الأحد، 11 نوفمبر 2012

الحياة العامة في أندلس العصر الوسيط
أحمـــــد شـــــحلان
1 ـ مــقدمــــة
يتعدد النشاط الإنساني بتعدد تطلع الإنسان وآماله، وبتعدد حاجياته الفردية والجماعية. وهذا النشاط هو الذي يحرك بناء الكيان الحضاري تاريخا وآنا. فهو إذن يشمل المنافع الذاتية والمنافع الجماعية، وهذان قد يتناغمان وقد يتنافران، دون أن يكون لتناغمهما آليات عرقية أو نِحْلية، ودون أن يكون هذان هما أسباب تنافرهما. إنما هي فطرة الرغبة في بناء صرح حضاري لا يريد أن تكون له صبغة مميزة. ومن جميل حظ الأندلس أن يكون التناغم هو المتغلب، على الأقل في هذا الإرث الفكري الذي لم ينحصر نفعه في مجال أمة الإسلام، وإنما كان له امتداده في مكونات الحضارة الإنسانية في مختلف ميادينها. ومن حسن حظ الأندلس أيضا أن تكون أسس هذا البناء مختلفة الألوان متعددة السمات، وأن تكون مشاربها مختلفة المنابع متعددة الروافد. فروت شجرتها بوَدْقٍ حملته رياح المعرفة من ما بين النهرين، وبصَوْبٍ تتالت به سواقيه من غزير عطاء يونان، وبفيض جادت به أريحية الجزيرة العربية بما ملكته من غابر الأزمان، وبما شملها من فعل الرسالة وآي القرآن. أندلس الناس تزهر بخصب جاءها من فعل البشر وفعل الله، فكانت فريدة في حينها، فريدة في فكرها، فريدة فيما تفعله في ذهنية الناس اليوم. لذلك عرفت تاريخا متميزا تمثل في كل مظاهر العيش صغيرها وكبيرها، فتحمل الأندلسيون على اختلاف أصولهم وعقائدهم، مسئوليات تدبير أمور الحكم، وتلاقوا في مجلس العلم، معلمين ومتعلمين. وكتبوا فيما هو عام يحدوهم حب العلم ويسعون إلى نشر آثاره، أو فيما هو خاص، ينورون به عقول ذوي المعتقد ويهدونهم السبيل كل في نحلته. وتنافسوا في سبل العيش في الأسواق، ونهضوا بشأن التجارة، وزرعوا الأراضي، وغرسوا الجنان، وهذبوا البساتين، وحفروا الآبار، ونظموا الري، ورفعوا البنيان، وتساكنوا وتجاورا في نفس الرِّبَاع، وأحيانا في نفس الدُّور. وباختصار نسجوا هذا النسج الحضاري المختلف الألوان المتجانسها، المنسجم التركيبة المتكاملها. إنها مشاركة امحت فيها الخصوصيات الدينية والعرقية، وتوارت فيها الأنانية العصبية زمنا كان كافيا لبناء مجتمع يعتبر بحق، بما صنعه في العلم والرجال، المثال الذي يجب أن نضعه دوما نصب أعيننا. وقد سبق لنا في بحوث خاصة أن عرضنا لتركيبة هذا المجتمع بشريا، أصولا ومسئوليات، ومنهجا في التعليم والأخذ والتربية[1]. ونخص هذا البحث ببعض مظاهر أخرى مما هو من صميم حياة الناس. وتجدر الإشارة إلى أن التنقيب في طوايا الحياة اليومية في الغرب الإسلامي، يعد مركبا صعبا ومسلكا وعرا، لأن كتب التاريخ لم تهتم إلا بالأحداث العسكرية وتاريخ الملوك والدول في تعاقبها، فلم يبق إذن للخوض في هذا الموضوع، إلا كتب الفتاوى والنوازل والحسبة والفقه، مع العود إلى ماجاء في كتب التاريخ للإستئناس. وعلينا أن لا ننسى أن كتب الفتاوى والنوازل والحسبة والفقه، تحف بكثير من المصاعب التي لا تساعد الباحث الموضوعي على التأكد من أحكامه وما يتوصل إليه، فكثيرا ما يتأثر أصحاب هذه المؤلفات بالظروف السياسية وواقع الأحوال والنزعات الشخصية، لذلك ذهبت أحكامهم بين التشدد المفرط والتساهل المخل. وحرصنا نحن على اخذ كثير من الحيطة في دراستنا هذه، وفيها نتناول أولا:
2 ـ السكـــــن
أ - العمــران
كانت الأندلس مدنا وبوادي، عامرة بكل أنواع الأجناس، ونضرب مثلا لذلك عدد سكان قرطبة، نظرا لما كان لهذه من أهمية في تاريخ الغرب الإسلامي. فابن عذاري يذكر أنه كان أيام عبد الرحمن الثالث حوالي ثلاثمائة حمام للنساء فقط، وأن عدد الدور تجاوز مائة ألف[2]. وقدر المقري عدد البنيان أيام ابن أبي عامر في قرطبة وأرباضها بـ مائة وثلاثة عشر ألف وسبع وسبعين(113077) من دور الرعية، وأما دور الأكابر والوزراء والكتاب والأجناد وخاصة الملك، فكان ستين ألفا وثلاثمائة دار، سوى مصاري الكراء والحمامات والخانات. وعدد الحوانيت ثمانين ألفا وأربعمائة وخمس وخمسين[3]. وذكر عدد دور القصر الكبير أيام المرابطين والموحدين فقدره بـأربعمائة ألف ونيف وثلاثين. وكانت عدة دور السواد بها الواجب على أهلها المبيت في السور مائة وثلاثة عشرة ألف دار، حاشى دور الوزراء وأكابير الناس والبيض. وكانت ديار أهل الدولة إذ ذاك ستة آلاف وثلاث مائة دار[4].
ولا شك أن هذا العدد من المساكن في قرطبة وغير قرطبة، كان يجمع بين المسلمين والنصارى واليهود، إذ لم ترد أخبار في كتب التواريــــخ والتراجم تنص على عزل رباع هؤلاء، على الرغم من أن س. أشتور يذكر أن المستعربين والنصارى سكنوا أيام الخلافة الأموية خارج قرطبة[5]. وظل اليهود يساكنون المسلمين على الرغم من وجود رباع خاصة بهم. ويظهر أنهم اتخذوها باختيارهم ولم تكن فرضا. وذكر أشتور عديدا من هذه الرباع في قرطبة وإشبيلية وغرناطة وطليطلة وقلعة حماد وسرقسطة. وأحيانا كون اليهود غالبية السكان كما كان عليه الحال في مدينة لوسيانة التي سكن المسلمون وبعض اليهود أرباضها[6]. وقد دلت شواهد كثيرة على تساكن وتجاور ذوي النحل المختلفة، من ذلك ما جاء عند الطرطوشي الذي ذكر أن الفقيه ابن الحصار كان يجاور بقرطبة نصرانيا يقضي حوائجه وينفعه[7]. وجاء في نوازل ابن الحاج قاضي الجماعة بقرطبة، أنه إذا اشترى رجل دارا بها بئر مشتركة مع الدار التي تجاورها ثم ألفى تلك الدار المجاورة ليهودي أو نصراني فإنه ليس بعيب[8]، وهذا يدل على تداخل الدور وتجاورها. ووردت فتوى في نوازل ابن سهل يستفتي صاحبها في أمر جدار كان بين دار حسان بن عبد الله بداخل قرطبة بحومة مسجد صواب، ودار كانت محبسة على شنوغة اليهود[9]. كما استفتي عبد الله العبدوسي في أمر مسجد ملاصق لدرب اليهود، فطلب أهله من الناظر أن ُيجري لهم الماء من المسجد، فأفتى بجواز ذلك[10]. ومما يؤكد مجاورة أهل الذمة لدور المسلمين، ما جاء في رسالة ابن عبد الرءوف من ذكر "لإشراف أهل الذمة على المسلمين في منازلهم"[11]، وكذا ما جاء في فتوى يُسأل فيها عن يهودي اشترى دارا في درب ليس فيه ألا المسلمون...فآدى الجيران بشرب الخمر وفعل مالا يجوز...فأجاب المفتي: يمنع الأدى وما وصف من شرب الخمر وفعل مالا يجوز، دون إخراج المشتري اليهودي[12].
عرفت المجتمعات السكنية الأندلسية ثلاثة أنواع من المجمعات البشرية هي المدينة والقرية والحصن بالإضافة إلى توابعها[13]. والظاهر أن الدور في معظمها كانت صغيرة المساحة. فدور غرناطة كما وصفها رحالة القرنين الخامس عشر والسادس عشر، لم تكن تتعدى 50 مترا مربعا. وهي محاطة بجدار به باب متواضع ذو مصراعين من خشب. وكانت دور الأغنياء تمتاز بشرفات خارجية تعرف بـ"السماشي"، مؤطرة بمشرفيات تخفي من خلفها. وتتكون الدور في معظمها من عتبة فممشى فصحن. هو إما مربع أو مستطيل مبلط بزليج، وتقاطعه ممشاوات مضاءة مزخرفة بنجيمات. وبجانب الصحن رواقان يرتكزان أعمدة من رخام أو آجر، حسب مكانة الساكن. وتزين الصحن نافورة مربعة أو مستطيلة الشكل، أو بئر كما كان الأمر عليه في دور مالقة. ويتكون الرواق من غرف عريضة ضمنها صالون مركزي مستطيل ينتهي بمخدعين[14]. وينفتح باب الغرف التي بيمينه وشماله نافذتان مؤطرتان بالجبص على الصحن. ويتوصل إلى الطابق العلوي الذي يخصص عادة للنساء، بدرج هاو من رخام، وغالبا مايكون في زاوية من زوايا الصحن. ويكاد هذا الوصف الذي وصفت به أريي ((Arié دور غرناطة ينطبق على الوصف الذي وصف به أشتور دارا بطليطلة يعود تاريخها إلى القرن الحادي عشر. وكانت الدور أو "دْويرات" خاصة بالأسرة الواحدة، وكانت هناك دور مشتركة تستأجر لعديد من الأسر. وأحيانا كانت تسكن "دويرة" شراكة، فتسكن أسرة الطابق السفلي وأخرى العلوي المسمى "مَصريَّة"[15]. وكانت هذه الدور تقع في أحياء سكنية أزقتها ضيقة: "دْروب"، غير نافذة، وتتوسطها أحيانا ساحات صغيرة. وتسمى الـ"دروب" بأسماء ساكنيها. وهي خالية في معظم الأحيان من الحوانيت، فهذه تكون عادة في "السويقة". وتقع الـ"سويقة" في ممر واسع نسبيا، بنيما يكون مركز الحركة التجارية في أسواق عامة. وفي مركز المدينة تتجمع معظم المهن والمتاجر، مثل سوق العطارين والبزازين والصرافين والخرازين والدباغين. ومصانع هذين الأخيرين تكون بجانب السور أو خارج المدينة. وتقع هذه الأسواق بجانب المسجد الأعظم، كما هو الأمر في طليطلة. وكان سوق "القناة" بطليطلة سوقا عامرا بدكاكين تجار اليهود[16].
وكان اليهود يسكنون دورا مجاورة لدور المسلمين، كما رأينا سابقا، إلا أن لهم كذلك أحياء خاصة بهم تكون عادة مجاورة لسور المدينة. ولا تكاد هذه الأحياء تختلف في شيء عن احياء المسلمين[17].
وقد اعتنى الأندلسيون بتنظيم المعمار وجعلوا على رأسه موظفا ساميا يعرف بـ "صاحب المباني" كما سهروا على الأمن في المدينة بتنظيم العسس، ووكلوا به "الدَّرَّابين"، وبخطة الطواف بالليل[18].
بـ - الأثـــــــــاث
لا يمكن الحديث عن الدور دون الحديث عن أثاثها. وتشير أريي إلى أن قصور الأندلس ودورها الإسلامية كانت قليلة الأثاث، وأن ما يميز غناها هو جودة الأثاث وإبداع صناعته[19]. ومن هذه الأثاث: الحائطية، وهي نسيج من صوف دقيق الخيوط أو الحرير، مزخرف، وتزين حائطَ غرفة الاستقبال. وتفرش أرضية الغرف بالزرابي. وكانت الأندلس معروفة بصناعتها، ومنها البسط التي تحمل اسم مدينة بسطة، من إقليم غرناطة. وبسطها من الديباج النادر، وكذا البسط التي كانت تصنع في مرسية. وتتميز هذه الزرابي الأندلسية بغلبة اللون الأحمر واستعمال الأشكال الهندسية وعدم تناسب طولها مع عرضها. كما تمثل ذلك زربية معروضة في متحف Spanish Art Gallery الخاص بالفن الإسباني بلندن، فمقاييسها هي 94 ،0 في 03،3 [20]. وكانت الطبقات المتوسطة تستعمل "التَّلِّيس"، وهو سجاد غليظ مادة الصنع ذو ألوان مختلفة. واستعملت الطبقات الفقيرة الحصير. وجرت عادة أهل الأندلس بوضع "الطيفور" الذي يوضع عليه لطعام، وسط الديوان، وهو مقاعد تسند على الحائط. ويستقبل رب البيت ضيوفه وهو جالس على "الدَّكَّة" التي تصف بمخدات محشوة بالصوف أو جذور القنب. وتكون هذه المخدات مزخرفة أو مطرزة. وكانوا في الصيف يجلسون على مقاعد مغلفة بالجلد. وكان الأغنياء ينامون على "لْمَطْرَح" أو "لَمْضَرْبَة" المغلفة بأجواخ مطرزة، ويتوسدون مخدات من حرير أو نسج صقيل. وكان البسطاء يكتفون بالكتان العادي في كل هذه. وكانت الأغطية من صوف. وتصف الأواني على مرافع من خشب، أو ترتب في كوى محفورة في الحائط. أما مكان حفظ الثياب فهو توابيت من خشب. والجرار أساسية لحفظ الزيت والدقيق والمواد الاستهلاكية الأخرى التي توضع في مخزن العولة.
وإذا كانت النساء الميسورات يقضين وقتهن في الحديث أو نظم الشعرأو التجميل أوالتطريز على قطائف غالية، فإن النساء الرقيقات الحال كن تشتغلن بالحياكة والغزل. ولذلك من أهم أدواتهن المغزل والنول. وإذا كان مطبخ العائلات الغنية يزخر بأكواب الذهب والفضة والزجاج والتحف المعدنية المزخرفة بالحز أو الحفر أو التخريم أو التطعيم، أو بأواني الخزف المذهبة الرقيقة المزخرفة بالأشكال الهندسية والصور الحيوانية، أو الموشاة بالأشعار، أو يحتوي أوعية التوابل الرخامية[21]، فإن مطبخ البسطاء كان يحتوي قناني الكرنب المملوءة ماء أو زيتا، وأواني الفخار من كل حجم.
وقد استعرض ابن رزين التجيبي (القرن 13م)، في كتابه فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان[22]، وهو كتاب في فن الطبيخ، الأواني الفخارية والنحاسية والقصديرية والذهبية والزجاجية التي كانت تستعمل في المطبخ الأندلسي، كما ذكر عديدا من أدوات القطع والهرس والوزن [23]. ومن الأدوات المنزلية الأخرى الثريات والمباخر والقناني والشمعدانات والسرج وصناديق الخشب أو العاج والتماثيل. وتتنوع كل هذه بين الغالي النادر المنقوش المزخرف، والبسيط العادي من المعدن أو الفخار. ويوجد الكثير من هذه الأدوات في متاحف إسبانيا وكنائسها وبعض متاحف أوروبا كباريس ولندن وبرلين. وجات نماذج منها في كتاب الفنون السابق الذكر. وكانت أوعية تسخين البيوت في الشتاء القارص من الرخام أو المعدن أو الفخار، حسب الوضع الاجتماعي. وكان الفحم أو الخشب هما وسيلتي التسخين[24].
وكانت هذه الأدوات ومشمول الأثاث مشتركا لدى الطوائف دون تمييز، فمن الأثاث الذي ذكرها أشتور عندما وصف بيتا من بيوت يهود القرن الحادي عشر في طليطلة: مائدة مدورة للطعام، ووسائد وطئة، أريكة مغشاة بحرير موشى للجلوس، صندوق قصير من خشب على قاعدة من حديد مغلق بقفل من خشب، وفوقه قنينة من فضة للزينة، وبإحدى زوايا الغرفة قنينة من نحاس بها عود هندي للعطر. ويتدلى من السقف مصباحان من نحاس ذوا لون أسود باهت لماع. وصحون العيد صحون مزخرفة بأشعار خطت بالذهب[25].
هذا الاختلاط في السكن والعيش المشترك هو أدعى بالضرورة إلى المشاركة في مناشط العيش والكسب. وتمثل التجارة والصناعة عصب هذه، وهذه خطاطة لواقعها في أندلس العصر الوسيط.
3 ـ التجارة والصناعة
كان النشاط التجاري والعمل المشترك رِفْـدُ هذا الاختلاط، إذ كانت الأندلس منذ الفتح حتى سقوط غرناطة، دائمة الرواج التجاري والصناعي على الرغم من فترات الاضطرابات التي تعتريها من حين لحين. وقد خص ابن خلدون صنائع الأندلس بالفصل الثامن عشر في مقدمته[26]. وتجلى هذا النشاط في صناعة الجلد والخشب والأسلحة وضرب العملة وصناعة الخمور والسكر والزيوت والصابون، والصنائع المعدنية مثل الذهب والفضة والحديد والرصاص وصناعة الزجاج والزئبق والرخام والكُحْل والكبريت الأحمر. وكانت تصدر من هذه، الصناعات الجلدية والفخارية والزجاجية ومَبْرِيات الخشب وأدوات الموسيقى والمصنوعات المعدنية والبسط والورق والكتان والحرير، ومواد الصباغة مثل الزعفران[27].
ومن الأسباب التي شجعت هذه الحركة الصناعية والتجارية أمور منها:
ـ أمن السواحل لقوة الأسطول.
ـ والإعفاء من المكوس التي كانت مفروضة أيام دويلات الطوائف.
ـ عدم إقحام الدولة نفسها في النشاط التجاري.
ـ تعويض الخسائر التجارية.
ـ توفير سيولة الإقراض.
ـ بناية الأسواق والفنادق والجسور وتوفير المياه.
ـ تقنين التجارة وتعيين مراقبين يراقبون الحركة التجارية في الأسواق[28].
وليس هناك دليل أبلغ على أهمية النشاط التجاري في الأندلس، من كثرة كتب الحسبة والعناية بها، واختيار الأكفاء من ذوي الورع واعتبارهم من ذوي المناصب العليا في الدولة.
وكثيرا ما كان التجار يفدون من خارج الأندلس، فابن حيان يخبرنا بقدوم التجار "الملفيين" إلى قرطبة سنة 330/941، وأن قدومهم أصبح عادة متبعة[29]. ويخبرنا صاحب البيان أن المستنصر استقدم صناع الفسيفساء من الروم لترصيع الجامع الكبير سنة 354/965 [30].
بهذه الحركة تقوى نشاط الأندلسيين من غير المسلمين، فلم تعد تلقى، كما يقول ابروفانسال، في أسواق الأندلس العرب والبربر، ولكن اليهود والنصارى، كما كنت لا تسمع اللغة العربية وحدها، ولكن تسمع لغات مختلفة[31]. وكان لليهود دور كبير في هذا النشاط التجاري الذي تضمن كل أنواع السلع المذكورة بالإضافة إلى بيع الرقيق[32]. وكانت حركتهم تشمل أقاليم الأندلس، كما كانت تتجاوز حدودها إلى الشمال أو الجنوب. وكانت لهم دكاكينهم في الأسواق العامة وفي أحيائهم الخاصة[33]. ودلت الدلائل على أن التعامل في الصناعة والتجارة بين الطوائف كان أمرا سائرا، وذلك لكثرة الفتاوى التي تناولت هذا الموضوع عند اليهود[34]. وكذا عنــد المسلمين[35].
أوررد المؤلف المجهول، صاحب ذكر بعض مشاهير أعيان فاس في القديم [36]، المناصب العليا لأرستقراطية الحكم من عرب وغيرهم ممن كانت السلطات بين أيديهم[37]، كما أورد مِهَنَ بعض طبقات المجتمع الأندلسي الأخرى من عامة الناس، ونوجز ذلك كالتالي:
فمن اشتغل من موالي الحواضر فقد اشتغل بالصنائع وبعض المهن والتجارة وتقديم الخدمات، فمن صنائعهم الحياكة والخرازة والنسيج وسبك الحديد وصناعة آلات الحرب والنحاس وآلات الخيل وسرجه. ومن مِهَنِهم الصباغة والحجامة والتطبيب والطحن وخراطة العود ونجارة الخشب وتسمير البهائم. وكانوا يتجرون في النعال والحياك والجلاليب واللحم. أما الخدمات التي كانوا يقدمونها للمجتمع، فتمثلت في ضرب الطبول والبنود والقيام بالمساجد والآذان ورصد الوقت ودفن الموتى وحفر القبور وحراسة الأسواق ليلا وحراسة الفنادق وحمل السلع من بلد إلى بلد.

ومن أسلم من هؤلاء المعاهدة النصارى ، فمن كان من البادية اكتسب البقر والغنم واشتغل بالحرث وتربية النحل. وكان أهل الجبال منهم يغرسون الجنات ويرعون أشجار الفاكهة ويقطعون الخشب ويصنعون الفحم . ومن ولي البحر منهم امتهن الصيد وجلب الحوت والسردين وصناعة السفن و آلاتها[38].
وامتهن من أسلم من اليهود بخياطة الملف والثياب وضفر القيطان ونسج العُقُــل والقلنصوات وصبغها والحجامة والدلالة في الأسواق و إصلاح النعال المخروزة . أما الموالي منهم، فقد اشتغلوا بصناعة الصـــــابون والفانيد وتشبيك الفداوش والشعرياء والترد والمقروض، وتسفير الكتب وتزويق الخشب وتركيب المناسج وضرب الدينار والدراهم وحلي النساء وفرط الجمان وخدمة الزجاج وتصفية المعادن وصناعة القدور. وتاجروا في الحوت والشحوم والأدوية والأعشاب والصوف والكتان وآلات الطرب والحلي ومواد التغذية. ومن الخدمات التي كانوا يقومون بها، طبخ الأخباز والإسفنج والشواء وعصر الزيت وحملها وتخليص الرباع وتزليجها وخدمة الحمامات وسقاية الماء وكراء الأواني[39]. ومن البديهي أن أهل الذمة الذين حافظوا على دينهم ظلوا يشتغلون بنفس المهن، لأنه لا يوجد في منطق الأشياء ما يجعلهم يغيرون مهنهم، وهذه الصنائع هي نفسها التي نسبتها إليهم بعض المصادر الأندلسية وكذا أشتور في المصدر المشار إليه أعلاه[40].
وكانت النساء أيضا تساهمن في الصناعات كما يقول ابن حزم، الذي ذكر من "النساء الطبيبة والحجامة والسراقة والدلالة والماشطة والنائحة والمغنية والكاهنة والمعلمة والمستخفة والصانعة في المغزل والنسيج" [41].
وكان النشاط اليومي في السوق نشاطا مشتركا كما رأينا لا تفصل فيه العقيدة ، وإنما كان معياره التنافس والمعرفة[42]. ونظرا لتداخل المصالح فإن المحتسب رغب في أن يكون للأعاجم الذين يبيعون في السوق، إطلاع على أمور الدين[43]. واشترى المسلمون من النصارى حتى ما سرقه هؤلاء منهم[44]. واشتروا أيضا من اليهود لحم "الطريفة" مع أن اليهود حرموها على أنفسهم. وقد صار لفظ "طريفة = حرام، مستعملا بكثرة في الكتابات الأندلسية، مما يدل على رواج هذا النوع من اللحم[45]. وكانت العلاقات التجارية تتسم بثقة كبيرة، إذ كانت المعاملات تنبني على رسم يكتب وكفى، وقد يطول أمدها[46].
واعتنى الأندلسيون بمراقبة الأسواق وتوسيعها وتنظيم المهن بها والحرص على تخصص المهنيين والتجار، ومراقبة التجارة وجودة السلع وعدل الموازين ومراقبة الأطعمة لحماية صحة السكان، فكان من وظائف الدولة الكبرى الحسبة وصاحب السوق وصاحب الشرطة. وألف الأندلسيون كتبا كثيرة في هذه الوظائف.
ومن الأكيد أنه كان بالأندلس صناعات كبرى وتجارة دولية وردت الإشارة إليها في أماكن كثيرة في كتب التراجم والرجال والتواريخ، مـــــــما لم نستطع ذكره هنا، نظرا لموقع الأندلس الجغرافي وغناها في باطـــــن الأرض وظاهرها ، وحَوْطِها ببحرين عظيمين وكونها كانت مراكز لسلطة قوية في كثير من عهودها .
ومن الضروري أن ينعكس هذا النشاط الصناعي والمهني على حياة الناس في طريق العيش وفي القوانين المسيرة لنظام المدينة كالعدل.
4 - الــــــــعدل
إن الاختلاط في السكن والمعاملات التجارية والنشاطات الاقتصادية، تفرض حتما وقوع نزاعات مما يستوجب تدخل القضاء. وقد كان الفاتحون منذ البدء على وعي بما يحدث في مقبل الأيام، لذلك مكنوا لأهل الذمة استقلالا فيما يخص قضاياهم. وبنيت هذه الاستقلالية على وثيقة ترجع إلى أيام عمر بن الخطاب، وهي الوثيقة التي بعث بها القائد عبد الرحمن بن غانم إلى عمر بن الخطاب، حين صالح القائد المذكور نصارى الشام[47]. ويتضح، بادئ ذي بدء، أن نصارى الأندلس لم يتقيدوا، خصوصا في بداية الفتح، بجل بنود الاتفاقية. ففي المعاهدة التي وقعت بين عبد العزيز بن نصير و Théodémir (تدمير)، والتي أمن فيها ابنُ نصير تدميرَ على نفسه و أتباعه، وضمن له فيها حرية المعتقد، لم يرد أي تقييد يلزم تدمير ببقية البنود[48]. وظل مضمون المعاهدة ساري المفعول حتى عهد المرابطين والموحدين ، ولم يفرض الفاتحون الإسلام على أهل الأندلس فرضا ، وظلوا يعاملون السكان الأصليين ، نصارى ويهودا ، معاملة خاصة مكنتهم من حرية الدين والمعتقد . فقد أفتى القاضي أبو عبد الله بن يحيى ، وكان شيخ المفتين بقرطبة (ت297)، بإطلاق سراح صبي نصراني أسلم ثم عاد إلى النصرانية ، في حين ورد الإفتاء بقتل من ارتد من أولاد المسلمين ، متى بلغ ولم ينفع فيه التأديب . وسوت الفتوى التاسعة ، في أحكام أهل الذمة بين من أنكر نبوة محمد r سواء كان ذميا أو مسلما ، ولم توجب شيئا على اليهودي والنصراني الذي يشهد بأن محمدا r أرسل للمسلمين ولم يرسل إلى أهل الذمة[49]. وجاء في فتوى ابن تاشفين أن الذين أسلموا خوفا يقبل إسلامهم، وإذا رجعوا عن الإسلام لهذا السبب يعذرون " إذ لا ملامة عليه (من رجع إلى النصرانية ) في أن يفر من الظلم بالخديعة والتلاعب[50]. وقد ترتب عن قضية إسلام النصارى قضايا عويصة تجلى فيها كلها أن أهل الحل والعقد كانوا دوما لا يحيدون عن العدل في أحكامهم وما فيه يقررون. وكان القضاة أنفسهم يتحرزون في إصدار أحكامهم على المتهمين، بل ظهر تردد الحكام أنفسهم في الموافقة على هذه الأحكام، مما جعلهم يستفتون الفقهاء قبل اتخاذ أي قرار[51]. وكانت القضايا تحمل إلى الخليفة نفسه عندما تتعلق بمهمات الأمور، كما تدل على ذلك رسالة Louis Le Pieux ومسيحي Merida سنة 828م، الذين تظلموا فيها للخليفة عبد الرحمن وابنه الحكم، من ثقل الضرائب. وظل المسيحيون يتمتعون في القواعد الرئيسية مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة باستقلال ذاتي، ويطبقون شرائعهم القوطية القديمة على يد قضائهم وتحت مسؤولية قواميسهم[52]، الذين كانوا يتمتعون باحترام كبير، وكانوا من مستشاري الخلفاء في قضاياهم الخاصة، وفي قضايا النصارى وأحوالهم. ويذكر ابن القوطية أن عبد الرحمن بن معاوية هو الذي نصب أول قومس في الأندلس[53]. ويبدو أن القومس كان يرأس جهازا إداريا كاملا مركزه قرطبة وفروعه في الْكُور. وهكذا فقد كان أهل الذمة في مختلف مدن البلاد وكورها يسيرون أمورهم برئاسة شيوخ من أهل دينهم ذوي حنكة ودهاء ومداراة ومعرفة بالجباية. وعليه فإن قضايا الطائفة خلال القرن العاشر كانت تدبر بواسطة موظفين تختارهم الطائفة باتفاق مع السلطة الإسلامية العليا. وكان على رأس هذه الإدارة شخص يسمى باللاتينيةDefnsor أوProtector وهو الذي عرف في أدبيات التاريخ الأندلسي بالقومس( Conde Comes ) . وكان الـExceptor هو الذي يحصل الجباية والضرائب. ويقضي في قضاياهم الشرعية الخاصة بهم، قاض يعرف بقاضي النصارى أو قاضي العجم، ويسمى باللاتينيةCensor . وكان مرجعهم التشريعي قوطي. أما الخلافات التي كانت تقع بينهم وبين المسلمين، فإنها تعرض على القضاء الإسلامي. ومن قضاة النصارى بقرطبة، أصبغ بن نبيل ووليد بن خيزران وحفص بن البر[54]. وجاء في المقتبس أن الخليفة الحكم استقبل سنة 360/970 رسل حلويرة ( Elvira ) بنت المــــلك رودمير " فوصل مع العجم من كبار نصارى قرطبة قاضيهم أصبغ بن نبيل وأسقفهم عيسى بن المنصور وقومسهم معاوية بن لب ومطران إشبيلية عبد الله بن قاسم، يترجمون عنهم" [55].

وكان القوامس الذين كانوا يسهرون على القضاء وأمور اهل الذمة، يظهرون الطاعة للسلطة الحاكمة في كثير من المناسبات، إذ عندما وصل المنصور إلى مدينة عليسة وافاه " عدد عظيم من القوامس المتمثلين بالطاعة، في رجالهم وعلى أتم احتفالهم، فصاروا في ملك المسلمين". وقد أظهر المنصور هذا احتراما لهم و أجزل لهم العطاء " فأجاز هناك القوامس بجملتهم على اقتدراهم وكساهم وكسا رجالهم وصرفهم إلى بلادهم"[56].
وظلت سلطة اليهود وقضاءهم ومقاليد أمورهم الدينية الخاصة بهم بين أيديهم ، فقد جرت العادة على أن تعين السلطة رأس الجالوت أو "الناسي" أو شيخ اليهود، للقضاء في أمرهم وبتشريعهم، ويكون هذا الشيخ نفسه هو الواسطة بينهم وبين السلطة المدنية[57]. وقد جاء في فتوى وجهت إلى أبي العتاب، أن يهوديا ادعى أن عمه حبس عليه جنة، وقام نزاع حول هذه الجنة فأفتى ابن العتاب أن لليهودي الحق إذا أراد رفع دعواه على عميه ومحاكمتها إلى حكم أهل دينهم[58].
هذه بعض صور من أحكام وقضايا تمثل فيها تحقيق العدل في أبعد صوره. ففتاوى ابن سهل كثيرا ما كانت تحق الحق لأهل الذمة مع البينة دون أي اعتبار آخر، مثل الفتوى رقم 4 وهي في ادعاء يهودي ملكية غلام. والفتوى رقم 5، وهي في ادعاء نصرانيين لملكية فدان. والفتوى رقم 6 في موضوع خلاف بين مسلمة ورهبان. والفتوى رقم 8 في تحبيس جنة من يهوديين. والفتوى رقم 10 وتتعلق بإحقاق حق ليهودي دلال. والفتوى 12 في فدان محبس على مسجد وادعى القومس أنه من أرض الجزية[59]. وأقر ابن عبد الرءوف ثمن بيع الخمر للنصراني إذا حدث وباعه لمسلم وقبض الثمن. مع أن أصل البيع حرام[60]. كما استفتى علي بن يوسف بن تاسفين القاضي أبا القاسم أحمد بن محمد، الذي شاور بدوره فقهاء غرناطة في حقوق النصارى المعاهدين المنقولين من اشبيلية إلى مكناس، فأثبت الحق لهؤلاء بالطرق الشرعية الضامنة لحق أهل الذمة[61]. كما أفتى القاضي أبو عبد الله بن الحاج الذي كان معاصرا لابن رشد الجد، في صحة فداء أسرى نصارى، اعتمادا على رسوم أثبتوها هم أنفسهم[62].
وحكم القاضي على والي مريدة وهو محمد بن الخليفة عبد الرحمن الثالث، في قضية جارية، لصالح يهودي تاجر[63].

5 - اللغــــــة
إذا توفرت أسباب اللقاء بين جميع عناصر سكان الأندلس في دواوين الحكام ومجالس العلم والمناظرة، وفي مجالات العمل والاتجار وتساوي الحقوق، فإنه لابد أن تتفاعل اللغات واللهجات الأصلية التي هي بالقوة تمثل أداة التواصل للسكان الأصليين واللغة العربية، بحيث يتبادلان التأثير والتأثر. فعلى الرغم من سلطان اللغة العربية، وهجر الأمم لغاتها وألسنتها وتعويضها عربية في الاستعمال[64]. وبالرغم من تشكي رجال الدين النصارى من هجر تابعيهم اللغة اللاتينية وتأثرهم بالعربية ثقافة وأدبا[65]، فإن العربية لم تستحوذ نهائيا على ألسنة أهل الأندلس، فقد كانوا يستعملون بجانبها لهجات رومية محلية، كما كانوا يستعملون في لغتهم مزيجا من هذه[66]. "وكان كلام أهل الأندلس الشائع عند الخواص والعوام، كثير التحريف عما تقتضيه أوضاع العربية"، كما قال المعري[67]. و"من سمع لغة فحص البلوط، وهي على ليلة واحدة من قرطبة، كاد يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة[68]. وقال ابن حزم أيضا :"ودار بَلي بالأندلس: الموضوع المعروف باسمهم بشمالي قرطبة، وهم هناك إلى اليوم على أنسابهم لا يحسنون الكلام باللطينية، لكن بالعربية فقط"[69]، مما يدل على أن جهل هؤلاء باللاتينية كان نساجا. ومما يدل أيضا على شيوع اللغة العجمية في لسان الخاصة والعامة ما نقله صاحب البيان من أن خليفة الناصر أتم لوزيره أبي القاسم بن لب، بيتا من الشعر بلفظ أعجمي لما عجز الوزير عن ذلك[70]. ونقل لنا الونشريسي، فتوى يسأل فيها صاحبها عن رأي الشرع في من حلف بالعجمية أو طلق بها زوجه[71]. وتحدث السقطي عن حيل بعض باعة الرقيق، حيث كانوا يتفقون مع نساء مسلمات "يحكمن اللسان الأعجمي والزي الرومي" لتجري الحيلة على بعض البسطاء فيظنون أن الجارية أعجمية[72]. وكثرة استعمال الخرجات الأعجمية في الموشحات وتردد ألفاظ أعجمية في كتب النبات دليل على انتشارها الواسع، كما أشار إلى ذلك الدكتور محمد بن شريفة في كتابه أمثال العوام[73]. كما أن المتصفح لكتب لحن العوام أو لما استخرجه Dozy في ملحق المعاجم، يقف على حقيقة الاختلاط الحاصل في لغة الأندلسيين الخاصة والعامة.
سبق أن رأينا كيف شارك اليهود في كل دقائق الحياة العامة والخاصة وفي كل مرافق الحياة. ومن يرجع إلى تراثهم الفكري في الأندلس، وعهد الأندلس هو عصرهم الذهبي، سيجد أن أهم مؤلفاتهم، من كتب القواعد اللغوية إلى كتب الفلسفة، مرورا بكتب التفسير والآداب والعلوم، كلها كتبت بلغة عربية فصيحة، وكلها تدل عل علو باع في فن الكتابة، عندما يتعلق الأمر بكتب الإنشاء والبديع. وكلها تدل على اطلاع واسع بمناهج الكتابة في فن فن، بفارق بسيط، هو أن جلها استعمل الحرف العبري بدل الحرف العربي، لأسباب دينية في معظمها. ونضرب مثلا بأنمودج واحد هوأمير شعرائهم يهودا اللاوي (ولد حوالي 1075م) الذي كان يمزج في شعره بين اللغة العبرية واللهجة العربية الأندلسية، فجل خرجات ديوانه هي من هذه اللغة. ولا أدل على هذا التناغم اللغوي الأدبي من كتاب موسى بن عزرا المولود في غرناطة بين السنوات 1055و1060، الموسوم بـ المحاضرة والمذاكرة والذي كان المقصود من تأليفه هو إظهار قدرة اليهود على خلق أدب عبري شبيه بالأدب العربي، وبالتالي فإن مؤلف الكتاب سطر أنموذجا رائعا لتداخل الأدبين. وليس هناك أنموذ أبلغ في تقليد علماء اللغة اليهود المنهجَ اللغوي النحوي، من كتاب أبي الوليد مران بن جناح، المولود في قرطبة بين سنوات 985 و990م، المعنون بـ التلقيح، والذي تضمن جزءين: اللمع والأصول، فـــهو مؤلف فيــــه من علم العربية الكثير، وخصوصا سيبويه الذي شكل قاعدة الكتاب ومبناه. وفيه أيضا من استعمال اللهجة الأندلسية المشتركة الكثير، فاستشهادات قسمه الثاني، أي كتاب الأصول، عرض ممتاز لألفاظ وتراكيب هي دخيل اللهج الأندلسية الرائجة.
ولا يتمثل هذا التناغم في باب اللغة، في عناق اليهوداللغةَ العربية والتأليف بها وتقليدها، فهذا أمر طبيعي ما دامت أصولهم عربية محض، بل مغربية ولا غير. بل تمثل التفاعل اللغوي بالأساس في وضع اللبنات الأولى التي لم يسبق لها مثيل، في تأسيس علم للغة العبرية في كمال وشمول. إذ قبل هذه الفترة كان كل ما عند اليهود في باب اللغة والنحو، بعض نظرات تتعلق بأصوات العبرية وبعض صرفها، وبمعنى آخر لم يضعوا تاليفا في اللغة والنحو إلا ما تعلق بقراءة التوراة أو بما يتعلق ببعض مشكله الصوتي والصرفي، أما قواعد اللغة العبرية، نحوا وصرفا ومعجما وبلاغة وبيانا وقضايا نظرية، فلم تعرف إبداعها إلا في الأندلس، مع علماء لغة يهود أندلسيين، مثل مناحم بن شروق، صاحب الكناشة המחברת، ودوناش بن لبراط مؤلف الأجوبة התשובות، ويهودا حيوج، صاحب الأفعال ذوات حروف اللين والأفعال ذوات المثلين، ספר האותיות، فهؤلاء هم مؤسسو علم النحو والصرف واللغة في شمول كما قلنا، أتى بعدهم فطاحل اللغة والنحو مثل ابن جناح السالف الذكر وإسحق بن برون ويهودا بن قريش وأبراهام الفاسي وغيرهم، فهؤلاء ارتفعوا بالنحو واللغة العبريين ليصبحا جزءا من ثقافة شاملة توظف المعارف اللغوية في قضايا علوم أخرى مثل علم التفسير والفقه والكلام والبيان والشعر. والمؤكد أن الخصومات اللغوية العبرية في الأندلس، كانت هي أسباب نهضة فكر اليهود بصفة عامة. ذلك أن رؤساء المذاهب اللغوية العبرية في خصوماتهم احتموا برجال السياسة والسلطة من اليهود، فاستغل هؤلاء الفرصة، فقلدوا مخدوميهم من رجال السلطة في الدولة الإسلامية، وشجعوا اولئك وغيرهم من أعلام اليهود الذين تشربوا الثقافة العربية الإسلامية، ليفتحوا أبوابا جديدة لم يكن للفكر العبري علم بها، فصنعوا ما عرف فيما بعد بعصر الفكر اليهودي الذهبي، تقليدا وتأليفا وترجمة، من وإلى الثقافتين، بل وإلى الفكر اللاتيني. وهم بهذا قدموا أنموذجا راق للتفاعل اللغوي، ولقدرة الفكر والثقافة العربية على التاثير المثمر الجميل. وكان هذا الفعل سببا في إيجاد حضارة جعلت العلم فوق الأعراق والمعتقدات[74]. صنيع أكدته المشاركة اليومية في الأعياد والمناسبات.
6ـ المشاركة في الأعياد والمناسبات
جرت العادة أن يحتفل مسلمو الأندلس بعيدي الفطر والأضحى، فهما في الأصل وحدهما اللذان يعتبران يومي عطلة وطعام وشراب. وفيهما تقام صلاة العيد فيرتدي الناس أبهى الحلل. ويبدأ الحفل بالإفطار الذي يتكون من قمح مهروش وحليب. ويستمر الحفل حتى ساعة متاخرة من الليل، فـتزدحم طرق مدن الأندلس ويتراش الناس بماء العطر ويشربون من عصير البرتقال المعطر بالزهر[75]. وهذان العيدان هما المعتبران عند الفقهاء[76]. واعتبرت ليلة السابع والعشرين من رمضان، ليلة احتفال في المساجد والمرابط وفي البيوت غنيها وفقيرها. واشتهرت هذه الليلة أيضا بابتياع الحلوى التي عدها البعض بدعة[77]. ويحتفل في يوم عاشوراء الواقع في العاشر من محرم، بالصوم. ولم يكن العيد النبوي معروفا إلا بعد أن أدخله أبو محمد العُزْفي أمير بلنسية في القرن الرابع عشر، فعم بعدها الأندلس والمغرب. وكانوا يحتفلون فيه بمختلف الأطعمة والتزين والتنزه وركوب الدواب واجتماع الأطفال في الكتَّاب. وكانت فيه تختلط النساء بالرجال في التنزه. وعرفت ليالي العيد بحفلات عزف وضرب آلات الموسيقى. واستنكر بعض الفقهاء هذا العيد كما ورد في المعيار للونشريسي[78]. والذي دعا العزفي إلى إحياء عيد المولد هو مشاهدته أهل الأندلس الذين أصبحوا يشاركون جيرانهم القشتاليين في ليلة يناير. يؤكد ذلك سؤال ورد على أبي الأصبع عيسى بن محمد التمبلي "عن ليلة يسميها الناس الميلاد، ويجتهدون لها في الاستعداد، ويجعلونها كأحد الأعياد، ويتهادون بينهم صنوف الأطعمة وأنواع التحف، ويترك الرجال والنساء أعمالهم صبيحتها، تعظيما لليوم، ويعدونه (يغدو به) رأس السنة"[79].
كما أورد الونشريسي أيضا أخبارا عن إقامة حفل العنصرة بإجراء الخيل والمباراة. وعدد بعض عادات كانت تقوم بها النساء في هذا اليوم الذي صار عطلة متبعة. وذكر أيضا أن الناس كانت تعظم السبوت والآحاد وتترك العمل فيهن[80]. كما ذكر غريب بن سعيد في تقويمه المعروف بتقويم قرطبة، الاحتفال المشترك بالأعياد الموسمية وكذا بأعياد اليوم الأول من السنة، وبعيد المهرجان، وذكر أيضا أعيادا يشترك فيها كل سكان الأندلس، مع أنها كانت تحتفي بأولياء المسيحيين[81] واحتفل الأندلسيون أيضا بيوم النيروز في الدورة الربيعية، وربما كانوا يتنكرون فيه في حفل مهرجاني، ويتراشون بالماء في الطرقات والأسواق[82].
وكانوا يحتفلون كذلك بخميس أبريل، وذلك بالاكثار من شراء المجبنات والإسفنج، ويتنزهون رجالا ونساء جُماعا، فيتوجهون إلى المصلى للتفرج. "ويدخلون الحمام النساء مع الكتابيات بغير مزر، والمسلمون مع الكفار في الحمام"[83]. (هكذا).
وجرت العادة بالتعطل يومي السبت والأحد، كما تردد في بعض الفتاوى. وهذان اليومان هما يوما عطلة المسيحيين واليهود. وكانت تقام فيهما الطقوس الدينية، وتدق الأجراس في الكنائس وتتلى التوراة في البيع.
ومن الأعياد الدينية اليهودية الفصح، ويقع بين 14 و22 نيسان. وليلته الأولى، ليلة "السِّدِرْ" هي الأهم، وتؤرخ لخروج اليهود من مصر (سفر الخروج الإصحاح 12). وتتلى في هذا العيد "الهَكَـدَ" أو قصة الخروج، كما كانوا يجرون فيه حفل الأربعة عشر طقسا، وهو حفل يجمع بين الطعام والشراب والرمز، وهذا الحفل هو المعروف بـ "السِّدِر" أي الترتيب، لأ نه يجري بطريقة متتابعة رُتْبِيّاً، يبدأ فيها بصلوات ويتخللها تزيين المائدة بنباتات سبع كل منها يرمز لأمر . وكانوا يحيون الحفلات الكبرى في البيعة في حين كان حفل "السدر" يجري في البيت. ومن أعيادهم أيضا عيد "شبعوت" أو الأسابيع، وهو ذكرى نزول التوراة، ويصادف يوم 6 سيوان من شهورهم. والعيد مناسبة أيضا للاحتفال ببواكير الغلل والحصاد. ويعتبره كثير من الدارسين أقدم من ظهوراليهودية، لأنه لا يمثل في الحقيقة إلا الأعياد القديمة التي كانت تمجد عطاء الأرض، وعرف عند كثير من شعوب الشرق القديم. وأكثر أطعمته عند اليهود العسل والحليب. وفي هذا العيد يتلون "الأزهروت" أو الإنذارات، وهي 613 وصية توراتية، منها ما هو أمر ومنها ما هو نهي. وأشهر الأشعار التي تتلى في هذا العيد هي أشعار الشاعرين الأندلسيين، سليمان بن جبيرول ويهودا اللاوي. وتقام يوم العيد صلاة بعد الظهر تسمى "هَمِنْحَة" الهدية. بعدها يتراش الناس بالماء. وتتشابه كثير من أفراح هذا العيد بأفراح عيد "لعنصرة" عند المسلمين، إذا لم تكن الأصول مشتركة.
يلي هذا العيد عيد "سكوت" أو المظال". ويُذَكِّر بالفترة التي قضاها العبرانيون تحت مظال الصحراء أثنا التيه منذ الخروج حتى مشارف فلسطين. وتنصب المظلة بعد صوم يوم الغفران. وجرت عادة اليهود في الأندلس بنصبها خارج البيعة وليس في البيوت، وهذا مخالف للوصايا، وكان الأحبار دوما ينتقدونه[84]. وينتهي العيد بـ"سِمْحَتْ تُورَه" فرحة التوراة، وتصادف اليوم التاسع من الاحتفال، حيث تزين أماكن العبادة بالأضواء، ويطوف المصلون حول "الْمِقْرَه"، وهو تابوت وسط البيعة، يرقصون حاملين "السِّفَريم"، أو لفائف التوراة" بحضور الأطفال ورقص النساء والرجال، وهذه عادة استنكرها الأحبار ورفضوها[85]. توزع الحلويات والفواكه بعد هذا الطقس، وينتهي الحفل بإضرام نيران عظيمة تأتي على المظال، ويسمح هذا المنظر بالتسلية والقفز. ولهذ الحفل شبه بنيران عاشوراء.
ومن الأعياد التي احتفى بها يهود الأندلس "حنوكا" أو الشمعدان، وتخلد ذكرى انتصار "المَكَّابيين" على الرومان وإنقاذ هيكل القدس. ويستغرق العيد ثمانية أيام، تظل فيها الشمعدانات مشتعلة دون انقطاع تشفعها الأفراح. وفيه يهدى الأطفال اللعب.
وهناك أعياد أخرى مثل:
عيد "البوريم" الذي يقع في 14 من شهر آدار. ويتميز بالافراط في الشرب، وبه تعرض مسرحيات تذكر بانتصار مردخاي على هامان وقصة إستير التوراتية.
ويوم 9 آب وهو مناسبة صوم وحزن تذكيرا بأحداث تحطيم الهيكل الثاني على يد الرومان. وكان يهود الأندلس يرتلون فيه صهيونيات يهودا اللاوي.
و"رُوشْ هَشَّنّة" أو رأس السنة الجديدة، وكانوا يتحللون فيه من الندر ويصلحون ذات البين ويكفرون عن ذنوب العام الذي انقضى بتقديم "الفُدى" وإقام صلاة الغفران يوم "كِبُّور". وكانت ترتل في هذا العيد نصوص من التوراة وأشعار سليمان بن جبيرول ويهودا اللاوي وموسى بن عزرة، وكلهم من كبار شعراء الأندلس[86].
صحيح أن هذه الأعياد والمناسبات دينية يهودية محض، ولكن طرق الاحتفاء بجلها يشرك بقية السكان بوجه من الوجوه. وقد بقيت هذه المشاركة الإنسانية قائمة في المغرب قبل أن تضع التطلعات الصهيونية حدا للروابط الإنسانية التي هي أمر طبيعي في كل مجتمع سوي مبني على العدل والمساواة.
من الطبيعي أن يرافق هذه المناسبات الدينية المختلفة مظاهرها الشعبية الدنيوية. وهكذا عرفت الأندلس حفلات موسيقية وغنائية في الدور والقصور، وعرفت حلقات اللعب بالورق والسطرنج، وكلها مظاهر تردد صداها في دواوين شعراء الأندلس وكتب تاريخها. كما كانت الطرق تزخر بعديد من العروض المسلية الممتعة. فهناك ساحر "يُقَلِّب العين" ويدهش المتفرجين. وهناك قهرمان ينط بلطف وإبداع. وعلى بعد من ذلك يتجمع العامة على قارئ البخت والحظ على الرمال. وبائع الأحجبة والأعشاب يروج لبضاعته بسحر الكلام. أما حكاة القصص ورواة الأخبار فإنهم ينقلون سامعيهم إلى غابر الأزمان ومسالك الممالك بجميل اللغة وغريبها. والزُّجَّال يفتنون هواتهم بإبداعهم الذي يمزج بين الفصيح والعامي والقشتالي. كما كانت عروض الفروسية وسباق الخيل التي تجري في باب الرملة أو الثوابين في غرناطة، لا تقل متعة عن مشاهد صراع الكلاب والثيران، أو اللعب بالعصي[87]. وعرفت الأزقة والدروب الضيقة من لهو الأطفال جميله، فهم فيها يجرون ويمرحون، وهم فيها يحدثون دُماهم الطينية أو القصديرية، أو أفراسهم الخشبية. وجوه من اللهو والحياة تردد ذكرها عند ابن خلدون والمقري وغيرهما، وكذا في كتب الحسبة.
7ـ اللــبـــــــاس
انتقل هذا التناغم الاجتماعي الذي نسجه النشاط السياسي والاقتصادي وربطته خيوط اللغة والمناسبات إلى مظهر اللباس. وكان لهذا الجانب وجهان أحدهما سلبي والآخر إيجابي كما سنرى.
ويظهر أن عادة تقليد زي النصارى في الأندلس كانت رائجة، يقول المقري:" وكثيرا ما يتزيى سلاطينهم وأجنادهم بزي النصارى المجاورين لهم" [88]. ولم يشر الضبي في بغيته إلى تفرقة بين لباس المسلمين وأهل الذمة وإنما أشار إلى اختلاف لباس أهل المدن والبوادي[89]. ولم يشر المقري الذي خصص فقرة لزي الأندلس إلى أي ميزات بين لباس أهل الذمة وغيرهم باستثناء الغفائر الصفر التي خص بها اليهود[90]، مع العلم أن ذلك كان في ظروف خاصة ولفترات محددة معينة. وربما اشترى المسلم لباس اليهودي أو النصراني واستعمله. فقد ورد في رسالة ابن عبدون أنه لا يجب أن يباع ثوب المريض واليهودي والنصراني إلا أن يعرف به[91]. ومما يؤكد هذا الاستعمال، سؤال ورد في المعيار عن الرجل يشتري من النصراني الخفين فيلبسهما، فأجيب:"بعد غسلهما". وأجاب بعض الفقهاء بجواز الصلاة بهما[92]. ومما يدل على رواج لبس ثياب النصارى تخصيص الونشريسي لهذا الموضوع فقرة طويلة في كتابه "المعيار"[93].
ومع ذلك فقد جاءت إشارات في بعض المصادر تشير إلى تخصيص أهل الذمة وخصوصا اليهود بميسم معين، فقد جاء في رسالة ابن عــبدون :" يجب أن لا يترك أحد من المتقبلين ولا من الشرط ولا من اليهود ولا من النصارى بزي كبار الناس ولا بزي فقيه ولا بزي رجل خير"[94]، غير أن هذا كان لظرف خاص جدا هو سياسي أكثر منه أي شيء آخر، وكان يشمل أهل الذمة وغيرهم كما هو ظاهر في النص. ونقل ابن الخطيب أن إسماعيل ابن فرج بن إسماعيل بن يوسف... أمير المؤمنين (ق.7) "...أخذ يهود الذمة بالالتزام بسمة تشهرهم وشارة تميزهم...وهي شواشي صفر" . ونقل ابن الخطيب حكاية يستفاد منها أن الأمير المذكور هو الذي فرض ذلك ولم يكن عاما في كل الأندلس ولا في كل تاريخها[95]. ومما يدل على أن المسلمين كانوا هم أيضا يرتدون الغفارة الصفراء، أن ابن قزمان الشاعر المشهور، لما دخل غرناطة، واجتمع بنزهون القلعية، وهي شاعرة مشهورة أيضا، كان يحمل غفارة صفراء، مما جعل هذه الشاعرة بعد أن سمعت شعره تقول: "أحسنت يا بقرة بني إسرائيل"، تتفكه به لحمله الغفارة الصفراء[96].
ويمكن أن نقول إنه على الرغم من هذه الإشارات القليلة، المتعلقة بهذا الميز المحدود في المكان والزمان، فإن الناس في الأندلس كانوا يشتركون الزي، لأنه أصبح مظهرا من المظاهر الحياتية والتي أراد لها منطق التعامل والتواصل والدب على الأرض، أن تكون متشابهة.
والمادة الأولى للباس هي النسيج، وقد عرفت صناعته ازدهارا كبيرا في الأندلس. إذ اشتهرت اشبيلية بنسيج القطن وبصناعة القماش غير النفاذ، وكان بالمرية أيام المرابطين ثمانمائة "طراز"، (معمل للنسيج)، يصنع بها الديباج والقسطلون، وهو منسوج من حرير أصله يوناني. والاصبهاني والجرجاني والثياب المعينة أي المنقتة بالشكل الهندسي المعين والخُمُر والعتابي وصنوف أخرى من نسيج الحرير. وعرفت مالقة بالموشى المذهب، وغرناطة وباجة بالملبد المخطم. وكانت دور الطراز مؤسسات حكومية تعين الدولة على رأسها موظفا يعرف بناظر الطراز أو صاحب الطراز. ومهمته مراقبة الجودة ووضع اسم الخليفة على النسيج[97]. وانتشرت هذه المعامل في كل أرجاء الأندلس التي أصبحت تصدر الكثير من أنسجتها التي كانت مطلوبة جدا. وكان المنصور بن أبي عامر يهدي الأمراء المسيحيين قطعا كثيرة من الحرير الطرازي وغيره[98]. وكان القسيسون يكفنون في هذه القطع الحريرية الغالية[99].
وكان عامة الأندلس لا يتعممون في حين كان قضاتهم وفقهاؤهم يفعلون ذلك في غرب البلاد. وكان العامة والخاصة يتزينون بالطيلسان فيضعه العامة على الأكتاف والشيوخ والعظماء على الرأس. كما كانوا يضعون على رؤوسهم غفائر الصوف الحمر أو الخضر. وكان العلماء يسدلون الدوائب على الأذن اليسرى[100]. وكان ذوو السلطان أو كبار القوم يرتدون معاطف وجُبَّات من حرير بأكمام عريضة مطرزة العنق والأكمام. وترتدي النساء نفس اللباس مع خمار أو منديل مخطط. وقلد المسيحيون هذا اللباس وحافظوا عاى اسمه الأصلي . aljuba أما لباس العامة فكان جبة من الصوف أو القطن في المدن ومعاطف قصيرة من ثوب خشن في البوادي. وكان البرنوس رفيقهم في السفر وأيام البرد. وانتعل الرجال والنساء أحذية خفافا سوداء اللون ذات رأس مثنى. وظل الغرناطيون حتى القرن الرابع عشر، يرتدون جبات من قماش ملون تختلف قيمته حسب لابسه. وكان لباسهم الصيفي من كتان أو حرير أو قطن أو قماش رقيق. والدراعة لـباس خارجي ألوانه زاهية مثل الأحمر والأخضر، وهذا تأثير مسيحي، كما تقول أريي التي اعتمدت في وصفها للباس أهل الأندلس صور سقف الحمراء وآثارا أخرى. واستخرجت من هذه الصور الأنواع الآتية: الجلابيب بقب وأكمام قصيرة عريضة. البرنوس بالصوف الرقيق. المعطف القصير الأكمام العريضة، الذي يوضع ذيله تحت السروال الواصل للعرقوب. العمامة لكبار القوم والعلماء والجنود المغاربة (المرلوطة).
أما ألبسة النساء فهي رداء من كتان فضفاض مثنى يتصل بالحزام. أقمصة طويلة من كتان وستر من صوف أو من حرير. وشاح الخروج وهو من كتان أبيض أو قطن أو حرير. ونعل المنزل هو القبقاب أو الشربيل، وهو حذاء من جلد رقيق ذي ألوان زاهية، قد يكون مطرزا يخيوط الفضة والذهب، ومغلف بالحرير[101].
والظاهر أن هذه الألبسة كانت مشتركة بين الطوائف الثلاثة في رخيصها وثمينها، إذ امتنع الربي إسحق همون وبعض الأطباء اليهود أيام الإمارة الأخيرة بغرناطة من ارتداء الحرير وركوب الخيل حتى يعود لإخوانهم ما كانوا يتمتعون به من احترام بعد أحداث كانت قد طرأت[102].
وكانت القطيفة الغليظة الغنية بالألوان مادة أولية في صناعة الألبسة. وكانت الألوان السوداء والحمراء والخضراء والزرقاء هي الشائعة مع استعمال التطريز بخيوط الذهب. وكانت هذه الصناعة معروفة عند اليهود الذين أكثروا من رسم الأشكال الهندسية والزهور والطيور والشمس[103].
ومن ألبسة الأعياد عند اليهود "الكسوة" وهي من حرير أحمر بضفائر خيوط مذهبة وهي للنساء. وكان الرجال يرتدون في مناسبة العيد جبة قصيرة من الأمام طويلة من الخلف، مع سراويل وحزام منصوف[104]. ومن ألبسة اليهود الفاخرة في الأندلس القفطان أو "لْكسْوَ لَكْبيرَة" كما كان يسميه اليهود. وهي عادة لباس العرس. غير أنها تستعمل في المناسبات الكبيرة بدون تطريز. وتسمى هذه الكسوة التي أثْرَت لباسَ العروس اليهودية، في المغرب باللاتينية Traje berbersco، وتكون من خمسة أجزاء:
1ـ خلطيطا أو زلطيطا أو زنطيطا أو فلطيطا. وباللهجة اليهودية العربية (ي.ع)خْيالديطا وخَرْلْديطا.
2ـ كَـُمبيز، أو صدرية. Qsut(ي.ع).
3ـ وَجْهَ أو كْتافْ، Busdida Punta, Patu (ي.ع).
4ـ كمام، mangus (ي.ع).
5ـ حزام، hkudiga (ي.ع)[105].
ويرتبط الحلي والتجميل باللباس، وقد كان مسلمو الأندلس مأخوذين بالأحجار الكريمة مثل الياقوت والزبرجد والزمرد. وهذه عند ذوي السلطة وأغنياء العائلات. كما كانت الحلي الأخرى شائعة عند نساء الأندلس مثل القلائد والدمالج والخلاخل والشنوف، والجوجولا (حلي الأذن) وهي من ذهب عند الأغنياء ومن فضة عند غيرهم [106]. وعرفت نماذج أخرى من الحلي حملها معهم يهود الأندلس إلى المغرب، مثل:
ـ التاج، وهو عادة سبعة أجزاء أو خمسة، بشكل هيئة نباتية منبتة بأحجار كريمة
ـ القلادة المعروفة بـ "تَزْرَة" وهي عبارة عن سلسلة بها ثلاث حلقات على شكل زهور، ـ وتعرف بـ "دْرانتي"، ولعله محرف الغرناطي.
ـ الدبوس، وهو عبارة عن حِلية مدورة تمثل زهورا. وهو منذهب[107].
وكان للأندلسيين أيضا ولع بالطيوب، وجله يستقطر من الورد والزهر والبنفسج. واستعملت النساء الكحل للأهداب والحجبان، والحناء والقرطم لصباغة الشعر. وكانت صباغة شعر الرأس واللحية عادة متبعة حتى عند الرجال. وكان البعض يضفر شعره بجدائل من حرير ويتركه طويلا[108]. وكان للعطور أوانيها الخاصة، وهي غالبا ما تكون غالية الثمن. من أمثلتها علبة أسطوانية ذات غطاء مقبب، وتعود إلى عصر الخليفة الحكم المستنصر. وهي معروضة في متحف الجمعية الإسبانية الأمريكية في نيويورك، ومن الأشعار التي تزخرفها عرف أنها كانت خاصة بالعطور[109].
وكان لا بد لهذا الذوق الأندلسي الحضاري الرفيع من العناية بالنظافة في كل صورها. واعتبر المقري أهل الأندلس أكثر الناس نظافة. وعد ابن عذاري من حمامات قرطبة أيام عبد الرحمن الثالث، ثلاثمائة حمام للنساء فقط[110]. وكان الحمام- وهو مؤسسة عمومية، مع وجود حمامات خاصة- ذا أهمية قصوى عند الحضريين والقرويين على حد سواء. وكانت النساء أكثر ترددا عليه، فهو مكان اللقاء والتفنن في التجميل. كما كان الحمام ضرورة دينية عند النساء والرجال. واكتسب هذه الصفة عند اليهود الذين تعودوا الغسل بعد الاحتلام بتأثير إسلامي[111]، بل صار عندهم التوضؤ، وهو غير معروف في اليهودية سنة متبعة نص عليها ابن ميمون في كتبه التشريعية. وتأثر المجتمع المسيحي بمجاوره العربي، فبنى حمامات على غرار الحمامات الأندلسية. إذ كانت حمامات برشلونة في منتصف القرن الثاني عشر وحمامات جرونة في آخره شبيهة بالحمامات الإسلامية. وحافظ الغرناطيون على هذا النموذج، فكانوا هم العملة الذين بنوا الحمامات الملكية في قصر الفونسو الحادي عشر، في القرن الرابع عشر[112]. ولعل حمام قرطبة كان يمثل نموذج الحمامات الأندلسية. وكان يتكون من ثلاث غرف قبلها مدخل به مقصورات لإزالة الثياب والاسترخاء. الغرفة الأولى طويلة ضيقة وتسمى "البَارد" والثانية، وهي جميلة مقاسها 11م. على 7 وربع المتر، ووسطها بركة ومرش. وسقفها قبة في ارتفاع 8م. وبجانبها مقصورات تنتهي بأقواس وأعمدة، وبلطت أرضها بزليج ملون. ينفذها النور من كوى ملونة الزجاج، وتسمى "الوسطاني". والغرفة الثالثة "اسْخون" وتجاور "بيت النار". وكانت الأرضية تسخن بتمرير الهواء الساخن الذي تنقله أنابيب في الجدران وتحت الأرض. وتزين الحمامات عادة بصور ملونة يمثل بعضها تماثيل. وكان لليهود حمامات في الأحياء التي اختاروها لتخصهم، وتسمى "مَقُّوت". وكان بها حوض عميق يحتوي الجسم كله. وإذا كانت الحمامات الإسلامية تجاور في العادة االمساجد، فإن حمامات اليهود كانت تجاور الكنيس الأعظم في قرطبة[113]. وكان اختيار اليهود حماماتهم الخاصة رغبة منهم لا عن إجبار، ذلك أن الحمامات، كما أخبرت بذلك الفتاوى، كانت مشتركة يدخلها المسلم والنصراني واليهودي، وكان خدمتها المسلمون يخدمون الجميع[114].
8ـ المرأة والزواج
لم يمنع الإسلام الزواج بالكتابية، ولذلك كانت عادة الزواج بالنصرانيات أمرا شائعا[115]. فقد تزوج عبد العزيز بن موسى بن نصير بزوجة ردريق أو ابنته التي أسلمت فيما بعد[116]. وكانت أم موسى بن محمد ابن عبد الملك بن فرتون الثائر بالثغر الأعلى سنة 329هـ، نصرانية من أهل بنبلونة، وتزوجها فيما بعد غرسية بن شايخة[117]. وكانت جدة الناصر (ق. 10) Donalniga أيضا نصرانية. وتزوج المنصور ابنة ملك Navarra سنشو الثاني[118]. وتنصرت أيضا بعض الأميرات مثل زوج المأمون بن المعتمد بن عباد زائدة التي أنجبت للأدفونس[119].
وشاع الزواج بالذميات بين الناس، مما جعل هذا الموضوع خصبا في كتب الحسبة. ففي رسالة ابن عبد الرؤوف: "ويؤجل الرجل المريض الممنوع من ماله أن لا يتزوج ما دام مريضا مسلمة ولا ذمية..."[120]. وجاء أيضا في الفتوى 16 من فتاوى ابن اصبغ أن صبيين مسلمين توفيت أمهما، وأم الأم نصرانية وأم الأب مسلمة فلمن تكون الحضانة؟، وكانت الفتوى أنها تكون لأم الأم النصرانية وإن كانت أم الأب مسلمة[121]. وفي هذه الفتوى كبير مغزى.
والمرأة من حيث هي في المجتمع الأندلسي، عرفت وضعا رائعا قل نظيره. فقد كانت الأميرة والطبيبة والشاعرة والمستشارة والمعلمة والعاملة والخادمة وتلك التي تمشي في الأسواق، كباب العطارين في قرطبة[122]. كما كان لها في كل مدينة من مدن الأندلس ممشى تتروض فيه. وكانت تشارك في المهرجانات والحفلات. ولم تكن تغيب عن أي مظهر من مظاهر الحياة. وفصلت في ذلك كتب التراث الأندلسي ككتاب طوق الحمامة أو النفح أو الذخيرة وغيرها. وكانت المرأة مختارة في التحجب أو عدمه.
وكان تعدد الزوجات والتسري بالجواري شائعا عند الطبقة الغنية والمتوسطة. وكان بعض الآباء يعقدون لأبنائهم وهم صغار، أو يقدمون الصداق نيابة عنهم، فتتفق الأسرتان على الصداق مقدارا ونوعا، وقد يكون نقدا أو عقارا أو حليا أو رحلا. وربما تبرع أب البنت لصهره بصداق بنته أو طلب صداقا بسيطا. وكثيرا ما تصرف قيمة الصداق في شورى البنت[123].
وتتضمن الشورى فرش البيت والزرابي واللباس والحلي، تبعا لما شرط ووثقه العدلان اللذان يكتبان عقد الزواج. وكانت مدة أفراح العرس تدوم أسبوعا يبدأ في بيت الزوجة بحفل الحمام. وتنقل العروس إلى بيت الزوجية حيث تتطلع إليها أعين الحاضرين، فتقام الولائم وتعزف الموسيقى في حفل يحضره الرجال والنساء. وتصبح الزوجة المسؤولة عن البيت وتنظيمه، ولا تغادره إلا نادرا إذا كانت من أهل اليسار. ولذلك فزيارة الصواحب والأقارب تكون مزيلة للملل وكذا خرجات الحمام مرة أو مرتين في الشهر، تسمح بالحديث ولقاء الصواحب. وقد تكون زيارة المقبرة يوم الجمعة مناسبة أخر للتفرج على عوالم المدينة، إضافة إلى خرجات مناسبات الأعياد الدينية للتجول على ضفاف النهر أو التنزه في الضيع[124].
وتقابل حياة الفراغ التي تحياها الموسرات، حياة تعب وكد لدى الفقيرات اللائي يعملن في الأسواق ويشتغلن في الدور عند المسلمين وغير المسلمين.
وتكون مناسبة الولادة، وخصوصا الذكر، فرصة لإقامة الاحتفالات وإيلام الولائم ودعوة المغنيين والمنشدين. ويتوسل لحماية المولود بالأحجبة والأدعية. وتعد حفلات التسمية والختان مناسبات أخرى تجمع بين الواجب الديني والتفاخر الاجتماعي، وخصوصا عند الأغنياء. وتتخلل حياة الطفل عديد من المناسبات المفرحة، مثل دخوله الجامع أو حفظه الحزب الأول أو حفظه القرآن كله. وقد أطلنا الحديث في مجريات تربية الطفل الأندلسي في مقال لنا نشرناه في مجلة التاريخ العربي[125].
ويتشابه الزواج والإعداد له لدى الساكنة اليهودية الأندلسية. فالزواج أو "الشِدُّوخين" لا يثبت إلا بالهدية أو "سّبْلانوت" وبمباركة تلاوة "القِيدوشين". ويتم رسميا بالصداق الذي يحدده عقد أو "لَكْتوبة" والنكاح الذي هو "نيسوئين". وقد يتزوج اليهودي امرأة ثانية بوجود أسباب. ويجري حفل الزفاف في إيقاع من البهجة والسرور بحضور "الْمِنْيان" أو النصاب الشرعي الذي هو عشرة من الحاضرين فما فوق، وبحضور الحبر والقاضي وعضو من مجلس الطائفة "المَعْمَد". ويرتدي الزوج بعد استحمام التطهير "اطْبِلَ"، كسوة الاحتفال، في حين تتربع العروس على كرسي الزوجية "تَلَمو"، في لباس رائع يعرف بـ "لْكَسْوَ لَكْبيرَ". وتدوم الأفراح أياما تنتهي بـ "تورْنَبادو" أو عودة الزوجة من الحمام. وتكون مناسبة ازدياد المولد الذكر مناسبة كبرى، تتخللها عديد من الطقوس والعادات التي ترمي إلى حفظ المولود وحمايته، وهذه عادة متبعة عند جيرانهم المسلمين. وتكون مناسبة "لْميلَه" أو الختان التي تقع في اليوم الثامن بعد الميلاد، مناسبة كبرى، لما لها من رمز ديني هو نفسه الذي يحتفى به عند المسلمين. ولا يضاهي هذه المناسبة إلا الاحتفال بـ "بَرْ مِصْبَه" أو بلوغ سن الرشد الديني الذي يصادف سن الثالثة عشرة، وهو بداية المسؤولية الشرعية ونهاية المرحلة الأولى من التعليم. وتعد مناسبة حفظ نصوص من التوراة أو إلقاء "دْرَشَة" أو خطبة في البيعة، منتهى فخر الآباء وقمة فرحهم. وتكون هذه بمناسبة الاحتفال بـ "بَرْ مِصْبَه"[126].
جرت الأقدار بأن لا تكون الحياة أفراحا كلها. وأشد الحالات حزنا عند الإنسان حالة فقده عزيزا. ويكون الفقد هادئا أو على عجل. وعرفت الأندلس من هذا الكثير، لأنها عرفت أوبئة متعددة كالطاعون وغيره، مما جعلها تنظم جهاز الصحة تنظيما محكما تجلى في كثرة الأطباء وكثرة مصنفاتهم وبناء البيمارستانات على اختلاف أنواعها. وقد أرخت كتب المعاجم لكثير من الأطباء، وتحدثت كتب تاريخ العلم عن كثير من مكتشفاتهم وأدواتهم الطبية الرائدة. غير أن الآجال لا تقدر على تعدي المقادير، وعندها يرتفع الصراخ والبكاء في مأتم تنوح فيه البواكي والنوادب. وكانت بعض النساء تمتهن هذه المهنة كما جاء عند ابن حزم في طوق الحمامة[127]. وكانت عادة النساء في الأوساط الفقيرة أن تطلي وجوههن بالسواد، وتصرخ وتلطم الصدر والخد[128]. وكان المؤذن يعلن عن صلاة الجنازة بباب المسجد[129]. وكان موكب الجنازة يسير متثاقلا على نغمات الذكر والتكبير، وإلا خرج عن العرف، كما يصور ذلك المثل الشعبي حين يقول: "جْنازْتْ لِهود اجْرَ واسْكَتْ"[130]. وكان لا يسمح للمرأة بمرافقة الجنازة حتى المقبرة التي كانت تقع خارج السور، كمقبرة غرناطة التي كانت بباب "إِلِفِرا"، وكانت مغروسة زيتونا[131]. وعلامة الحداد كانت هي البياض أيام الأمويين، والأزرق والأسود أيام المرابطين[132].
وكانت عادة اليهود التجمع خارج الدار انتظارا لحمل الفقيد على الأكتاف إلى المقبرة التي تقع في غالب الأحيان قرب الباب المجاور لحي اليهود. وكانوا يرتلون وهم في طريقهم إليها نصوصا توراتية جلها من المزامير. وإذا حدث ومروا داخل الأحياء الإسلامية فإنهم يهرولون صامتين، وهو ما عبر عنه المثل السابق. وكان من عادة يهود الأندلس أن يدفنوا مع الفقيد ما يحبه، كالحلي للنساء، وبعض الكتب للعالم الفقيه، وهذه عادة بقية متبعة حتى عند يهود المغرب فيما بعد. وجرت عادتهم بوضع الشواهد خاصة على قبور العلماء وكبار القوم، وكانوا ينقشون عليها فقرات من التوراة أو بعض الأشعار. كما عرفت عندهم هذه المناسبة الندب وتمزيق الثياب ولبس الحداد[133]. ومن البين أن هذه المناسبات، مناسبات الأفراح والأحزان، تتشابه كلها لدى الطوائف إلى أبعد الحدود. فهي حالات إنسانية متشابهة، وصبغتها بالفروض الدينية تستجيب لنفس الشعور. والتجاور المكاني والتعامل الاجتماعي والشعور بالمصير المشترك، كلها أمور توحد مظاهرها وتدعو إلى التشارك فيها فرحا وحزنا، خصوصا في مجتمع لم يعد يعرف الحدود إلا قي ضيق الحدود.
9- صور أخرى من اللقاء بين أهل الأندلس
من ذلك الاشتراك في التطبيب والمعالجة، ونستغني عن التفصيل في هذا الموضوع بالإحالة على كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة، وكتاب طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل الأندلسي، وكذا كتاب طبقات الأمم لصاعد الأندلسي، وكثير من كتب معاجم الرجال. فقد ذكر مؤلفو هذه المؤلفات كثيرا من الأطباء اليهود والنصارى الذين عالجوا المسلمين أمراء وعامة، ضمن جماع الأطباء المسلمين الذين خدموا الإنسان لا العرق.
كما أن ظاهرة التسمي بالأسماء العربية عند النصارى واليهود، سواء من خاصة الناس أو عامتهم، تبين مدى التداخل الاجتماعي. ومن تصفح معلمة أسماء النصارى واليهود، رجال وظيفة وعلماء، يلحظ عادة التسمي بالأسماء العربية التي كانت مشتركة بين الجميع. وبالمقابل فقد تسمى بعض الأمراء بأسماء أعجمية.
وكان التعاطف والتعاضد بين المسلمين وغيرهم كثير الوقوع، خصوصا عندما تشتد الأزمات. من ذلك مثلا تشفع المسلمين والأعاجم لدى رودريك سنة 487/1094، ليجنب أطفال وعيال المسلمين مأساة الحرب[134]. وكمعاناة هؤلاء جميعا أيام محنة حرب صنهاجة مع أميرها[135].
وكان الاختلاط في الحمام بين المسلمين وأهل الذمة أمرا شائعا[136]، في حين كان للعامة حمامها الخاص[137]. وكان النصارى يشترون المسلمات لخدمتهم[138]. كما كان خروجهم مع المسلمات شائعا أيضا. ودلت الفتاوى على أن التشكي من هذه الرفقة لا يكون إلا إذا كان المرافق من أهل السوء والشر. وننقل هذه الفقرة من المعيار لما لها من مغزى: "فقد سُئِل [فقهاء قرطبة] عن نصراني شهد عليه أنه من أهل الشر والفساد، وأنه رأي مع امرأة مسلمة وهي سائرة معه... وقال أخوها : إن سعيد العجمي (وهو المقصود) قد أخرجها وتبثت الوثيقة عليه. وشهد لسعيد بأنه من أهل العفاف والاستقامة وحسن المعاملة والمعاشرة للمسلمين، لا يعرفونه مختلطا لأهل الشر ولا ملتمسا به ". وقد اكتفى القاضي بحبسه خمسة عشر يوما، لأنه أخفى المرأة لا على أنه رافقها[139].
هناك فتوى تدل على أن المسلمات كن يزرن الكنائس[140]. كما أن جلوس المسلمين برفقة اليهود أمام دورهم كان أمرا عاديا، وذلك لأن ابن عبد الرءوف يمنع هذا الاختلاط، في حالة واحدة، وهي أن يكون اليهودي ممن يعرف ببيع الخمر لأن ذلك تهمة للمسلم[141]. وقد ذهب الأمر بعيدا في هذه العلاقات الإنسانية حتى حبس بعض اليهود أحباسا على مساكين المسلمين[142]. كما قررت السلطات الحاكمة في الأندلس أن ينفق على من افتقر من أهل الذمة من بيت المال[143].
ويمكننا أن نقول إن مكونات الأندلس البشرية، صارت مندمجة ولم يكن يفصلها إلا ما كان يفصل أي مجتمع متميز بالحركة والنشاط والتنافس، من أجل كسب الرزق والمعرفة. وقد عبرت أمثال العوام عن هذا النوع من التنافس تعبيرا صادقا[144]. كما أن الظروف التاريخية التي عاشتها الأندلس وتميزت بصراعات في الشمال، ومناورات في الداخل، وبالشعور بالروح الوطنية، سواء لدى المستعربين أو حتى لدى المولدين ممن أسلم، كلها أمور لا يمكن أن تجعل هذا اللقاء الذي عرفته الأندلس لقاء لا يميزه إلا الصفاء. فالصراع والخصام، وأحيانا الحرب، أمور إنسانية تقع بين ذوي الأصول المشتركة، وأهل الدين الواح. والحذر من سنن الحياة[145].


الهوامش والمـراجع



[1] مـجلة التاريخ العربي الصادرة عن جمعية المؤرخين المغاربة، العدد الأول 1996،والعدد الرابع1997.

[2] البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، [تحقيق كولان وليفي بروفانسال]،( ج. 4 تحقيق إحسان عباس)، دار الثقافة، بيروت، 1967، ج. 2، ص. 247 و383.

[3] أحمد بن محمد المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب...[ تحقيق محمد محيي الدين عبد المجيد]، مطبعة السعادة، مصر 1949، ج. 2. ص. 80.

[4] نفسه، ص. 78-79.

[5] אשתור, קורות היהודים בספרד המוסלמית, כרך 1 , הןצאת ספרים, קרית ספר, בע"ם, ירושלים, 1960, כ. 1, ע. 194.

[6] نفسه، ص. 192-220.

[7] أحمد الطاهري، عامة قرطبة في عصر الخلافة ، منشورات عكاظ، الرباط، 1988، ص. 148-149.

[8] الونشراسي أبو العباس أحمد بن يحيى، المعيارالمعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغب، [أشرف على التحقيق محمد حجي]، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1981، ج. 5، ص. 208.

[9] أبو الأصبع عيسى بن سهل الأندلسي، وثائق في أحكام قضايا أهل الذمة، [تخريج محمد عبد الوهاب خلاف]، المركز العربي الدولي للإعلام، القاهرة، 1980، الفتوى رقم 7.

[10] المعيار، ج.7، ص.53.

[11] ابن عبد الرؤوف، ثلاث رسائل أندلسية في أدب الحسبة والمحتسب، [تحقيق ليفي بروفانسال]، مطبعة المعهدالعلمي الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة، 1955، ص. 122.

[12] الونشريسي، ج.8، ص. 737.

[13] Pierre Guichard, Les musulmans de Valence et la reconquête XIe-XIIIe siècle, Institut français de Damas, Damas, 1990, t. 1, p. 194. الونشريسي، ج.8، ص. 737.

[14] Rachèl Arié, l’Espagne musulmane au temps de Nasrides 1232-1492,ed. E. Boccard, Paris, 2em éd. 1990, pp. 372-374.

أشتور، ج. 1، ص. 14-15 . ج. 2، ص. 229. [15]

[16] نفسه، ج. 2، ص. 229.

أريي، ص. 331. [17]

[18] النفح، ج. 1، 203-204.

[19] أريي، ص. 81.

[20] محمد عبد العزيز مرزوق، الفنون الزخرفية في المغرب والأندلس، بيروت، ص. 140.

[21] نفسه، ص. 146.

[22] حقق الكتاب محمد بن شقرون، مطبعة الرسالة، الرباط، 1981.

[23] ابن رزين، ص. 4-5. جاء ذكر الأدوات في أماكن متعددة من الكتاب.

[24] أريي، 376-377.

[25] أشتور، ج. 2، 271-272.

[26] مقدمة ابن خلدون، طبعة ثالثة، بيروت، 1967، ج. 1، 716.

[27] انظر النشاط الاقتصادي في الغرب الإسلامي خلال القرن السادس الهجري لعز الدين أحمد موسى، دار الشرق، 1983.

[28] النشاط الاقتصادي، ص. 274.

[29] ابن حيان، المقتبس، [نشر ب. سالميتا...]، ج، 5، المعهد الإسباني للثقافة- مدريد، كلية آداب الرباط، ص. 478.

[30] البيان، ج,2، ص. 238.

[31] E. Levi-Provençal , l’Espagne musulmane au Xè siècle p. 191 et Rachèl Arié, l’Espagne musulmane au temps de Nasrides 1232-1492, ed. E. Boccard, Paris, 2em éd. 1990, pp. 320-322.

[32] محمد بن شريفة, أمثال العوام في الأندلس، فاس، 1971ج، 1، ص. 208.

[33] أستور، ج, 1، ص. 181.

[34] نفسه، ص. 90.

[35] الونشريسي، ج، 1، ص. 85 وج، 5، ص. 103، 244. وثلاث رسائل، ص. 84.

[36] تحقيق عبد القادر زمامة، مجلة البحث العلمي، العدد 3و4، السنة الأولى، 1964.

[37] أوردنا هذه المناصب وطبقات المجتمع الأندلسي في مقالنا "مكونات المجتمع الأندلسي ومكانة أهل الذمة فيه"، مجلة التاريخ العربي، الرباط، العدد الأول، نونبر 1996، ص. 267-289.

[38] زمامة ، ص. 55.

[39] زمامة ، ص . 55

[40] أشتور، ج. 1، ص. 90، 181. أمثال العوام، ج.1، ص. 247. النشاط الاقتصادي، ص. 109، 180. أريي، ص. 322-335.

[41] ابن حزم الأندلسي، طوق الحمامة في الألفة والولاف، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 1959، ص. 35.

[42] الونشريسي، 1/85 و5/ 103، 144، البيان، 3/90.

[43] ثلاث رسائل، ص. 84.

[44] الونشريسي، 2/144، البيان، 3/90.

[45] الونشريسي، 5/ 250.

[46] نفسه، ص. 245.

[47] الونشريسي ج 2 ، ص . 237 - 238 .

[48] Lévi- Provençal 2 ,T. 1 PP. 32 - 33 .

[49] ابن سهيل الأندلسي، الفتوى رقم 1 و 2 ؛ و انظر أيضا : المعيار ، ج 2 ، ص . 334 - 345.

[50] الونشريسي، ج 8 ، ص . 63 .

[51] نفسه ، ص , 229 .

[52] لسان الدين بن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، [تحقيق محمد عبد اله عنان] مكتبة الخانجي، القاهر،1973 ج 1 ، ص . 106 ( هامش 2 ).

[53] عامة قرطبة ، ص . 149.

[54] ابن حيان القرطبي، ص . 63 - 64 ؛ والعامة ، ص. 28 .

[55] نفسه، ص. 21 – 22.

[56] نفسه.

[57] عبد الله بن بلقين، مذكرات ...المسماة بكتاب التيان، [تحقيق بوفنسال]، دار المعارف بمصر، 1955، ص. 131.

[58] الونشريسي، ج7 ، ص . 439 .

[59] انظر المرجع المشار إليه أعلاه.

[60] ثلاث رسائل، ص. 95.

[61] الونشريسي، 5/ 245 و8/ 56-58.

[62] الونشريسي، نفسه. 2/179.

[63] أشتور، ج، 2، 231.

[64] مقدمة ابن خلون، 3/ 889.

[65] العامة، ص. 172

[66] E. Levi-Provençal , Histoire de l’Espagne musulman, Paris. 1950, T. 1, pp. 76-77.

[67] عن العامة، ص. 172.

[68] ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، القاهرة، 1345، ج. 1 ص. 31.

[69] ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، [تحقيق لجنة من العلماء بإشراف الناشر]، 1403/1983، ص. 443.

[70] البيان، ج. 2 ص. 227.

[71] الونشراسي، ج. 2، ص. 56-60.

[72] أبو عبد الله السقطي، آداب الحسبة، [ كولان وبروفنسال]، باريس، ص. 54.

[73] أمثال العوام، ج. 1، ص. 277.

[74] أنظر تفصيل هذا الموضوع في القسم الأول من كتابنا ابن رشد والفكر العبري الوسيط: فعل الثقافة العربية الإسلامية في الفكر العبري اليهودي، المطبعة الوطنية، مراكش، 1999.

[75] اريي، ص. 400.

[76] الونشريس، ج. 11، ص. 152.

[77] الطرطوسي أبو بكر محمد بن الوليد، الحوادث والبدع، [تحقيق محمد الطالبي]، تونس، 1959، ص. 140-142.

[78] الونشريسي، ج. 11، 278-280.

[79] نفسه، ص. ج. 2،150-151.

[80] الونشريسي، ج. 11، ص. 92، 151-152. وديوان ابن قزمان، [تـ. كوريينطي] مدريد، 1980، الزجل 72.

[81] E. Levi-Provençal , Histoire de l’Espagne musulman, Paris. 1950, T. 1, pp. 172-171

[82] أريي، ص. 202-203.

[83] الحوادث والبدع، ص. 142.

[84] أشتور، ج. 2، 271.

[85] יהודי ספרד ומזרח, מחקרים באריכת ישכר בן עמי, ירושלים, הוצאת מגניס, 1982, ע. 347. (يهود الأندلس والمشرق، إشراف يسخر بن عمي، القدس، مطبعة، ماكَنيس، 1982،ص. 347.

[86] حاييم الزعفراني، يهود الأندلس والمغرب، [ترجمة أحمد شحلان]، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 2000ج.2 ، الفصل السابع.

[87] أريي، ص. 410-411.

[88] النفح، ج. 1، ص. 208.

[89] أحمد بن يحيى الضبي، بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، دارالكتاب العربي، 1967، ص. 190.

[90] النفح، ج. 1، ص. 208.

[91] ثلاث رسائل، ص. 50.

[92] الونشريسي، ج. 1، ص.81.

[93] الونشريسي، ج. 1، ص. 3-7.

[94] ثلاث رسائل، ص. 51.

[95] الإحاطة في أخبار غرناطة، ج. 1، ص. 388 والنفح، ج. 1، ص. 208.

[96] الإحاطة ، ج. 2، ص. 504.

[97] الفنون، ص. 122-123.

[98] النفح، ج.1، 393.

[99] الفنون ، ص.129.

[100] النفح، ج.1، ص. 208.

[101] أريي، ص. 384، 386-387.

[102] קורות היהודים בספרד, א"ש. פריעדברג, ווארשא, 1893, 2, ע. 251-252. (تاريخ يهود الأندلس، أ.ش. بريدبركَ، وارسو، 1893، ج. 2، 251-252.

[103] יהודי ספרד והמזרח, מחקרים בעריכת ישכר בן-עמי، ירושלים, הוצאת מאגנס, 1982, ע. 362-363. (يهود الأندلس والمشرق، بعناية يسخر بن عمي، القدس، مطبعة ماكَنس، 1982، ص. 362-363.

[104] أشتور، ج. 2 ص. 266.

[105] بَن عمي، ص. 359-366.

[106] أبو الوليد مروان بن جناح، الأصول، The Book of Hebrew Roots, By Abu L-Walid Marwan Ibn Janah…,by Wilhelm Bachzr, Amsterdam Philo Press, 1968 (1875), c. 793. وأريي، ص. 387-388.

[107] بَن عمي، ص. 464.

[108] أريي، ص. 391.

[109] الفنون، ص. 192.

[110] البيان المعرب، ج. 2، ص. 247 و383.


[111] أشتور، ج. 2، ص. 263.

[112] أريي، ص. 396.

[113] أشتور، ج. 2، ص. 263-266.

[114] ثلاث رسائل، ص. 48 والعامة، ص. 18.

[115] E. Levi-Provençal , Histoire de l’Espagne musulman, T. 1, p. 232. et ,l’Espagne musulmane au Xè siècle p. 35.

[116] البيان المعرب، ج.2، ص. 23-24.

[117] المقتبس، مدريد، ص. 468.

[118] L’Espagne musulmane au Xè siècle p. 35.

[119] البيان المعرب ج. 4، ص. 50.

[120] آداب الحسبة والمحتسب، ص. 82.

[121] وثائق في أحكام أهل الذمة، ص.86.

[122] طوق الحمامة، ص. 22.

[123] جاءت الإشارة إلى كل هذا في الونشريسي على التوالي: 3/ 372، 352، 366، 209، 231-232، 403، 290، 383-384، 350-356، 300.

[124] اريي، ص. 366.

[125] صور من اللقاء العلمي بين المسلمين وأهل الذمة في الأندلس، 1997، عدد4، ص. 281 وما بعدها.

[126] انظر نفس المقال أعلاه.

[127] الطوق، ص. 35.

[128] ثلاث رسائل، ص. 121.

[129] نفسه، ص. 74.

[130] أمثال العوام، ج. 1، ص. 216.

[131] أريي، ص. 370.

[132] نفح الطيب، ج. 1، ص. 364.

[133] أشتور، ج. 2، ص. 258.

[134] الييان، ج. ص. 37.

[135] الإحاطة، ج. 1، ص. 516.

[136] ثلاث رسائل، ص.48.

[137] العامة، ص. 178.

[138] الونشريسي، 5/253.

[139] نفسه، 2/346.

[140] ثلاث رسائل، ص.49.

[141] نفسه، ص. 114.

[142] الونشريسي، ج. 7، ص.114، 59-60، 65.

[143] الونشريسي، ج. 8، 62.

[144] انظر في كتاب أمثال العوام، الأمثال الكثيرة التي عبرت عن هذا المزج بين الطوائف، وخصوصا بين السلمين واليهود في كل مسالك العيش.

[145] انظر الإحاطة، III ص.419 والبيان IV ص. 45-55، 73، 144.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق