السبت، 7 يوليو 2012

  1. الفتنة الكبرى.. الخوارج والديموقراطية التكفيرية.. التأثيرات المسيحية


:


















فتح مكة… السقيفة:
تشير كتب السيرة النبوية مثل (السيرة النبوية) لابن إسحاق وهو أقدم المصادر المكتوبة، و(السيرة النبوية) لابن هشام، و(تاريخ الرسل والملوك) لمحمد بن جرير الطبري، وحتى بعض الكتب والدراسات المعاصرة للمستشرقين والباحثين والمفكرين المعاصرين مثل (الإسلام والرأسمالية) لمكسيم رودنسون، ومؤلفات طه حسين في الإسلام، ومؤلفات محمد أركون، محمد عابد الجابري، أحمد عبد الكريم، هشام جعيط وغيرهم، إلى أن الولاء العشائري في مرحلة حكومة المدينة قد تفكك لصالح سلطة النبي وشخصيته القوية والمتميزة وهيبته وسلطانه اللامحدود على أصحابه، ناهيك على تأسيسه لنموذج حكم شبه مثالي في عصره حينما آخى بين المهاجرين والأنصار ونسف العصبية القبلية، وشكل سلطة مؤسسة على الانتماء إلى قيم الإخاء الإنساني، وقيم الدين الجديد، وسحر بيان النص القرآني ، ومجموعة العبادات الروحانية، والتشريعات الجديدة. وقد أرعب ذلك زعماء قريش وأسياد مكة، فاستسلمت له دون قتال ودخلت الإسلام بعد سنوات قليلة من الهجرة، وبعد إحدى وعشرين سنة من البعثة النبوية.
لكن فتح مكة ودخول قريش للإسلام فتح بدوره مجالات لصراع سوف يتفجر لاحقا، بعد وفاة الرسول الكريم، من حيث أن زعماء قريش (وهم في أغلبيتهم وافدون جدد إلى الإسلام، للاضطلاع بالدور الأول في الدولة الجديدة، لأنهم قبيلة النبي ولأن أواصر الدم ستفوق الولاء الديني المحض. وعلى هذا النحو، مرت السلطة الجديدة بنزاعات باطنة بين مختلف الولاءات وشتى روابط الإخلاص: روابط الدم / الأقدمية في الكفاح النبوي، أهل المدينة/ أهل القبائل. سيدور كل تاريخ الإسلام المقبل ويتمفصل حول تلك التوترات التي يمكنُ ردّها إلى منظومات قيم، منظومة متبقية من الجاهلية، ترَّسبية ولكنها قوية، ومنظومة الإسلام كقوة تجدُّد وديناميكية صراع. وبإظهار النبي بوادر عودة كثيفة إلى الوطن وروابط الدم، فإنه أفقد الرسالة الإسلامية هالةَ الصمود والصفاء، لكنه منحها/ من جراء ذلك الفعل بالذات، الشروط السياسية للنجاح في هذا العالم.)، كما يشير هشام جعيط في كتابه (الفتنة – جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر – دار الطليعة – ط6 – بيروت- 2008).
وإذا ما كان بعض الباحثين يحاولون أن يؤرخوا لبدايات النظر العقلي بأسئلة الحرية والإرادة ومسؤولية الإنسان عن أفعاله مع تأسيس الدولة الأموية، فإن البعض يؤرخ لذلك مع انشقاق الخوارج عن الإمام علي بن أبي طالب في صفين، بل هناك من يذهب أبعد من ذلك ليبدأ بها من سقيفة بني ساعده بُعيد وفاة الرسول مباشرة.
ورغم أن إشكال السقيفة وخلافة النبي بدا أنه لم يكن إشكالا وبحثا عقليا في النص القرآني ولا محاكمة الأمور احتكاما للنص القرآني مثلما جرى فيما بعد خلال فترة عثمان بن عفان، بقدر ما كان أول امتحان لعلاقة الدين بالدولة، وأول مواجهة بين النخبة القرشية والأنصار الذين احتضنوا الدعوة ونصروا النبي والإسلام، وأول صراع واضح ومفضوح على السلطة بعد وفاة النبي الأكرم. رغم أن البعض أدبيات الشيعة رأت فيما بعد أن ما جرى في السقيفة كان انحرافا عن النص استنادا إلى تأويلهم الباطن للآيات.
ومهما يكن الأمر، فنحن لا نود هنا الخوض في هذا الأمر لأنه يرتبط بمفهوم السلطة والصراع القبلي الاجتماعي – السياسي، فمن جانب صراع الأنصار ضد الهيمنة القرشية التي برزت بعد فتح مكة، ومن جانب آخر صراع القبيلة الداخلي حيث تم إبعاد أسرة النبي، آل بيته وبني هاشم، رغم أن الوراثة كمبدأ وآلية، وبعيدا عن أي بعُد ديني، كانت معتمدة في مستوى القبيلة، وعند القريشيين أيضا. صراع الصحراء ضد المدينة الذي تجلى في الثورة المضادة التي سُميت بـ(الردة). وهذا ما يؤكده عدد من الباحثين، فمثلا يشير هشام جعيط في كتابه (الفتنة) المشار إليه آنفا : "في الواقع، كانت الردّة والثورة مترادفتين، لأن الأمر كان يتعلق بالخروج على الطاعة الواجبة نحو المدينة. وبالتالي كان يُخلع الإسلام في الوقت الذي كانت تُعلن فيه الثورة، وكان ظهورُ نبوّاتٍ شتى مثيراً وذا دلالة أيضاً على الترابط ما بين الدين والسياسة…. وبالتالي لا بدّ من التسليم بأن تصور السلطة كان مستحيلاً بدون النبوة، في الوسط القبلي وفي ظروف الجزيرة العربية آنذاك، ولكن من البديهي أنَّ النبوات الظاهرة آنذاك".

الفتنــة الكبرى…
لكن محاكمة السلطة من خلال النص كان واضحا في فترة عثمان بن عفان، حيث برز التفاوت الطبقي في المجتمع الإسلامي بروزا استفزازيا، حيث تشير الكثير من المراجع التاريخية الإسلامية الأولى مثل: مروج الذهب للمسعودي، أنساب الأشراف للبلاذري، تاريخ اليعقوبي، الكامل في التاريخ لابن الأثير، كتاب الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري، كتاب الخراج لأبي يوسف، ومن المصادر الحديثة مثل الفتنة الكبرى لطه حسين، الفتنة لهشام جعيط، والسلطة في الإسلام لعبد الجواد ياسين، نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري، واليمين واليسار في الإسلام لعباس صالح، وتاريخ الحركات السرية في الإسلام لبندلي جوزي، وغيرها من المصادر القديمة والحديثة، والتي تؤكد جميعها على تكدس الأموال والثروات عند مجموعة معينة ومقربة من الخليفة. وبذلك ابتعدت السلطة ممثلة بالخليفة عن التصورات الدينية والشعبية عن شخصية خليفة رسول الله وعن روح الإسلام، مما أثار تمردا شعبيا أدى إلى مقتل الخليفة بطريقة وحشية لا تليق بتاريخه ومواقفه وتضحياته في الفترة السابقة من تاريخ الدعوة الإسلامية، وهنا يتوقف هشام جعيط باحثا ومفككا تفاصيل تلك المرحلة التاريخية في كتابه القيم (الفتنة – جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر) الآنف الذكر : "كما لو أن تراكم الوقائع الصغيرة اتخذ اتجاهاً ومعنى وصار غير قابل للتسامح….عندئذ عاود الرأي العام قراءة كل خلافة عثمان، واستذكر أخطاءه وفرزها واحدةً واحدةً إلى أن جعل منها مجموعة مطاعن متراكمة لكن دون أن يتوصل أبداً إلى إعطائها تعبيراً مجرداً يختصرها بسمة واحدة… إنه متهم بالقطع مع سيرة النبي والخليفتين الأولين، بمخالفة شريعة الإسلام وأحكامه الضمنية. وقد جرى تنسيق هذه المطاعن من قبل دعاية ماهرة، فعمت الشائعة في الأمصار، واستحوذت بوجه خاص على الكوفة ومصر، لتصل عام 35 هج/655-656 م إلى هجوم على المدينة وإلى مقتل عثمان نفسه، الذي كان إعداماً حقيقياً…وبوجه عام يمكن إرجاع القضية إلى صراع بين تجديد لنشاط روابط الدم، وعودة لأعراف الجاهلية وتقاليدها.. وبين ولادة وعي إسلامي يتغذى من ثلاثة مصادر: القرآن ومغامرة الإسلام التاريخية ومعايير حكم أبي بكر وعمر…. وربما يكون من الخطأ المطبق تفسير الأزمة الكبرى التي قادت عثمان إلى الموت كأنها صراع بين مبدأ بدوي، عربي، قبلي، أُفترض أن قتلة عثمان يمثُلونه، وبين مبدأ إسلامي متجسد في عثمان، كما يريد ذلك عبد العزيز الدوري. الأرجح أن يكون العكس صحيحاً في الواقع، إن سياسة عثمان تشخيص مسبق لما سيحدث لاحقا مع الأمويين، عندما سيرتفعون إلى سدة الحكم".
إن ما جرى في فترة الخليفة الثالث كان حركة اجتماعية، يمكن أن نطلق عليها بمصطلحاتنا المعاصرة انتفاضة شعبية، كانت نتيجة لتناقضات طبقية واجتماعية حادة، ونحن هنا لا نريد التوغل في مسألة الفتنة ومقتل الخليفة الثالث، لكن الإشارة إليها مهمة جدا لأنها قادت إلى حروب فظيعة والى قطيعة شبه تامة بين التصورات الإسلامية القرآنية والنبوية عن الأمة والحاكم وما تشكل فيما بعد لاسيما بعد تمكن معاوية بن أبي سفيان من الهيمنة المطلقة على السلطة، وتأسيسه لمبدأ ملكي ووراثة الحكم، وتشجيعه للقوى العربية التقليدية من صنف أشراف القبائل، وتهميش النخبة الإسلامية من الصحابة والقراء، بل وإعمال السيف فيهم، وبناء سلطة غاشمة ظالمة، رغم محاولة محمد عابد الجابري اليائسة في أن يعيد الاعتبار له في كتابه (نقد العقل العربي).

الخــوارج… الجباه السود والديموقراطية التكفيرية:
 ما جرى خلال فترة الخلفاء الراشدين من صراعات وتناقضات وحروب أهلية كان صراعا اجتماعيا، لم يأخذ شكل الصراع الفكري الفلسفي حول مفهوم الحرية، وعن مفهوم الإرادة والاختيار والمسؤولية عن الأفعال، حتى وان شاء بعض الباحثين في تاريخ علم الكلام والصراعات الفكرية الإسلامية فيما بعد والذي تجسد في المعتزلة والأشاعرة، في أن بداية الجدل الفكري بدأ مع الخوارج في صفين، والذي كان من تجلياته مقتل الإمام علي بن أبي طالب، الخليفة الرابع. رغم أن الخلفاء الراشدين لم يكونوا ممسكين بسلطة ذات هيلمان حقيقي، بل كانوا رموز للأمة الوليدة، فلم يحاط أي منهم بمراسيم سلطانية ودواوين ملوكي، بل كانوا عزلا بدليل تم اغتيال الخليفة الثاني والرابع بطريقة الاغتيال الفردي دونما وجود أية حماية شخصية لهما، إما الخليفة الثالث فقد تم قتله بشكل جماعي باقتحام بيته عليه، وكان يعرف بانتفاضة الناس ضده، من قبل مجموعة ذات أحكام عقائدية صارمة. وهنا يشير محمد عابد الجابري في كتابه ( نقد العقل العربي – العقل السياسي العربي 3) : "إن مقتل عثمان كان بمثابة عقد وفاة لدولة المدينة التي كان لها "جيشها"، والحرب بين علي ومعاوية كانت حرباً أهلية داخل جيش دولة المدينة، فانتصر فريق على فريق وأقام الفريق المنتصر من هذا الجيش دولته…والجيش الذي أقام دولته زمن الأمويين لم يكن جيشاً محترفاً وإنما كان مجموعة من القبائل المتحدة…. أما أن تكون الدولة الأموية هي دولة "القبيلة" في الإسلام فهذا ما يجمع عليه المؤرخون القدماء منهم والمحدثون".
وهناك من يرى أن حركة الخوارج، أو ذوي الجباه السود من اثر السجود، هي بداية الصراع الفكري في الإسلام، وأنها كانت حركة فكرية جديدة لها جذور عقائدية، رغم شكلها القبلي إلا أنها أسست لرفض القبيلة، وهذا ما يذهب القدماء مثل المبرّد – المتوفي سنة 285 هجرية في كتابه (الكامل في اللغة والآداب – المجلد 2- دار الكتب العلمية – بيروت 2002) عند روايته العديد من أخبار (الخوارج) وخطبهم ومناقشاتهم، كما يؤيد ذلك (محمد عابد الجابري) في كتابه الآنف الذكر حينما يكتب (ومع أن الخوارج الذين وصفهم علي ابن أبي طالب بأنهم "أعاريب بكر وتيم" كانوا واقعين تحت مفعول "القبيلة" إلى حد بعيد فإن شعارهم الشهير "لا حكم إلا لله" كان في الحقيقة أكبر تحدّ لـ"القبيلة" منذ المرحلة المكية من الدعوة المحمدية. لقد فتح هذا الشعار باب المناقشة واسعا في أساس الحكم بصورة لم يسبق لها مثيل. ذلك لأنه مع هذا الشعار طُرحت مسألة الحكم طرحاً جديداً تماماً، فلم يعد محصوراً في إطار المفاضلة بين علي ومعاوية، سواء على مستوى القبيلة أو مستوى العقيدة، بل نقلت المسألة من منطقة المسكوت عنه التي كان يحميها مبدأ "الأيمة من قريش" إلى مجال النقاش السياسي/ الديني حول الأساس الذي يجب أن يقوم عليه الحكم في الإسلام… وهكذا أثار الخوارج بمواقفهم تلك مسائل لم تكن قد أُثيرت من قبل. إن شعار "لا حكم إلا لله" قد صار يحمل مضموناً آخر عندما تُرجم إلى الشعار "الأمر شورى والبيعة لله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ثم مبدأ "الخلافة لكل مسلم عادل"، وهو المضمون الذي انتقل بمسألة الحكم من إطار "القبيلة" إلى مستوى "العقيدة"، وبذلك حدث نوع من التعالي بالسياسة لم يحدث حتى في مناقشات الصحابة خلال مؤتمر سقيفة بني ساعده، حيث طغت حجج "القبيلة" على الحجج الأخرى. وهذا النوع من التعالي بالسياسة سيؤدي بدوره إلى تسييس المتعالي، إلى طرح قضايا العقيدة، قضايا الفكر والإيمان والجنة والنار طرحاً جديداً تؤطره خلفيات سياسية. وهناك إلى جانب هذا الدور المباشر، الذي قام به الخوارج في حفز الناس على التفكير في أساس الحكم من وجهة نظر الإسلام، وفي إعطاء القضايا الدينية مضموناً سياسيا، دور آخر غير مباشر لا يقل أهمية. يتعلق الأمر هذه المرة بذلك الضغط العسكري الذي مارسوه على الدولة الأموية من قيامها إلى سقوطها).
يمكن القول إنه من التبسيط بمكان النظر إلى حركة الخوارج وكأنها حركة فكرية فلسفية عميقة، لأنها بالأساس كانت خدعة تكتيكية ناجحة، بل فكرة عبقرية جاء بها عمر بن العاص، لتفكيك جيش أهل العراق، ولإنقاذ جيشه الذي كان على وشك الانهيار أمام هجوم القائد العسكري (مالك الأشتر). وفعلا نجح في ذلك. حيث انشق جيش الإمام علي بن أبي طالب، حيث جاءه عصبة ممن اسودت جباههم من السجود، حاملين سيوفهم، داعين إياه إلى قبول التحكيم.
لم يكن الأمر أكثر من تكتيك عسكري قام به معاوية وجيشه للخلاص من الهزيمة العسكرية تم التعامل معه من قبل الطرف المقابل استنادا إلى النص، واستدعى فيما بعد تبريرات دينية وفكرية تبلورت أكثر فأكثر بمرور الوقت، إنها أشبه بانشقاق سياسي يحدث في كل زمان ومكان، بما في ذلك زماننا هذا، لكن في ذلك الزمان قاده شريحة القرّاء الذين يشكلون الشريحة المتطرفة والمتعصبة جداً للنص، الذين يذكروننا اليوم بجماعات " التكفير" المنتشرة في بعض البلدان الإسلامية. حتى أن د. محمد عمارة في كتابه (تيارات الفكر الإسلامي – دار الشروق – ط2- القاهرة – 2007) يؤكد: "هذا الغلو والانحراف الذي نشأ مع نشأة فرقة الخوارج ما زال يعاني منه العقل العربي المسلم ويجاهد ضده حتى الآن". وبعودة إلى ذلك الزمن نجد أن بعض دعاة حركة الخوارج والمروجين لها، أشخاص بعضهم لا يصمد أمام معايير النزاهة والورع والتقوى، لأن صراعه مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان قائما على خساراتهم المادية التي حرمهم منها، ويمكن الرجوع إلى المصادر التاريخية المتنوعة التي دونت أحداث تلك الفترة لنتوقف على أسماء تلك الشخصيات.
وفي محاولة د. محمد عمارة تفكيك الأسس الفكرية لحركة الخوارج في كتابه الآنف الذكر، فإنه يفرق بينهم وبين "أشراف" العراق أمثال: الأشعث بن قيس وأبو موسى الأشعري وغيرهم، الذين كانت لديهم خلافات خفية مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فالأشعث بن قيس كان صهرا لعثمان بن عفان وكان واليا على أذربيجان في زمنه وخلعه علي بن أبي طالب عنها، وقائد التحكيم أبو موسى الأشعري الذي عزله الخليفة الرابع عن ولاية الكوفة ، ويكتب موضحا: "إن النشأة الأولى لفرقة الخوارج قد حدثت على يد كوكبة من "القراء"، أي حفظة القرآن، الذين أضافوا إلى حفظه زهداً وورعاً وتنسكاً. هؤلاء "القراء" كانوا "علماء" الأمة، قبل أن تعرف الحياة الفكرية "الفقه" و"الفقهاء". كان " القراء" "حفظة" للقرآن، لم يبلغ بهم العلم، بعد، إلى المدى الذي يجعلهم يغوصون إلى ما وراء ظواهر الآيات، وتلك سلبية لا بد أن تقعد بأهلها عن القدرة على السباحة في بحر السياسة والسياسيين…وكانت تغلب على جمهورهم "بداوة الأعراب"، فلا طاقة لهم بأن يروا استئثار قريش بالسلطة وامتيازاتها، بعد أن سوى الإسلام بين الناس.. وكان للقراء، الذين بدأت بهم فرقة الخوارج، دور ملحوظ في أحداث الثورة التي شبت ضد عثمان بن عفان.. وبعد مقتله كان هؤلاء "القراء" من أكثر أنصار علي بن أبي طالب حماسة لملاقاة خصومه، واستئصال شأفة القوى التي تريد مناوأة الخليفة الذي اختاره الثوار، وبايعه جمهور المسلمين.. وأثناء أحداث الصراع الذي دار بين علي ومعاوية على أرض "صفين"، لم يكن يخالج هؤلاء "القراء" أي شك في أنهم على الحق.. لكن هذا الوضوح الفكري حاسما لدى هؤلاء "القراء"، لكنه لم يكن كذلك عند أنصار علي من "أشراف" العراق، أولئك الذين مالوا مع الدنيا إلى صفوف معاوية، وعبرت عن ازدواجية موقفهم تلك العبارة الشهيرة الساخرة التي أنبأتنا بأنهم: كانوا يصلون خلف علي، ويأكلون على مائدة معاوية؟ ! لأن الصلاة خلف علي أسلم، والطعام على مائدة معاوية أدسم!!".
 بل إنّ حسين مروّة يفرد في كتابه (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية – المجلد 2- دار الفارابي – ط2- بيروت 2008) فصلا خاصاً للخوارج وحركتهم وله وجهة نظر فيها مؤكداً "كان أول شعار أعلنه الخوارج بعد حادث "التحكيم"، هو قولهم : الحكم لله لا للرجال. وهذا كان أول عنصر يبرز أساساً للعناصر الأخرى التي ستتكون منها نظريتهم…العنصر الثاني من عناصر نظريتهم، وهو أيضا يقع في الأساس من هذه النظرية، هو مفهومهم للإيمان. فقد تفردوا في تفسيرهم الإيمان، دون سائر المسلمين. فقد كان الإيمان، منذ عهد النبي حتى ذلك الوقت، يعني أولاً الاعتقاد الداخلي، ثم الإقرار به نطقاً باللسان. لكن الخوارج زادوا في هذا المفهوم عنصراً آخر، هو العمل الخارجي العضوي. فليس يكفي أن يضمر المرء اعتقاده ليكون مؤمناً، بل لا بد أن يتطابق الاعتقاد والعمل… فكل إنسان هو عندهم: إما مؤمن، وإما كافر، وليس هناك حالة ثالثة".
هذا الموقف الحدي والمتطرف والشمولي أوقع الخوارج أنفسهم في ورطة سياسية لأنه أوجب عليهم أنفسهم ضرورة الجهاد، لأنه إذا لم يجاهدوا فهم وفق منطقهم ليسوا بمؤمنين بلا هم كفار. ويعلق حسين مروة على ذلك : "التلازم بين النظرية والتطبيق": ذلك هو قوام مذهب الخوارج. وربما كان لهذه النظرة وجهها الايجابي مبدئياً. ولكنهم بالغوا بها كثيرا، حتى أوغلوا بسفك الدماء، وخرجوا بذلك عن خط الغاية، واستعبدتهم الوسيلة، فلم يروا غيرها، احتجبت عنهم الرؤية الحقيقية، رؤية ما هو أبعد وأولى من الوسيلة. ثم أنهم قد حصروا الوسيلة نفسها في شكل واحد أوحد، هو العنف الدموي". ورغم عقيدة العنف التي كانت تهيمن عليهم فان كتب التاريخ تحفظ لهم ميزة التسامح تجاه البسطاء من غير المسلمين، أي أنهم كانوا متحررين من عقدة التعصب ضد الديانات الأخرى وضد الأقوام الآخرين.
ويشير بعض الباحثين أمثال محمد عمارة وحسين مروة وغيرهم إلى أن جذور نظرية الخوارج الإيمانية كانت موجودة منذ الفتنة الكبرى ومقتل عثمان بن عفان، حيث بدأت حركة الجدل الفكري في مسألة "مرتكب الكبيرة"، لكنها لم تأخذ مجالها النظري في نطاق مفهوم الإيمان ألا مع ظهور الخوارج، فهم أول من حاول التنظير لهذه المسألة التي صارت أحدى المحركات الأولى للنشاط الفكري في أواخر القرن السابع. ويؤكد حسين مروة هنا إلى : "إن انشغال الحركة الفكرية في ذلك الحين بمسألة مرتكب الكبيرة، ثم بمفهوم الإيمان، كان مصدره بالأصل اختلاف المواقف السياسية في حلبة الصراع حول الخلافة، لاسيما اختلاف المواقف تجاه علي ومعاوية… فقد قالوا إن الخليفة يمكن أن يكون غير هاشمي وغير قرشي، بل يمكن أن يكون أن يتولى الخلافة عبد حبشي، فهو حق للأمة، وهي تختار من يكون جديرا بحمل الأمانة والرعاية لمصالح المسلمين مهما كان انتسابه القبلي والجنسي والطبقي". بل أن د. محمد عمارة يذكر: "إن منهم من أجاز تولي المرأة لمنصب الإمامة العظمى، ووضع هذا موضع التطبيق".
والحقيقة أن الإشارة إلى "ديموقراطية" الخوارج لأنهم رفضوا أن تكون الخلافة محصورة في بني هاشم أو في قريش بالتحديد مشكوك فيها، لأن بعض الباحثين يشكون في الحديث المنسوب للنبي "الأيمة من قريش"، لأن هذا الحديث غير موثق ودليلهم على ذلك صراع سقيفة بني ساعده وخبر البيعة، لأن جميع كتب التاريخ التي روت تفاصيل ما جرى في السقيفة وتبادل الحجج والجدل بين المتخاصمين من قريش والأنصار لم يذكروا بان لو كان هذا الحديث موجودا ومعروفا لكان أبو بكر وعمر قد احتجا به ضد الأنصار. ويتوسع من بين الباحثين المعاصرين محمد عابد الجابري لهذا التفصيل التاريخي بصدد حصر الخلافة في قريش، حينما يكتب: "الأمر اللافت للانتباه هو أنه لا واحد من المهاجرين، لا أبو بكر ولا عمر ولا أبو عبيدة ولا غيرهم، احتج بالحديث الذي سٌنسب إلى الرسول (ص) باللفظ "الأيمة من قريش" والذي يحتج به "أهل السنة والجماعة" والأشاعرة من بعدهم، وهم الذين جعلوا القرشية من شروط الأهلية للخلافة استناداً على الحديث المذكور. وأنه لمما يثير الاستغراب حقاً أن يعمد أبو بكر وعمر، كلاهما، إلى التأكيد على مكانة قريش والاحتجاج لأحقية المهاجرين في خلافة النبي بكون العرب لا تقبل أن يسود عليها غير قرشي، ثم لا يذكر أي منهم هذا الحديث، مع أنه أقوى الحجج ضد الأنصار، إذ الأنصار ليسوا من قريش وبالتالي فلا حق لهم في الخلافة بنص ديني". ويشير بعض الباحثين بأن معاوية بن أبي سفيان كان وراء وضع هذا الحديث النبوي من أجل أن يعزز شرعية حكمه، ويسد الطريق على اليمانيين والموالي والخوارج وغيرهم.
 ومن هنا يحاول العديد من الباحثين المعاصرين عند دراستهم وبحثهم في التراث أن يوجدوا أشياء غير موجودة فيه وإنما مبالغاتهم التي ما هي إلا تبريرات أيديولوجية في معظم الأحيان، ومنها محاولة إضفاء نزعة إنسانية وديموقراطية لحركة الخوارج، على الأقل في لحظة تشكلها التي كانت رد فعل عسكري وسياسي على خديعة معاوية برفع المصاحف، والتي قادها أشخاص لديهم مآرب خاصة، لكن القراء من ذوي الجباه السود انجروا خلفهم، وليس في الفترات اللاحقة حيث تعمقت فكريا والتحق بها عدد من الشعراء المعروفين أمثال قطري بن الفجاءة وعبد الله قيس الرقيات.
ربما نجد في طروحات الخوارج فيما يخص الإمامة التي تعتمد على (الاختيار والبيعة) لنصب الإمام محاولة لتغليب الإرادة الفردية للإنسان على الإقرار بأنها شأن سماوي تم تحديده سلفا كما يقر الشيعة، كما أنهم اختلفوا في اعتبار الإمامة من الفروع وليس من أصول الدين، كما لدى الشيعة، لأن مصدرها لديهم هو "الرأي" وليس "الكتاب" أو "السنة". أما في قضية (العدل الإلهي) فقد نفى الخوارج "الجور" عن الله، فالإنسان يقوم بما قدر له بنفسه، وبالتالي فمسئوليته متحققة عن فعله هذا.
 لكن الحركة الفكرية التي بدأتها طروحات الخوارج هل كانت لوحدها المحرك لكل الجدل الفكري الذي قام لاحقا، لا اعتقد ذلك، فهناك أسباب أخرى تمتد لأبعد من الفتنة، ولها علاقة بالفتوحات الإسلامية منذ زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وكذلك اتساعها في الفترة الأموية، والذي وضع الشريعة الإسلامية أما المحك في التطبيق على الشعوب الأخرى، والتبادل الفكري مع الثقافات والديانات والآداب الجديدة لتلك الشعوب التي خضعت لسلطة الخليفة العربي الإسلامي، والذي أثر بدوره في نشأة البحوث الكلامية، أي نشأة التفكير في القضايا الجديدة وصراع الآراء في مسألة التشريع. والذي أسس بدور لما يسمى لاحقا ب(علم الكلام) أو علم (أصول الدين) والذي سنتوقف عنده وقفة أطول لاحقا.

مشكلة القـــدر …
أول مشكلة تواجه الباحث في الفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية هي أن التدوين لم يبدأ إلا مع العباسيين الأوائل، حوالي 140 للهجرة، وهذا التدوين بدوره لم يكن تأليفا وإنما اعتمد على روايات شفوية، فإلى أي حد يمكن أن نصدق هذه الروايات وما هو تسلسلها الزمني، ومصداقيتها. لاسيما وان ما بين بعض الأحداث وزم التدوين حوالي قرن من الزمان. وهذا ينعكس على مصادر بحثنا عن بدايات النظر بمسائل الاختيار والجبر في الثقافة الإسلامية، حيث يعود الكثير من الباحثين بها إلى حرب صفين، وبالتحديد إلى معاوية بن أبي سفيان الذي أراد أن يبرر حربه ضد الخليفة الرابع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، بان الله هو الذي قدر هذه الحرب، وهو ما جاء في خطبته التي يذكرها (ابن أبي الحديد) في (شرح نهج البلاغة) حيث يقول: ( وقد كان من قضاء الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه البقعة من الأرض، ولفت بيننا وبين أهل العراق، فنحن من الله بمنظر، وقد قال سبحانه وتعالى: " ولو شاء الله ما اقتتلوا. ولكن الله يفعل ما يريد "). وهذا ما دفع (محمد عابد الجابري) إلى اعتبار معاوية بن أبي سفيان أو ل من طرح مسألة (الجبر) مؤسسا بذلك أيديولوجيا (الجبر الإلهي) التي صارت فلسفة الأمويين من أجل تبرير حكمهم، فهو يكتب في (نقد العقل العربي ج3 – العقل الأخلاقي العربي) ما يلي: (لقد جعل معاوية ورجاله وخلفاؤه من بعده من الجبر عقيدة تبرر سياستهم وتسقط المسئولية عنهم، فكان لا بد أن يثير ذلك ردود فعل فكرية من أولئك الذي اختاروا المعارضة السياسية على الانزلاق مع إيديولوجيا " التكفير" التي تبناها الخوارج أو مع مثيولوجيا الإمامة التي حاكها الذين رفعوا راية التشيع لعلي وآل بيته. هذه المعارضة الفكرية هي التي كانت منطلق " الحركة التنويرية " التي طرحت في وقت مبكر مسألة حرية الاختيار وبالتالي المسئولية. لقد أطلق الأمويون والمناصرون لهم على هذه الحركة اسم " القدرية "(من القدر بمعنى القدرة، وليس بمعنى الجبر) لكونهم قالوا بقدرة الإنسان على " خلق أفعاله " وبالتالي بتحميله مسئولية ما يفعل. وهذا موجه إلى الأمويين بصفة خاصة. تذكر مصادرنا التاريخية أن " معبد الجهني " و " غيلان الدمشقي " كانا من أوائل من نادوا ب " القدر " بهذا المعنى. لقد كانا من رواد المعارضة الفكرية التي حمّلت الأمويين مسؤولية أعمالهم وما يترتب عنها من جزاء. كما تذكر المصادر أن الحسن البصري كان على رأس هذه المعارضة الفكرية التي استندت إلى الدين).
هناك بعض الباحثين يرون أن الأمر يعود إلى من حرب صفين والخوارج ومعاوية، بل أن هناك من يرى بان مسألة القدر أثيرت حتى في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وفيما بعد كان تحت تأثير أجنبي، ومسيحي بالتحديد. حيث يروى (علي سامي النشار) في كتابه (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام)، كيف أن عمر بن الخطاب منع أحدهم، ويدعى عبدالله بن صبيغ، أن يخوض في مسألة (القدر). وهناك روايتان غير محققة تروى عن علي بن أبي طالب، أحدهما حينما سأله أحدهم عن القدر، وإجابة الإمام له، والتي تؤكد الإيمان بالجبرية المطلقة، والرواية الثانية حينما كان عائدا من صفين حينما سأله أحدهم أن كان مسيرهم من الشام بقضاء وقدر؟ وإجابة الإمام على ذلك بما يؤكد على مسئولية الإنسان عن أفعاله وإجابة الإمام علي الحاسمة: لعلك تظن قضاء واجباً وقدراً محتماً، ولو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، ولما كانت تأتي لائمة لمذنب ولا محمدة لمحسن، ولا كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء، ولا المسيء بعقوبة الذنب أولى من المحسن… إن الله تعالى أمر تخيراً، ونهى تحذيراً)، وهاتان الروايتان ذكرهما (ابن المرتضى) في كتابه (المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل) واعتمدهما أكثر من باحث معاصر، ويعلق (حسين مروة) على هاتين الروايتين بما يأتي: ( نلحظ فارقاً واضحا بين الصورتين في جواب علي. فهو في الصورة الأولى يؤكد الجبرية بإطلاقها، وفي الصورة الثانية يفسر القضاء والقدر تفسيرا ينفي الجبرية المطلقة ويدع مجالا لحرية الإنسان. وهذا الفارق بين الصورتين مما يثير الشك في روايتهما كلتيهما عن علي نفسه. ولكن ليس يعنينا هنا نقد الروايتين وتحقيقهما بقدر ما يعنينا دلالتهما على تفكير الناس منذ عهد الخلفاء الراشدين بمسألة القدر واستحواذ القلق بالاستفسار والإلحاح في السؤال والنقاش).
العديد من الباحثين والمفكرين العرب يؤكدون بأن (معبد الجهني) و(غيلان الدمشقي) كانا من أوائل من نادوا ب" القدر". وهناك من يضيف إليهما (جعد بن درهم)، (الجهم بن صفوان)، (عمرو المقصوص) و(الحسن البصري). ويذكر (ابن سعد) في (الطبقات الكبرى) : ( بأن معبداً الجهني هو أول من قال بالقدر، وأنه أخذ ذلك عن رجل نصراني يدعى سنهويه كان قد أسلم ثم تنصر أو تأثر به). بل أن (يوسف زيدان) يشير في كتابه (اللاهوت العربي) بأن آباء علم الكلام، المؤسسين الأوائل الكبار كانوا مرتبطين بالتراث المسيحي السابق عليهم ارتباطا قوياً. وسنتوقف عند كل منهم فيما بعد.

التأثير المسيحي في الفكر الإسلامي:
وقد كان للمستشرقين الأوربيين مساهمة في البحث حيث أكد (هاري ولفسون) في بحثه (فلسفة المتكلمين ترجمة: مصطفى لبيب – المشروع القومي للترجمة – القاهرة – 2005) باحثا ومستعرضا في مسألة تأثير المسيحية في الفكر الإسلامي، وبالتحديد في مسألة الحرية والاختيار، والصفات الإلهية، وخلق القرآن، وهي أهم أعمدة الجل الفكري الإسلامي، مؤكدا وجود مثل هذا التأثر والتأثير حينما يؤكد: (إن كل ما قُدم حتى الآن دليلاٍ على التأثير المسيحي في هذه المشكلات الثلاث (الجبر والاختيار، الصفات الإلهية، خلق القرآن) على نحو ما وُجد في الإسلام عند القدريين، هو من أثر التعاليم المسيحية، وأن إنكار الصفات على نحو ما نجده عند المعتزلة، يمكن أن يظهر على أنه رأي يحيى الدمشقي، أو رأي الآباء على وجه العموم، وأن الاعتقاد الإسلامي بقدم القرآن، مشابه للاعتقاد المسيحي بقدم اللوغوس).
أما المستشرق (ت. ج. دي بور) في كتابه (تاريخ الفلسفة الإسلامية – القاهرة 1954 ) في بحثه عن كيفية نشأة التفكير الفلسفي عند المسلمين يؤكد بأن الباحثين المتأخرين، من شرقيين وغربيين، يتخذون من هذه المسألة موقفاً وحيد الجانب في أنه يرجع إلى عوامل خارجية خالصة ناكراً وجود عقائد إسلامية جاء بها القرآن، من حيث: (إن القرآن جاء المسلمين بدين ولم يجئهم بنظريات، وتلقوا أحكاماً لكنهم لم يتلقوا فيه عقائد.. وأنه بعد أن فتح المسلمون بلاد غيرهم وجدوا أمامهم علم عقائد نصرانيا متكامل البناء، كما وجدوا أمامهم مذاهب أصحاب زرادشت ومذاهب البراهمة… وهناك دلائل متفرقة على أن طائفة من المسلمين الأولين الذين قالوا بالاختيار كان لهم أساتذة من النصارى. ثم جاءت عناصر فلسفية محضة من المذاهب الغنوصية، أولا، ومما تُرجم من الكتب بعد ذلك، وتضافرت مع المؤثرات النصرانية المصطبغة بالفلسفة اليونانية في دورها الشرقي الأخير).
أما (عبد الرحمن بدوي) في كتابه (مذاهب الإسلاميين) فيرى غير ذلك: ( إن من الممكن أن يكون قد حدث تأثير من اللاهوتيين المسيحيين في دمشق في بعض المتكلمين في العقائد الدينية من المسلمين. ولكن ليس لدينا بعدُ الدليل الوثيق الكتابي على هذا التأثير. وكل ما يمكن أن يقال هو أن هذا التأثير – إن صح وقوعه – قد تم في المجادلات الدينية بين اللاهوتيين المسيحيين والمتكلمين المسلمين في دمشق لأول مرة. وإن كان يُضعف كثيراً من هذا الرأي أن مشكلة حرية الإرادة لم تكن في ذلك الوقت من المسائل البارزة في المناقشات اللاهوتية المسيحية. فلماذا كانت هي بالذات مصدر التأثير؟!).
أما (يوسف زيدان) فانه في كتابه (اللاهوت العربي) أن يفسر هذا الجدل حول التأثر والتأثير بين التراث المسيحي في وعلم الكلام الإسلامي بما يأتي: ( أولا: لم يستطع هؤلاء الباحثون الكبار، مقاومةَ إغواء المقارنة بين التراث الفكر الكنَسي من جهة، والنظريات الكلامية المكتملة أو الناضجة من الجهة الأخرى. فكانوا دوما يسارعون إلى النظر في الرؤى الكلامية، بعدما صيغت هذه الرؤى على هيئة نظريات كلامية كاملة، عند المعتزلة والأشاعرة، حتى يسهل عليهم فصل بعض مكوناتها، ورصد التشابه بين هذه المكونات وبين مفردات الفكر الكنسي للمسيحية الذي كان تراثه قد تشكل عبر قرون طوال من الزمان. ثانياً : فل الباحثون عن حقائق مهمة، تاريخية، منها أن علم الكلام الذي ظهرت بواكيره في القرن الهجري الأول، إنما نشأ بمنطقة الشام والعراق المسماة، اعتباطاً، بمنطقة المسيحية الشرقية. وأن (المسلمين) و(العرب) و(المسيحيين) هي دوائر متداخلة، وأن المسلمين الذين ظهر فيهم علم الكلام في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، كان تسعون بالمائة منهم على الأقل، هم العرب الذين كانوا قبلها بسنوات، مسيحيين يتبعون مذاهب مختلفة، أرثوذوكسية وغير أرثوذوكسية، أي هرطوقية ! فالإسلام جاء بعرب قريش من قلب الجزيرة ليضعهم في سُدة الحكم. أما المحكومون الذين هم الغالبية العظمى من مسلمي الشام والعراق، فكانوا من العرب الذين دانوا من قبلُ بالمسيحية، ثم صاروا تدريجيا أو على دفعات كبيرة، مسلمين. ومن ثم، فقد تغير الدين في نفوس هؤلاء الداخلين " في دين الله أفواجاً" (النصر – آية 2) بضربة واحدة، هي إعلان الشهادة والالتزامُ بقواعد الإسلام. ولكن لم يكن من الممكن أن تتغير الثقافة التي ظلت سائدة فيهم قروناً، بضربة (فتح) واحدة، مثلما هو الحال في التغيرات السياسية للمنطقة إثر الفتوحات والغزوات).
وبعيداً عن هذه الطروحات التي تؤكد التأثيرات المسيحية هناك من فريق يؤكد على أصالة التفكير الفلسفي العربي الإسلامي من حيث انه يخضع للقواعد النظرية العامة التي يخضع لها الفكر الإنساني في سعيه إلى (اليقين) إلا وهي ضرورة مروره بالمراحل الثلاث التالية: التصديق المطلق، التشكك الباطني، ثم الاقتناع العقلي، وتطبيقا على الفكر الإسلامي فنجد المسار الداخلي للفكر الإسلامي من القبول بالمدلول الحرفي للآيات القرآنية، مرورا بالشك في مدى ما فهموه منها ومراجعة النظر في النص والتأمل في سائر جوانبه المحتملة، وأخيرا الاستقرار على رأي يقود إلى يقين عقلي يؤسس لموقف.
وهناك فريق ثالث يقترب من بعض جوانب الفريق الثاني لكنه يختلف عنه في جوانب أخرى، فهم يؤكدون بأن أمر العقائد كان في فترة الخلفاء الراشدين مثلما كانت عليه في الفترة النبوية، إلا أن النبي لم يكن ينطق عن الهوى، وهو ليس بمفكر أو فيلسوف وإنما نبي، يرافقه الوحي، وبالتالي كل ما يصدر عنه لا يقبل النقاش، بل هو كان القياس لتقويم أي حكم أو رسم أي شريعة، بينما حدث في زمن الخلفاء خلاف في أمور كثيرة، بدءاً من سقيفة بني ساعده، وبلغت ذروتها في السنوات الست الأخيرة من حكم عثمان، وانتهت بمقتل الإمام علي بن أبي طالب، لكنها بعد ذلك فتحت الباب على مصراعيه أمام رياح الفكر التي تحولت إلى عواصف في بعض المراحل التاريخية، تشكلت منها المذاهب والفرق والملل والنحل. لكن أساسها كان مشكلة القدر ومسئولية الإنسان عن أفعاله، وصفات الذات الإلهية والتشبيه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق