الخميس، 19 يوليو 2012

قراءة في كتاب "الإسلام البدوي" لمحسن التليلي 
























تكتسب دراسة التشكيلات الاجتماعية في المجتمعات العربية أهمّية كبيرة في فهم مكوّنات هذه المجتمعات والعوامل الموضوعية المسبّبة لإعاقتها أو تخلّفها. وتعاني الدراسات والأبحاث الاجتماعية العربية من نقص في هذا الميدان، حيث تجنح معظم الدراسات إلى اعتماد النظرة الكلية والشمولية لحال المجتمعات العربية، على حساب الدراسات الجزئية والتفصيلية التي تغوص في أعماق البنى والتشكيلات، بما يسمح بإعطاء صورة أوفى عن مجمل التناقضات والمفاهيم السائدة. من هذه الثغرات الفادحة تلك المتعلّقة بتشكيلات المجتمعات البدوية التي لا تزال تحتل حيزًا فعلياً في البنى الاجتماعية السائدة. ورغم أنّ الدين الإسلاميّ يعود في جذوره ونشأته إلى الحياة البدوية التي كانت، ومازالت، تشكّل أساساً في الحاضنة الإسلامية في الجزيرة العربية، إلاّ أنّ حجم الدراسات لا يتناسب مطلقاً مع ما مثلته الحياة البدوية في التاريخ الإسلاميّ في مراحله الأولى.

يشكّل كتاب محسن التليلي "الإسلام البدويّ، إسلام الطوارق نموذجاً" إحدى المساهمات الجادّة في إعادة تسليط الضوء على هذه التشكيلة الاجتماعية في العالم العربيّ، حيث شمل كتابه تقديم معطيات فعلية عن البداوة، وذلك كمقدّمة لا بدّ منها لقراءة نمط الدين الخاص لتلك الفئة، وما يتّصف به من مميّزات قياساً على التديّن في سائر المجتمعات الإسلامية. نشر الكتاب ضمن سلسلة "الإسلام واحدًا ومتعدّدًا" التي يشرف عليها الدكتور عبد المجيد الشرفي، وأصدرته "دار الطليعة" في بيروت بالاشتراك مع "رابطة العقلانيين العرب".
قد يعود عدم الاهتمام بالمجتمعات البدوية إلى "السمعة السيّئة" التي رافقت هذه الفئة من الشعوب العربية في علاقتها بالدين الجديد ونبيّه في الآن نفسه، حيث وصفها القرآن سلباً عندما نزلت الآية التالية بحقّهم :"الأعراب أشدّ كفرًا ونفاقاً وأجدر ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم" (التوبة :9/57). أتى نزول الآية جواباً عن رفض البدو للدعوة المحمدية والتزام ما تتطلّبه من إعادة قوننة حياتهم وطبيعة معيشتهم. فالبدو قبائل وشعوب تمثّل لها الحرية المطلقة في التصرّف والعيش جوهر وجودها وكينونتها، فهي مالكة الأرض أينما حلت، كما يرى البدوي الطبيعة بأكملها تحت ظله، ولا قيود تحدّ من حركته في إقامته وترحاله. رأى البدويّ في الإسلام نظاماً اجتماعياً وقانونياً يقوم على تغيير نمط حياته السائدة نحو إخضاعه لسلطة حاكم، وإلزامه بدفع الزكاة وطاعة الشريعة بكلّ موجباتها في الصوم والصلاة.. ناهيك بتعرّضه إلى الكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية التي اعتاد البدويّ ممارستها بوصفها قواعد حياة وسلوكا خاصّا منه وعامّا. لكنّ الدعوة الإسلامية التي انطلقت من مجتمع تهيمن فيه البداوة، أمكن لها بوسائل متعدّدة، منها الدعوة بالإقناع، ومنها استخدام القوّة، من اختراق المجتمعات البدوية وفرض الدين الجديد على أقسام واسعة من أبنائها.
رغم وجود مجتمعات بدوية "تحنّ" إلى ماض سحيق، إلاّ أنه من الواضح أنّ الإسلام استطاع أن يمحو الكثير من مظاهر الحياة البدوية على امتداد تاريخه، من خلال تكوين المراكز الحضرية التي ساهمت في تراجع البداوة واستقطاب الكثير من أبنائها إلى رحاب الدين الجديد. كما ساهمت التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ضرب الكثير من نمط حياة البدو واقتصادهم وتراتبية سلطتهم، بما جعل هذا النمط من التشكيلات الاجتماعية يقع خارج سياق التطوّر التاريخيّ، بل كنوع من الأنماط الشاذّة قياساً على ما باتت المجتمعات العربية تحويه من قواعد وأسس وقوانين وثقافة وعادات وتقاليد.. تحكم نمط حياة المجتمعات العربية.
يقدّم الكاتب لوحة اجتماعية سياسية عن البداوة السائدة، فهي جغرافياً، تتمركز بشكل أساسيّ في الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام. أمّا واقعها الحياتيّ، فتحكمه درجة التقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافيّ الذي ما زال يعاني من نقص فادح بالقياس إلى ما حصلته سائر المجتمعات العربية في سياق تطورها التاريخي. نجم عن ذلك أنّ البدويّ يتميّز بصفات شخصية تتّسم بالقوّة والقسوة، وبالتضامن القويّ بين أبناء مجتمعه، وهي صفات تفرضها الطبيعة الجغرافية القاسية لموطن البدويّ المقيم في الصحارى والأماكن البعيدة عن المراكز الحضرية. يفرض هذا الوضع نمطاً من "نظام اقتصاديّ" أساسه الغزو والنهب وسيلة لكسب العيش، وفي هذا المجال ينظر إلى هذه العملية بوصفها من المسائل "النبيلة" بالنسبة للبدويّ، خلافاً للنظرة القيمية السلبية والرافضة لها من جانب المجتمعات غير البدوية. يضاف إلى ذلك، أنّ المجتمعات البدوية تحوي نسبة كبيرة جدًا من الأمية وغير المتعلمين في جميع الفئات التي تتكوّن منها.
انعكست درجة التقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافيّ على نوع التديّن الذي التزمه البدويّ، وعلى نمط من الإسلام متوافق مع طبيعة معتقداته ونظراته إلى الطبيعة والحياة. لم يتسنّ للبدويّ سوى الحصول على تعليم دينيّ بسيط بالنظر إلى بعده الجغرافي وانتشار الأمية، ويعتبر الفضاء الديني مجال ممارسته لفرائضه، بحيث يصعب عليه الالتزام بمكان محدّد للصلاة، لأنّ كلّ الفضاءات هي مساجده. يعيش حياة ملؤها التقشّف والحرمان، ويرتبط المفهوم الدينيّ لديه بالخرافات وما تقوم عليه من اعتقاد بوجود الجنّ والأرواح والعفاريت. ولمواجهة الكوارث الطبيعة وصعوبة الحياة التي يعيش، يعتمد السحر وسيلة للسيطرة عليها. لذا كان من الطبيعيّ أن يمتزج مفهوم السلطة الدينية لدى البدويّ مع أعمال السحر والشعوذة والممارسات الخارقة.
سلط الكاتب الضوء على أكبر وأهمّ التشكيلات البدوية التي لا تزال قائمة في العصر الحديث في بعض المجتمعات العربية، أي قبائل "الطوارق" التي تعيش في معظمها في الصحراء الإفريقية. فرغم التحوّلات التاريخية التي شهدتها هذه المنظومة من البداوة على امتداد التاريخ الإسلامي، إلاّ أنها لا تزال تحتفظ بالكثير من مقوّمات ثقافتها ونظمها، والتي تدهشنا بأنّ بعضها يمثّل واقعاً متقدّماً بكثير عن المجتمعات التي دخلها الإسلام وفرض بموجبها نظماً وقوانين لا تمتّ إلى التقدّم والحضارة بمقدار ما تعطي صورة سلبية عن الإسلام وتعاليمه، خصوصاً في المسائل المتصلة بنمط الحياة اليومية. لكون مجتمع "الطوارق" يعطي موقعاً مركزياً للنظام الاجتماعي والأسريّ القائم على أولوية الأمومة، فينعكس هذا النظام على موقع المرأة لجهة تميّزها على الرجل، وعلى الحقّ في الاختلاط، ونبذ تعدّد الزوجات، وعدم إيلاء أهمية للحجاب، إضافة إلى احترام فائق تتمتع به المرأة في إبداء الرأي وممارسة السلطة، وهي أمور متقدّمة جدًا على ما تشهده المجتمعات الإسلامية بعد خمسة عشر قرناً على قيام الدعوة.
يظلّ الإسلام البدويّ تعبيرًا عن مرحلة من التطوّر التاريخيّ لمنظومة اجتماعية، دخل عليها الإسلام فأحدث تحوّلات في بناها، لكنها في المقابل أدخلت الإسلام أيضاً إلى ثقافتها وجعلته متوافقاً مع نمط العادات والتقاليد والثقافة السائدة لديها. لكنّ المعاني التي يقدّمها كتاب "الإسلام البدوي" تدفع بنا إلى رؤية مفارقة واضحة في دلالاتها المجتمعية. فإذا كانت النظرة العربية العامّة ترى في المجتمعات البدوية مرحلة من التأخّر العربيّ، فإنّ واقع المجتمعات العربية سائر اليوم في طريق التفسّخ إلى مكوّنات ما قبل الدولة وعودة العصبيات العشائرية والقبلية والطائفية، مما يضع هذه المجتمعات على شفير حروب أهلية، منها ما هو قائم اليوم في أكثر من مجتمع عربيّ، ومنها ما ينتظر دوره. فما يجري في هذه المجتمعات العربية من عمليات ارتداد عمّا حصّلته من حداثة وتحديث، يجعلها في الواقع أقرب إلى المجتمعات البدوية التي تضعها في درك السلم الاجتماعي. وهكذا يسير مسار التطوّر الاجتماعي العربي بصورة معاكسة لمنطق التاريخ، فبديلا من الارتفاع بالمجتمعات البدوية وقيادتها إلى التحضّر والتمدّن، فإنّ المجتمعات العربية تسير نحو "البدونة" في أقصى درجات تأخّرها وتخلّفها.

خالد غاوش

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق