطهم الاقتصادي بفضل مسالمتهم للمسلمين ومخالفاتهم السياسية البيزنطية التي حرت على البندقية ومثيلاتها مثل نابولي الاتجار مع الموانئ الإسلامية في شمال افريقيا ومصر وسورية على أن تجار الشمال الافريقي قاموا بما قام به آنذاك الإيطاليون بالنسبة لأوربا - بدور الوساطة بين سوريا ومصر من حيث ينقلون السلع المختلفة بحرا لتوزيعها على البلاد
الإسلامية في الغرب وبذلك انتقلت التجارة البحرية إلى أيدي المغاربة وساعد على ذلك تدهور البحرية العباسية حتى في البحر الأحمر الذي كان ممرا لنقل توابل الشرق وقد انهارت هذه التجارة أوائل القرن الثامن الميلادي إذا استثنينا نشاط اليهود الذين كانوا يعبرون ( برزخ السويس) إلى ( بحر القلزم) وعدن ثم يلاد الصين لا سيما وأن القناة التي حفرها عمرو بن العاص بين النيل والبحر الأحمر كانت قد طمرتها الرمال ومن مظاهر ثراء المغرب آنذاك أن الدرهم الفضي ظل عملة الرواج السائدة في الشمال الإفريقي وخاصة في فاس حيث سكت عملة تحمل تاريخ ( 185 هـ/ 801 م) وتوجد قطعة منها في متحف كاركوف بروسيا.
هذا بينما ساد استخدام الدرهم الفضي الذي سكه الأمويون في أماكن أخرى وقد سقطت صقلية فعلا في قبضة الأغالبة عام ( 831 م) ثم جزيرة قوصرة عام ( 835 م) بفضل أسطول إفريقي اشتمل على حراقات وهي سفن تقذف بلهب النفط ضد النار الإغريقية التي كان يستخدمها البيزنطيون وهو سلاح عربي سري جديد مكنهم من المزيد من السيطرة على البحار وحيث بلغت هجماتهم حتى المراكز البيزنطية في كل من البحر الأيوبي ( بين إيطاليا واليونان) والأدرياتي وقد احتل مسلمو كريت أو شمال إفريقية عام ( 224 هـ/ 838 م) - إقليم ( بريديزي) رغم تدخل أسطول بندقي من ستين سفينة كما أقام مسلمون في مدينة باري ( Bari) ( على الأدرياتيك) عام ( 228 هـ/ 841 م) دولة إسلامية تماثل دولة بالرم في صقلية استمر وجودها أكثر من ثلاثين عاما اعترفت بغداد لها بالاستقلال والسيادة ولم يتسطع حصار ( لويس الطويل) لمدينة باري زحزحة المسلمين عنها عام ( 850 م / 236 هـ) وبذلك أصبح بحر الأدرياتيك عرضة لغارات الأساطيل العربية ولم ينج من هذه الهجمات البحرية حتى أسطول البندقية كما أنزل المسلمون ( عام 232 هـ / 846 م) قوات على سواحل الأراضي البابوية إلى ضواحي روما ذاتها مما حرك القطسنطينية لإرسال أسطول إلى ( سرقوسة) عدته ( ثلاثمائة) سفينة فأحرز الاسطول الإسلامي نصرا عظيما في معركة بحرية فقد البيزنطيون فيها مائة سفينة وهي أخطر هزيمة مني بها الأسطول البيزنطي منذ عام ( 226 هـ / 840 م) وقد واصل الاسطول الإسلامي فتوحاته فاستولى على جزيرة مالطة عام ( 257 هـ / 870 م) وتعزز بذلك نفوذ الأغالبة على المضايق الواقعة بين صقلية وإفريقية ومع ذلك لم تندحر قوة بيزنطة البحرية بصورة تامة لانها جددت أسطولها عام ( 272 هـ / 885 م) ولم يمنع ذلك السفن الإسلامية من غزو قلورية عام ( 275 هـ/ 888 م) وإلحاق هزيمة شنعاء بالبيزنطيين وتحطيم سفنهم عام ( 282 هـ / 895 م) فانصاعوا لصلح فقدت القسطنطينية فيه سيادتها الموقوتة على مياه صقلية وغرب إيطاليا حيث أنزل الأغالبة بعد سبع سنوات الضربة القاضية في حملة بحرية عام ( 290 هـ / 902 م) وسقط مجموع الجزيرة الصقلية في قبضتهم غير أن الصراع بين الأقاليم الإسلامية كان يوقف انتفاضات الأسطول العربي ولو إلى حين فقد استولى الفاطميون على تونس عام ( 297 هـ / 909 م) وأصبحوا سادة ( القيروان) وما لبث مسلمو صقلية أن هبوا ضدهم عام ( 301 هـ / 913 م) فحطوا فرقة بحرية إفريقية قرب ( المهدية) واستمر الحرب سجالا إلى عام ( 305 هـ / 917 م) حيث سيطر الفاطميون على الجزيرة بعد أن قضوا المدة السالفة في غارات هوجاء ضموا إثرها مصر إلى نفوذهم ولكن قوة بحرية مشتركة بين بيزنطة وإيطاليا ( بزعامة نيقولا الصقلي وكذلك قوات من المراكز البابوية أغارت على مواقع المسلمين وحررت البلاد الإيطالية بعد نصف قرن من مضايقات السفن الإسلامية لها إلا أن محاولات هذا الأسطول الحديث فشلت أمام سفن أصغر جزيرة إسلامية في البحر المتوسط حيث أحرز مسلمو جزيرة كريت عام ( 225 هـ / 839 م) لإعادة الكرة من جديد فعجز حتى عن الإقلاع من موانئه طوال عشر سنوات إلى عام ( 239 هـ / 853 م) بفضل قوة تجهيزات ( كريت) وحنتها البحرية وظلت القسطنطينة تستعد طوال ربع قرن إلى عام ( 266 هـ / 829 م) للإجهاز على هذه الجزيرة التي أفضت مضاجعها فتحطم هذه المرة جزء من الأسطول الكريتي في خليج ( كورنث) وهنا توقف الصراع ربع قرن آخر إلى عام ( 292 هـ / 904 م) حيث وجهت ( كريت أقسى ضرباتها على ثاني حاضرة في الإمبراطورية البيزنطية هي ( سالونيك) التي استسلمت تحت نيران قاذفات اللهب الكريتية واقتيد اثنان وعشرون ألف أسير من سكانها إلى مختلف الأقطار الإسلامية (6) دون أن يثني نخوة بيزنطة التي تحطم أسطولها مرة أخرى عام ( 298 هـ / 910 م) وظل التهديد الكريتي مصبا على بحر( إيجي) والأسطول البيزنطي إلى عام ( 311 هـ/ 923 م) وقد جرؤ قبل ذلك على مهاجمة أنطاكية سنتي
( 213 هـ/ 828 م) و ( 227 هـ /  841 م) فهب العباسيون بأمر ( المتعصم) لتعزيز أسطول كريت والشمال الإفريقي فبنوا عام  ( 228 هـ / 842م) أسطولا من ( أربعمائة قطعة) تحركت إلى بحر ( إيجي) ولكن العواصف الهوجاء تلقفته قرب سواحل آسيا الصغرى فلم تبق منه سوى أربع سفن غير أن الغارات البيزنطية توالت إلى عام ( 266 هـ/ 879 م) بالانتصار على أهل كريت ثم ما بين ( 267 هـ/880 م) و ( 886م) بهزيمة الأغالبة وأهل صقلية نظرا للصراعات الداخلية التي صرفت أهل طرسوس ( بتركية) وسورية ومصر بسبب امتداد النفوذ الطولولني - عن أعدائهم البيزنطيين فكان لاستعادة العباسيين سلطتهم بمصر عام ( 292 هـ/ 904 م) أكبر الأثر في ظهور قوة بحرية إسلامية جديدة ظلت مع الأسف إلى عام ( 308 هـ/ 920 م) تواجه خطرا إسلاميا هذه المرة هو خطر الأسطول الفاطمي الذي انهزمت مع ذلك قطعه السبعون وبذلك تدعمت جزيرة ( كريت) إلى أوائل القرن العاشر الميلادي بأسطول مسلمي طرطوس وسورية ومصر زاده فعالية ظهور عدو جديد لبيزنطة هو الروس أصحاب ( كييف) وجنوبي روسيا وهم أسكندنافيون وسويديون قاموا منذ سنة ( 246 هـ/ 860 م) بغارة واسعة على القسطنطينية استغلوا هزيمتها النكراء عام (245 هـ/859 م) قرب صقلية على يد أسطول الأغالبة وأغاروا ثانية عليها بعد نحو نصف قرن عام(295 هـ/ 907 م)
وفي هذه الأثناء بقي الأسطول الأموي في الأندلس رابضا نظرا لعدائه للعباسيين ومجاملته للبيزنطيين غير أن التقاعس لم يصل إلى حد مساعدة الفرنجة ضد المسلمين لأن الإمبراطور ( تيوفيل) طلب من عبد الرحمن الثاني ( 225 هـ/ 839 م) العون ضد مسلمي صقلية وإفريقية فلم يستجب لطلبه.                                                         بنعيد 3.
والواقع أن الأسطول الأندلسي كان متجها إلى عدو آخر ناصب الإسلام العداء غربي أوربا فتركزت قطعه منذ أوائل القرن التاسع الميلادي على طول الساحل الشرقي بين طرطوشة وبلنسية وباقي السواحل الكارولنجية وبدأت غاراتها عام ( 224 هـ/ 838 م) على مرسيليا انطلاقا من جزر البليار واتخذت قواعد لها عند مصب الرون في جزيرة ( كامرك) (Camargue) مما اضطر شارل الأصلع (Charles le Chauve) ملك فرنسا وإمبراطور الغرب ( 840 م - 877 م) إلى الانصياع بتوقيع صلح مهين عام ( 250 هـ / 864 م) فاستكانت هذه المنطقة لبعض الراحة من غارات
الأسطول الأموي الذي واصل تجهيزاته بإقامة قواعد عام ( 275 هـ/ 888 م) على سواحل ( بروفانس) وحوض الرون الأدنى وهي مناطق قاست المرائر من الغزو الإسلامي طوال ( 84 ) سنة مما أدى إلى انتشار النفوذ الإسلامي في جبال الألب والممرات بين فرنسا وإيطاليا إلى البحر المتوسط ومع ذلك فإن الأسطول الأموي ظل ضعيفا لعجزه عن الصمود في وجه غارات الشماليين عام ( 230 هـ/ 844 م) عندما هاجم أسطول القراصنة الاسكندنافيين لشبونة بثمانين سفينة تجاوزت في نهبها وسلبها مدينة اشبيلية الأندلسية إلى حاضرة نكور بالمغرب الأقصى غير أن هؤلاء الشماليين لم يجرؤوا على مراسي بني الأغلب القوية ولا حتى بعض الموانئ الأندلسية التي كانت لها أساطيل بحرية بين دانية وطرطوشة ويظهر أن قرطبة الأموية لم تستطع إنشاء أسطول لها إلا في عهد الرحمن الثالث لأن القطع التي استهدفت بها الإغارة على جليقية المسيحية عام ( 266 هـ/ 879 م) غرقت بمجرد بلوغها مياه المحيط نظرا لرداءة تجهيزاتها وضعف ملاحيها. وكان المحيط الاطلنطيكي منذ ذاك مسرحا يخوض غماره البحارة العرب من طنجة إلى السنغال إلى القرن الثالث عشر الميلادي إثر العهد المريني ( روبير مونطاني - "البربر والمخزن"، ص.22.).
وهكذا يمكن القول بأن البحر المتوسط كان أوائل القرن العاشر الميلادي موزعا بين مسلمي جزر البليار غربا وصقلية في الوسط وكريت شرقا قبل ظهور الأسطول الأموي المجدد وبالرغم عن انتعاش أسطول بيزنطة الذي بدد عام ( 941 م) قوة بحرية روسية تحركت لمهاجمة القسطنطينية بألف سفينة تحت قيادة إيكور ( Igor) أمير كييف فإنه أخفق في حملته عام ( 305 هـ/ 917 م) انطلقوا يوالون غاراتهم على قلوبية وسارنو ونابولي التي لم ينجدها سوى الخنوع بدفع الجزية للعرب لا سيما بعد أن هاجمها الفاطميون عام ( 317 هـ/ 929 م) بأربع وأربعين سفينة وأرسلوا عام ( 324 هـ/ 935 م) أسطولهم ضد كورسيكا وجنوة حيث أحرقوا الكثير من السفن ثم حولوا نشاطهم إلى إيطاليا البيزنطية قبل عام ( 339 هـ/ 950 م) إذ أغاروا من جديد على قلورية فلم يعد السلام للمنطقة إلا بتجديد الجزية وأصبحت المراسي الإيطالية تتخلص من سيادة بيزنطة التي عجزت عن إنقاذها من ضغط الأسطول الإسلامي وكان الرستميون والأدارسة حلفاء للأمويين بالأندلس فاضطر الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث خوفا من مغبة نوايا جيرانه الفاطميين إلى تشييد أسطول ضخم استولى عام ( 319 هـ/ 931 م) على سبتة وأحرق عام ( 333 هـ / 944 م) معظم سفن الشمال في إشبيلية وبالفعل أغار الأسطول الفاطمي عام ( 343 هـ/ 954 م) انطلاقا من صقلية على الأندلس فهاجم ( ألمرية) قاعدة الأسطول الأموي الرئيسية فانتقم الأمويون بإرسال سبعين سفينة ضد الشواطئ الإفريقية وبالرغم عن جولات ( جوهر الصقلي) أقدر قواد الفاطميين على الجزائر والمغرب الأقصى فإن قوة عبد الرحمن الثالث ظلت مسيطرة على جزر البليار والقواعد الأمامية على طول ساحل فرنسا الجنوبي مهددة قوة الفاطميين في صقلية وشمال إفريقية.
وكانت روح القرصنة سائدة آنذاك سواء عند المسلمين أو المسيحين وكانت أوكارهم في جزر المتوسط وموانئه مستقلة داخليا بتشجيع من السلطات الرسمية التي كانت تشاركهم التمتع بقسط من أسلاب القرصنة وهذا يمنع من وجود أساطيل نظامية لدى الأغالبة والفاطميين والأمويين الذين تساوقت تنظيماتهم فكان ( أمير البحر) لدى الأمويين هو المشرف على مائتي سفينة في ألمرية وبجاية وأحد القادة الأربعة الكبار الذين تعتمد عليهم الخلافة كما كان قسيم الخليفة في السلطان هذا يحكم البر وذاك يسيطر على البحر وقد كان لكل سفينة قبطان مسؤول عن الأسلحة والمحاربين وكبير للبحارة أو رئيس إدارة الأشرعة والمجاذيف وللحملة البحرية قائد من الأمراء أو أصحاب المناصب العليا إذا لم يتول القيادة كبير أمراء البحر بنفسه ويظهر أن نظام الأسطول الإسلامي في الشرق كان شبيها بالنظام البحري غربا فكان كلاهما مجهزا بمركب نفطي مشابه للنار الإغريقية في شكل حراقات قاذفات للهب ترمي سفن الأعداء بمادة سريعة الاشتعال كما وقع عندما أحرق الفاطميون أسطول البحر التيراني عام ( 324 هـ/ 935 م).
ويظهر أن سفن الإمبراطورية البيزنطية كانت أكثر ضخامة رغم اضطرارها إلى ملازمة الدفاع دون الهجوم إذ اتضح أن أساطيل بيزنطة كانت تدرب على تجنب ملاقاة العدو إلا في حالات الضرورة القصوى حيث كانت تعتبر سندا فقط للقوات البرية ومع ذلك ظلت القوة البرية لدى المسلمين موازية للقوة البحرية حيث ظلت الحدود بين الطرفين بالأندلس من عام  ( 212 هـ/ 827 م) إلى عام ( 349 هـ/ 960 م)(7) هي دون كبير تغيير إلا أن القوات البحرية الأموية تدخلت عندما حاول القشتاليون توسع حدودهم صوب الجنوب وحتى بالنسبة لبيزنطية كان الخطر البري يأتي من جهة البلغار والقبائل الأسيوية الرحالة.
وفي هذا العام ( 960 م) كان الأسطول البيزنطي الذي هاجم جزيرة كريت يضم ألفي سفينة حربية ( 1360 للمؤن والإمداد) ومنها ما كان به ( 250 ) مجذافا في أربعة صفوف من المجاذيف ومنها سفن كانت صالحة لإنزال الجنود مع القدرة على الرسو بالشاطئ بفضل ( زلاقات) تعبر من فوقها إلى البر وقد حدا هذا الخليفة العزيز الفاطمي إلى بناء أسطول حربي من ستمائة قطعة في مثل هذه الضخامة بدار صناعة جديدة بالمقس عام ( 995 م) وقد وصف لنا ( ناصر خسرو) الرحالة الفارسي في القرن الخامس الهجري أو الحادي عشر الميلادي إحدى هذه السفن بأنها تبلغ ( 275 ) قدما طولا و ( 110) أقدام عرضا إلا أن مؤامرات بيزنطية خربت دار صناعة المقس عام ( 995 م) بواسطة عملاء من التجار اليونايين الذين ألقي عليهم القبض آنذاك وأعدموا واستمر بناء الأسطول بعد ذلك إلا أن الظاهرة المزعجة في خصوص تطور الأسطول الإسلامي في البحر المتوسط - رغم توفره على العدة الكافية من الأخشاب والحديد لبناء السفن - هي انعدام وحدة بحرية شاملة تضم أشتات أساطيل الدول الإسلامية المحيطة بالبحر فكان للوسط أسطوله في صقلية وللغرب قوته في الأندلس ولشرقه أسطول أضخك في كريت وسورية ومصر توحدت قطعه في عهد الطولونيين والإخشيديين إلا أن الاصطدام بين هذه القواعد البحرية الثلاث لم يقع إلا أوائل القرن العاشر بظهور الفاطميين الذين وجهوا ضرباتهم للمصريين والأندلسيين معا من عام ( 302 هـ/  914 م) إلى ( 339 هـ/ 950 م) فكان من مظاهرها وجود ثلاث خلافات إسلامية بقرطبة والمهدية وبغداد (8) ومع ذلك فإن سيادة الأسطول الإسلامي كان لها كبير الأثر على إنعاش التجارة الدولية بين شقي البحر المتوسط الشرقي والغربي بسبب امتداد الزراعة من خلال انتشار نباتات المناطق الحارة والبرتقال والأرز وتوت دود القز وقصب السكر ففرض الغرب الإسلامي سياسته الاقتصادية في المتوسط بتوسيع تداول الذهب مظهر رخائه وثرائه - في شكل الدينار الذي أصبح عام ( 950 م) نقدا دوليا بينما كان مقتصرا حوالي ( 148 هـ/ 800 م) على شمال إفريقية وسورية ومصر وقد سك عبد الرحمن الثالث منذ أوائل القرن العاشر الميلادي دينارا أندلسيا على قاعدة الذهب لا الفضة واستمر ذلك بالمغرب الأقصى وحتى في صحرائه الممتدة إلى حدود السنغال من عهد المرابطين (9) إلى القرن الماضي وقد أحدث هذا التطور تغييرات جذرية في اقتصاديات المتوسط وازنت بين التصنيع والتنقيبات المنجمية والزراعة وهنا عنصر جديد كان له أثره في المساس بميزان القوى في المتوسط ففي الوقت الذي كان المسلمون يغيرون على إيطاليا حيث هاجموا مدينة بيزة عام (395 هـ/ 1004 م) انطلاقا من الشواطئ الإفريقية ومن الأندلس معا - مواصلين هجماتهم على طول الشواطئ الإيطالية - ظهر النورمان لأول مرة فأحدق الخطر بصقلية الإسلامية وعاصمتها ( بالرم) فاستنجدت ببني زيري حكام المهدية (10) الذين سارعوا إلى تقديم العون وكان ( المعز بن باديس) قد بنى أسطولا فسارع حوالي ( 418 هـ/ 1027 م) إلى إرسال ( أربعمائة سفينة) لنصرة أهل صقلية قضت على معظمها عواصف عاتية قرب جزيرة قوصرة وأنقذت صقلية أحداث مكنتها من مواصلة الصراع بجنوب شمال إفريقية حتى أصبحت شواطئ اليونان عام ( 424 هـ/ 1032 م) هدف البحرية الإسلامية ولكن أسطولا بيزنطا استطاع عام ( 421 هـ/ 1035 م) أن يقضي على الأسطول الإسلامي في شواطئ ليسيا (Lycia) ( من آسيا الصغرى) فجنحت صقلية للسلم بسبب خلافاتها الداخلية بين العرب والبربر واعترف أميرها بسيادة القسطنطينية التي اكتسحها مع ذلك عام
( 430 هـ/ 1042 م) فتدهورت قوتهم البرية والبحرية وفقد الأسطول الفاطمي في نفس الوقت الكثير من مقوماته وكان النورمان من طوائف غرب أوربا التي شاركت في غزو صقلية عام
( 430 هـ/ 1038 م) كما شاركت عام ( 409 هـ/ 1018 م) مع القراصنة الفرنسيين في المحاربة بجانب أمير برشلونة ضد ( مجاهد بن يوسف العامري) فتبلور في ذلك كله الاتساع الأوربي الغربي جنوبا نحو البحر المتوسط وكان ( العامري) هذا أحد ملوك الطوائف الذين ورثوا عرش الأمويين فأعد انطلاقا من حاضرته في ( دانية) أسطولا قويا ضم به جزر البليار إلى أملاكه عام ( 405 هـ/ 1014 م) ثم هاجم عام ( 406 هـ/ 1015 م) سردينية على رأس مائة وعشرين سفينة وظل هذا الأسطول يهدد شواطئ المسيحيين حيث أغار على إقليم برشلونة عام ( 409 هـ/ 1018 م) وناربون عام ( 411 هـ/ 1020 م) وظل مرهوب الجانب إلى أن مات العامري عام ( 436 هـ/ 1044 م) وتساوق ظهور النورمان مع الانتعاش المفاجئ للقوة البحرية في كل من بيزة وجنوة وكامل ساحل إيطاليا الشمالي الغربي فطردتا العامريين من سردينية عام ( 407 هـ %  1016 م) بل تجزأتا ( 426 هـ/ 1034 م) على مهاجمة ( بونة) الجزائرية وقد استطاعت ( بررفانس) في نطاق بحرية أوربا الغربية أن تطرد المسلمين من ربوعها ولم يستهل عام ( 435 هـ/ 1043 م) حتى أصبح هؤلاء البحارة الإيطاليون أصحاب القوة المداهمة في مياه هذا البحر الذي ظهر في منتصف القرن الحادي عشر بمظهر جديد كان أقل مجاليه استيلاء بيزنطة على كريت وقبرص وشمال سوريا وانحصرت الطريق البحرية بين بلاد الغرب والشرق الإسلامي في سبل وعرة على طول الشاطئ الإفريقي بين سوسة والإسكندرية وذلك نظرا لانهيار كريت حامية شواطئ مصر وقبرص حامية السواحل السورية وهذا التقدم الذي طرأ على المجال الملاحي في القرن الحادي عشر الميلادي يرجع في الحقيقة إلى طروء تغييرات جذرية في مجتمعات أوربا الغربية في نفس الوقت الذي طرأ انحلال خطير على المسلمين شرقا وغربا خاصة بعدما تقاعست الأرستقراطية العربية عن الجهاد بالأندلس تاركة الحبل على الغارب لمرتزقة مسيحين مغامرين فقد تبلور هذا التطور الذي تدرج نحو نصف قرن إلى انتصار أساطيل غرب أوربا الإيطالية على قوتي المسلمين والبيزنطيين البحريتين وأصبح الأوربيون عام ( 494 هـ/ 1100 م) سادة كورسيكا وسردينية وصقلية وجنوب إيطاليا والأقاليم الساحلية في فلسطين وسورية بالإضافة إلى سيطرتهم على طرق التجارة البحرية بين الشرق والغرب.
وزاد الطين بلة اكتساح ( بني هلال) و ( نبي سليم) لمصر وليبيا وتونس عام ( 444 هـ/ 1052) فانهار ( بنو زيري) وتبعهم ( الحماديون) في قلعتهم ( قلعة بني حماد) المهاجرون من أشتات الدولتين في منطقة التلال ( منطقة القبائل الصغرى) وعقد صاحب المهدية معاهدة حلف وصداقة مع ( روجير) عام ( 468 هـ/ 1075 م) كما نكب الشرق في سورية ومصر حيث ثارت عام ( 452 هـ/ 1060 م) جيوش العبيد والمرتزقة من موالي الفاطميين والغريب أن المرابطين تحركوا في نفس السنة وحاولوا توحيد الراية الإسلامية عام ( 479 هـ/ 1086 م) إلى بجاية وكانت قوة
(بيزة) قد هاجمت في العام التالي ( 480 هـ/ 1087 م) بالأربعمائة سفينة مدينة ( المهدية) معقل الزيريين على ساحل تونس واستطاع ملك قشتالة أن يحتل طليطلة عام ( 478 هـ/ 1085 م) وأجبر المعتمد بن عباد أمير اشبيلية على الانصياع وأسهمت المدن الإيطالية في هذا الزحف الصليبي على الأندلس كما شاركت قوة النورمان التي انطلقت تدعم عدتها الحربية منذ أن استولى على زعامتها ( روبرت جسكارد) عام ( 435 هـ/ 1043 م) فاعترف البابا بمركزه كأمير تابع للبابوية وظهر أخوه ( ورجر)  في جنوب إيطاليا حيث كان يشرف على كتائب نورماندية فاستطاع بست وخمسين سفينة احتلال مدينة ( بلرم) عاصمة المسلمين بصقلية ثم استولى عام ( 480 هـ/ 1087 م) على ( سرقوسة) وأكمل احتلال الجزيرة بعد ثلاثين سنة من الغزوات الموصولة أعقبها عام ( 483 هـ/ 1090 م) بالاستيلاء على مالطة رغم معارضة السفن البندقية له فتفاعل كل ذلك لخلق ما سمي بالحرب الصليبية الأولى حيث خرجت عام ( 490 هـ/ 1096 م) من غرب أوربا أشتات من البشر يقودها ( بطرس الناسك) و ( والتر المفلس) فوصلت إلى القسطنطينية كقوات إقطاعية تستهدف الغنائم في مسارها وكان أسطول جنوة والبندقية هو الذي أعان الجيوش الصليبية عام ( 464 هـ/ 1100 م) على الاستيلاء على ( يافا) دون أن يستطيع أسطول الفاطميين الوصول إلى المياه السورية لصد الصليبيين الذين بادر الأسطول المرابطي إلى مطاردتهم شرقي البحر المتوسط إلى سواحل الشام (11) والواقع أن القطع البحرية التي أنشأها ( يوسف بن تاشفين) قد خاضت غمار المتوسط في شقيه وانبرى الزعيم المرابطي قبل الحرب الصليبية الأولى لتحرير إمارات الطوائف فأحرز في معركة الزلاقة عام ( 479 هـ/ 1086 م) ضد ( ألفونس السادس) ملك قشتالة ( 1065 - 1109 م) نصرا تردد صداه في الشرق والغرب وذاع صيت القائد الظافر الذي لقب منذ ذلك بأمير المسلمين مع استمرار دعوته لدار الخلافة العباسية تركيزا للوحدة الكبرى وتكونت إمبراطورية واسعة ضمت الصحراء والمغارب الأربعة( ليبيا وتونس والجزائر والمغرب الأقصى) والأندلس تحت الحكم المرابطي ثلاثة أرباع قرن إلى عام ( 537 هـ/ 1142م) وقد خلدت أغنية رولان
(  Roland) نشاط المرابطين في البحار.
وقد اقترن ظهور الموحدين بتزايد هجرة فلاسفة وعلماء الأندلس أمثال ابن رشد الفيلسوف ( المتوفى عام 595 هـ/ 1199 م) الذي كان أول من تحدث عن القارة الجديدة في ( بلاط الموحدين) بمراكش وعنه انطلقت فكرة وجود أرض يابسة وراء المحيط. وقد اعترف ( كريسطوف كولومب) نفسه (12) بأنه لم يشعر بهذا الوجود إلا بعد قراءة كتاب ( الكليات) في الطب لابن رشد "في مخطوطته اللاتينية" على أن مجلة "نيوزويك" الأمريكية (13) قد أكدت أن العرب انطلقوا قبل عام 1100 م أي عام 494 هـ/ أي قبل ( كريسطوف كلومب) بأربعة قرون من "أنفا" ( أي الدار البيضاء الحالية) فرسوا في عدة مواضع على الساحل الأمريكي.
وقد حدثنا الشريف الإدريسي في نزهته عن ( الفتية المغررين) الذين غامروا انطلاقا من "مرسى آسفي" في ثبج المحيط ووصلوا إلى بعض الجزر النائية كل ذلك انسياقا مع ما أشيع آنذاك خاصة بالأندلس من احتواء غرب " المحيط الأطلنطيكي" على جزر مكثفة تستحيل في نهاية المطاف إلى أرض يابسة شاسعة وقد كان للدراسات الميدانية التي قام بها ابن ماجد أسد البحر الهائج ربان ماهر من رأس الخيمة بالخليج العربي أثر فعال في توجيه الرحلات البحرية التي قام بها أوربيون عبر المحيطات ومنهم ماجلان البرتغالي ( Magellan) الذي حاول عام 1519 م الوصول إلى أمريكا الجنوبية واكتشف المضيق الذي يحمل اسمه وهو البوغاز الفاصل بين جنوب أمريكا من أرض النار ( Terre de feu) ووصل إلى المحيط الشرقي الذي سماه بالهادئ وقبله فاسكو دوكاما الذي اكتشف طريق الهند عام 1497.
والواقع أن الموحدين الذين انطلقوا من الأطلس الكبير بالمغرب الأقصى لتوحيد المغرب العربي هو الذين واصلوا حمل مشعل الإسلام في البحر المتوسط الذي ظل العرب وحدهم سادته (14) طوال أكثر من قرنين وقد لخص ( ابن خلدون) هذه الظاهرة بقوله : " ( وكانت لهم في المائة الخامسة الكرة بهذا البحر ( أي الرومي، أو العربي) وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد كما هو معروف في أخبارهم فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك وبقيت بإفريقية والمغرب فصارت مختصة بها وكان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوة لم يتحيله عدو و لا كانت لهم به كرة فكان قواد الأسطول به ( لعهد لمتونة) بني ميمون (15) رؤساء جزيرة قادس ومن أيديهم أخذها عبد المومن وانتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعا، ولما استفحلت دولة الموحدين في المائة السادسة وملكوت العدوتين أقاموا خطة هذا الأسطول على أتم ما عرف وأعظم ما عهد وكان قائد أسطولهم أحمد الصقلي...) إلى أن قال : ( وانتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه...) وهنا أشار إلى أن صلاح الدين الأيوبي ملك مصر والشام لما تتابعت أساطيل النصارى ضد ثغور الشام لم تقاومهم أساطيل الإسكندرية فأوفد الأيوبي ليعقوب المنصور عبد الكريم ابن منقذ ( من بيت بني منقذ ملوك شيرز الخ).
نعم استطاع عبد المومن بقطع بحرية بلغت الأربعمائة (16) تشكيل مليشية بحرية لمحاربة القراصنة المسلمين والمسيحين تعزيزا للنشاط التجاري في المتوسط وتخليص إفريقية من النورمانديين والضرب على أيدي الهلاليين والسليميين بعد أن بنى أعظم قاعدة استراتيجية في المتوسط هي قاعدة جبل طارق في ( سنة الأخماس) ( 555 هـ/ 1160 ) وقد رابطت منها في مرسى المعمورة بحلق البحر على وادي سبو قرب سلا وحدها مائة وعشرون قطعة وقد جعل أبو يعقوب يوسف بن عبد المومن من هذا الأسطول أعظم أسطول في المتوسط (17) .
وقد ازدهرت حضارة جديدة في البحر المتوسط من الأندلس إلى ليبيا إلى الصحراء بزعامة يعقوب المنصور منذ ظفره على الصليبية المتكتلة في وقعة الأرك ( 591 هـ/ 1195 م) أي بعد ( وقعة حطين) بثمانية أعوام وشعر البابا إينوسان الثالث ( Innocent III) بالخطر الداهم فتكاثفت البابوية مع ملك قشتالة ( ألفونس الثامن) ( 1158 - 1164 م) وأسقف طلطلية ( رودريك جيمنيز) للهجوم من جديد على الإسلام المتوثب في ( وقعة العقاب) ( 609 هـ/ 1212 م) التي كانت هزيمة شنعاء ضعضعت مقومات الإمبراطورية الموحدية في الغرب في نفس الوقت الذي بدأ المسيحيون يندحرون في مصر خلال الحرب الصليبية الخامسة ( 616 هـ/ 1219 م) حيث طردوا نهائيا من الأماكن المقدسة بعد ( معركة غزة) ( 642هـ/ 1244 م) واتجه المرينيون يلمون الشمل معيدين للبلاد وحدتها في حدودها الإفريقية مع الحفاظ على جانب من الأسطول مكنهم من الجواز مرارا إلى الأندلس لإنقاذ الدولة النصرية ( دولة بني الأحمر) التي ضيق عليها الخناق ( ألفونس العاشر).
وفي عام ( 684 هـ/ 1285 م) نزل السلطان يعقوب المنصور المريني في ( الجزيرة الخضراء) بقصره من المدينة الجديدة التي بناها بإزائها فبرزت الأساطيل وكان عدد قطعها آنذاك ستا وثلاثين متكاملة في عدتها - وهو جالس بمشور قصره فلعبت بمرأى منه في البحر وتجاولت وتناطحت وتطاردت كفعلها مع العدو ساعة الحرب (18) .
وظلت سبتة منطلق الإنقاذ إذ عندما حدث الخلاف بين يعقوب المنصور المريني وابن الأحمر عام ( 678هـ/ 1279 م) تجمعت بمرفأ سبتة أساطيل منها خمس وأربعون قطعة لأبي حاتم العزفي واثنتا عشرة لابن الأحمر انطلقت من المنكب وألمرية ومالقة وخمس عشرة قدمت من بادس وسلا وأنفا التحمت مع أربعمائة قطعة للعدو فملكتها وأسرت قائدها ( الملند) الذي نقل أسيرا إلى فاس (19) وكان أبو الحسن بن كماشة قائد البحر بسبتة عام ( 409 هـ/ 1309 م) أيام استيلاء بني الأحمر على المدينة وعندما عاد أبو الحسن المريني عام ( 750 هـ/ 1349 م) من تونس بعد مقام طال عاما ونصفا وبعد أن عقد لابنه أبي الفضل نزل أسطوله بمرسى بجاية بعد خمس ليال من إقلاعه من تونس ثم أبحر من جديد فتكسرت أجفانه وقذف الموج بالسلطان على حجر قرب الساحل م بلاد ( زواوة) حيث تداركه جفن من بقية الأساطيل وكانت الأساطيل ( حسب " نفح الطيب" ) نحو ( الستمائة) غرقت كلها وهلك من أعلام المغرب نحو أربعمائة عالم منهم ( محمد بن سليمان السطي) شارح " الحوفي" و ( محمد بن الصباغ المكناسي) وأبو العباس ( الزواوي) وقد ذكر الآبي في شرح "مسلم" عند كلامه على أحاديث العين أن مصاب هذا الأسطول بنظرة عائن كان معروفا بتلك الديار (20) وكان ابن فرحون زيد هو قائد أسطول بجاية أيام الحفصيين وقد شارك (21) بست عشرة قطعة بحرية في ( وقعة طريف) عام ( 740 هـ/ 1339 م).
والأسطول المريني قد ورد وصفه في رحلة أبي عنان المريني المسماة" فيض العباب"لإبراهيم بن عبد الله المعروف بابن الحاج مع ذكر أسماء بعض رؤسائه وشاراته وأعلامها وموسيقاهم، أما الأسطول السعدي فلم يكن له دور كبير في الحروب ولكنه استفاد ماديا من هجمات القراصنة على شواطئ الأندلس وكان وجوده يشكل وسيلة ضغط على إسبانيا والبرتغال اللتين كانت تذكران ما قام به الأسطول في عهود المرابطين والموحدين والمرينيين وكان قد مر قرنان إثنان على انهيار الأسطول المريني في عهد أبي الحسن فكانت المحاولة الجديدة عام ( 956 هـ/ 1549 م) جديرة بإثارة  الانتباه وكان لربابنة المغرب صيت كبير في الشرق العربي جعلت السلطان شعبان المملوكي يختار لرياسة الصناعة بالإسكندرية عام ( 769 هـ/ 1368 م) الرايس إبراهيم التازي وقد أصبح القراصنة يعيشون في البحار وفي مراسي المغرب فرابط منهم أتراك الجزائر في ( العرائش) حيث امتدت أوكار قرصانية في موانئ أخرى كتطوان وبادس بل إن القرن الخامس عشر الميلادي أي التاسع الهجري شهد استيلاء البرتغاليين على معظم المراسي في مصبات الأنهار المغربية الأمر الذي حال دون قيام أسطول مغربي وقد بدأ ذلك باحتلال سبتة عام ( 818 هـ/ 1415 م) فلهذا حاول محمد الشيخ السعدي تكوين ( أسطول بحري) بالإضافة إلى وحدات كانت في ملك رؤساء تطوان وبادس بالريف قرب غابات البلوط والأرز والصنوبر وورش آخر في سلا وقد بنيت أربعة مراكب في بادس وأربعة أخرى في سلا عام ( 956هـ/ 1549 م) بالإضافة إلى مركبين مجذافيين أو شراعيين وثلاثة مراكب مجذافية وطلب محمد الشيخ من أبي حسون الوطاسي أمير بادس التعاون معه على صنع ( مائة مركب) و ( مائة أخرى) مسطحة لنقل الجند ولكن أبا حسون لم يكن يثق بالسلطان السعدي ففر إلى مليلية في نفس السنة ولعل السعديين كانوا يستهدفون من أسطولهم تحرير الجيوب البرتغالية الثلاثة التي كانت تقاوم خلال الحصار نظرا لما يتوارد عليها من إمدادات من جهة البحر ولكن الحرب التي نشبت بين الأتراك والسعديين عام ( 959 هـ/ 1551 م) وتهديد الأتراك للمغرب حال دون استمرار السعديين في تعزيز أسطولهم فاضطروا إلى مهادنة الإسبان والبرتغال.
ففي عهد ( عبد الله الغالب بالله) كان الأسطول الحربي يتوفر على نحو ثلاثين مركبا بلغت الأربعين ضد بداية ثورة الأندلسيين في جبال غرناطة عام ( 976 هـ/ 1586 م) وقد تعزز الأسطول السعدي بالأجفان الجهادية التي يصفها الغربيون بالسفن القرصنية والتي كانت تهاجم السواحل الإسبانية انتقاما من الاسبان الذين طردوا الأندلسيين من آخر معقل لهم بغرناطة آخر القرن الخامس عشر الميلادي ( التاسع الهجري) ومهما يكن فإن الأسطول احتفظ بهذا العدد من القطع عام ( 985 هـ/ 1577 م) في عهد ( المولى عبد المالك ولم يكن أسطول ( دايات) الجزائر أكثر عددا ولكنه كان أجود نظرا لتقلص التقاليد البحرية بالمغرب خلال قرنين ومع ذلك فالمهم هو شعور الملوك السعديين بأن تعزيز وضعهم في إفريقيا والبحر المتوسط لا يمكن أن يتم بدون أسطول إذ بفضل هذا الأسطول اضطر البرتغاليون إلى الجلاء عام ( 957هـ/ 1550 م) عن مراكز قوية في الساحل المغربي مثلا أصيلا والقصر الصغير وهنا شعر المنصور السعدي بالخطر البرتغالي الذي كان يهدد المغرب من الجنوب انطلاقا من ( نيجيريا) التي كان البرتغاليون يحتلونها فبادر باحتلال ما وراء تخوم المغرب الجنوبية إلى السودان للوقوف في وجه البرتغاليين لهذا لم يعد للأسطول وجود بالمغرب بعد ذلك رغم انتصاره في معركة وادي المخازن عدا أسطول القراصنة بعدوتي سلا والرباط في الفترة المتراوحة بين ( 1040 هـ/ 163 م) و ( 1050 هـ/ 1640م) حيث بلغت وحداته الحربية نحو ثلاثين امتد نشاطها القرصني إلى ايرلندا شمالا والجزر الخالدات جنوبا (22) .
ولم يكن لأحمد المنصور في مرسى العدوتين مراكب لمحاربة الاسبان (23) وقد أشار صاحب "تاريخ الدولة السعدية" إلى الأسطول السعدي في العرائش والعدوتين وحاول مولاي زيدان بعد معاهدة ( 1610 م/ 1019 هـ) بين المغرب وهولندا تكوين أسطول وقد صنعت بالفعل قطع أولى من الأسطول هي ثلاث سفن وقيل خمس (24) كما وصل إلى أسفي أربعة مراكب (25) وقد هاجم الإسبان هذا الأسطول في مرسى العدوتين (26) وفي عام ( 1019 هـ/ 1610 م) توجه القائد أحمد بن عبد الله إلى ( روتردام) بهولندا وطلب تزويد السلطان بعدة سفن حربية فوافق المجلس على ذلك وقرر إنشاء ثلاثة أو أربعة مراكب من حمولة مائتي طن مع تجهيزها بالملاحين والمدافع وعين لها قائد أعلى هو ( Martin Van Rysbergen) مع إمكان تزويد المغرب بالربابين والسفن والعتاد وقد أمضيت في ( 20 دجنبر 1610 م / 1019 هـ) معاهدة ضمنت عدم تصادم مراكب البلدين في البحر وعدم بيع أسلاب القراصنة ضد السفن الهولندية في أسواق المغرب، ويظهر أنه بعد أن طلب السلطان مولاي زيدان من فرقاطتين أي حراقتين (27) وقد وجهتا إلى المغرب بخفارة بارجة عام ( 1622 م) ولكنهما وصلتا إلى مياه إنجلترا وعادتا لعدم استطاعتهما مواجهه أمواج عرض المحيط أما بخصوص المراكب الأخرى في المتوسط فقد نقل محمد داود في تاريخ تطوان (28) عن "رحلة" محمد بن علي الرافعي إلى الحجاز أن المؤلف نزل بجزيرة ( رودس) التركية في مركب الرئيس محمد عروج فوجد في الجزيرة ثلاثين سفينة منها واحدة فيها خمس طبقات و 75 مدفعا من النحاس وأن تلك السفن صنعها السلطان ( محمد خان) بالقسطنطينية.
وكانت الأساطيل القرصنية محط رعاية المولى الرشيد بمصب أبي رقراق لأنها كانت تشكل حاجزا دفاعيا ضد المغير الأوربي الذي بدأ يتعلل آنذاك بأبسط الأسباب للتدخل في المغرب وكان هذا الأسطول يقض مضاجع الغربيين الذين انبثوا على الساحل فالأنجليز في طنجة والبرتغاليون في البريجة ( الجديدة) والإسبان في المعمورة ( مهدية) وأصيلا والعرائش بينما كان الفرنسيون يمخرون بسفنهم الحربية على طول المراسي المغربية بين الريف ومصب الملوية عباب البحر الأبيض المتوسط حيث حصن المولى الرشيد مرسى الحسيمة ( أو المزمة) وحجرة نكور وصارع الإنجليز الذين كانوا يعملون وراء الخضر غيلان.
و أول من وضع الأسس لبناء أسطول وطني قوي في العهد العلوي سيدي محمد بن عبد الله كان للمغرب في عهده ( حسب الناصري) خمسون سفينة منها ثلاثون حراقة ( أو فرقاطة) بقيادة ستين رئيسا أو ضابطا يشرفون على خمسة آلاف بحار وألفين من الرماة إلا أن الرحالة هوست ( Host) أوصل عدد هذه المراكب إلى انثي عشر فقط وقد انحدرت عام ( 1180 هـ/ 1766 م) إلى عشرة حسب شيني ( Chénier) (29) ويظهر أن الأسطول العلوي ارتفع بعد بضع سنوات أي ( 1185 هـ/ 1771 م) إلى عشرين قطعة وهكذا شرع السلطان سيدي محمد بن عبد الله منذ بداية عهده في صنع مراكب في ( دار الصناعة) بأبي رقراق جهز كل واحد منها ببطاريات يبلغ عدد مدافعها ما بين ( 26 ) و ( 36 ) على أن بعض المراكب مثل الحراقة التي كانت تحت إمرة الرايس الطرابلسي بلغ عدد مرافعها ( خمسة وأربعين) وكانت بتطوان أيضا دور لصناعة السفن في العهد العلوي وقد وجه السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى كل من ( السويد) و ( إنجلترا) شبانا من مدينة الرباط للتدريب على بناء السفن والمراكب كما وجه ستمائة رجل من ( آية عطا) بالصحراء وأربعمائة من تافلالت إلى طنجة للتمرن على المناورات البحرية (30) .
والواقع أن السلطان محمد بن عبد الله ركز مقومات الحضارة وواصل تحرير الثغور وكون أسطولا قوامه خمسون سفينة معظمها حراقات حربية تحتوي على ستين قائدا" وأربعين ألف" بحار ووطد العلاقة مع الدول الإسلامية والدول الأوربية على السواء وأمضى معاهدات مع الولايات المتحدة التي كان أول من اعترف بها ومع أمم بروتستانتية كالدول الأسكندنافية تحقيقا للتوازن مع الدول اللاتينية الاستعمارية ومدافعة للبابوية الناقمة وكانت أوربا في غمرة من الاضطرابات زادها تأججا انبثاق الاستعمار الناشئ والتسابق نحو غزو الشرق الأقصى وتعزيز الصناعة الأوربية بمواده الأولية بينما كانت الإمبراطورية العثمانية تسير في طريق الأفول تحت ضربات الأحلاف الأوربية - وخاصة منها الحلف المقدس ( Sainte - Alliance) عام ( 1815 ) - التي أدت إلى تجريد ملك المغرب ( سليمان بن محمد بن عبد الله ( 1206 هـ/ 1238 ) - ( 1790 - 1820 ) من أسطوله بدعوى مساندته للقراصنة وحاول ( نابليون) آنذاك الضغط على المغرب للانضمام إلى كتلة الحصار القاري (31) وشعر العرش المغربي بالدور الذي بدأت فرنسا تقوم به لاحتلال الشمال الإفريقي.
وفي نفس الفترة كانت بعثة من الخبراء الأتراك تقوم بتكوين رماة الجيش المغربي وفي ( 1204 هـ/ 1789 م) وأواخر أيام السلطان سيدي محمد بن عبد الله كانت البحرية المغربية تتكون من 6 إلى 8 فركاطات تحتوي على مائتي فجوة للمدافع بالإضافة إلى 14 أو 18 مدفعا وغليونة وهي مراكب شراعية صغيرة وفي أول عهد مولاي سليمان عام ( 1208 هـ/ 1793 م) بلغت عشر فراكيط وأربع قلعية شرعية وأربعة عشر غليونة وتسعة عشر مركبا مدفعيا مجهزة بستة آلاف مدفعا مجهزة بستة آلاف بحار ممتاز وفي عام ( 1299 هـ/ 1620 م) ثلاث قلعيات وأربعين مدفعا وثلاثة عشر مدفعيا (32) وكانت البحرية الملكية تتوفر عام ( 1793 م / 1208 هـ) عند اعتلاء المولى سليمان على عشر حراقات ( أو فرقاطات) و أربع قلعيات ( أي سفن شراعية ذات قلوع) وأربعة عشر غليونا ( مثل الذي كان الهولنديون يستعملونها للصيد) وتعسة عشرة من زوارق الإنقاذ المجهزة بالمدافع كل ذلك بتعزيز من ستة آلاف بحار من الملاحين ذوي الشهرة والصيت (33) وقد اعترض الأسطول المغربي عام ( 1217 هـ/ 1803 م) الأسطول الأمريكي المحاصر لطرابلس ففك هذا الحصار ثم بدد الأسطول المغربي عمارة ثانية (34) وفي نفس هذه السنة عقد المولى سليمان الصلح مع الولايات المتحدة على يد الإنجليز لفك الأسارى مع رئيسهم إبراهيم لباريس وعلي بن عبد الرحمن الزناتي ( "تاريخ الضعيف" ،ص.326 ) وكانت مدة اجتياز السفن لعرض البحر الفاصل بين فرنسا والمغرب يتطلب فترة طويلة فقد قطعت السفينة الفرنسية التي حملت سفير فرنسا لدى المولى إسماعيل سانت - أولون ( S.Olon) في مايه ( 1963 ) ثمانية وعشرين يوما بين فرنسا وفرضة تطوان (35) وكانت السفن تدعى أحيانا باسم خاص مثل ( غراب دار الصنعة) الذي تحدث عنه خالد البلوي في رحلته ( " تاريخ المفرق") حيث ركب فيه من ألمرية إلى الحج عام ( 735 هـ/ 1334 م) فنقله من ألمرية إلى ( هنين) (36) وقد تطور على نفس النسق الأسطول ارحماني ( 1243 هـ/ 1827 م) بين المد والجزر.

(1) كتاب جوستيان لدييهل ( Diehl) المؤرخ الفرنسي المتوفى عام 1944 والمتخصص في تاريخ بيزنطة، ص . 540.
(2) أرشيبها لدبويس، كتاب القوى البحرية والتجارة في حوض البحر الأبيض المتوسط، مكتبة النهضة المصرية، 1960 ،ص . 103.
(3) يربطان في صقلية مع أسطول ثالث محتمل في إفريقية إلى نهاية القرن السابع يشمل جزر البليار وسردينية سبتة والمواقع البيزنطية في إسبانيا.
(4)  Bury, Bysantine naval Policy, P : 35.
(5) الأندلسيون الربضيون الذين ثاروا على الأمير الحكم فنفاهم ونزلوا بالإسكندرية ثم أقاموا في جزيرة كريت التي انتزعوها من البيزنطيين وجعلوا منها وكرا للقراصنة وانتقل بعضهم إلى مدينة فاس بالمغرب الأقصى.
(6) أرشيباليد، القوى البحرية...، ص . 224.
(7) راجع كتاب الخطط الحربية Tactita  ليوم 1989.
(8) أرشيبالد، القوى البحرية، ص.252.
(9) حيث بلغ وزنه 3.960 غرام من الذهب ثم ارتفع أيام الموحدين إلى قيمته في صدر الإسلام وهي ما بين 4.729 و 4.25 غرام.
(10) كانت لهم دار صناعة بالمهدية مكنتهم من بناء مائتي سفينة فخمة للمرة الأولى منذ عام 407 هـ/ 1016 م.
(11) تحدث بذلك الفونسو السابع ( راجع دوزي : تاريخ الإسلام).
(12) أكد ذلك رونان في كتابه : Averroïs et l’Averroïsme, paris, 1923.
(13) في ( عدد أبريل 1960).
(14) جوستاف لوبون، حضارة العرب، الطبعة الفرنسية، ص.284.
(15) ذكر ابن خلدون في تاريخه ( ج6، ص.161) أحمد بن ميمون قائد أسطول المرابطين عام 416هـ الذي غزا صقلية وكذلك محمد بن ميمون.
وكانت المنارات البحرية في عهد أبي الحسن المريني ممتدة بين أسفي ومدينة الجزائر ( ابن مرزوق، "المسند" مجلة هسبريس، عام 1925 ،ص.61)
(16) ابن أبي زرع ( القرطاس، ج 2، ص.164 ؛ الاستقصا، ج 1، ص.158 و ج 2، ص.128).
(17) اندري جوليان، تاريخ إفريقيا الشمالية،ص.412.
(18) الاستقصا،ج 2، ص.30.
(19) نفسه،ج2،ص.25.
(20) نفسه، ج2،ص.84.
(21) نفسه، ج2،ص.66.
(22) هسبريس - تمودة ، م 3، 1972.
(23) دوكاستر، ص1، م1،ص.504.
(24) درة الحجال، ح1، ص.313.
(25) دوساستر ، س.أ. هولندا ، م2، عام 1612؛ فرنسا م2؛ عام 1611.
(26) م2، فرنسا،ص.534.
(27) دوكاستر، س.أ ، السعديون، ج3، ص.188 و 371.
(28) ج1، ص.392 ط تطوان 1379 . راجع : "حق تملك حطام السفن في العهد السعدي" في دوكاستر، السعديون، السلسلة الأولى،م1، ص.186.
(29) مذكرة القنصلية الفرنسية العامة، الدار البيضاء عام 1943، ص.103.
وقد وجه محمد الثالث سفيره الضابط البحري الحاج التهامي الرايس عام ( 1177 هـ/ 1763 م) إلى السويد لشراء مواد بناء السفن والبارود كما وجه سفيره عبد الكريم ركون عامي 1167 هـ/ 1768 م إلى الأستانة لشراء قطع المدافع والبارود والعتاد وجلب خبراء ربانيين ورماة وإحياء دار الصناعة بسلا.
(30) Caillé ، تاريخ الرباط، ص.132.
(31) Caillé، تاريخ الرباط، ص.132.
(32) كودارج، وصف وتاريخ المغرب، ج1، ص.156.
(33) المصدر نفسه، ص.136.
(34) محمد بن علي الدكالي، جريدة المغرب، رقم346.
(35) وثائق دوكاستر، ص.2؛ الفلاليون ، فرنسا م 4، ص.1963 - 1698 .
(36) مرسى هنين مركز في ساحل تلمسان توجد فيه بلدة ( تاجرة) التي ينتمي إليها عبد المومن بن علي ( معجم البلدان ، ج 8، ص.484 ) أنشأ جامعها أبو الحسن المريني.
ياقوت الحموي، معجم البلدان، مج 7، ص 145














ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق