الخميس، 5 يوليو 2012

لا يزال أقطاب النهضة العربية من القرن التاسع عشر إلى الربع الأوّل من القرن العشرين مصدر دراسة وتحقيق واختلاف في وجهات النظر تجاه ما قدّموه وما قالوا به، تتنوّع المعالجات على خلفية سياسيّة وإيديولوجية وتستخدم مفاهيم ومنظومات فكرية في قراءة أفكارهم والموقف منها سواء كان سلبا أم ايجابا.
نظر دارسون وتيارات سياسيّة إلى مفكّري النهضة خصوصا المسلمين منهم بوصفهم أداة مؤامرة استعمارية تهدف إلى تقويض الخلافة الإسلامية وإقامة أنظمة علمانية، وهي وجهة نظر تعزّزت بقوّة في أعقاب إنهاء الخلافة.
وذهبت مواقف أخرى اتسمت بصبغة ايديولوجية رأت في أفكار النهضة النموذج الذي يجب ان يستلهمه العالم العربي والإسلامي سبيلا للخروج من اسار التخلف، وهي وجهة نظر لا تزال تحظى حتى اليوم باهتمام وجدية على رغم الفاصل الزمني الممتد الى قرن من الزمان.
كما ذهبت منظومة فكرية الى قراءة "اسقاطية" ترى العجز وعدم الصلاحية لفكر النهضة لانه لم يتمكن من تمثل الحالة الإصلاحيّة الأوروبية وبقي أسير الفكر الديني، وهي نظرة تنقصها القراءة التاريخية والموضعية لواقع وظروف فكر النهضة والبيئة التي نشأ فيها. كما ترى وجهة نظر أخرى أهمّية قراءة فكر النهضة وممثليه دون عدمية أو تضخيم وبالعلاقة مع التطوّر الاقتصادي والاجتماعيّ والسياسيّ الذي نشأ فيه وبالتالي حدود هذا الفكر. يشكّل كتاب جيهان عامر "إسلام المصلحين" وجهة نظر في قراءة وتقييم فكر النهضة من خلال عدد من اقطابه، وهي وجهة في النظر تستدعي نقاشا فعليا للطروحات التي تقدّمها. نشر الكتاب في سلسلة "الإسلام واحدا ومتعدّدا" التي يشرف عليها الدكتور عبد المجيد الشرفي، وأصدرته "رابطة العقلانيين العرب" و"دار الطليعة" في بيروت.
تضع عامر الإطار العام لنشوء فكر النهضة فتربطه بجملة عوامل أهمّها انتشار المفاهيم الغربية ذات المنحى الليبرالي والإصلاحيّ، وهو تأثير أتى نتيجة احتكاك العالم العربي والإسلاميّ بالغرب الذي سبق له أن فرض على السلطنة العثمانية مجموعة إصلاحات مكنته من ممارسة دور مؤثّر في جميع الميادين. كما أتى فكر الإصلاح في سياق الصراع السياسيّ وسعي المجتمعات الخاضعة للاستبداد العثماني إلى التخلّص من هذه الهيمنة، مما عنى نشوء أحزاب وتنظيمات سياسيّة مناهضة للعثمانيين وحاجة هذه الأحزاب إلى فكر سياسيّ يرشدها في ممارستها. كما انطلق الفكر الإصلاحيّ من اعتبار البعد الديني عنصرا مقررا في هذا الإصلاح، وهو أمر اكتسب أهمّية جوهرية لكون هذا البعد كان يشكّل إطار السيطرة السياسيّة والفكرية على المجتمعات العربية، وهو ما كان همّا مشتركا لدى مفكّري الإصلاح الذين رأوا في هذا المدخل أحد الشروط الضرورية لمهمتهم الهادفة الى نقل هذه المجتمعات من التخلّف نحو اللحاق بركب التقدّم وبالتالي مواكبة العصر.
تعرض عامر لأهمّ الطروحات التي قال بها روّاد الإصلاح، فخير الدين التونسي سعى إلى التوفيق بين المثال الغربي والدّين الإسلاميّ، ولم ير في الشريعة الإسلامية عائقا للوصول إلى توليفة تجمع بين ما يقدّمه الفكر الغربيّ من أفكار إصلاحيّة وما يمكن للإسلام أن يواكبه ويتفاعل معه في هذا الفكر دون الوصول إلى تناقض بين الاثنين. ينحو رفاعة الطهطاوي نفس المنحى تقريبا فيرى ضرورة تحقيق التمدن والتقدم في البلاد العربية والإسلامية، وهو أمر يتحقّق من خلال اقتباس شرط التقدّم الأوروبي إنما بما يتماشى مع الثقافة الإسلامية التي لا بدّ من تشذيب الشوائب منها بما يجعلها متلائمة مع طروحات الأفكار الليبرالية الغربية. أمّا جمال الدين الأفغاني الذي ينظر اليه بوصفه رمز الإصلاح الحديث ورائد النهضة، فإنّه ينطلق في طروحاته من العوامل السياسيّة بوصفها نقطة انطلاق مشروعه الإصلاحيّ، وهو أمر مرتبط لديه بمعاداة الاحتلال الأجنبي وتدخّله في شؤون المجتمعات العربية، فاعتبر أنّ أهمّية المصلح تتحدّد بمقدار ما تقدّم أفكاره من خدمة للشعب. لكنّ مشروع الأفغاني ظلّ أسير النظرة التي تعتبر أنّ الدين الإسلاميّ لا يزال يشكّل الشرط الوحيد الذي يمكن عبره استرجاع ذلك المجد الغابر للدول الإسلامية، والذي يمكنها من مواجهة الغرب الاستعماري. لذلك اتخذت دعوة الأفغاني منحى أشبه بـ"الحزبية" الحديثة لجهة ربط الإصلاح وترجمته عمليا من خلال إيجاد الأطر التنظيمية اللازمة له، وترجم ذلك بدعوته إلى قيام "الجامعة الإسلامية" التي تهدف الى تجميع واتحاد جميع الشعوب التي تعيش في كنف الإسلام وتلتزم عقيدته.
خطا محمد عبده خطوات متقدمة في طروحاته الإصلاحيّة، فذهب بعيدا في القول بفصل الدين عن السياسة واقترب من القول بانعدام وجود الدولة السياسيّة في الإسلام، واتخذ لنفسه منهجا مختلفا عن المناهج التقليدية في تفسير القرآن بكلّ ما يعنيه من تنقية العمل التفسيري وإزالة ما علق به من الخرافات.
كما اعتبر عبده أنّ إصلاح التعليم يشكّل مدخلا للإصلاح العام، وانّ إصلاح التعليم لا بدّ أن يمرّ عبر إصلاح المناهج في الأزهر وتجديده بما يتوافق مع مستجدّات العصر والأفكار التحررية التي بدأت تغزو العالم العربي والإسلامي. هكذا ركزت أفكاره الإصلاحيّة على الدعوة الى الحرية الشخصية والسياسيّة كوسيلة أساسية في الوقوف امام الهجمات الفكرية للغرب على العالم الإسلامي. أمّا عبد الرحمن الكواكبي فقد هيمنت الوجهة السياسيّة على أفكاره الإصلاحيّة، فاعتبر أن مشكلة الشعوب العربية الإسلامية المهزومة حضاريا تعود في جوهرها الى سبب أساسيّ إن لم يكن وحيدا ألا وهو الاستبداد، وهو في واقعه استبداد سياسيّ ودينيّ. لذا تصاعد في دعوته الإصلاحيّة إلى الفصل الصريح بين الدين والدولة، بل ذهب الى القول ببطلان الدولة الدينيية. كما رأى الكواكبي أنّ العلم سيلعب دورا مهما في تقدم مجتمعاتنا لما يتسبب به من تحرير للعقل وإقامة مجتمع الحرية والعدالة والشورى. ويكمل الكواكبي بالحسم ان إصلاح الدين وإعادته إلى مكانه بعيدا عن السياسة هو أهمّ الوسائل للخلاص من الاستبداد والخروج من إساره.
ينطلق محمد رشيد رضا من التعلّق بالشريعة الإسلامية والاعتماد على المبادئ التي يرى انها العامل الرئيسي في مجد العالم الإسلامي في سالف الزمن، وبالتالي ضرورة العودة الى التراث الإسلاميّ العربيّ وإحياء الثقافة العربية. ويعتبر رضا أنّ القرآن يظلّ المرجع المركزيّ بل الوحيد في أيّ إصلاح مرتجى، ويكمل بالقول إنّ "النصوص التأسيسية المقدسة وشبه المقدسة" تمثل أصولا ثابتة يجب استلهامها في أيّ طروحات إصلاحيّة.
يذهب علي عبد الرازق أبعد من أسلافه بالجزم على انعدام وجود الخلافة في الإسلام وان الإسلام في حقيقته رسالة وليس حكما. "فالإسلام لم يحدد نظاما معينا للحكم، وإنّ الخلافة ليست جزءا ضروريا من الدين الإسلاميّ، فلا القرآن ولا السنة نصّا عليها، ولا الإجماع انعقد عليها، كما أنّ وجودها التاريخيّ لا يعني ضرورة استمرارها" على ما جاء في كتاب عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم". في المقابل احتلت قضية حقوق المرأة ودورها الاجتماعيّ موقعا في فكر الإصلاح وتوجهاته، فركز قاسم أمين على حقوق المرأة ودعا الى المساواة بين المرأة والرجل، وأولى تعليم البنات أهمّية كبرى في تقدم المجتمعات الإسلامية وإزالة الكثير من مظاهر التخلف عنها. ونحا الطاهر حداد في الوجهة نفسها فطالب بتغيير وضع المرأة بما يتلاءم وضرورات تقدم المجتمعات الإسلامية، واعتبر أنّ بالإمكان إيجاد مواءمة بين الشريعة بعد إصلاحها وبين التقدّم متعدّد الأوجه.
في قراءتها للمشاريع الإصلاحيّة، كبيرها وصغيرها، سلطت جيهان عامر سيف النقد "الصارم" على هذه المشاريع وأصحابها، فتساءلت بداية عن المدى الذي امكن فيه للفكر الإصلاحيّ أن يحقق النهضة التي سعى إليها، وعن القطيعة المنهجية التي أمكنه القيام بها عن الفكر التقليدي، لتذهب أبعد في وصف النهضة العربية بأنّها "كانت حركة فكرية وقعت بين ضرورة التكيف مع الحضارة الغربية وضرورة الوفاء للثقافة العربية الإسلامية. ولعلّ هذا التنافر بين هذين القطبين هو الذي جعل هذا المشروع يحمل أسباب فشله فيه".
هكذا رأت عامر أنّ كل المشاريع الإصلاحيّة عانت من اضطراب في جوهرها بالنظر الى بقائها أسيرة القياس على السلف الصالح. وتذهب ابعد في وصف المنهج الفكري لحركة الإصلاح بأنّه منهج " لم يقدر رغم الانفتاح الظاهري على العالم الغربي، على تجاوز المقولات القديمة مثل التقوى وغيرها من القيم التي لم تعد قادرة على الاستجابة لمقتضيات اللحظة الحضارية الخطيرة التي كان الفكر الإصلاحيّ يواجهها… فاذا بهم يرسخون استلاب الفرد استلابا اجتماعيا دينيا، على عكس اوروبا التي استفاقت بفضل المبادئ الإنسوية التي زحزحت الإله عن محور الكون لتنصب الانسان محله".
وتتبلور بشكل "نافر" انتقادات عامر للمشاريع الإصلاحيّة لدى تناولها ابرز رموز الإصلاح أي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي. تنظر الى خصائص فكر الأفغاني في وصفها "سليلة تكوين تقليدي ولد لديه فكرا تقليديا". اما محدودية برنامجه الإصلاحيّ و"عبثيته" إنما تعود إلى كون الأفغاني "يولي الإسلام مكانة مركزية في الهدف النهضوي"، وهو ما يجعل مشروعه الإصلاحيّ "غير إصلاحيّ" بمقدار ما هو دعوة لتجديد السلفية بكل ما ترمز اليه من استلاب وماضوية. وفي تناولها لفكر محمد عبده، ترى عامر أن العقلانية البادية في مؤلفاته انما هي "عقلانية قاصرة، فليست إعادة النظر في المسائل الدينية العالقة بقائمة عنده على قطيعة ابستمولوجية تعيد النظر في تلك المسائل بعين ناقدة متحررة من اسار الارث الديني المتراكم عبر العصور، بل يبدو لنا عبده وكأنه يستعير المقولات الاعتزالية ويتسلح بها لدعم مواقفه".
اما مشروع عبد الرحمن الكواكبي فقد وصفته عامر بـ"المحدودية والرجعية"، وهو وصف يستحق نقاشا انطلاقا من الحلقة المركزية التي انطلق منها الكواكبي اي الاستبداد السياسيّ والديني وما قدمه من إسهام في هذا المجال لا يزال يكتسب كل حيويته في زمننا الراهن بوصفه زمن استبداد سياسيّ وديني بكل معنى الكلمة.
تستحق المقولات والأحكام التي أطلقتها جيهان عامر على النهضة ومفكّريها ملاحظات تتناول المنهج والمضمون. يصعب مناقشة نشوء تيارات فكرية او سياسيّة في مرحلة محددة من التاريخ في معزل عن درجة التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسيّ السائدة في تلك المرحلة، وفي معزل أيضا عن القوى المهيمنة وما تفرضه من سياسات في هذا المجال، وكذلك تقاس الأفكار الناشئة بحجم القوى الاجتماعية القادرة والمستعدة على التزام هذا الجديد والذهاب به الى آخره. بهذا المقياس يبدو ان جيهان عامر قد حاكمت رواد النهضة بشيء من العسف واسقطت عليهم أحكاما لا صلة لها بالواقع الموضوعي القائم. طرح رواد النهضة أفكارهم في إطار سياسيّ يسوده الاستبداد العثماني السياسيّ والديني عبر تسخير المؤسسة الدينية في خدمة السلطان،
وفي أجواء تهيمن عليها منوعات التخلف والانحطاط الثقافي والسياسيّ مقرونة بوضع اقتصادي بائس وانعدام شبه كلي للقوى الاجتماعية والاقتصادية في إطار المنطقة العربية الخاضعة للحكم العثماني. يضاف الى ذلك كله هيمنة للدين واستخدامه في السياسة وتغليب الخرافات والاساطير في الاوساط الشعبية.
ان محاكمة رواد النهضة غير ممكنة دون الأخذ في الاعتبار هذه العوامل، مما يعني ان قياس النقد يكون في حدود الوعي السائد آنذاك والعوامل المعيقة لتكونه او المساعدة على ازدهاره. لا يمكن لناقد معاصر ان يقترح وعيا مختلفا على رجل دين او مصلح كانت حدود معرفته تدور في إطار محدد، فالنقد لا يقترح تاريخا ووعيا مفترضا، بل يناقش الاسباب ويعي العوامل التي جعلت هذا الحدث يتخذ هذا المنحى او ذاك. ثم ان نقاش رواد النهضة يكون منصفا لهم عندما تقرأ انجازاتهم بحدودها المعرفية وحدود الواقع الذي انتجها، وبالقياس الى ما هو سائد من أفكار ووقائع سياسيّة واجتماعية، وما اذا كانت أفكارهم متقدمة على هذا الواقع ام متخلفة عنه.
أمر آخر يصعب مجاراة جيهان عامر في افتراضه وهو المتعلّق بعجز رواد النهضة عن إجراء القطيعة المعرفية التي ظلوا أسراها في كل نتاجاتهم، مستوحية بذلك تلك القطيعة المعرفية التي استطاعت اوروبا إنجازها بعد الإصلاح الديني وفي عصر التنوير وأمكن لها أن تكرس في النهاية ذلك الفصل النهائي بين الدين والدولة. هذا إسقاط في غير مكانه، لأنّ النهضة الأوروبية عندما بدأها لوثر بإصلاحه الديني إنما كانت تتويجا لسلسلة من التطورات والتحولات السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية والفكرية كانت اوروبا حبلى بها قبل عقود من الزمن، وهي تطورات بدأت مع اكتشاف اميركا وما ساعدته في الازدهار الاقتصادي، وفي أعقاب نهضة لقوى البرجوازية الهادفة الى الاستقلال السياسيّ والاقتصادي عن الكنيسة، ومن تفاعل التيارات الفكرية الانسانية والعقلانية بما فيها التأثر بانتاج ابن رشد وابن باجه. وهي وقائع تعرف عامر أنّ المجتمعات العربية والإسلامية كانت تفتقدها في تلك المرحلة.
ملاحظة أخرى حول بقاء رواد النهضة أسرى الجانب الديني، يصعب تصوّر أنّ لا يكون الدين مدخلا لعملية الإصلاح، فهو عماد الثقافة السائدة في مجتمعاتنا والأساس الذي تتخذه السلطة المهيمنة قاعدة لحكمها بوصفها ممثلة الخلافة الإسلامية. يقاس النقد بالحدود التي تجرأ فيها رواد النهضة على المسّ بهذا المقدّس الممنوع التعرّض له. في هذا المجال لا بدّ من الاعتراف بأنّ ما قال به الأفغاني أو محمد عبده أو علي عبد الرازق والكواكبي، يمثل حلقة متقدمة جدا قياسا على الفكر السائد، وحتى أيضا على ما هو سائد من أفكار في عصرنا الراهن بعد مائة عام على طروحات رواد النهضة. ان يحتل الدين محورا مركزيا في نقد الرواد هي نقطة لصالحهم وليست عيبا فيهم.
لم يمكن للإصلاح أن يحقق الأهداف التي سعى اليها، فإجهاضه تسببت به درجة التطور القائمة التي منعت الأفكار من أن تتحوّل إلى قوى اجتماعية واقتصادية تواجه السائد من الهيمنة وتخرج العرب والمسلمين من التخلف. عاد الإجهاض ليتكرر مع صعود مشروع التحديث في الخمسينات من القرن الماضي بعدما وصل الى مآزق وفشل، ليس صعود الحركات الاصولية سوى واحد من نتائجه. ان معركة الإصلاح، وعلى الأخصّ الديني منه، لا تزال في بداية الطريق، ولن تكون سهلة، بل تؤشّر الوقائع الراهنة الى مستقبل مظلم ينتظر المجتمعات العربية والإسلامية من هذا الانفلات "للوحش الأصوليّ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق