الجمعة، 26 أكتوبر 2012


أبو البقاء البلوي


استكمالا للجهد الذي كنت بذلته في التعريف ببعض مشاهير الرحالة المغارب مثل ابن رُشَيد السبتي والعبدري الحاحي، سأعرف في هذه الحلقة برحالة وفقيه كبير من القرن الثامن الهجري، كان معاصرا لابن بطوطة وابن خلدون ولسان الدين بن الخطيب إبّان حكم الدولة المرينية بمغربنا المبارك.. يتعلق الأمر بالأديب القاضي الرّحالة أبو البقاء البلوي صاحب "تاج المفرق في تحلية علماء المشرق"..


هو أبو البقاء خالد بن عيسى بن أحمد البلوي القنتوري نسبة إلى قنتورية Cantoria مسقط رأسه سنة 713هـ، وهي بلدة من أعمال ألمرية، والبلوي نسبة إلى بليّ التي هي فرع من قضاعة، ذكرها ابن حزم في "جمهرة أنساب العرب"، كان أبو البقاء البلوي قاضيا من الفضلاء الأخيار الذين أنجبتهم أرض الأندلس الطيبة؛ وكانت إقامته في قنتورية التي شغل منصب قاضيها، وولي كذلك القضاء ببُرشانة Purchena وأضحى من أشهر قضاة الأندلس خلال القرن الثامن.. ثم حج وجال في بلاد المغرب والمشرق، وصنف رحلته "تاج المفرق في تحلية علماء المشرق" التي طبعت في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (مطبعة فضالة: 1970) بتحقيق العلامة الكبير الحسن السائح، تلقى أبو البقاء البلوي العلوم الدينية والأدبية أولا عن أبيه، ثم عن شيوخ مغاربة وأندلسيين منهم جعفر بن صفوان (تـ 749هـ) من علماء غرناطة، والعارف عبد الرحمن الجزولي من علماء فاس (تـ 741هـ) وهو شارح رسالة بن أبي زيد القيرواني. 

استفاض العلامة لسان الدين ابن الخطيب في ترجمة أبي البقاء البلوي في أكثر من كتاب خصوصا في "الإحاطة في أخبار غرناطة". وقد قال بن الخطيب في كتابه "الكتيبة الكامنة في أدباء المائة الثامنة": "إنه ارتسم في حزب القضاء وفريقه، وأن أدبه يشتمل على شعر ونثر"، وذكر في "الإحاطة في أخبار غرناطة" أنه التقى بأبي البقاء البلوي بعد عودته من المشرق، وكان البلوي قد زار الأرض الحرام، وأدى مناسك الحج، وجال في الأقطار المشرقية، قام البلوي خلال حياته العلمية الحافلة بثلاث رحلات، كانت أولاها لمدينة فاس طلبا للعلم والإجازة في رحاب القرويين المبارك، والثانية إلى المشرق لحج بيت الله الحرام، وبحثا عن السند العالي في الحديث وللحصول على الإجازات العلمية، والثالثة كانت داخل الأندلس خصوصا في المنطقة الشرقية منها. 

وتعتبر رحلته المشرقية مرجعا علميا وأدبيا وجغرافيا مهما نظرا لسعة علم الرجل واطلاعه، واستمرت هذه الرحلة أربع سنوات من 737هـ إلى 740هـ، وقد وصف الأقطار التي زارها وهي المغرب ومصر وفلسطين والحجاز. وذكر البلوي بعض العلماء الذين التقى بهم كاللغوي والمحدث أبو حيان الأندلسي (تـ 754هـ) نزيل مصر، وقد أخذ عنه في القاهرة، وفي طريق العودة انتدبه ملك تونس المتوكل على الله أبو بكر الثاني (تـ 747هـ) للكتابة في ديوان الإنشاء لمدة يسيرة، لما رجع أبو البقاء إلى الأندلس انبرى لتسجيل ما عاشه وخبره خلال رحلته، وفي سنة 819هـ أخرج خالد بن محمد بن خالد حفيد أبي البقاء الرندي رحلة جده، وعرفت باسم "تاج المفرق في تحلية علماء المشرق"، فجاءت بمثابة بيان علمي وأدبي وجغرافي وعمراني.
.

أبو البقاء البلوي
قال أحمد بابا في "نيل الابتهاج بتطريز الديباج": "هو خالد بن عيسى بن أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد البلوي القنتوري، أبو البقاء علم الدين، الإمام القاضي الفاضل". وقال عنه ابن الخطيب في "الإحاطة في أخبار غرناطة": "أنه من أهل الفضل، كثير التواضع والخلق الحسن، جميل العشرة محب الأدب قضى ببلده وغيرها، وقيد رحلته في سفره ووصف فيها البلاد ومن لقي وكتب بتونس عن أميرها قليلا، وهو الآن قاض ببعض البلاد الشرقية من الأندلس". ونقل أحمد بابا التمبوكتي عن غير بن الخطيب أنه ارتسم بديوان الكتابة بتونس عن أميرها زمنا يسيرا، وكان يتشبه بالمشارقة شكلا ولسانا، وصبغ لحيته بالحناء والكَتَم. وقال عنه الحضرمي (صاحب السلسل العذب) نقلا عن أحمد بابا التمبوكتي في "النيل": هو صاحبنا الفقيه الأجل القاضي العدل الحاج المتخلق الحبيب الأديب المتفنن العالم الفاضل، وقال عنه ابن القاضي في "درة الحجال" (الجزء الأول: ص: 141، طبعة الرباط): "خالد بن عيسى بن أحمد بن أبي خالد البلوي صاحب الرحلة، رحل ولقي أعلاما وأخذ عنهم، ورحلته كانت سنة سبع وثلاثين وسبعمائة (737هـ)، أخذ عن الصفدي وغيره...". 

وترجم له المقري في "نفح الطيب" ونقل فقرات من رحلته ووصفها بأنها "مشحونة بالفوائد والفرائد، وفيها من العلوم والآداب ما يتجاوزه الرائد". وقال عنه ابن مخلوف في "شجرة النور الزكية" (المطبعة السلفية، ج1: ص227): القاضي أبو البقاء علم الدين خالد بن عيسى البلوي القنطوري الأندلسي العالم الكامل المتفنن الفاضل الكاتب الرحالة المطلع الأديب(...) ولي قضاء الجهات بالأندلس، أخذ عن والده وعبد العزيز الغوري وابن رُشيد وعبد المؤمن الجاناتي وعبد الرحمن الجزولي وابنه محمد وأبي موسى ابن الإمام وأبي عمران المشذالي وابن عبد السلام وابن هارون وابن بدّال وابن البراء ترجم شيوخه في رحلته، وأطال الثناء عليهم وغالبهم إجازة عامة وأخذ أيضا عن ابن الستار وعيسى بن مخلوف المقيلي وابن عمر وغيرهم مما هو كثير، رحل وأفاد واستفاد من أعلام من أهل المشرق والمغرب، ألف رحلته المسماة "تاج المفرق في تحلية علماء المشرق" مشحونة بالفرائد والفوائد وفيها من الأدب والعلوم ما لا يتجاوزه الرائد كان حيا سنة 755هـ.. والجملة الأخيرة منقولة عن "نفح الطيب" للمقري. 

وقال ابن القاضي في "جذوة الاقتباس فيمن حل من الأعلام مدينة فاس": "أن خالد بن عيسى بن أحمد بن أبي خالد البلوي (..) كان من أهل الفضل كثير التواضع، قال في بعض من تقاييده (..) قرأت بفاس على عبد العزيز بن محمد الغوري الفقيه الصالح وعلى أبي العباس بن شعيب الجزنائي وعبد المؤمن الجناتي وعبد الرحمن الجزولي كثيرا من الرسالة والتهذيب وعلى ابنه العالم محمد.. وأخذ بتلمسان عن أبي موسى بن الإمام والقاضي منصور بن هدية وعن موسى المشارك والقاضي أبي عبد الله عبد النور قال سألني الأخ الأجل الأبرع أبو جعفر أحمد بن زرقالة أن أذكر له من أشياخي الأندلسيين فمنهم بغرناطة محمد بن عاصم القيسي، وكانت أكثر روايته عن جده لأمه الإمام الحافظ عبد المنعم بن سماك، وعن أبي إسحاق بن جابر وأبي القاسم بن محمد بن أبي العافية وأبي عامر ابن أرقم وأبي محمد بن الصائغ وأبي جعفر بن صفوان وأبي عبد الله بن العربي وأحمد بن قاسم الشهير بالبغيل، وعن خطيب سبتة أبي عبد الله بن حميس، وحج وقيد رحلته في سفره وصف فيها البلاد ومن لقي، جلب أكثرها من كلام العماد الأصبهاني..".

أبو البقاء البلوي
      وتكتسي رحلة أبي البقاء الرندي سمة "الفهرسة" التي تشكل أحد أهم عناصر الثقافة العلمية ببلاد المغرب والأندلس... ذلك أن صاحبنا يفيدنا في رحلته حول شيوخ العلم الذين التقاهم وأخذ عنهم، والكتب المقررة في التدريس، والمؤلفات، وأحوال حلقات العلم والتدريس، والبيئية الثقافية بشكل عام؛ من هنا تكتسي الرحلة طابع الإفادة السوسيولوجية والثقافية بما يمكن اعتباره مساهمة فاعلة في التأريخ الفكري خلال القرن الثامن الهجري بما يحمله هذا القرن من أهمية على مستوى التاريخ الثقافي المغربي العام.. وقد صدق المقري في نفح الطيب إذ يصف رحلة أبي البقاء البلوي بأنها "مشحونة بالفوائد والفرائد".. وقد قرض الرحلة  شعرا تلاميذ للبلوي منهم أبو جعفر أحمد بن زرقاله.. 

      قال البلوي في مقدمة رحلته: "هذا تقييد، أطلعه عون من الله وتأييد، قصدت به ضبط موارد الرحلة الحجازية، وذكر معاهد الوجهة المشرقية، جعلها الله تعالى في ذاته، وابتغاء مرضاته، بمنه وكرمه، وألممت مع ذلك بذكر بعض الشيوخ من العلماء الفضلاء الذين يطئون ذيول البلاغة، ويجرون فضول البراعة، ولهم كلام يتألق منه شعاع الشرق، ويترقرق عليه صفاء العقل، وينبث فيه فرند الحكمة، ويعرض على حلى البيان، وينقش في فص الزمان، ويحفظ على وجه الدهر، ويفضح عقائل الدر، ويخجل نور الشمس والبدر، وألمعت بذكر نبذ من فوائدهم، واختيار طرف من أناشيدهم، ومزجتها بما جرت إليه العبارة، وحسنت فيه الإشارة، من قطع الشعر المناسبة قطع النور، المنتظمة من جواهر اللفظ، البعيدة الغور، الغريبة الحفظ، الآخذة من الحسن بأوفر الحظ، مقتديا في ذلك كله بقول القائل: 

          قَالُــوا خُذِ الْعَيْنَ مِنْ كُلٍّ فَقُلْتُ لَهُمُ          فِي الْعَيْنِ فَضْلٌ وَلَكِنْ نَاظِــرُ الْعَيْـنِ 

          حَرْفَــــانِ فِي أَلْفِ طُومَـــارَ مُسَوَّدَةٍ          وَرُبَّمَا لَــمْ تَجِدْ فِي الأَلْــــفِ حَرْفَيْنِ 

      ولما بوبت ما ألفت، ورصعت ما جمعت، وشعشعت ما وضعت، فجاء كما تراه حسن الزي، عذب الري، عالي القدر، غالي الدر، مسبوك الحلية والتبر، فيه للمسمع مراد، وللفكر معاد، وللألباب مسرح ومرتاد. سميته: بتاج المفرق، في تحلية علماء المشرق. ودعوت الله تعالى في مواطن الإجابة، أن يوفقني فيه للإجادة والإصابة، وأن ينفع به كل من يلتمس النفع به في المطالعة أو الكتابة، وهو سبحانه سميع الدعاء، مجيب النداء، محقق الرجاء، وهو حسبي ونعم الوكيل"، وكان شعر أبي البقاء البلوي قويا ومعبرا ورقيقا؛ يقول رحمه الله في رحلته: وحين حمدنا السرى، ووصلنا إلى أم القرى وعلمنا أننا أضياف الله فدخلنا منه بأحسن القرى وتبدت لنا الكعبة الغراء في أستارها، وتجلت لنا المليحة في حلل أنواره، قلت: 

          وضعنا جباهـــا في الثرى قد تهللت          أساريرهــــا منهـــا وزاد سرورهــــا    

          وطفنــــا بهــــا سبعــا وزفت ظلالها          على خائف مثلي أتى يستجيرهـا 

وحين وقع نظري عليها، ومثلت لديها، أنشدت مرتجلا بلسان الخضوع، وكتبت خجلا بماء الدموع. 

          إلهــــي هذا البيت بيتك جئتـــــه          وعـادة رب البيت أن يكرم الضيفا    

          فهب لي قرى فيه رضــاك وأننـي          من النار خوفي فلتؤمني الخوفـا    

 يقول الأستاذ الحسن السائح في مقاله: "أبو البقاء البلوي"، (مجلة البحث العلمي، العدد: 1، 1964: ص: 191): "تحدث بن الخطيب عن البلوي في رحلته المسماة بـ"خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف" التي كتبها في محرم سنة 748 هـ، وهي رحلة إلى الأندلس مع السلطان يوسف أبي الحجاج إلى وادي آش وبسيطة ونغالس ومرشانة وألمرية ولورسانة، وقد نشرها ميللر عن مخطوط الإسكوريال، وتكلم عنها عبد الله عنان في مقدمة "الإحاطة في أخبار غرناطة"؛ يضيف الأستاذ السائح في مقاله: "قال بن الخطيب: وجرى ذكره في الرحلة التي صدرت عني في صحبة الركاب السلطاني عند تفقد البلاد الشرقية في فصل حفظه الناس وأجروه في فكاهتهم..". 

ويروي ابن الخطيب في "خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف" لقائه بصاحبنا أبي البقاء البلوي قائلا: "حتى إذا الفجر تبلج، والصبح من باب المشرق تولج، سرنا وتوفيق الله قائد، ولنا من عنايته صلة وعائد، تتلقى ركابنا الأفواج، وتحيينا الهضاب والفجاج إلى قنتوريه، حرسها الله، فناهيك من مرحلة قصيرة كأيام الوصال، قريبة البكر من الآصال. كان المبيت بإزاء قلعتها السامية الارتفاع، الشهيرة الامتناع، وقد برز أهلها في العديد والعدة، والاحتفال الذي قدم به العهد على طول المدة، صفوفاً بتلك البقعة، خيلا ورجلا كشطرنج الرقعة، لم يتخلف ولد عن والد، وركب قاضيها ابن أبي خالد (البلوي)، وقد شهرته النزعة الحجازية، ولبس من حسن الحجى زيه، وأرمي من البياض طيلساناً وصبغ لحيته بالحناء والكتم، ولاث عمامته واختتم، والبداوة تسمه على الخرطوم، وطبع الماء والهواء يقوده قود الجمل المخطوم، فداعبته مداعبة الأديب للأديب، وخيرته بين خصلتي الذيب، وقلت نظمت مقطوعتين إحداهما مدح والأخرى قدح؛ فإن همت ديمتك وكرمت شيمتك فللذين أحسنوا الحسنى وإلا فالمثل الأدنى. فقال أنشدني لأرى على أي الأمرين أثب، وأفرق بين ما اجتني وما أجتنب، فقلت: 

          قالــــــوا وقد عظمت مبرة خالــــد          قــــاري الضيــــوف بطارف وبتالد 

          مــــــاذا أتمت بــــه فجئت بحجــة          قطعــــت بكـــل مجــادل ومجالـد  

          إن يفتـــرق نسب يؤلـــف بيننـــــا          أدب أقمنـــــــــاه مقــــــام الوالد 

وأما الثانية فيكفي من البارق شعاعه، وحسبك من شر سماعه، ويسير التنبيه كاف للنبيه. فقال: لست إلى قراي بذي حاجة، وإذا عزمت فأصالحك على دجاجة، فقلت: ضريبة غريبة، ومؤونة قريبة، عجل ولا تؤجل، وإن انصرم أمد النهار فأسجل. فلم يكن إلا كلا ولا، وأعوانه من القلعة تنحدر، والبشير منهم بقدومها يبتدر، يزفونها كالعروس فوق الرؤوس، فمن قائل أمها البجابيه، وقائل أخوها الخصي الموجه إلى الحضرة العلية. وأدنوا مربطها من المضرب عند صلاة المغرب، وألحفوا في السؤال وتشططوا في طلب النوال فقلت يا بني اللكيعة، ولو جئتم ببازي بماذا كنت أجازي، فانصرفوا وما كادوا يفعلون، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون حتى إذا سلت لذكاتها المدى، وبلغ من عمرها المدى، قلت: يا قوم، ظفرتم بقرة العين، وابشروا باقتراب اللقاء فقد ذبحت لكم غراب البين...".

أبو البقاء البلوي
ولكي نتعرف على أسلوب صاحبنا البلوي في رحلته أورد نصا ثمينا يقول فيه بشأن مكة المكرمة: "ومكة شرفها الله تعالى هي بلدة قد وضعها الله تعالى بين جبال محدقة بها وهي بطن واد مقدس كبيرة مستطيلة تسع من الخلائق عددا لا يحصيهم إلا الله عز وجل وهي البلد المباركة التي سبقت لها ولأهلها الدعوة الخليلية الإبراهيمية، قال الله عز وجل: "أو لم نمكن لهم حرما امنا تجبى إليه ثمرات كل شيء" [القصص، 57] فبرهان ذلك فيها ظاهر إلى يوم القيامة، وذلك أن أفئدة الناس تهوى إليها من الأصقاع النائية، والأقطار الشاحطة، فالطريق إليها ملتقى الصادر والوارد ممن بلغته الدعوة المباركة والثمرات تجبى إليها من كل مكان، فهي أكثر البلاد نعما وفواكه ومنافع ومرافق ومتاجر، ولو لم يكن لها من المتاجر إلا أوان الموسم، ففيه مجتمع أهل المشرق والمغرب فيباع فيها في يوم واحد فضلا عما يتبعه من الأيام من البر إلى الدر، ومن الذخائر النفيسة كالجواهر والياقوت وسائر الأحجار من أنواع الطيب كالمسك والكافور والعنبر والعقاقير الهندية إلى غير ذلك من جلب الهند والحبشة إلى الأمتعة العراقية واليمانية إلى السلع الخرسانية، والبضائع المغربية، إلى ما لا ينحصر ولا ينضبط، ما لو فرق على البلاد كلها لا قام لها الأسواق النافقة، وعم جميعها بالمنفعة التجارية حاشا ما يطرأ بها مع طول العام من اليمن وسواها فما على الأرض سلعة من السلع ولا ذخيرة من الذخائر إلا وهي موجودة فيها وهي تغص بالنعم والفواكه والخضر على اختلافها ولا تنقطع منها مع طول العام ولكل نوع من هذه الأنواع فضيلة موجودة في حاسة الذوق فيفضل فيها أنواعه الموجودة في سائر البلاد فهذه بركة لا خفاء لها..". 

قال محمد السائح في مقاله سابق الذكر (ص: 195): "أما من المستشرقين فقد ترجم لأبي البقاء البلوي هنري دو كاستري في ترجمته لكتاب "النفحات المسكية" للتامكروتي (1929)، وذكره ضمن الذين أخذ عنهم التمكروتي في رحلته، وبعد أن عرف باسمه ونسبته إلى البلويين، قال إن المعلومات عن حياته ضئيلة، والمقري وحده الذي روى لنا خبرا عنه مقرونا بتاريخ حيث ذكر أن كان بتونس في العيد الكبير سنة 737هـ (1337م)، (وهذا التاريخ مأخوذ من الرحلة وليس من المقري)، ويقول دوكاستري أن وظيفة القضاء لم تمنع صاحبنا البلوي من الاشتغال بالأدب ومخالطة شعراء الأندلس الذين يقدرون لطفه ودماثته، وقد حج وزار عواصم الشرق كما هي عادة المثقفين المغاربة الذين كانوا يقيمون بمراكز الثقافة ليتابعوا دراساتهم عن الأساتذة المشهورين، وبعد رجوعه إلى بلاده كتب رحلته "تاج المفرق" حيث وصف الأقطار التي زارها وترجم لمن اتصل بهم من العلماء فجاء كتابه خليطا من الأدب والعلم والفقه وغير ذلك حسب الأسلوب الذي اتسم به ذلك العصر، وتحدث عنه بروكلمان في "تاريخ الأدب العربي"...". 

ويبقى كتاب تاج المفرق في تحلية علماء المشرق لأبي البقاء البلوي، من أهم كتب الرحلات على الإطلاق، ودرة من درر الأدب العربي، سجل فيها صاحبنا البلوي المظاهر الحضارية والثقافية والعلمية والاجتماعية للبلاد التي مر بها، والعلماء والأدباء الذين لقيهم.. قال الحسن السائح محقق الرحلة في المقدمة: "اشتهرت هذا الرحلة في المغرب والمشرق، وتداولتها الأيدي، وكانت عمدة كثير من رجال التراجم والأعلام، وقد كتبها مؤلفها أثناء رحلته إلى المشرق، فوصف ما شاهده من الأقطار، وتحدث عمن اتصل بهم من الرجال، وقيد مذكراته، وكتب مؤلفه هذا أثناء رحلته، فلما عاد إلى الأندلس نقحها، وأطلع عليها رجال الفكر والثقافة. ومن غريب الصدف أن يكون البلوي رحل في السنوات التي رحل فيها ابن بطوطة، وكان ابن بطوطة بغرناطة عندما كان البلوي بلوشانة، لذلك نستطيع بهذه الرحلة أن نمحص أقوال ابن بطوطة وما ذكره عن رجال العلم والتصوف الذين اتصل بهم أثناء رحلته.."، توفي البلوي رحمه الله قبل سنة 780هـ، وهو الذي قال عنه ابن الخطيب السلماني: "ظاهره جسم جسيم وللزرافة قسيم، وباطنه في اللطافة نسيم"، رحمه الله ونفعنا بعلمه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق