الجمعة، 20 يوليو 2012

قراءة في كتاب "إسلام الفلاسفة" لمنجي لسْود























يطرح تعبير إسلام الفلاسفة إشكالية تتصل بمسألة تعدّد "الإسلامات" من جهة، وتعيين المشترك في ما بينها. فالإسلام في التاريخ عرف تمايزات وتنوّعات، منها ما اتصل بالمكان الذي كانت بيئته تفرض دوماً تعديلات على الدين القادم إليها، وتجبره على التكيّف مع البنى القائمة بثقافاتها وقيمها على السواء، كما عرف تمايزات بالنسبة إلى القوى الاجتماعية التي حملته، فكان للفقهاء إسلامهم الخاصّ، وللجمهور الشعبي أيضاً نظرته المتميّزة بعاداتها وتقاليدها وغيبياتها وأساطيرها، وللفرق الدينية نظرتها التي عبّر المتكلّمون عنها، ودخلوا في سجال مع الفقهاء والفلاسفة حولها، كما كان لرجال السياسة تصوّراتهم لما يجب أن يكون عليه إسلامهم، وإسلام الشعب الذي يحكمون..وهكذا يمكن تعداد أنواع مختلفة من الإسلام وُجدت في التاريخ ولا تزال قائمة حتى اليوم. يشكّل كتاب "إسلام الفلاسفة" لمنجي لسْود إحدى المساهمات في تسليط الضوء على إسلام فئة من النخب الثقافية في التاريخ الإسلامي كان لها دور متميّز في حياته الفكرية والثقافية. صدر الكتاب ضمن سلسلة :"الإسلام واحداً ومتعدّداً" التي يشرف عليها الدكتور عبد المجيد الشرفي، ونشرته "رابطة العقلانيين العرب" و"دار الطليعة" في بيروت.

منذ العصور الأولى للإسلام ، ظلّت الفلسفة والشريعة تعيشان على طرفي نقيض، يحكمهما تنافض يتفاوت في حدته وهدوئه، وفق الظروف السياسية والصراعات الإجتماعية والفكرية التي تسود في زمن محدّد. ينجم التناقض عن كون كلّ منهما ينطلقان من من قضايا منهجية تحمل في جوفها عناصر الإختلاف، فالشريعة هي ما أتى به الرسول عن طريق الوحي، وتكرّس في نصوص أسدلت عليها عوامل التقديس وجرى الحجر على تأويلها، وفرض على الناس التسليم بها والإيمان المطلق بما تقول. فيما تنطلق الفلسفة من رفض التسليم البديهي أو المطلق بالغيبيّات والأساطير وبالنصوص الدينيّة من خلال التفسير الظاهري لمحتوياتها، فتخضع كلّ المسائل إلى البرهان العقلي، وتضع مقاييس علمية مجرّدة وموضوعية لتفسير الحقائق التي تقول بها الأديان ويدعو اليها الأنبياء.

عرف التاريخ الإسلامي صراعات متعدّدة انفجرت بين الفقهاء وأهل الحديث من جهة، وبين الفلاسفة من جهة أخرى. تعدّدت الأسباب والعوامل لهذا الصراع، فقد اتّهم الفقهاء الفلاسفة بأنّ كتاباتهم مليئة بالأباطيل، ورفضوا علم المنطق الذي يشكّل قاعدة أساسية في الفلسفة، كما رفض هؤلاء الفقهاء الاجتهادات والتأويلات التي انخرط فيها الفلاسفة حول النصوص الدينية، بكلّ ما يترتب عليها من تفسيرات لا تتناسب مع العلوم الفقهية التي يسعى الفقهاء إلى تكريسها وسط الجمهور، والحسم في كونها تحمل الحقائق الدينية والتوضيحات الضرورية اللازمة، مما يعني عدم الحاجة إلى الفلاسفة وعلومهم. ويورد التاريخ العربي والإسلامي أنّ عنصراً آخر دخل على الصراعات بين الفلاسفة والفقهاء وهو المتصل بالعلاقة مع السلطان. كان الفلاسفة في معظمهم على علاقة بالملوك، وكانوا من المقرّبين إليهم، ويتولون مناصب كان الفقهاء وأهل الحديث يطمحون إلى احتلالها. لم يتورّع الفقهاء عن التحريض على الفلاسفة لدى أهل السلطة، واتهامهم بالهرطقة والزندقة بسبب ما يقول به الفلاسفة، وهو صراع لم يكن دون نتائج سلبية أصابت الفلاسفة وتسبّبت في نكبات لهم.

لكنّ الأذى الأصعب الذي لقيه الفلاسفة من جانب الفقهاء أتى من خلال إقحام الفقهاء للعامّة في هذا الصراع. من المعروف أنّ علم الفلسفة واجتهادات الفلاسفة لا تتناسب مع المستوى المعرفيّ للعامة، ولا يمكن لهذه الفئة أن تدرك كنه القضايا الفلسفية، سواء منها المتّصلة بقضايا الظاهر والباطن من الدين، او تلك المتعلقة بالماورائيات وعلم الغيب والتفسيرات الفلسفية المتعددة حولها. ومن المعلوم أيضاً أنّ الفقهاء يقدّمون للجمهور مسائل دينية لا تحتاج إلى التفكير العقلي بمقدار ما تكتفي بالتسليم الإيماني في شأنها. استخدم الفقهاء وأهل الحديث في تأليبهم الجمهور على الفلاسفة مقولات بسيطة تدّعي أنّ الفلاسفة يهاجمون الدين والإله والرسول ويجدّفون في شان المقدسات، ويحطّون من قدرها، ويشوّهون وعي الناس ويأخذونهم إلى الضلال، وصولاً إلى اتهام هؤلاء الفلاسفة بالمروق عن الدين والكفر والإلحاد والهرطقة والزندقة…وغيرها من التهم التي تكفي واحدة منها لهلاك هذا الفيلسوف أو ذاك. وليست المحن التي أصابت المعتزلة وابن رشد وابن باجه وغيرهم سوى نماذج عمّا أصاب المشتغلين بالفلسفة وما تعرضوا إليه من مهانات. ليس التاريخ الإسلامي فريداً في بابه لهذه الناحية، فقد عرفت المجتمعات المسيحية ما هو أصعب وأقسى من عذابات طالت الفلاسفة من خلال "محاكم التفتيش" وتحريض الجمهور المسيحي ضدّ أهل الفكر تحت عنوان الكفر والإلحاد إيّاه.

كانت أصعب القضايا التي واجهت الفلاسفة تلك المتصلة بجوهر الدين الإسلامي، وخصوصاً منها ما اتصل بمسائل الوحي ومنزلة النبيّ وقراءة القرآن. أتى التناقض والارتباك من المنهج الذي استخدمه الفلاسفة في قراءة هذه القضايا، حيث كان عليهم استخدام المنهج العقلاني الذي يعتمد الشكّ والرفض والبرهان، من أجل الوصول إلى اليقين، مقابل المنهج الإيماني التسليمي الذي يتحدّى به الفقهاء أهل الفلسفة. ظلّ هاجس الخوف لدى الفلاسفة قائما من الجمهور وأهل الفقه، خصوصاً عندما يصل بهم المنهج العقلاني إلى إطلاق أحكام ومعطيات لا تتوافق مع الوجدان الشعبي وما هو مشبع به من يقينيّات. حكم هذا الإرتباك والخوف أعمال الفلاسفة، وكثيراّ ما أحجم بعضهم عن الوصول في فلسفته إلى نهايتها.

بالنسبة لقضية الوحي، أدرجها الفلاسفة في إطار نظرية المعرفة التي قالوا بها، فاعتبر "الكندي" أنّ العلم الإنساني يكتسب أهمية في معرفة الحقّ والحقيقة، وذلك استناداً إلى العلوم العقلية، لكنه في المقابل رأى في العلم الإلهي أرفع أنواع العلوم وسمّاه "علم الجواهر"، الذي يختصّ به الرسول. أمّا "الفارابي" فقال بأنّ تحصيل المعرفة يتمّ من طريقين: طريق العقل وطريق الوحي، وهما يلتقيان في النهاية بما يسميه "العقل الفعّال". ويضيف "الفارابي" أنّ النبي لا ينقل الحقائق بشكل حرفيّ، بل إنّ معرفته هي معرفة تأويلية، فيما الفيلسوف يرتقي تدريجاً في سلّم العقل إلى أن يتصل بـ"العقل الفعّال" ومن ثم الوصول إلى "الفيض". من جهة أخرى، يسمّي "ابن سينا" الوحي بـ"الإلقاء الخفيّ من الأمر الفعلي بإذن الله تعالى في النفوس البشرية المستعدة لقبول هذا الإلقاء". فحقيقة النبوّة عند "ابن سينا" تتمّ عبر الاتصال بين النفوس المستعدّة لها وبين الأمر العقلي الذي يمثله جبريل. لكنّ النبوّة تستوجب شروطاً للحصول عليها، كأن يكون المؤهّل للنبوّة متمتعا بقوة قدسيّة، تسمح له بالاتصال بـ"العقل الفعال" من غير فكر ولا نظر، والشرط الثاني أن يتمتع بمخيلة قوية واستثنائية تعطيه القدرة على تخيّل أمور الماضي والحاضر والمستقبل، أمّا الشرط الثالث فهو توفّر نفس خاصة يصبح بموجبها قادراً على قلب الحقائق والإتيان بمعجزات وخرق قوانين الطبيعة.

أمّا في ما يخصّ منزلة النبيّ، فقد شهدت الفلسفة الإسلامية سجالاً حول الأهمية المعطاة لكل من النبيّ والفيلسوف، ومن الأرفع شأنا، وهو نقاش استخدمه الفقهاء أيضاً في تأليب الجمهور ضدّ الفلاسفة الذين ذهب بعضهم إلى اعتبار الفيلسوف أرفع شأناً من النبيّ. فـ"الكندي" كان من أصحاب القول بكون النبيّ أرفع من الفيلسوف، وقال بعجز الفيلسوف أمام قدرة النبيّ في معرفة الحقيقة والتعبير عنها في أوجز الأساليب وأعجزها وأبلغها، وفي كون الفيلسوف غير قادر على تحصيل العلم الإلهي. أمّا "السجستاني"، فيرفض المقارنة بين الشريعة والفلسفة، ويرى أنّ الفلسفة علم بشريّ زائل فيما الوحي علم إلهي باق، وبالتالي يقف النبيّ في درجة أعلى من الفيلسوف، وعلى هذا الأخير أن يتبع النبي. يذهب "ابن رشد" إلى القول "أنّ كلّ نبيّ حكيم وليس كلّ حكيم نبيّاً"، فيضع النبيّ والعلوم التي يأتي بها في منزلة أعلى من الفيلسوف وعلومه الفلسفيّة، لكنّه لا يتورّع عن تغليب العلوم العقليّة أحياناً على علوم الشريعة، بل يدعو إلى تطويع النصوص الشرعية وإخضاعها إلى آلية التأويل العقلي.

لكنّ بعض الفلاسفة ذهب إلى القول بأنّ الفيلسوف أرفع من النبيّ، فيدعو "الفارابي" إلى توسيع دائرة الوحي لتشمل الفيلسوف، لأنّ الفيلسوف هو القاعدة فيما النبيّ هو الاستثناء. وفي شؤون الأخلاق والسياسة يرى الفارابي أنّ الدين من حيث القيمة المطلقة هو أدنى مرتبة من المعرفة العقلية الخالصة. أمّا "إخوان الصفا"، فقد تجاوزوا جميع الفلاسفة في موقفهم القائل بأنّ النبيّ أقلّ درجة من الفيلسوف.

في ما يخصّ تفسير الفلاسفة للقرآن، فقد جرى تطويع هذا النصّ بما يتوافق مع تصوّرات كلّ فئة من الفلاسفة إلى العالم والأشياء. تعمّد معظم الفلاسفة الابتعاد عن آيات الأحكام في القرآن، ورأوا فيها اختصاصاً لأهل الفقه، لأنّ التعاطي في هذا المجال سيضعهم في مواجهة الجمهور مباشرة. لذا تركّز اهتمامهم على العلوم الإلهية المتصلة بالخالق وخلقه، والسماوات والأرض، والنفس ومكوّناتها، وأحوال المعاد والثواب والعقاب..

احتلّت قضية التوفيق بين الفلسفة والدين موقعاً مهمّاً في طروحات الفلاسفة، فاعتبر "الكندي" أنّ الدين لا يختلف عن الفلسفة، في المقابل رأى أنّ كلّ من يعاند الفلسفة ويسمّيها كفراً هو شخص عارٍ من الدين. أمّا "ابن رشد" فيرفض أيضاً تعارض الفلسفة والشريعة، ويقول إنّ الشريعة تستوجب الاشتغال بالفلسفة، وعلى كل من يريد تأويل النصوص الشرعية أن يكون من أهل البرهان، أي فيلسوفاً. في المقابل، يذهب "إخوان الصفا" إلى القول :"متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال"، وهو موقف ينمّ عن رفض منطق المعارضة بين الشريعة والدين بل يؤكد على تكاملهما.

رغم مرور أكثر من الف وخمسمائة سنة على هذه السجالات، إلاّ أنها لا تزال تكتسب راهنية من خلال استمرار الموضوعات الخلافية القائمة. بل إنّ الانهيارات التي تعرفها المجتمعات العربية والإسلامية، وانبعاث الإسلام السياسي وتنظيماته الأصولية تجعل المنهجين العقلي والإيماني الغيبي حاضرين بقوة في مجمل الصراع السياسي الدائر، خصوصاً وأننا أمام قوى أصولية صاعدة تسعى إلى طمس العقلاني في الفكر العربي والإسلامي لصالح فكر خرافي غيبي، وتسليطه على العقل العربي والإسلامي بقوّة السلاح والإرهاب. هذا الواقع يعطي كتاب "إسلام الفلاسفة" موقعه في السجال الفكري والفلسفي السائد من أجل أن تكون العقلانية وسيلة تفسير الواقع وتغييره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق