الجمعة، 20 يوليو 2012

كتاب "الإسلام في المدينة" لبلقيس الرزيقي تبلور إيديولجيا الجهاد ضد غير المسلمين

 






















تشكّل هجرة النبيّ محمّد من مكة إلى المدينة الحدث الأبرز في الإسلام التأسيسيّ، بل المرحلة الأهمّ في تكوين الإسلام من الناحية العقائدية، ومن انتقاله إلى مجال بشريّ أوسع بعدما بدأ يتجاوز القبائل التي انطلق منها. فالتأصيل النظري الإيديولوجي والعقائدي يضاف إليه بعض التشريعات الاجتماعية، كلها أمور ستترسخ لاحقا في الوجدان الإسلامي وتتحول إلى قوانين "أبدية"، وهي عمليا تكوّنت خلال إقامة الرسول في المدينة وقيادته دفّة إخراج الإسلام من "قمقم" الإطار الضيّق لمكة والمدينة نحو المدى الأوسع في الجزيرة العربية. لذا ليس غريبا في التاريخ الإسلامي المديد أن يتمّ النظر إلى "الطور المديني" بوصفه يمثل النموذج الأعلى للحياة الإسلامية، وأن تضفى عليه القداسة، بحيث يتحوّل إلى نموذج يجب احتذاؤه في كل زمان ومكان، بعد أن دخلت "الأسطرة" على الكثير من مقوماته.
سيكون لهذه الأسطرة والإلزام بهذا النموذج دور هام في سيادة الجمود العقائدي في الإسلام. يشكّل كتاب "الإسلام في المدينة" لبلقيس الرزيقي مساهمة مهمّة في الإضاءة على تلك المرحلة من تطوّر الإسلام من جميع مناحيه. نشر الكتاب ضمن سلسلة "الإسلام واحدا ومتعدّدا" التي يشرف عليها الدكتور عبد المجيد الشرفي، وأصدرته "رابطة العقلانيين العرب" و"دار الطليعة" في بيروت.
قبل مجيء الرسول إلى المدينة، كانت تعرف بـ"يثرب"، وكانت تحوي مجموعات بشرية من اليهود ومجموعة من القبائل أهمّها قبائل الأوس والخزرج. لم تكن فكرة التوحيد غريبة عن المدينة نظرا لوجود التراث التوراتي والعقيدة اليهودية فيها، ممّا جعل فكرة الإله الواحد والكتاب المنزّل تجد لها قبولا. لكنّ يثرب هذه تحوّلت مع وجود الرسول فيها إلى قطب دينيّ مركزيّ، واتّسمت أيضا بنوع خاصّ من القداسة والسلوك المتوافق مع الدعوة الدينية. بعيدا عن إسقاط وإضفاء نظرات غير موضوعية حول أسباب هجرة الرسول، فإنّ السبب الحقيقيّ يتّصل بالموقف المعادي لأهل مكّة للدعوة المحمّدية، واضطرار الرسول التفتيش عن مكان آمن لنشر الدعوة، وهو انتقال استوجب مفاوضات مع القبائل للقبول بالوافد الجديد. لكنّ النتائج التي ترتّبت على الهجرة طالت أهالي مكّة لجهة الانسلاخ عن قريش وتفريقا لشملها، وأدّى إلى تغيير الانتماء القبليّ للمهاجرين مع الرسول من أهل مكة إلى انتماء يقوم في الأساس على الدين الإسلامي، مما يعني تحوّلا في المحدّد الاجتماعيّ للمجموعات القبلية السائدة. أمّا النتيجة الثانية والأهمّ فإنّ الهجرة نقلت الإسلام من الإطار المحلّي نحو الأفق الأوسع والأشمل، وهو ما سيترجم نفسه في الفتوحات للأقاليم ونشر الإسلام فيها.
تبلورت لدى الرسول خلال وجوده في المدينة جملة أمور "تشريعية" أوجبتها العلاقة الاضطرارية مع المحيط الذي يعيش وسطه، كانت "الصحيفة" أوّل نصّ تشريعيّ وضعه الرسول تنظيما للعلاقة مع غير المسلمين ومحدّدا فيها قواعد التعامل، فاعتبرت "الصحيفة" بمثابة دستور للمسلمين. إذا كانت الإيديولوجيا الإسلامية تتعاطى اليوم مع هذا الدستور بوصفه نموذجا لا يزال قائما إلى عصرنا الحاضر، إلا انه يظل مرهونا بالمرحلة التي وضع فيها، حيث وحّد بين المهاجرين القادمين من مكّة مع الرسول وبين الأنصار الذين استقبلوه في المدينة بما جعلهم أمّة واحدة، إضافة إلى تكريس الرسول صاحب سلطة دينية وزمنية في الآن نفسه، خصوصا بعد أن حدّد الرسول القرآن بوصفه المرجعية التي تتضمّن فيما تنصّ عليه على طاعة الرسول المطلقة.
كان على الرسول أن يقدّم أجوبة على نمط العلاقة الاجتماعية التي يجب أن تسود في المدينة، كانت المشكلة الرئيسية تتّصل باليهود وكيفية التعاطي معهم. اتّسمت العلاقة بمراحل سادت فيها المهادنة في مرحلة أولى ثم تطوّرت إلى جدال يهوديّ حول نبوّة محمّد إلى أن وصلت إلى مراحل المواجهة العسكرية والتصفيات الدموية.
لا شكّ أنّ إصرار النبيّ مستندا إلى القرآن على وجوب تذويب الفوارق بين المسلمين واليهود وبالتالي إجبار اليهود على ترك دينهم والانضمام إلى الإسلام، بكلّ ما يعنيه ذلك من تقلّص أو زوال الامتيازات والمصالح اليهودية، إنما كانت السبب الرئيس في صراع المسلمين واليهود. هكذا نزلت آيات كثيرة تحطّ من شأن اليهود وتدعو إلى نبذهم وصولا إلى قتالهم بعدما قدّم صورة عنهم بوصفهم مضطهدي الأنبياء. إضافة إلى اليهود، واجه محمّد فئة صنفت بـ"المنافقين" الذين يظهرون إيمانهم فيما هم يقيمون فعلا في الكفر، وقدّم النفاق في القرآن على أنّه التواطؤ ضدّ الإسلام والتنكر لميثاق الوحدة المدنية. كما اتخذ الرسول موقفا معاديا ومتشدّدا من الشعراء الذين يقال إنّ قسما واسعا منهم قد هجاه، لذا لم يتورّع عن الأمر بقتلهم. وأخيرا، احتل موضوع المرأة حيزا من اهتمامات الرسول الذي حاول تنظيم علاقة الرجل بالمرأة في إطار مؤسّسة الزواج. تقع هذه الأنماط من التشريعات في سياق اضطرار الرسول إلى الإجابة عن أوضاع مستجدة واجهته، ولم تكن في إطار تشريع لدولة دينية أسقطت لاحقا على التاريخ الإسلامي بوصفها دولة الرسول والخلفاء المثالية للمسلمين في كلّ زمان ومكان.
خاض الرسول جملة معارك عسكرية انتصر في أغلبيتها وخسر بعضها، أهمّ المعارك كانت غزوة بدر التي اشترك فيها المهاجرون والأنصار ضدّ المشركين الذين أمر القرآن بقتالهم. إضافة إلى معركة بدر، انتصر الرسول في معركة الخندق وتمكّن من فتح مكّة وهزيمة أخصامه. في المقابل خسر الرسول معركة "أحد" التي استطاع المشركون تسجيل انتصار على المسلمين فيها. أدّت المعارك إلى نقلةٍ في موقع الإسلام كدين وفي موقع الرسول كسلطة. لكنّ النتائج الأهمّ لهذه المعارك والتي لا تزال تكتسب راهنية لدى جمهرة المسلمين إنما تتحدّد في ولادة أيديولوجيا الجهاد ضدّ غير المسلمين، وهي أيديولوجيا كرّسها النصّ القرآنيّ وشكلت دافعا معنويا للمسلمين في معاركهم اللاحقة. وهي الأيديولوجيا نفسها التي تستند إليها اليوم الحركات الإسلامية الأصولية المتطرّفة في عملياتها الإرهابية، من دون الأخذ في الاعتبار الظرف التاريخيّ التي نزلت به آيات الجهاد، وهو ظرف لم يعد قائما في عصرنا الراهن. إضافة إلى ترافق هذه الأيديولوجيا مع تمجيد الشهداء والوعد بالجنّة مما يعطي المقاتل شحنة معنوية ضخمة تعده بحياة في الآخرة مليئة بكل أصناف السعادة التي يفتقدها في حياته الدنيوية.
يقدم لنا كتاب "الإسلام في المدينة" جملة خلاصات يتّصل أوّلها بالجزم أنّ هذا الطور التأسيسيّ لم يشهد إقامة الدولة الإسلامية بالمؤسّسات التشريعية والتنفيذية أو القضائية. أمّا الخلاصة الثانية فتتصل بالأسطرة التي رافقت المعارك التي خاضها النبيّ وأهمّها أنّ الملائكة كانوا جنودا في قلب معركة بدر، وكانوا سببا أساسيا في الانتصار، وهي مقولة لا تزال سائدة لدى جمهرة واسعة من المسلمين، ممّا يطرح تساؤلا عن سبب إحجام الملائكة عن نصرة الرسول في معركة "أحد" التي شهدت هزيمة للمسلمين. أما الخلاصة الثالثة وهي الأخطر، تتعلّق برفض الإسلام لوجود الديانات الأخرى والتعاطي معها على قاعدة المساواة خصوصا وأنّ الإسلام يعترف لها بأنّها ديانات توحيدية نصّ عليها القرآن، والمقصود باليهودية والمسيحية، وهي نقطة تشير إلى أنّ الأديان التوحيدية هي أديان "اصطفائية" تذهب كلّ واحدة منها إلى اعتبار نفسها الدين الصحيح وترفض الاعتراف بالآخر. وهو أمر يثير اليوم من الإشكالات والصراعات خصوصا في ظلّ التوظيف المتواصل للأديان السماوية في الصراعات السياسية والاجتماعية، سواء أكان هذا الدين الإسلام أم المسيحية أم اليهودية. 
rhaouch khalid

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق