الأحد، 11 نوفمبر 2012

معركة وادي المخازن[1] وأبعادها الدولية:
معركة الملوك الثلاثة والانتصار الباهر على العدوان الصليبي



تظل معركة وادي المخازن التي وقعت في القرن 10هـ/16م، حدثًا تاريخيًّا غنيًّا بدلالاته، فهو الحقُّ الأبلج الذي انتصر على العدوان والباطل اللجلج، وهو الإسلام الذي ينتزع انتصارًا باهرًا في تلك السلسلة الطويلة من الحروب الصليبيَّة التي استهدفت بلاد المسلمين منذ أزمان.

تسمية المعركة:
تعدَّدت أسماء المعركة في الإسطوغرافية المغربيَّة، مثل: معركة الملوك الثلاثة، ومعركة القصر الكبير، ومعركة وادي المخازن، وهو الاسم الذي دَرَجَ على استعماله المؤرخون المغاربة في كتبهم، وربَّما خطر لبعض المؤرخين المعاصرين أنْ يسموها اليومَ بدافع تصحيح جاء متأخرًا عن موعده: "معركة الملوك الأربعة"؛ لأنَّها إضافةً إلى الملوك الثلاثة الذين ذهبوا ضحايا لها، كانت منطلقًا لبروز ملك رابع سطع نجمه عاليًا في المغرب، ألا وهو أحمد المنصور الذهبي[2].

الدولة السعدية: الدولة التي حكمت المغرب في هذه المرحلة:


يرجع أصل السعديِّين الذين كانوا يحكمون بلاد المغرب إلى الأشراف السعديين من الحجاز، ينتسبون إلى ولد محمد النَّفس الزَّكية، وسبب قدومهم من الحجاز إلى المغرب أنَّ أهل "درعة" كانت لا تصلح ثمارهم، وتعتريها الأمراض كثيرًا، فقيل لهم: لو أتيتم بشريف إلى بلادكم، كما أتى أهل "سجلماسة"، لصَلَحَت ثماركم كما صَلَحت ثمارهم، وكان أهل "سجلماسة" جاؤوا من أرض ينبع بشريف من آل البيت، فأتى أهل "درعة" بالمولى زيدان بن أحمد؛ لذلك يقال: دولة الأشراف السَّعديين من آل زيدان.

وأمَّا تسميتهم بالسعديين، هذه النسبة التي لم تكُن لهم في القديم، ولم تظهر في سجلاتِهم ورسائلهم، بل لم يجترئ أحدٌ على مواجهتهم بهذه التسمية؛ لأنَّه إنَّما يصفهم بها مَن يقدح في نسبهم، ويطعن في شَرَفِهم، ويزعم أنَّهم من بني سعد بن بكر بن هوازن، الذين منهم حليمة السَّعدية مرضعة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكثير من العامَّة يعتقدون أنَّهم إنَّما سموا بذلك؛ لأنَّ الناس سعدوا بهم.

قامت دولة السعديين بعد دولة بني وطَّاس، فوقعت على كاهلهم مهمة جهاد البرتغاليِّين الذين سيطروا على شواطئ المغرب الأقصى.

بعد أن توفي الغالب بالله، بويع ابنه محمد الذي لقَّب نفسه "المتوكل على الله"، وكان فظًّا غليظًا مستبدًّا ظالمًا، قَتل اثنين من إخوته عند وصوله إلى الحكم، وأمر بسَجن آخر، فكرهته الرَّعية، خصوصًا والمُلك يؤول إلى أكبر أمراء الأسرة سنًّا؛ لذلك رأى عمه عبدالملك أنه أولى بالملك من ابن أخيه، فأضمر المتوكِّل الفتك بعمَّيه عبدالملك وأحمد، ففرَّا منه مستنجدين بالعثمانيين.

وُصف المتوكل بأنه كان فقيهًا أديبًا مشاركًا مجيدًا قويَّ العارضة في النَّظم والنثر، وكان مع ذلك متكبِّرًا تيَّاهًا غير مبالٍ بأحد، ولا متوقفًا في الدِّماء، عسوفًا على الرَّعية، ومن شعره قوله:

فَقُمْ بِنَا نَصْطَبِحْ صَهْباءَ صَافِيَةً
فِي وَجْهِهَا عَسْجَدٌ فِي وَجْهِهِ نُقَطُ

وَانْهَضْ إِلَيْهَا عَلَى رَغْمِ العِدَا قَلِقًا
فَإِنَّ تَأْخِيرَ أَوْقَاتِ الصِّبَا غَلَطُ

وأما عمه عبدالملك فقد كانت سجاياه حميدة، وسيرته عطرة، جمع بين العلم والشَّجاعة، وهو سياسي محنَّك، أتقن عدة لغات أوربيَّة وشرقية، أمُّه "سحابة الرَّحمانيَّة"، سارت به مع أخيه أحمد إلى الجزائر، فهيَّأ الوالي العثماني لهم سُبُل السفر إلى الأستانة؛ حيث التجأ إلى السلطان سليم بن سليمان طالبًا نجدته ومعونته، فتثاقل عنه السلطان سليم، إلى أن بعث بأسطول بحري لفتح تونس، وتخليصها من يد الحفصيِّين الذين استنجدوا بالإسبان، واستطاعت هذه العمارة البحرية تحقيقَ هدفها، وفرَّ الحسن بن محمد الحفصي إلى قشتالة، بعد أن فتح "خير الدين بربروس" تونس، فشهد عبدالملك الفتح، وعاد بالبشرى إلى السلطان العثماني فأنجده، وكتب أمرًا للدَّولاتي صاحب الجزائر؛ ليبعث معه خمسة آلاف من عسكر التُّرك، يدخلون معه أرض المغرب الأقصى؛ ليعيدوا إليه حقَّه في الحكم، وعندما دخل عبدالملك المغرب مع الأتراك، كاتب حاشية المتوكل وبطانته، ورؤوس أجناده، يَعِد طائعهم، ويتوعَّد عاصيهم، وكتب الله النصر لعبدالملك في معركة قرب مدينة فاس، وفرَّ المتوكل من المعركة، وكان ذلك سبب خراب ملكه، وإقامة ملك عمه، ودخل عبدالملك مدينة فاس يوم الأحد 7 ذي الحجة سنة 983هـ، ثم ضمَّ مرَّاكش، ففرَّ المتوكل إلى جبال السُّوس، وجعل يتنقَّل بين قبائلها وأحيائها، إلى أن اجتمعت عليه طائفة من الصَّعاليك، وشكَّل ما يشبه الجيش استهوتهم منه الأضاليل والوعود وقادهم إلى مرَّاكش فدخلها، إلاَّ أن أحمد أخا عبدالملك جاء من مدينة فاس ففرَّ المتوكل إلى السُّوس ثانية، ومنها إلى سبتة ثم دخل طنجة مستصرخًا بملك البرتغال، فكان ذلك سببًا من أسباب معركة وادي المخازن[3].

المعركة بين الفريقين:
المعركة بالنسبة للمغاربة معركة الفرقان:
شبَّه أغلبُ الإخباريين والمؤرخين المغاربة معركةَ وادي المخازن بغزوة بدر، التي كانت انتصارًا للإسلام وللملة المحمدية، واستبشر الفقهاء بهذا الانتصار ورأوا في موت ثلاثة ملوك رمزًا وإشارة إلى انهزام التَّثليث، وذكر المغاربة ذلك في نثرهم وشِعْرهم، وأشار ابن القاضي في كتابه "درة الحجال في أسماء الرجال"، إلى المسألة في شكل تعجُّب حين قال: "فانظر لحكمة الله القهار! أهلك ثلاثة ملوك في يوم واحد، وأقام واحدًا"، وفي قصيدة شعرية لأبي عبدالله محمد بن علي القشتالي نقرأ:
وَجَرَّدْتَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ صَوَارِمًا
تَصُولُ بِهَا وَالْعَاجِزُونَ نِيَامُ

ضَرَبْتَ بِهَا التَّثْلِيثَ لِلْحَتْفِ ضَرْبَةً
فَلَمْ يَبْقَ بَعْدُ للصَّلِيبِ قِيَامُ

وَأَمْطَرْتَ وَيْلاً بِالْمَخَازِنِ قَطْرُهُ
بِمَوْتِ الْأَعَادِي بُنْدُقٌ وَسِهَامُ [4]

المعركة بالنسبة للبرتغاليين عقاب من الله:
تناولت المصادر والوثائق البرتغالية المعركة من زاوية دينية تشاؤمية، على عكس المصادر المغربية والإسلامية؛ فرأى البرتغاليون في انهزامهم فيها عقابًا من الله، وحمَّلوا المسؤولية للنُّبلاء ولرجال الدين (الإكليروس) الذين لم يعرفوا كيف يَحدُّون من اندفاعِ "دون سيباستيان" الناتج عن صغر سنِّه وقلة تجربته، وبالرغم من ذلك قدَّس البرتغاليون هذا الأمير، ونزَّهوه وجعلوا منه مثيرًا للمهدي المنتظر، وخلد الشاعر "فرناندو بْسُوَا" اسم "دون سيباستيان" بقصيدة في هذا المعنى سماها باسمه:

لتكن مآسي الرمال والموت والشقاء

فإني لن أعبأ بها ما دمت مصونًا في الرعاية الربانية

فمعنى ذلك أني عائد لا محالة

فالملِك حَسَبَ هذا المعتقد الخرافي لم يَمُت في معركة وادي المخازن، ولكنَّه ما زال أسيرًا عند المغاربة في جزيرة بعيدة، ومن هذه الجزيرة سيعود؛ ليحرر شعبه[5].

قادة المعركة:
يشهد التاريخ بالعظمة والحكمة والشجاعة لعبدالملك المعتصم بالله ولأخيه أحمد المنصور، كما يشهد أيضًا لعدد من القادة كان لهم دور بارز في تحقيق هذا النصر المظفر، وتنجلي المعركة عن نصر خالد في تاريخ الإسلام، وعن موت ثلاثة ملوك.

لكنْ هناك اختلاف كبير في نهايتهم:
الملك الأول: صليبي مجندل، هو "دون سبستيان" ملك أعظم إمبراطورية على الأرض في هذه المرحلة بلا منازع آنذاك.

الملك الثاني: خائن غريق مسلوخ، هو محمد المتوكل، الذي منح للملك البرتغالي أحسنَ فرصة للتدخل في شؤون المغرب؛ إذ تعهد بالتنازُل له عن الشواطئ المغربية، لقاء مساندته.

الملك الثالث: شهيد - بإذن الله - بطل فاضت رُوحه، هو عبدالملك المعتصم بالله، ازداد سنة 1541م، فقد حاول المعتصم بالله أن يخرج المغرب من المتواتر المألوف؛ ليدخله إلى المؤسساتي، وتؤكد بعض المصادر أنَّ عبدالملك كان يسهر بنفسه على صَهْر الحديد الذي يستعمل في صناعة الأسلحة.

أمَّا الملك أحمد المنصور، فقد بويع بعد انتصار وادي المخازن، بعد الفراغ من القتال بميدان المعركة؛ إذ كلف الكاتب محمد بن عيسى بكتابة نص بيعته، ثم جمع كبار قادة الجيش ورجال الدولة والشرفاء، وأخبرهم بموت أخيه المعتصم، وتوليته هو شؤون الحكم.

السياق الكرونولوجي الذي مهد للمعركة:
كل حدث تاريخي يتحتم وضعه في سياقه التاريخي يظلُّ غامضًا ومستعصيًا على الفهم الصحيح، الشيء الذي يلزمنا بالنسبة لهذا الحدث الذي نعالجه الآن أنْ نبحث عن الأسباب التي جعلت المغرب والعُدوان البرتغالي الصليبي يقفان وجهًا لوجه:
إنَّها في الواقع نهاية مسلسل بدأ مع تدهور الدولة المرينية في القرن الرابع عشر، وتفاقمت بضياع سبتة التي احتلتها البرتغال سنة 1415م، وبالحصار الذي ضربته الدول الإيبيرية (البرتغال وإسبانيا).

يضاف إلى ذلك ما عاشته الدولة المغربية من انحطاط ومشاكل داخليَّة مستعصية في تلك الفترة، فما أبعدنا عن عهد الدولة الموحدية التي كانت هيبتها سارية في غَرب البحر الأبيض المتوسط بكامله، وكذلك في ثُغُور لدى النصارى الإسبان.

كما شهد القرن العاشر للهجرة/ السادس عشر الميلادي صراعًا قويًّا بين ثلاث إمبراطوريات هي: الأتراك العثمانيون، والإسبان، ثم البرتغال؛ من أجل السيطرة والتحكُّم في حوض البحر الأبيض المتوسط.

وتَمرْكَز الصراع منذ منتصف ذلك القرن في الشمال الإفريقي، وفي بلاد المغرب الأقصى بوجه خاص، فقد سعى الأتراك إلى ضمِّ المغرب في مُحاولة منهم لتأمين حدود الخلافة العثمانيَّة، ثم توظيف الموقع المغربي في مهاجمة غربي أوربا.

كما اتَّجهت أطماع الإسبان والبرتغال نحو المغرب منذ الانتصارات الأولى، التي أحرزوها في الأندلس في إطار ما يسمونها "حروب الاسترداد"، وازداد اهتمامهم بالمغرب على إثر حركة الاكتشافات الجغرافيَّة وتوسُّعهم في ميدان الملاحة البحرية، وكانت بلاد المغرب مُغرية بثرواتها لهم، بثروتها الزراعية، ومعادنها وطرقها التِّجارية نحو إفريقيا السوداء، وموقعها الإستراتيجي المطل على حوض البحر المتوسط من جهة المحيط الأطلسي من جهة أخرى.

من هنا ظهرت المبادرة البرتغالية للاستعداد للهجوم على المغرب، ومُحاولة القضاء على القُوَّة السعدية الناشئة.

أسباب نشوب المعركة:
يؤكد كثير من المؤرخين على أنَّ استنجاد محمد المتوكل المخلوع عن العرش السعدي بملك البرتغال "دون سبستيان بن جان الثالث"، وطلبه الحماية والمساعدة ضد عمه أبي مروان عبدالملك - كان السبب الرئيس لقيام الحملة العسكرية البرتغالية على المغرب، والتي أدَّت إلى وقوع معركة وادي المخازن، وبذلك يُحمِّل هؤلاء المؤرخون محمد المتوكل الخائن مسؤوليةَ حَمْلة الصليبي "سبستيان" على المغرب.

في المقابل، الوثائق التي عرضها "هنري دي كاستري" في مجموعة "المصادر الأصلية للتاريخ المغربي" تؤكد أنَّ عام 987هـ/1570م يحدد بداية مشروع الحملة البرتغالية على المغرب؛ أي: قبل إرسالها فعلاً بثماني سنوات، وتجدَّد الحماس لمشروع الحملة، عندما قام "سبستيان" بزيارة سبتة وطنجة، أهم مراكز الاحتلال البرتغالي بالمغرب، في عام 982هـ /1574م.

كانت هناك أيضًا اتِّصالات لإشراك متطوعين من الدُّول الأوربية، فانضمَّ إلى الحملة كثير من الألمان والإنجليز والإيطاليين والنمساويين، فضلاً عن الإسبان؛ مما أغدق على الحملة طابعًا صليبيًّا، باركه البابا وحض عليه.[6]

قبيل المعركة:
اختار عبدالملك القصر الكبير مقرًّا لقيادته، وخصص مَن يراقب سبستيان وجيشه بدقَّة، ثم كتب إلى سبستيان مستدرجًا له: "إنِّي قد قطعت للمجيء إليك ستَّ عشرة مرحلة، فهلا قطعت أنت مرحلة واحدة لملاقاتي"، فنصحه المتوكل ورجاله ألاَّ يترك "أصيلا" الساحلية؛ ليبقى على اتِّصال بالمؤن والعتاد والبحر، ولكنه رفض النصيحة، فتحرك قاصدًا القصر الكبير، حتَّى وصل جسر وادي المخازن؛ حيث خيم قبالة الجيش المغربي، وفي جنح الليل أمر عبدالملك أخاه أحمد المنصور في كتيبة من الجيش أنْ ينسف قنطرة جسر وادي المخازن، فالوادي لا معبر له سوى هذه القنطرة.

وتواجه الجيشان بالمدفعيَّتين، وبعدهما الرُّماة المشاة، وعلى المجنبتين الفُرسان، ولدى الجيش المسلم قُوى شعبية متطوعة، إضافةً لكوكبة احتياطيَّة من الفرسان ستنقضُّ في الوقت المناسب.

المشاركون في المعركة، اختلاف التقديرات:
اختلفت تقديرات المؤرخين حول عدد المشاركين ضمن الحملة البرتغالية، إلاَّ أنَّ تقريرًا إسبانيًّا أفاد بأن الملك البرتغالي غادر لشبونة بـ (487) سفينة من مختلف الأنواع حملت 24 ألف جندي، بينهم ثلاثة آلاف فارس، والباقي من المشاة، وعند المؤرخين المغاربة أنَّ الحملة البرتغالية كانت ما بين ستين ألف و125 ألفَ مقاتل، وما يلزمهم من المعدات، وأقل ما قيل في عددهم ثمانون ألفًا، وكان منهم 20000 إسباني، 3000 ألماني، 7000 إيطالي، مع ألوف الخيل، وأكثر من أربعين مدفعًا، بقيادة الملك الشاب سبستيان، وكان معهم المتوكل بشرذمة تتراوح ما بين 300 - 6000 على الأكثر.

أمَّا الجيش المغربي، فكان بقيادة عبدالملك المعتصم بالله، ضم 40000 مجاهد من المغاربة المسلمين، يملكون إيمانًا قويًّا وتفوقًا في الخيالة، مدافعهم أربعة وثلاثون مدفعًا فقط، إضافة إلى القوات التي بعثها باشا الجزائر لصد الغزو البرتغالي؛ بناء على أوامر من السلطان العثماني مراد الثالث، والتي قدرت بنحو أربعة آلاف أو خمسة آلاف تركي.

لكن دائمًا نستحضر قوله - تعالى -: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249].

نعم، فئة قليلة، مؤمنون، صادقون، يذلون أكبرَ جيش في العالم في تلك الفترة.

نعم، المعركة بين باطلين لا تنتهي، من هنا كان النصر الاستحقاقي والنَّصر التفضُّلي، وهناك نصر كوني إذا كان المتحاربان شاردين عن الله - عزَّ وجلَّ - الأقوى ينتصر، الذي معه سلاح أحدث ينتصر، الذي يملك قدرة على الإصابة الدقيقة ينتصر، الذي يملك طيرانًا ينتصر، أمَّا إذا كان هناك إيمان وكفر، فالمؤمن ينتصر.

انطلاق المعركة:
في صباح الاثنين 30 جمادى الآخرة 986هـ، الموافق 4 أغسطس 1578م، وَقَف السُّلطان عبدالملك يُحرض الجيش على القتال، ولم يألُ القساوسة والرهبان جهدًا في إثارة حماس جند أوربا، مذكرين أن البابا أحل من الأوزار والخطايا أرواحَ مَن يَلْقَون حتفهم في هذه الحروب.

وانطلقت عشرات الطلقات النَّارية من الطرفين كليهما إيذانًا ببدء المعركة، وبرغم تدهور صحة السلطان عبدالملك الذي رافقه المرض وهو في طريقه من مراكش إلى القصر الكبير، فإنَّه خرج بنفسه؛ ليرد الهجوم الأول، ولكن المرض غالبه، فغلبه فعاد إلى محفته، وما هي إلا لحظات حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، ومات وهو واضع سبابته على فمه مشيرًا أن يكتموا الأمر حتَّى يتم النَّصر، ولا يضطربوا، وكذلك كان فلم يطَّلع على وفاته إلا حاجبه وأخوه أحمد المنصور، وصار حاجبه يقول للجند: "السلطان يأمر فلانًا أن يذهب إلى موضع كذا، وفلانًا أن يلزم الراية، وفلانًا يتقدم، وفلانًا يتأخر"، وفي رواية: إنَّ المتوكل دسَّ السم لعمه عبدالملك قبل اللقاء؛ ليموت في المعركة، فتقع الفتنة في معسكر المغاربة.

ومال أحمد المنصور بمقدمة الجيش على مؤخرة البرتغاليين، وأوقدت النَّار في بارود البرتغاليين، واتَّجهت موجة مهاجمة ضد رماتهم أيضًا، فلم يقف البرتغاليون لقوة الصَّدمة، فتهالك قسم منهم صرعى، وولَّى الباقون الأدبار قاصدين قنطرة نهر وادي المخازن، فإذا هي أَثَرٌ بعد عين، نسفها المسلمون، فارتموا بالنَّهر، فغرق من غرق، وأسر من أسر، وقتل من قتل.

وصرع سبستيان وألوف مِن حوله، بعد أن أبدى صمودًا وشجاعة تُذْكَر، وحاول المتوكل الخائن الفرار شمالاً، فوقع غريقًا في نهر وادي المخازن، ووجدت جثته طافية على الماء، فسلخ وملئ تبنًا وطيف به في أرجاء المغرب حتى تمزق وتفسخ.

دامت المعركة أربعَ ساعات وثلث الساعة، ولم يكن النَّصر فيها مصادفة، بل لمعنويات عالية، ونفوس شعرت بالمسؤولية، ولخطة مدروسة مقررة محكمة.



نتائج معركة وادي المخازن:
تحتل معركة وادي المخازن مكانة في الصِّراع الطويل بين الإسلام والنَّصرانية، ففي الوقت الذي كان يظهر فيه العالم الإسلامي تحت قيادة الدَّولة العثمانية قويًّا بالجناح الشرقي في مجابهته للعالم النصراني، الذي كانت تمثله أسرة النمسا الإمبراطورية، ويفوز في كثير من الأحيان بانتصارات باهرة، نجده في الجناح الغربي يعاني شيئًا غير قليل من الضَّعف؛ إذ كان يلتزم مواقفَ الدِّفاع السلبية، فجاء الانتصار المغربي في معركة وادي المخازن؛ ليرد للغرب الإسلامي بعض هيبته، ويرفع من سمعة المغرب، ويضع حدًّا بصفة نهائية للمشاريع الصليبية.

كتبت المعركة صفحة ناصعة للعسكريَّة المغربية الإسلامية، وأثبتت لأوربا النصرانية أنَّ أرض المغرب مقبرة للغُزاة.

جنى المولى أحمد أُولى ثَمَرات النصر؛ إذ آل إليه الحكم عشية يوم المعركة، وتلقب بلقب المنصور بالله.

زاد تسليح الجيش السعدي بما غنمه من أسلحة العدو، كما تدفقت النقود الذهبيَّة والفضية على الخزينة السعدية[7]، مقابل فك أسرى المعركة.

اكتسب المغرب سمعة طيبة في العالم الإسلامي، وهيبة في العالم النَّصراني الأوربي، كما توافدت عليه سفارات التهنئة بالنصر، وسفارات كسب الوُدِّ والصداقة وحسن الجوار.

فقدت البرتغال استقلالها ومستعمراتها؛ إذ احتلتها إسبانيا؛ نظرًا لضعف البرتغال بعد المعركة، وعدم وجود وريث للعرش.

وحتى "هنري تيراس" - المؤرخ الحاقد على الإسلام والمسلمين، الذي أظهر كثيرًا من التحفُّظ فيما يخص أهمية الحدث - لم يتمالك نفسه عن الاعتراف بانعكاساته الخطرة على المستوى الأوربي، وذلك حين يقول: "إنَّ انتصار المغرب على البرتغال في معركة واحدة خوَّله سُمعة دولة كبيرة، فربطت البلاطات الأوربيَّة العلاقات معه وطلبت - في بعض الأحيان - مساندته، وقد استفاد أبو العباس أحمد من هذا الخطأ في التقدير بأوربا، وكان لمعركة الملوك الثلاثة أثرها في إضفاء مجد مبالغٍ فيه على الدولة السعدية، حتَّى في وقت تدهورها".

والله أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربَّ العالمين.


[1] وادي المخازن: رافد من روافد نهر اللوكوس الذي يصب في مدينة العرائش (تقع في الشمال الغربي للمغرب).
[2] محمد زنيبر، "معركة الملوك الثلاثة، مذكرات من التراث المغربي"، الجزء الثالث: من تمتين الدولة إلى المخاطر، ص: 174، بتصرف يسير.
[3] "معركة وادي المخازن"، للشيخ ناصر بن محمد الأحمد، الشبكة العنكبوتية.
[4] أحمد بن محمد المقري، "روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس"، المطبعة الملكية، الرباط، طبعة ثانية، 1983.
[5] عبدالمجيد قدوري، "المغرب وأوربا ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر (مسألة التجاوز)"، ص: 175، بتصرف.
[6] إبراهيم علي حسن، "أحمد المنصور الذهبي"، سلسلة: خالدون في تاريخ المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1407هـ /1987م، ص: 35 - 36، بتصرف يسير.
[7] نسبة إلى الدولة السعدية التي حكمت المغرب في هذه المرحلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق