الخميس، 19 يوليو 2012

كتاب " تاريخ الفلسفة الإسلامية"




هو مؤلَف مترجم إلى العربية من أصله الذي كتب بالفرنسية، تحت عنوان "Histoire de la philosophie islamique"، للمؤلف الموهوب هنري كوربـان.

وهنري كوربـان، فيلسوف فرنسي مستشرق ومختص في تاريخ الأديان. ولد بفرنسا عام 1903، وتوفي سنة 1978م، أثار ضجة كبيرة في الأوساط الفلسفية بمؤلفاته وأفكاره، ولا سيما فيما يتعلق بالفلسفة الإسلامية. في سنة 1939، كلف بمهمة في تركيا، ثم في إيران سنة 1945، فأسس قسم الدراسات الإيـرانية بالمعهد الفرنسي بطهران، قبل أن يخلف مواطنه الآخر المستشرق لويس ماسنيون سنة 1954م، في تبوئ كرسي أستاذ الدراسات الإسلاميات. يجيد اللغتين العربية والفارسية، ونشر العديد من المقالات بهما، في مجال الشعر الصوفي والفلسفة الإيرانية. وتمكن بفضل ترجماته وكتاباته بالفرنسية أن يطلع القارئ الفرنسي على غزارة الفكر الشيعي. وللأستاذ كوربان مؤلفات عديدة، تشكل جميعها مكتبة قائمة بذاتها، منها: كشف المحجوب لأبي يعقوب السجستاني/ حكمة الإشراق للسهروردي/ جامع الحكمتين لناصر خسرو/ قصيدة فلسفية لأبي الهيثم الجرجاني/ حي بن يقظان لابن سينا/ ثلاث رسائل إسماعيلية للسجستاني وللوليد وللشبستري.

ويعتبر كوربان من أعمق الباحثين المعاصرين في قضايا الفلسفة الإسلامية وتطورها، ومن أدقهم معرفة بالفكر الإيراني على اختلاف تشعب مواضيعه.

وكتابه " تاريخ الفلسفة الإسلامية" يضم في الواقع قسمين: قسم يحمل عنوان "منذ الينابيع حتى وفاة ابن رشد عام 595هـ/1198م"،وقد تم ترجمته إلى العربية، من قبل الأستاذين: نصير مروة وحسن قبيسي، وراجعه وقدم له الأستاذين: الإمام موسى الصدر والأمير عارف تامر، وطبع بـ" عويدات للنشر والطباعة"، بيروت، سنة 2004، ويضم بين دفتيه 400 صفحة، وهو الذي بين أيدينا هنا. والقسم الآخر يحمل عنوان " منذ وفـاة ابن رشد حتى أيامنا الحاضـرة"، لم يتم ترجمته إلى حـد الآن.

ولقد أثـار كتابه هذا " تاريخ الفلسفة الإسلامية"، بعنوانه ومحتواه جدلا واسعا في الأوساط الفلسفية، ولا سيما في المجتمع الأوروبي الذي يرى أن الفلسفة تعني" جهد التفكير الفردي الدنيوي، المستقل عن مسلمات الإيمان واللاهوت"، فكيف يمكن ربـط نتاج فكري بدين  {الإســلام}؟

 من هنا، يظهر ميزة المؤلف هنري كوربان عن سائر زملائه المستشرقين، فهو يتميز في كونه لا يصنف تيارات الفكر في الإسلام وفقا للمنظور الغربي، الذي يرى أن " الكلام" الإسلامي يقابل الفلسفة اللاتينية، وإنما اعتمد على منهج " ظاهراتي" في معالجة المسائل، وعلى مقاربات دقيقة، تعتمد على المقارنات الموضوعية، والبعيدة عن أية تصورات مسبقة.

وعلى الرغم من الاهتمام الكبير الذي كان يوليه كوربان للفكر الإيراني في بحوثه، فإنه سيكون من الخطأ حصر حقل أبحاث هذا الفيلسوف في الفكر الديني الشيعي الإيراني { الإمامية الاثني عشرية} أو الإسماعيلي فحسب، فقد تعدى اهتمامه بالفلسفة ـ طبعا ـ مجالات التفسير اللفظي واللاهوت، وخاصة التصوف في الفكر السني، كما تطرق كوربان في جزء هـام من كتاباته إلى الفكر الغربي، والفكر اللوثـري، والكالفيني، والكاثوليـكي، واليهودي، وحتى البوذي.

ويمكن أن نرجع إسهام كوربان في الفكر الفلسفي العام بشكل إجمالي، بالرجوع إلى ثلاث نقاط رئيسية:

أولا: جهود كوربان في جعل التجربة الدينية وحتى الصوفية معنية مباشرة بالبحث الفلسفي. فعبر الإيمان الديني والقراءة الحية والمتجددة للكتاب المقدس { القرآن الكريم} أدرك مفكري الإسلام العالم، وحاولوا فهمه وحل رموزه. وإن الحجة الأساسية التي يرتكز عليها الكتاب الحالي " تاريخ الفلسفة الإسلامية"، هي بالضبط إثبات الدور الفعال لهذه "الفلسفة النبوية"، في إعداد المذاهب في الإسلام، منذ الأصول حتى القرنين التاسع عشر والعشرين.

ثانيا: إسهام كوربان في جعل دور الخيال الفعال طريقا للمعرفة. فعبر نتاج مفكرين مثل السهروردي وابن عربي أو الملا صدرا، أظهر هنري كوربان قيمة المهمة السامية لشكل آخر من أشكال الخيال، هو عالم الخيال ـ أو عالم الصور المعلقة ـ المأهول بالملائكة و الرسل، يتاح فيه للروح البشرية الوصول إلى شكل خاص من المعرفة، عبر إيحاءات صغيرة، مرتبطة بالرمز والاطلاع على الأسرار بواسطة الجمال والتأثـر.

ثالثا: جهود كوربان في مطابقة المواقف السابقة مع الوسط المسيحي أو اليهودي أو غيره، بعد إدخال التغييرا ت الضرورية عليها.

وعلى كل حـال، فقد بدا الدور الهام الذي أسند إلى التيارات الشيعية في هذا الكتاب مثيرا للجدل، أو على الأقل مفرطا بالنسبة لعدد من القراء، الذين يصنفون المذهب الشيعي على هوامش تكوين الفكر في الإسلام. فـكوربان هنا يجدد الفهرسة القديمة للتيارات التي غالبا ما غلف النسيان رهاناتها العميقة، فأعطى المركز الرئيسي في هذه الدراسة للفلسفة النبوية عند الشيعة بشكليها الرئيسيين: الإمامية والإسماعيلية، والتصوف من حيث التجربة الروحية، أو من حيث الحكمة الإلاهية، التي نجد جذورها في التعليم الفلسفي الشيعي، بل إن كوربان يرى أن الانطلاقة الفكرية الكبرى للفلسفة النبوية، قد نشأت عبر التشيع الإسلامي، لا عبر غيره.

وتوصل بذلك إلى نتيجة مفادها، أن وجه الشبه بين المذاهب الفقهية السنية الأربعة { المالكية، الشافعية، الحنفية، الحنبلية}، سواء من حيث المصادر أو من حيث التاريخ، أو من حيث المصير أكثر من أن تجعل الفقه الشيعي قسيمة لتلك المذاهب الأربعة، وإنما يقع ـ منطقيا ـ في مقابل الفقه السني، وليس أن يقع تصنيفه بمثابة "المذهب الخامس".

و قد سرى هذا الاهتمام بالمذهب الشيعي لدى كوربان إلى مجال التأملات الفكرية، فتجاوز بذلك تعريف الفلسفة الإسلامية من "التي كتبت باللغة العربية"، كما يرى البعض، إلى "كل تأمل فكـري كتبه مسلم بغض النظر عن اللغة المستعملة، ولا سيما اللغة الفارسية". ولذلك، لم يقع كوربان في الخطأ الأساسي الذي وقع فيه العديد من المفكرين، من أن " التأمل الفلسفي" قد توقف بموت ابن رشد سنة 1198م، ومن هنا يظهر أهمية القسم الثاني من كتابه، الذي عنونه بـ" تاريخ الفلسفة الإسلامية من وفـاة ابن رشد حتى أيامنا الحاضـرة"، والذي ركز فيه على الفلسفة التنويرية الإيرانية مع السهروردي { الفلسفة الإشراقية}، والحكمة المتعالية لدى الملا صدرا الإيراني...

وعموما، احتوى الكتاب الذي بين أيدينا على ينابيع و جذور التأمل الفلسفي في الإسلام، والتأمل الروحي في القرآن، والتشيع والفلسفة النبوية بشقيه: الإمامي والإسماعيلي، وعلم الكلام السني بشقيه: الاعتزالي والأشعري، والفلاسفة الطبيعيون {جابر بن حيان، إخوان الصفا، الرازي، البيروني، الخوارزمي، ابن الهيثم، شاهمر دان الرازي}، والفلاسفة الهلينيون { الكندي، الفارابي، العامري، ابن سينا، ابن مسكويه، ابن فاتك، ابن هندو، أبو حامد الغزالي}، والمتصوفة الفلاسفة { البسطامي، الجنيد، حكيم الترمذي، الحلاج، أحمد الغزالي}، وفلسفة الإشراق { السهروردي وإحياء حكمة فارس القديمة، الإشراقيون}، وفلاسفة العرب بالأندلس { ابن مسرة، ابن حزم، ابن باجه، ابن السيد، ابن طفيل، ابن رشد والرشدية}.

ومن أهم النقاط التي يثيرها الأستاذ كوربان في هذا الكتاب، هو موضوع "الظاهر والباطن" في الأحكام وفي الدين بصورة عامة، والرمزية في القرآن الكريم. فقد أسهب في ذكـر هذا الأمر، وجعله أساسا لكثير من أبحاثه، ومنطلقا لمجموعة من استنتاجاته، واعتمد على هذا الأصل في فهم مذهب الشيعة، وتفسير معنى الولاية والإمامة، والإمام الغائب، وأجاب عن مشكلة انقطاع الوحي، وبقاء الحياة الدينية للإنسان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق