الأربعاء، 31 أكتوبر 2012


الحق العربي في الاختلاف الفلسفي عند طه عبد الرحمن

Photo : ‎الحق العربي في الاختلاف الفلسفي عند طه عبد الرحمن

هل هناك إبداع من دون اتباع؟
الثلثاء 15 شباط (فبراير) 2011
بقلم: مصطفى العارف  





هل الفلسفة، كونية أم قومية؟ أي أنها كونية تهم البشرية جمعاء، أم قومية تخص قوما بذاته من خلال إنتاجاته، هذا هو السؤال الذي يحاول طه عبد الرحمن الإجابة عنه، بل والذهاب إلى الاعتراض على دعوى "كونية الفلسفة"، ويسوق في ذلك اعتراضات من أهمها ارتباط الفلسفة بالسياق التاريخي والاجتماعي وبالسياق اللغوي والأدبي، فكل فلسفة هي نتيجة سياق تاريخي ونطاق اجتماعي مخصوص، ولا وجود لفلسفة بلا هذا السياق التاريخي ولا هذا النطاق الاجتماعي، زد على ذلك أن اللغة هي المحل الذي يتشكل فيه القول الفلسفي ولا تشكل لهذا القول بغير تأثر بمحله اللغوي (1)، وفي إطار اللغة ينتج الاختلاف بين الفلاسفة إلى درجة تصنيفها إلى مذاهب عند كل أمة، ويؤدي هذا إلى تصنيف الفلسفة منن خلال قوميتها، فنقول "الفلسفة الفرنسية" و"الفلسفة الألمانية" و"الفلسفة الانجليزية" هذا دون أن ينسى المؤلف إيراد اعتراضات على حدة العقل ووحدة الطبيعة الإنسانية، مؤكدا أن العقل ليس وحدة وذاتا، وإنما فعالية (2)، ومنه ينتج عنه انفكاك وحدة الفلسفة، إن كان العقل ليس موحدا كليا وبالتالي فلا جدوى من القول بكونية الفلسفة والفكر لأن هذا القول فيه طمس لخصوصية الشعوب والأقوام في إنتاجاتهم الفلسفية والفكرية.


على أن مفهوم الكونية الذي يستعمله طه عبد الرحمن هنا يلفه كثير من الغموض. فالكونية عنده كمفهوم يعني التعميم على أفراد البشر جميعا، وهو ما يحيل إليه أيضا مفهوم "العالمية" الذي يقصد به المؤلف ما يصدق على جميع أقطار الأرض من حيث هي دول قائمة (3)، والصيغة التي يعطيها للمفهومين هي الصيغة الجغرافية أو الصيغة السياسية، وربما يذهب الأستاذ إلى إيراد صيغة الغرب مرادف لمفهوم "الكونية". فالكوني لا يحيل بالضرورة إلى ما درج على تسميته الغربي إن الكوني عصر من عصور العالم، فهو لا يحيل لأي معنى عرقي أو جغرافي أو قومي، إن "الكونية" لا هوية لها وربما كانت اليوم هي ما يحدد كل هوية (4) يقول هيدغر : "اليوناني والمسيحي والكوني والغربي، كل هذه العصور ندركها انطلاقا من خاصية أساسية للوجود، وهي أن الوجود لما هو حقيقة وانكشاف، فهو يخفي أكثر مما يظهر" (5).


كيف يمكن إذن قيام فلسفة عربية مستقلة عن الكونية الفلسفية، يجيب طه عبد الرحمن عن هذا السؤال بطرح خطة خِطابية لقيام فضاء فلسفي عربي، مفادها نحت مفاهيم مثل "القيام" و"القوام" و"القومة" وهي مصطلحات تستمد قيمتها من مفهوم "القومية" وتتأسس على العمل المتواصل والمستقل والإنتاج الفعال والدينامي، فما يميز القومية ليس هو جملة المعارف والصنائع التي تحدث في القوم، بقدر ما هي جملة القيم والمعايير التي تحيط بهذه المعارف والصنائع وتوجهها (6) ولا يجب تبني مفهوم معين منقول من الفضاء الفلسفي العالمي، حتى تثبت بالدليل صحته وفائدته في مجال تداول المشتغل في الميدان، ويشدد طه عبد الرحمن على النقد في جلب القوة وان الاعتقاد في الفلسفة يجلب الضعف، فالنقد ليس رفضا مسبقا، ولا ردا متعسفا وإنما هو عرض للمفاهيم المنقولة على الأدلة المنطقية، وحتى وإن ثبتت صحة هذه المفاهيم، فذلك لا يلزم ثبوت فائدتها (7).


إننا أمام رفض مطلق لكل ما هو براني، فحال الأمم، والحالة هذه، هو الانفتاح على الشعوب الأخرى وإن كانت على غير ملتنا كما قال الكندي، فالنظر فيما تقدم من الأمم السالفة أو المعاصرة مما أنتجوه وأثبتوه في كتبهم، إنما هو أمر واجب اتباعه، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم، وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق، نبهنا عليه، وحذرنا منه وعذرناهم(8). إذ أننا نؤكد على نقد وفحص المفاهيم المنقولة من الفضاء الفلسفي العالمي، ونحرص على عدم تداولها بيننا قبل أن نرى هل تتوافق مع خصوصيتنا الثقافية والدينية، فإننا مطالبون نحن أيضا بنقد لكل الأشكال القديمة والجديدة لتراثنا ونخلصه من صيغته الفقهية، فنكون بذلك أمام نقد مزدوج une double critique وفكر مغاير pensée-autre لا يحن للعودة إلى الأسس ولا إلى التغني بأمجاد الماضي (9).


هذا الماضي الذي يحاول بعض الباحثين المعاصرين في الفكر الفلسفي أن يجعلوا منه عصرا ذهبيا سيطرت فيه روح العقلانية والعقل والخطاب البرهاني، على أن محاولة أبي الوليد بن رشد في تحويل الفلسفة إلى خطاب برهاني واتباعه لطريق الاستنتاج المنطقي، تعد الأشهر والأبرز من بين محاولات الفلاسفة المسلمين السابقين عليه، لكن هذا القول –في أن الفلسفة خطاب برهاني- إنما هو قول يقضي بشكل كلي على خصوصية الفكر الفلسفي من حيث هو كرّ وفرّ وقدرته على التراجع والانتقاد وعلى إنتاج الأسئلة وتوليد الفراغات، فالقول بأن العقل –أو اللوغوس- الذي يميز الممارسة الفلسفية يصفو ويتمحض فيها بالكلية، بمعنى أن القول الفلسفي قول عقلي، هو ادّعاء أسطوري كما يصفه عبد الرحمن، ويحاول المؤلف إيجاد مجموعة من المبادئ المنهجية التي تساعد في دفع القول بأسطورة اللوغوس العقلي للفلسفة، وهي على ثلاثة وجوه، مبدأ المعرفة الموضوعية، حيث أن الفلسفة وحدها من دون شعب المعرفة الإنسانية لم تكن في تاريخ ممارستها كله محل معرفة موضوعية (10)، أما المبدأ الثاني فيتلخص في التقسيم التركيبي الكلامي، حيث يجعل المؤلف للفلسفة أقسام ثلاثة للكلام هي : "المفهوم" و"التعريف" و"الدليل"، ومتى استطاعت هذه التقسيمات تجاوز الفلسفة الخالصة كان الحظ أوفر لقيام فلسفة عربية حية (11)، والمبدأ الثالث يتعلق بالتقسيم البياني للكلام، وينقسم بدوره إلى قسمين هما : العبارة والإشارة، واللغة الفلسفية تتميز بمظاهر العبارة العقلية وأيضا بالإشارة الخيالية، وقد اعتقد متفلسفة العرب أن الفلسفة الغربية المنقولة إليهم إنما هي ذات طبيعة عبارية عقلية محضة مثلها مثل العلم الرياضي، لأن حقائقها لا تحكمها إلا قوة العقل وحدها، وهذا من بين الأسباب التي دفعت الغزالي إلى محاولة هدم مذاهب الفلاسفة، معترضا عليهم سلوكم طريق البرهان، ومتهما إياهم اعتماد التخييل والأوهام، يقول أبو حامد "(…) ليعلم أنه لا تثبت ولا إتقان لمذهبهم عندهم وأنهم يحكمون بظن وتخمين، من غير تحقيق ويقين، ويستدلون على صدق علومهم الإلهية، بظهور العلوم الحسابية والمنطقية. ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية عن التخمين، كعلومهم الحسابية لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية"(12).


فلا قدرة للمتفلسف على الإبداع إن هو لم يزاوج بين العمومية العقلية والخصوصية الإشارية، فالإبداع الفلسفي لا يمكنه أن يكون عقلا محضا وخطابا برهانيا خالصا، لأن ذلك يؤدي به إلى الجمود والثبات، وهذه ليست من خصائص الفكر الفلسفي. الفلسفة الحية حسب طه عبد الرحمان تجعل من تأثيل المفهوم شيئا لا يستغنى عنه، ويقصد المؤلف بالتأثيل، عدم الاكتفاء بالجانب الاصطلاحي للمفهوم، بل يجب ربط معنى المفهوم بمعناه اللغوي ومحاولة معرفة جميع المعاني المتعلقة بالمفهوم المراد تأثيله، وهذا العمل يؤدي إلى فتح آفاق في التفلسف يقع لها تجديد الطاقة الدلالية للمفاهيم العربية (13). 

  
انطلاقا من هذه المعطيات يمكن إنتاج فلسفة حية تستند بالأساس على الجانب التخييلي، فالتخيل أمر لا مفر منه لقيام فلسفة حية، فإنتاجية الأدلة في الفلسفة الحية إنما يأتي من كون جانبها الاستنتاجي يستند بالضرورة إلى الجانب التخييلي (14)، فالفلسفات غير العربية لا تأتي بالدليل تلو الدليل لإثبات دعاويها، وإنما تلجأ إلى الممارسة الأدبية والشعرية للتعبير عن أقاويلها وهذا شأن أفلاطون وابن طفيل ومعاصرون كهيدغر ودولوز وغيرهم كثيرا. أما المتفلسفة العرب فهم على عكس ذلك يرون في الأمثال والرموز خيالات، وهي خلاف الحقائق المطلوبة ولا ينبغي الاعتماد عليها، فهي لا تليق إلا بذوي الأبصار المحجوبة أو الأوهام المحدودة كجمهور العوام (15)، لكن رائعة ابن طفيل "حي بن يقظان" نهجت نهجا مخالفا لذلك، إذ جاءت هذه القصة في بديع التخييل الذي كاد أن يغني عن التدليل لكن سرعان ما طمر هذا الأسلوب التخييلي في التفلسف تلميذه ابن رشد الذي استهواه طريق الاستنتاج المنطقي، مع أنه يقم بشرائطه في أكثر ما كتب، ولو أن ابن رشد سد الطريق الذي فتحه أستاذه لكان للفلسفة العربية اليوم شأن آخر (16).


ويخلص طه عبد الرحمن إلى ما توصل إليه من نتائج، فهو يعتقد بأنه لا فلسفة عربية ما لم تقع فيها وصل العبارة بالإشارة، وما لم نزاوج بين الخصوصية الإشارية والعمومية العبارية، بل يجب وصل هذه الفلسفة بالأدب العربي في مجموع قديمه وحديثه، فكل فلسفة أرادت الحياة وجب عليها الاستعانة بأجمل وأجل أساليب الأدب العربي في الإشارة، وأخيرا لا حياة للفلسفة العربية ما لم تتغلغل في التداول اليومي، لأن ذلك هو الشاهد على انخراطها في حياة الناس والجالب لثقتهم بمنفعتها والضامن لتجددها واستمرارها (17).


فالفيلسوف العربي المعاصر يمكن أن يكون مبدعا في الفلسفة إن هو جعل منطلقاته هي المشكلات لا الفلسفات فالفيلسوف يكون مبدعا إن لم يسارع إلى الانتماء إلى تيار من التيارات الكبرى السائدة في تاريخ الفلسفة، وإن جعل مجهوده منصبا بصيغة أساسية على الانتماء لمشاكل عصره ومشاكل الوضع التاريخي الخاص له. فالمسارعة إلى الانتماء لتيار بعينه أو مذهب بعينه يحول دون الإبداع الفلسفي الحي، ويحول صاحبه إلى إنتاج أفكار جاهزة، فالأساسي عند المنتمي إلى تيار معين هو تأكيد انتمائه إلى مجموعة من الأفكار والأطروحات الجاهزة، فالتيارات تسعى إلى الضم والتوحيد أكثر منه إلى الاختلاف والفرقة، إنها تذهب إلى ملئ الفراغات والقضاء على الفوارق وخلق التطابق، وهي بذلك تجرف من تريد أن تفكر بهم لا أن تترك لهم مجال التفكير.
كيف نقاوم موانع الإبداع الفلسفي؟ هذا هو السؤال الذي طرحه المؤلف للخوض في موانع إبداع فلسفي عربي حقيقي، ناهجا للجواب عن هذا السؤال الإحاطة بالمفهوم المركزي في الإشكال ألا وهو "الإبداع" الذي يتفرع إلى ثلاث مفاهيم وهي : "الابتكار" و"الاختراع" و"الإنشاء" على أن طرح طه عبد الرحمن للإشكال ينم عن نية كان قد عبر عنها مستشرقون ومفكرون معاصرون أبرزهم علي سامي النشار، الذي صفى دفعة واحدة التفكير الإسلامي المتأثر بفلسفة الإغريق على حد تعبير محمد أركون "أما العقلانية التي لدى فلاسفة الإسلام فقد كانت عقلانية مشبعة مازلت أقول إن الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد مقلدة اليونان، إن ما لدى الكندي وابن رشد من عقلانية إنما هي عقلانية مستعارة من المعتزلة والماتريدية وغيرهم من مفكرين مسلمين". فسامي النشار يصرح بانتمائه إلى الأشعرية ومعاداته التفكير الفلسفي الذي ينعته بتقليد فلاسفة اليونان وهذا ما فتح عدة جبهات على فكر سامي النشار لانتقاده والدفاع عن مكتسبات الفكر الفلسفي الإسلامي، لكن طابع هذه النقاشات هو طابع جداليPolémique وإيديولوجي واضح، مما يؤدي إلى ضياع الوعي الإسلامي المعاصر وانزلاقه في خصومات وصراعات عتيقة وبالية، في الوقت الذي تتراكم فيه أمام هذا الوعي ساحة هائلة من اللامفكر فيه l'impensé (18).


فطه عبد الرحمن ينهج نهج ارنست رينان وسامي النشار ودي بور وآخرين في أن الفلسفة الإسلامية ما هي إلا فلسفة يونانية بلغة عربية، والحال أن هذا الحكم المطلق يحتاج إلى مراجعة رزينة، لأنه لا توجد فلسفة أنتجت من عدم، لأن الفلاسفة لم يفتأوا ومنذ بداية التفلسف يستحضرون فلاسفة سابقين ويستلهمون من فلسفاتهم، فهل نقول على جيل دولوز، والحالة هذه، أنه سوى شارح لنيتشه، وأن كوجيف مقلد لهيغل وميرلو بونتي وسارتر تابعين لفينومينولوجيا هوسرل (19). فإذا اعتبر التفكير من داخل تاريخ الفلسفة اتباعا، فإنه لن يكون هناك سوى الاتباع والتقليد، فالقول بالجدة المطلقة في تاريخ الفلسفة، إنما هو قول ينطوي على يوطوبيا تحاول تأسيس شيء من لا شيء، وتدشين البداية من دون أن تبدأ، مفهوم الإبداع والاتباع ينبغي أن يخضعا لجنب من النسبية، أي أن يبتعدا عن المطلق والنهائي، فلا وجود لإبداع حقيقي داخل تاريخ الفلسفة وليس هناك في المقابل سوى الاتباع المطلق! بل هناك اتباع وإبداع، بل تجد من المفكرين من يبدعون انطلاقا من اتباعهم. كما أن مفهوم الاتباع يحيل إلى مفهوم آخر هو التأثر، فلا يمكننا أن ننكر صفة الإبداع على مفكر أو فلسفة عندما تثبت تأثره بسابقيه، كما يمكننا أن نضفي صفة الإبداع على فكر قطع كل أوصال القرابة مع الفكر السابق عليه، فما يميز الفكر الفلسفي ليس هو تأثره أو عدم تأثره بالفكر السابق عليه، الأمر لا يتعلق بمشكل الاتباع والتأثر، إن ما يميز هذا الفكر هو قدرته على التحرر مما هو جاهز، أن يتحرر من الأفكار كسلطة، قدرته على القطيعة والانفصال(20)، هذا ما تبينه الابستيمولوجيا المعاصرة، ففلسفة كفلسفة النفي la philosophie du nom عند باشلار، لا تعمد إلى إرادة لنفي وإقبار السابق عليها، وإنما تحاول إيجاد الجديد انطلاقا من القديم، وإعادة تشكيل القديم وفقا لمبادئ الجديد (21).


إنه لا إبداع فلسفي حسب طه عبد الرحمن إلا إذا بنينا على حقائق ثلاث إحداها أن القول الفلسفي خطاب، وكل خطاب يضع في الاعتبار المتلقي، والثانية أنه بيان، وكل بيان يضع في الاعتبار لسان المتلقي، والثالثة أنه كتابة، وكل كتابة تضع في الاعتبار بلاغة هذا اللسان، وبذلك نستطيع فتح باب الإبداع الفلسفي متى تيقنا بأن القول الفلسفي ليس مقدسا في نصه، فنتصرف فيه بحسب المتلقي منا، ولا معجزا في نشأته، فنقتدر على وضع مثله بحسب لغتنا، ولا مستقلا في مضمونه، فتعاطي لكتابته بحسب بلاغتنا (22).


يرى طه عبد الرحمن أن تقليد المنقول الفلسفي سمة غالبة على الإنتاج العربي، ويعطي نموذج الإنتاج الفلسفي المغربي، فإن سلمنا بهذه المسلمة وصلنا إلى أن اليقظة التي تعرفها الفلسفة المغربية اليوم سوف تؤول إلى ما آلت إليه اليقظة الفلسفية الإسلامية في طورها الأول، فكما أن فلاسفة الإسلام قديما وقعوا في تقليد المنقول الفلسفي اليوناني، فنسب عملهم إلى التكرار والاجترار، فكذلك الأمر بالنسبة لمتفلسفة المغرب حديثا وهو واقعون في تقليد المنقول الفرنسي. قد يأتي فيه زمان يصفهم فيه النقاد بتعاطي النسخ والوقوع في العقم، فحينئذ تصير اليقظة الفلسفية المغربية الحالية عبارة عن "يقظة معوجة" (23). وإذا ظهر أن اليقظة الفلسفية المغربية دخلت عليها آفة التقليد، فنحن مطالبون أكثر ممن تقدمونا بالاشتغال بدرء هذه الآفة، حتى نحفظ هذه اليقظة من الانقلاب إلى موت ثاني يصيب فكر الأمة العربية في المغرب كما أصابها الموت الأول في الأندلس، حيث أن الفلسفة في الأندلس انتهت بوفاة ابن رشد فيلسوف قرطبة، فهذا الأخير حسب طه عبد الرحمن أخطأ كليا في منطلقاته الفلسفية، فضل الطريق إلى إنشاء فلسفة عربية وأعاد الفلسفة إلى ما كانت عليه في لباسها اليوناني الأصلي، ماحيا من غير تحسر كل مجهودات أسلافه في ملاءمتها مع مقتضيات المجال التداولي العربي، فكان بحق فيلسوفا غربيا بلسان عربي، لا فيلسوفا عربيا بعقل عربي، فيكون بذلك قد أحيا الفلسفة بالنسبة لغيرنا، وأماتها بالنسبة لنا (24).


إن وجهة النظر هذه إنما هي صائبة في جانب، وقابلة للنقاش في جوانب عدة، فإذا كانت فلسفة ابن رشد عرفت ترحابا كبيرا داخل الغرب المسيحي لدرجة ظهور تيار رشدي أطلق على نفسه اسم Averroïsme، وبالرغم من انكباب الشراح الغربيين على شرح مؤلفات ابن رشد والتي تدور في مجملها حول علاقة الدين بالحكمة – الفلسفة – فإن هذا الأمر لا يعني بالبتة أن ابن رشد فيلسوفا غربيا بلسان عربي، لقد كان أبو الوليد بحق، فيلسوفا لا عربيا ولا إسلاميا فقط، بل كان فيلسوفا كونيا، وما هذا القول إلا وله ما يثبته، فقد عرف على فيلسوف قرطبة تسامحه وتساهله بشأن باقي الأديان "إن الحكيم لا يتعرض للشرائع بقول مثبت أو مبطل في مبادئها العامة(…)"(25) وهذا منا يفسر تبني مجموعة من الشراح فلسفته من بعده وكان أغلبهم على غير ملة الإسلام، ومنهم فيلسوف اليهود "موسى الثاني" أي ابن ميمون، الذي ذكر بعض المؤرخين أنه كان تلميذه وأقام عنده ضيفا في منزله في قرطبة إلى يوم اضطهاده ونفيه منها. لقد كانت للفيلسوف الجليل سمعتان داخل أوربا، الأولى سمعة الفضل والنزاهة، وكانت عند أساتذة المدارس الذين كانوا يرمون إلى كسر النير القديم، والثانية سمعة الكفر وبغض الدين وكانت عند العامة الجمهور (26). ولم يأت القرن الرابع عشر حتى صارت سمعة ابن رشد فوق كل سمعة، حتى أن لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، لما أراد إصلاح التعليم الفلسفي في سنة 1473 طلب من أساتذة المدارس، تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها، لأنه ثبت أن هذا الشرح صحيح ومفيد.

لكن التعصب لمذهب بعينه يؤدي إلى موت وذوبان فكر هذا المذهب قبل زوال فكر المتأثر بهذا المذهب، فمفهوما التعصب والتأثر لا يجتمعان كون كل واحد منهما يحيل إلى معنى يخالف الآخر تماما، كما سبق ذكر ذلك. وتاريخ الفكر يعلمنا هذا الدرس، فأين هي اليوم "الأرسطية" والديكارتية" و"الرشدية اللاتينية" و"الماركسية" … إن ما كان مخاضا وصراعا فكريا بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة والمفكرين أصبح من بعدهم أطروحات جاهزة وأفكار مقولبة، ما كان سؤالا واستمرارا في السؤال قد تحول إلى أجوبة ميتة. إن جل المذاهب لسوف تعرف زوالا كاملا إن هي لم تجعل من أفكارها سلاحا للتجديد من الداخل، هذا حال الفكر العربي انقسامه إلى مذاهب تمت إلى التراث العربي الإسلامي وهذا ليس عيبا، بل إنما العيب هو تجميد أطروحات هذا المذهب إلى قوالب لا تلبث أن تفكر وتتزعزع حتى تلقى حتفها، فالأفكار عندما تتحول إلى تيار تفقد غناها كأفكار.

إن التراث العربي الإسلامي سواء منه الفلسفي أو الكلامي أو الصوفي أو الأدبي … ليس كنزا ينبغي المحافظة عليه والتعصب له والإحاطة به وتقديسه، وإنما هو مجموعة من الاجتهادات الفكرية التي حاولت إيجاد صيغة معينة للفكر والمعرفة في المجتمع الإسلامي، وبما أن الأمر كذلك فإن هذا التراث سيكون قابلا للتأويل وإن لم يكن للهدم إن اقتضى الأمر ذلك. فقول ابن رشد مثلا – ما دمنا بصدد ابن رشد – إن أرسطو هو الإنسان الأكمل والمفكر الأعظم الذي وصل إلى الحق الذي لا يشوبه باطل، إنما هو قول وجب التخلص منه لإعطاء حركية جديدة للفكر الرشدي في زماننا هذا كون الظروف التي عاشها سواء أرسطو وابن رشد ليست هي ظروف عيشنا اليوم.


ونفس الأمر بالنسبة لنماذج أخرى منها أبو حامد الغزالي الذي صرح في آخر أيامه أنه لم يكن يطلب العلم من أجل العلم والمعرفة، بل كان من أجل الجاه والسمعة والشهرة وتنفيذا لأمر مستظهري نسبة إلى الخليفة العباسي المستظهري.


هل لنا أن نتساءل في الختام عن عوائق قيام فلسفة عربية مستقلة؟ أم أن السؤال لن يغير شيئا؟ هل الأمر كله متوقف على مدى اتباعنا ونقلنا للموروث الغربي وتأثرنا بهذا المذهب أو ذاك؟ أم أن الأمر يتعلق بأزمة ثقافة وفكر يعرفها العالم العربي الإسلامي؟ وهل فعلا يعرف الفكر العربي المعاصر أزمة الفكر يلخصها العروي في أزمة الإيديولوجيا الإسلامية التقليدية والليبرالية العربية ثم الاشتراكية العربية وأخيرا ما سمي في بداية الثمانينات بالعروبة(27) أم أن المشكل اكبر وأعمق من صراع وأزمة مذاهب يعرفها الفكر العربي المعاصر؟

 

إن أية فلسفة اليوم هي مجبرة بشكل أو بآخر للمشاركة في الفكر الكوني، وحينئذ لن يعود هناك مجال لافتراض مفهوم مطلق للخصوصية والهوية والأصالة، بل إن كل حديث عن الأصالة، هو بشكل أو بآخر يزج بنفسه في المعاصرة، إنه يشارك بكيفية أصيلة في العالمية وفي الفكر الكوني. وإن نحن أردنا اليوم للفلسفة العربية أن تقوم ينبغي أن لا ننتظر منها أن تكون عربية "خالصة"، كما ينبغي أن ننفصل عن مختلف الدعوات التي تنادي بعدم جدوى الحوار مع الفكر المعاصر، هذا الفكر الذي وجب التذكير أنه يتكلم عدة لغات، ويعكس هموما متباينة ويعبر عن هويات متغايرة (28)، فما بالك نحن الذين نتكلم لغة واحدة ونعبر عن هوية واحدة !

الهوامش :
1- طه الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2002 ص 53.
2- طه عبد الرحمن، نفس المرجع ص 55.
3- طه عبد الرحمن، نفسه ص 52.
4- عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفلسفي المعاصر مجاوزة الميتافيزيقا دار توبقال المغرب الطبعة الثانية 2000 ص 9.
5- أورده بنعبد العالي في المرجع السابق.
Hiedegger, chemin qui ne mènent nulle part, Gallimard p 274.
6- طه عبد الرحمن، نفس المرجع ص 68.
7- طه عبد الرحمن، نفسه ص 72.
8- أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق محمد عمارة، دار المعارف القاهرة الطبعة الثالثة ص 26.
9- Abdelkebir Khatibi, Maghreb pluriel édition denoël paris 1983 p12 -
10- طه عبد الرحمن، نفس المرجع السابق ص 86.
11- طه عبد الرحمن، نفسه ص 88.
12- أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت ص 43. معلوم أن أبا حامد يعتبر من أهم الشخصيات التي قامت بتبيئة المنطق داخل الثقافة العربية الإسلامية، فنقده للفلسفة وللفلاسفة، كان نقدا يخص جانبا بعينه هو الإلهيات، أما المنطقيات فلا يتعلق فيها بالدين من شيء نفيا وإثباتا.
13- طه عبد الرحمن، نفسه ص 96 وللتوسع أكثر في دلالة هذا المفهوم "التأثيل" يستحسن الرجوع إلى كتاب للمؤلف بعنوان القول الفلسفي : كتاب المفهوم والتأثيل، المركز الثقافي العربي 1999.
14- طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص 102.
15- ربما يقصد المؤلف هنا ابن رشد الذي فرق بين معرفة العوالم ومعرفة العلماء أو الخاصة، حيث أن معرفة الجمهور تقتصر على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس ولذلك يخاطبهم الشرع، بضرب المثل وتصوير صفات الألوهية والقضايا الأخروية تصويرا حسيا مستمدا مما هو مشاهد عندهم. أما الخاصة فتزيد معرفتهم على معرفة العوام باكتسابهم للبرهان، أي ما يتوصل إليه بالاستدلال لاستخراج المجهول من المعلوم وبالتالي فمعارف الخاصة أوسع من معارف الجمهور. وقد كان أبو حامد هو أيضا قد قسم تلقي المعرفة والخاصة وهي النقطة التي يوافق فيها فيلسوف قرطبة حجة الإسلام.
16- طه عبد الرحمن، نفسه ص 103.
17- طه عبد الرحمن، نفسه ص 108. ربما نحتاج لتحقيق هذا الأمر لفيلسوف مثل ميشيل فوكو، الذي صرح عقب صدور كتابه الكلمات والأشياء 1966، أن الفلسفة بمعناها القديم قد انتهت. وميزة فوكو أنه أنقد الخطاب الفلسفي من عموميته وتجريده " و أنزله إلى الأرض".
18- محمد اركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي ترجمة هاشم صالح المركز الثقافي العربي ومركز الإنماء القومي الطبعة الثانية 1966 ص 131.
19- لا نحتاج إلى التذكير أن الكسندر كوجيف كان شارحا لهيغل وكتب كتالبا "مدخل لقرارءة هيغل" وكتب دولولز كتاب "نيشة والفلسفة" وقبله كان سارتر يحاول إعادة إنتاج وتبيئة الفينومينولوجيا داخل التربة الثقافية الفرنسية إلى جانب ميولوبي نتي. فهل نقول إن الفلسفة الفرنسية المعاصرة في إحدى جوانبها هي مجرد فلسفة تابعة للفلسفة الألمانية هذا دون أن ننسى تأثر جون بوفري بهيد قرو فوكو بينشته وهيبوليت بهيغل …
20- عبد السلام بعبد العالي، نحن والتيارات الفلسفية مجلة الوحدة العربية السنة الخامسة العدد 60 شتنبر 1989 ص 35.
Gaston Bachelard, la philosophie du non, cérés, éditions Tunisie 1993 p 124 -21
22- طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ص 116.
23- طه عبد الرحمن، نفسه ص 134.
24- طه عبد الرحمن، نفسه ص 140
25- طه عبد الرحمن، نفسه ص 141.
26- فرح أنطوان، ابن رشد وفلسفته مع نصوص المناظرة بين محمد عبده وفرح أنطوان، تقديم أدونيس العكرة دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى 1981 ص 84.
Abdallah Laroui, Islam et modernité, centre culturel arabe, 2ème édition 2001 p 82-83. -27
28- عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، دار توبقال للنشر المغرب الطبعة الأولى 1994 ص 45.‎

هل الفلسفة، كونية أم قومية؟ أي أنها كونية تهم البشرية جمعاء، أم قومية تخص قوما بذاته من خلال إنتاجاته، هذا هو السؤال الذي يحاول طه عبد الرحمن الإجابة عنه، بل والذهاب إلى الاعتراض على دعوى "كونية الفلسفة"، ويسوق في ذلك اعتراضات من أهمها ارتباط الفلسفة بالسياق التاريخي والاجتماعي وبالسياق اللغوي والأدبي، فكل فلسفة هي نتيجة سياق تاريخي ونطاق اجتماعي مخصوص، ولا وجود لفلسفة بلا هذا السياق التاريخي ولا هذا النطاق الاجتماعي، زد على ذلك أن اللغة هي المحل الذي يتشكل فيه القول الفلسفي ولا تشكل لهذا القول بغير تأثر بمحله اللغوي (1)، وفي إطار اللغة ينتج الاختلاف بين الفلاسفة إلى درجة تصنيفها إلى مذاهب عند كل أمة، ويؤدي هذا إلى تصنيف الفلسفة منن خلال قوميتها، فنقول "الفلسفة الفرنسية" و"الفلسفة الألمانية" و"الفلسفة الانجليزية" هذا دون أن ينسى المؤلف إيراد اعتراضات على حدة العقل ووحدة الطبيعة الإنسانية، مؤكدا أن العقل ليس وحدة وذاتا، وإنما فعالية (2)، ومنه ينتج عنه انفكاك وحدة الفلسفة، إن كان العقل ليس موحدا كليا وبالتالي فلا جدوى من القول بكونية الفلسفة والفكر لأن هذا القول فيه طمس لخصوصية الشعوب والأقوام في إنتاجاتهم الفلسفية والفكرية.


على أن مفهوم الكونية الذي يستعمله طه عبد الرحمن هنا يلفه كثير من الغموض. فالكونية عنده كمفهوم يعني التعميم على أفراد البشر جميعا، وهو ما يحيل إليه أيضا مفهوم "العالمية" الذي يقصد به المؤلف ما يصدق على جميع أقطار الأرض من حيث هي دول قائمة (3)، والصيغة التي يعطيها للمفهومين هي الصيغة الجغرافية أو الصيغة السياسية، وربما يذهب الأستاذ إلى إيراد صيغة الغرب مرادف لمفهوم "الكونية". فالكوني لا يحيل بالضرورة إلى ما درج على تسميته الغربي إن الكوني عصر من عصور العالم، فهو لا يحيل لأي معنى عرقي أو جغرافي أو قومي، إن "الكونية" لا هوية لها وربما كانت اليوم هي ما يحدد كل هوية (4) يقول هيدغر : "اليوناني والمسيحي والكوني والغربي، كل هذه العصور ندركها انطلاقا من خاصية أساسية للوجود، وهي أن الوجود لما هو حقيقة وانكشاف، فهو يخفي أكثر مما يظهر" (5).


كيف يمكن إذن قيام فلسفة عربية مستقلة عن الكونية الفلسفية، يجيب طه عبد الرحمن عن هذا السؤال بطرح خطة خِطابية لقيام فضاء فلسفي عربي، مفادها نحت مفاهيم مثل "القيام" و"القوام" و"القومة" وهي مصطلحات تستمد قيمتها من مفهوم "القومية" وتتأسس على العمل المتواصل والمستقل والإنتاج الفعال والدينامي، فما يميز القومية ليس هو جملة المعارف والصنائع التي تحدث في القوم، بقدر ما هي جملة القيم والمعايير التي تحيط بهذه المعارف والصنائع وتوجهها (6) ولا يجب تبني مفهوم معين منقول من الفضاء الفلسفي العالمي، حتى تثبت بالدليل صحته وفائدته في مجال تداول المشتغل في الميدان، ويشدد طه عبد الرحمن على النقد في جلب القوة وان الاعتقاد في الفلسفة يجلب الضعف، فالنقد ليس رفضا مسبقا، ولا ردا متعسفا وإنما هو عرض للمفاهيم المنقولة على الأدلة المنطقية، وحتى وإن ثبتت صحة هذه المفاهيم، فذلك لا يلزم ثبوت فائدتها (7).


إننا أمام رفض مطلق لكل ما هو براني، فحال الأمم، والحالة هذه، هو الانفتاح على الشعوب الأخرى وإن كانت على غير ملتنا كما قال الكندي، فالنظر فيما تقدم من الأمم السالفة أو المعاصرة مما أنتجوه وأثبتوه في كتبهم، إنما هو أمر واجب اتباعه، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم، وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق، نبهنا عليه، وحذرنا منه وعذرناهم(8). إذ أننا نؤكد على نقد وفحص المفاهيم المنقولة من الفضاء الفلسفي العالمي، ونحرص على عدم تداولها بيننا قبل أن نرى هل تتوافق مع خصوصيتنا الثقافية والدينية، فإننا مطالبون نحن أيضا بنقد لكل الأشكال القديمة والجديدة لتراثنا ونخلصه من صيغته الفقهية، فنكون بذلك أمام نقد مزدوج une double critique وفكر مغاير pensée-autre لا يحن للعودة إلى الأسس ولا إلى التغني بأمجاد الماضي (9).


هذا الماضي الذي يحاول بعض الباحثين المعاصرين في الفكر الفلسفي أن يجعلوا منه عصرا ذهبيا سيطرت فيه روح العقلانية والعقل والخطاب البرهاني، على أن محاولة أبي الوليد بن رشد في تحويل الفلسفة إلى خطاب برهاني واتباعه لطريق الاستنتاج المنطقي، تعد الأشهر والأبرز من بين محاولات الفلاسفة المسلمين السابقين عليه، لكن هذا القول –في أن الفلسفة خطاب برهاني- إنما هو قول يقضي بشكل كلي على خصوصية الفكر الفلسفي من حيث هو كرّ وفرّ وقدرته على التراجع والانتقاد وعلى إنتاج الأسئلة وتوليد الفراغات، فالقول بأن العقل –أو اللوغوس- الذي يميز الممارسة الفلسفية يصفو ويتمحض فيها بالكلية، بمعنى أن القول الفلسفي قول عقلي، هو ادّعاء أسطوري كما يصفه عبد الرحمن، ويحاول المؤلف إيجاد مجموعة من المبادئ المنهجية التي تساعد في دفع القول بأسطورة اللوغوس العقلي للفلسفة، وهي على ثلاثة وجوه، مبدأ المعرفة الموضوعية، حيث أن الفلسفة وحدها من دون شعب المعرفة الإنسانية لم تكن في تاريخ ممارستها كله محل معرفة موضوعية (10)، أما المبدأ الثاني فيتلخص في التقسيم التركيبي الكلامي، حيث يجعل المؤلف للفلسفة أقسام ثلاثة للكلام هي : "المفهوم" و"التعريف" و"الدليل"، ومتى استطاعت هذه التقسيمات تجاوز الفلسفة الخالصة كان الحظ أوفر لقيام فلسفة عربية حية (11)، والمبدأ الثالث يتعلق بالتقسيم البياني للكلام، وينقسم بدوره إلى قسمين هما : العبارة والإشارة، واللغة الفلسفية تتميز بمظاهر العبارة العقلية وأيضا بالإشارة الخيالية، وقد اعتقد متفلسفة العرب أن الفلسفة الغربية المنقولة إليهم إنما هي ذات طبيعة عبارية عقلية محضة مثلها مثل العلم الرياضي، لأن حقائقها لا تحكمها إلا قوة العقل وحدها، وهذا من بين الأسباب التي دفعت الغزالي إلى محاولة هدم مذاهب الفلاسفة، معترضا عليهم سلوكم طريق البرهان، ومتهما إياهم اعتماد التخييل والأوهام، يقول أبو حامد "(…) ليعلم أنه لا تثبت ولا إتقان لمذهبهم عندهم وأنهم يحكمون بظن وتخمين، من غير تحقيق ويقين، ويستدلون على صدق علومهم الإلهية، بظهور العلوم الحسابية والمنطقية. ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية عن التخمين، كعلومهم الحسابية لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية"(12).


فلا قدرة للمتفلسف على الإبداع إن هو لم يزاوج بين العمومية العقلية والخصوصية الإشارية، فالإبداع الفلسفي لا يمكنه أن يكون عقلا محضا وخطابا برهانيا خالصا، لأن ذلك يؤدي به إلى الجمود والثبات، وهذه ليست من خصائص الفكر الفلسفي. الفلسفة الحية حسب طه عبد الرحمان تجعل من تأثيل المفهوم شيئا لا يستغنى عنه، ويقصد المؤلف بالتأثيل، عدم الاكتفاء بالجانب الاصطلاحي للمفهوم، بل يجب ربط معنى المفهوم بمعناه اللغوي ومحاولة معرفة جميع المعاني المتعلقة بالمفهوم المراد تأثيله، وهذا العمل يؤدي إلى فتح آفاق في التفلسف يقع لها تجديد الطاقة الدلالية للمفاهيم العربية (13).


انطلاقا من هذه المعطيات يمكن إنتاج فلسفة حية تستند بالأساس على الجانب التخييلي، فالتخيل أمر لا مفر منه لقيام فلسفة حية، فإنتاجية الأدلة في الفلسفة الحية إنما يأتي من كون جانبها الاستنتاجي يستند بالضرورة إلى الجانب التخييلي (14)، فالفلسفات غير العربية لا تأتي بالدليل تلو الدليل لإثبات دعاويها، وإنما تلجأ إلى الممارسة الأدبية والشعرية للتعبير عن أقاويلها وهذا شأن أفلاطون وابن طفيل ومعاصرون كهيدغر ودولوز وغيرهم كثيرا. أما المتفلسفة العرب فهم على عكس ذلك يرون في الأمثال والرموز خيالات، وهي خلاف الحقائق المطلوبة ولا ينبغي الاعتماد عليها، فهي لا تليق إلا بذوي الأبصار المحجوبة أو الأوهام المحدودة كجمهور العوام (15)، لكن رائعة ابن طفيل "حي بن يقظان" نهجت نهجا مخالفا لذلك، إذ جاءت هذه القصة في بديع التخييل الذي كاد أن يغني عن التدليل لكن سرعان ما طمر هذا الأسلوب التخييلي في التفلسف تلميذه ابن رشد الذي استهواه طريق الاستنتاج المنطقي، مع أنه يقم بشرائطه في أكثر ما كتب، ولو أن ابن رشد سد الطريق الذي فتحه أستاذه لكان للفلسفة العربية اليوم شأن آخر (16).


ويخلص طه عبد الرحمن إلى ما توصل إليه من نتائج، فهو يعتقد بأنه لا فلسفة عربية ما لم تقع فيها وصل العبارة بالإشارة، وما لم نزاوج بين الخصوصية الإشارية والعمومية العبارية، بل يجب وصل هذه الفلسفة بالأدب العربي في مجموع قديمه وحديثه، فكل فلسفة أرادت الحياة وجب عليها الاستعانة بأجمل وأجل أساليب الأدب العربي في الإشارة، وأخيرا لا حياة للفلسفة العربية ما لم تتغلغل في التداول اليومي، لأن ذلك هو الشاهد على انخراطها في حياة الناس والجالب لثقتهم بمنفعتها والضامن لتجددها واستمرارها (17).


فالفيلسوف العربي المعاصر يمكن أن يكون مبدعا في الفلسفة إن هو جعل منطلقاته هي المشكلات لا الفلسفات فالفيلسوف يكون مبدعا إن لم يسارع إلى الانتماء إلى تيار من التيارات الكبرى السائدة في تاريخ الفلسفة، وإن جعل مجهوده منصبا بصيغة أساسية على الانتماء لمشاكل عصره ومشاكل الوضع التاريخي الخاص له. فالمسارعة إلى الانتماء لتيار بعينه أو مذهب بعينه يحول دون الإبداع الفلسفي الحي، ويحول صاحبه إلى إنتاج أفكار جاهزة، فالأساسي عند المنتمي إلى تيار معين هو تأكيد انتمائه إلى مجموعة من الأفكار والأطروحات الجاهزة، فالتيارات تسعى إلى الضم والتوحيد أكثر منه إلى الاختلاف والفرقة، إنها تذهب إلى ملئ الفراغات والقضاء على الفوارق وخلق التطابق، وهي بذلك تجرف من تريد أن تفكر بهم لا أن تترك لهم مجال التفكير.
كيف نقاوم موانع الإبداع الفلسفي؟ هذا هو السؤال الذي طرحه المؤلف للخوض في موانع إبداع فلسفي عربي حقيقي، ناهجا للجواب عن هذا السؤال الإحاطة بالمفهوم المركزي في الإشكال ألا وهو "الإبداع" الذي يتفرع إلى ثلاث مفاهيم وهي : "الابتكار" و"الاختراع" و"الإنشاء" على أن طرح طه عبد الرحمن للإشكال ينم عن نية كان قد عبر عنها مستشرقون ومفكرون معاصرون أبرزهم علي سامي النشار، الذي صفى دفعة واحدة التفكير الإسلامي المتأثر بفلسفة الإغريق على حد تعبير محمد أركون "أما العقلانية التي لدى فلاسفة الإسلام فقد كانت عقلانية مشبعة مازلت أقول إن الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد مقلدة اليونان، إن ما لدى الكندي وابن رشد من عقلانية إنما هي عقلانية مستعارة من المعتزلة والماتريدية وغيرهم من مفكرين مسلمين". فسامي النشار يصرح بانتمائه إلى الأشعرية ومعاداته التفكير الفلسفي الذي ينعته بتقليد فلاسفة اليونان وهذا ما فتح عدة جبهات على فكر سامي النشار لانتقاده والدفاع عن مكتسبات الفكر الفلسفي الإسلامي، لكن طابع هذه النقاشات هو طابع جداليPolémique وإيديولوجي واضح، مما يؤدي إلى ضياع الوعي الإسلامي المعاصر وانزلاقه في خصومات وصراعات عتيقة وبالية، في الوقت الذي تتراكم فيه أمام هذا الوعي ساحة هائلة من اللامفكر فيه l'impensé (18).


فطه عبد الرحمن ينهج نهج ارنست رينان وسامي النشار ودي بور وآخرين في أن الفلسفة الإسلامية ما هي إلا فلسفة يونانية بلغة عربية، والحال أن هذا الحكم المطلق يحتاج إلى مراجعة رزينة، لأنه لا توجد فلسفة أنتجت من عدم، لأن الفلاسفة لم يفتأوا ومنذ بداية التفلسف يستحضرون فلاسفة سابقين ويستلهمون من فلسفاتهم، فهل نقول على جيل دولوز، والحالة هذه، أنه سوى شارح لنيتشه، وأن كوجيف مقلد لهيغل وميرلو بونتي وسارتر تابعين لفينومينولوجيا هوسرل (19). فإذا اعتبر التفكير من داخل تاريخ الفلسفة اتباعا، فإنه لن يكون هناك سوى الاتباع والتقليد، فالقول بالجدة المطلقة في تاريخ الفلسفة، إنما هو قول ينطوي على يوطوبيا تحاول تأسيس شيء من لا شيء، وتدشين البداية من دون أن تبدأ، مفهوم الإبداع والاتباع ينبغي أن يخضعا لجنب من النسبية، أي أن يبتعدا عن المطلق والنهائي، فلا وجود لإبداع حقيقي داخل تاريخ الفلسفة وليس هناك في المقابل سوى الاتباع المطلق! بل هناك اتباع وإبداع، بل تجد من المفكرين من يبدعون انطلاقا من اتباعهم. كما أن مفهوم الاتباع يحيل إلى مفهوم آخر هو التأثر، فلا يمكننا أن ننكر صفة الإبداع على مفكر أو فلسفة عندما تثبت تأثره بسابقيه، كما يمكننا أن نضفي صفة الإبداع على فكر قطع كل أوصال القرابة مع الفكر السابق عليه، فما يميز الفكر الفلسفي ليس هو تأثره أو عدم تأثره بالفكر السابق عليه، الأمر لا يتعلق بمشكل الاتباع والتأثر، إن ما يميز هذا الفكر هو قدرته على التحرر مما هو جاهز، أن يتحرر من الأفكار كسلطة، قدرته على القطيعة والانفصال(20)، هذا ما تبينه الابستيمولوجيا المعاصرة، ففلسفة كفلسفة النفي la philosophie du nom عند باشلار، لا تعمد إلى إرادة لنفي وإقبار السابق عليها، وإنما تحاول إيجاد الجديد انطلاقا من القديم، وإعادة تشكيل القديم وفقا لمبادئ الجديد (21).


إنه لا إبداع فلسفي حسب طه عبد الرحمن إلا إذا بنينا على حقائق ثلاث إحداها أن القول الفلسفي خطاب، وكل خطاب يضع في الاعتبار المتلقي، والثانية أنه بيان، وكل بيان يضع في الاعتبار لسان المتلقي، والثالثة أنه كتابة، وكل كتابة تضع في الاعتبار بلاغة هذا اللسان، وبذلك نستطيع فتح باب الإبداع الفلسفي متى تيقنا بأن القول الفلسفي ليس مقدسا في نصه، فنتصرف فيه بحسب المتلقي منا، ولا معجزا في نشأته، فنقتدر على وضع مثله بحسب لغتنا، ولا مستقلا في مضمونه، فتعاطي لكتابته بحسب بلاغتنا (22).


يرى طه عبد الرحمن أن تقليد المنقول الفلسفي سمة غالبة على الإنتاج العربي، ويعطي نموذج الإنتاج الفلسفي المغربي، فإن سلمنا بهذه المسلمة وصلنا إلى أن اليقظة التي تعرفها الفلسفة المغربية اليوم سوف تؤول إلى ما آلت إليه اليقظة الفلسفية الإسلامية في طورها الأول، فكما أن فلاسفة الإسلام قديما وقعوا في تقليد المنقول الفلسفي اليوناني، فنسب عملهم إلى التكرار والاجترار، فكذلك الأمر بالنسبة لمتفلسفة المغرب حديثا وهو واقعون في تقليد المنقول الفرنسي. قد يأتي فيه زمان يصفهم فيه النقاد بتعاطي النسخ والوقوع في العقم، فحينئذ تصير اليقظة الفلسفية المغربية الحالية عبارة عن "يقظة معوجة" (23). وإذا ظهر أن اليقظة الفلسفية المغربية دخلت عليها آفة التقليد، فنحن مطالبون أكثر ممن تقدمونا بالاشتغال بدرء هذه الآفة، حتى نحفظ هذه اليقظة من الانقلاب إلى موت ثاني يصيب فكر الأمة العربية في المغرب كما أصابها الموت الأول في الأندلس، حيث أن الفلسفة في الأندلس انتهت بوفاة ابن رشد فيلسوف قرطبة، فهذا الأخير حسب طه عبد الرحمن أخطأ كليا في منطلقاته الفلسفية، فضل الطريق إلى إنشاء فلسفة عربية وأعاد الفلسفة إلى ما كانت عليه في لباسها اليوناني الأصلي، ماحيا من غير تحسر كل مجهودات أسلافه في ملاءمتها مع مقتضيات المجال التداولي العربي، فكان بحق فيلسوفا غربيا بلسان عربي، لا فيلسوفا عربيا بعقل عربي، فيكون بذلك قد أحيا الفلسفة بالنسبة لغيرنا، وأماتها بالنسبة لنا (24).


إن وجهة النظر هذه إنما هي صائبة في جانب، وقابلة للنقاش في جوانب عدة، فإذا كانت فلسفة ابن رشد عرفت ترحابا كبيرا داخل الغرب المسيحي لدرجة ظهور تيار رشدي أطلق على نفسه اسم Averroïsme، وبالرغم من انكباب الشراح الغربيين على شرح مؤلفات ابن رشد والتي تدور في مجملها حول علاقة الدين بالحكمة – الفلسفة – فإن هذا الأمر لا يعني بالبتة أن ابن رشد فيلسوفا غربيا بلسان عربي، لقد كان أبو الوليد بحق، فيلسوفا لا عربيا ولا إسلاميا فقط، بل كان فيلسوفا كونيا، وما هذا القول إلا وله ما يثبته، فقد عرف على فيلسوف قرطبة تسامحه وتساهله بشأن باقي الأديان "إن الحكيم لا يتعرض للشرائع بقول مثبت أو مبطل في مبادئها العامة(…)"(25) وهذا منا يفسر تبني مجموعة من الشراح فلسفته من بعده وكان أغلبهم على غير ملة الإسلام، ومنهم فيلسوف اليهود "موسى الثاني" أي ابن ميمون، الذي ذكر بعض المؤرخين أنه كان تلميذه وأقام عنده ضيفا في منزله في قرطبة إلى يوم اضطهاده ونفيه منها. لقد كانت للفيلسوف الجليل سمعتان داخل أوربا، الأولى سمعة الفضل والنزاهة، وكانت عند أساتذة المدارس الذين كانوا يرمون إلى كسر النير القديم، والثانية سمعة الكفر وبغض الدين وكانت عند العامة الجمهور (26). ولم يأت القرن الرابع عشر حتى صارت سمعة ابن رشد فوق كل سمعة، حتى أن لويس الرابع عشر، ملك فرنسا، لما أراد إصلاح التعليم الفلسفي في سنة 1473 طلب من أساتذة المدارس، تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها، لأنه ثبت أن هذا الشرح صحيح ومفيد.

لكن التعصب لمذهب بعينه يؤدي إلى موت وذوبان فكر هذا المذهب قبل زوال فكر المتأثر بهذا المذهب، فمفهوما التعصب والتأثر لا يجتمعان كون كل واحد منهما يحيل إلى معنى يخالف الآخر تماما، كما سبق ذكر ذلك. وتاريخ الفكر يعلمنا هذا الدرس، فأين هي اليوم "الأرسطية" والديكارتية" و"الرشدية اللاتينية" و"الماركسية" … إن ما كان مخاضا وصراعا فكريا بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة والمفكرين أصبح من بعدهم أطروحات جاهزة وأفكار مقولبة، ما كان سؤالا واستمرارا في السؤال قد تحول إلى أجوبة ميتة. إن جل المذاهب لسوف تعرف زوالا كاملا إن هي لم تجعل من أفكارها سلاحا للتجديد من الداخل، هذا حال الفكر العربي انقسامه إلى مذاهب تمت إلى التراث العربي الإسلامي وهذا ليس عيبا، بل إنما العيب هو تجميد أطروحات هذا المذهب إلى قوالب لا تلبث أن تفكر وتتزعزع حتى تلقى حتفها، فالأفكار عندما تتحول إلى تيار تفقد غناها كأفكار.

إن التراث العربي الإسلامي سواء منه الفلسفي أو الكلامي أو الصوفي أو الأدبي … ليس كنزا ينبغي المحافظة عليه والتعصب له والإحاطة به وتقديسه، وإنما هو مجموعة من الاجتهادات الفكرية التي حاولت إيجاد صيغة معينة للفكر والمعرفة في المجتمع الإسلامي، وبما أن الأمر كذلك فإن هذا التراث سيكون قابلا للتأويل وإن لم يكن للهدم إن اقتضى الأمر ذلك. فقول ابن رشد مثلا – ما دمنا بصدد ابن رشد – إن أرسطو هو الإنسان الأكمل والمفكر الأعظم الذي وصل إلى الحق الذي لا يشوبه باطل، إنما هو قول وجب التخلص منه لإعطاء حركية جديدة للفكر الرشدي في زماننا هذا كون الظروف التي عاشها سواء أرسطو وابن رشد ليست هي ظروف عيشنا اليوم.


ونفس الأمر بالنسبة لنماذج أخرى منها أبو حامد الغزالي الذي صرح في آخر أيامه أنه لم يكن يطلب العلم من أجل العلم والمعرفة، بل كان من أجل الجاه والسمعة والشهرة وتنفيذا لأمر مستظهري نسبة إلى الخليفة العباسي المستظهري.


هل لنا أن نتساءل في الختام عن عوائق قيام فلسفة عربية مستقلة؟ أم أن السؤال لن يغير شيئا؟ هل الأمر كله متوقف على مدى اتباعنا ونقلنا للموروث الغربي وتأثرنا بهذا المذهب أو ذاك؟ أم أن الأمر يتعلق بأزمة ثقافة وفكر يعرفها العالم العربي الإسلامي؟ وهل فعلا يعرف الفكر العربي المعاصر أزمة الفكر يلخصها العروي في أزمة الإيديولوجيا الإسلامية التقليدية والليبرالية العربية ثم الاشتراكية العربية وأخيرا ما سمي في بداية الثمانينات بالعروبة(27) أم أن المشكل اكبر وأعمق من صراع وأزمة مذاهب يعرفها الفكر العربي المعاصر؟



إن أية فلسفة اليوم هي مجبرة بشكل أو بآخر للمشاركة في الفكر الكوني، وحينئذ لن يعود هناك مجال لافتراض مفهوم مطلق للخصوصية والهوية والأصالة، بل إن كل حديث عن الأصالة، هو بشكل أو بآخر يزج بنفسه في المعاصرة، إنه يشارك بكيفية أصيلة في العالمية وفي الفكر الكوني. وإن نحن أردنا اليوم للفلسفة العربية أن تقوم ينبغي أن لا ننتظر منها أن تكون عربية "خالصة"، كما ينبغي أن ننفصل عن مختلف الدعوات التي تنادي بعدم جدوى الحوار مع الفكر المعاصر، هذا الفكر الذي وجب التذكير أنه يتكلم عدة لغات، ويعكس هموما متباينة ويعبر عن هويات متغايرة (28)، فما بالك نحن الذين نتكلم لغة واحدة ونعبر عن هوية واحدة !

الهوامش :
1- طه الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2002 ص 53.
2- طه عبد الرحمن، نفس المرجع ص 55.
3- طه عبد الرحمن، نفسه ص 52.
4- عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفلسفي المعاصر مجاوزة الميتافيزيقا دار توبقال المغرب الطبعة الثانية 2000 ص 9.
5- أورده بنعبد العالي في المرجع السابق.
Hiedegger, chemin qui ne mènent nulle part, Gallimard p 274.
6- طه عبد الرحمن، نفس المرجع ص 68.
7- طه عبد الرحمن، نفسه ص 72.
8- أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق محمد عمارة، دار المعارف القاهرة الطبعة الثالثة ص 26.
9- Abdelkebir Khatibi, Maghreb pluriel édition denoël paris 1983 p12 -
10- طه عبد الرحمن، نفس المرجع السابق ص 86.
11- طه عبد الرحمن، نفسه ص 88.
12- أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت ص 43. معلوم أن أبا حامد يعتبر من أهم الشخصيات التي قامت بتبيئة المنطق داخل الثقافة العربية الإسلامية، فنقده للفلسفة وللفلاسفة، كان نقدا يخص جانبا بعينه هو الإلهيات، أما المنطقيات فلا يتعلق فيها بالدين من شيء نفيا وإثباتا.
13- طه عبد الرحمن، نفسه ص 96 وللتوسع أكثر في دلالة هذا المفهوم "التأثيل" يستحسن الرجوع إلى كتاب للمؤلف بعنوان القول الفلسفي : كتاب المفهوم والتأثيل، المركز الثقافي العربي 1999.
14- طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص 102.
15- ربما يقصد المؤلف هنا ابن رشد الذي فرق بين معرفة العوالم ومعرفة العلماء أو الخاصة، حيث أن معرفة الجمهور تقتصر على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس ولذلك يخاطبهم الشرع، بضرب المثل وتصوير صفات الألوهية والقضايا الأخروية تصويرا حسيا مستمدا مما هو مشاهد عندهم. أما الخاصة فتزيد معرفتهم على معرفة العوام باكتسابهم للبرهان، أي ما يتوصل إليه بالاستدلال لاستخراج المجهول من المعلوم وبالتالي فمعارف الخاصة أوسع من معارف الجمهور. وقد كان أبو حامد هو أيضا قد قسم تلقي المعرفة والخاصة وهي النقطة التي يوافق فيها فيلسوف قرطبة حجة الإسلام.
16- طه عبد الرحمن، نفسه ص 103.
17- طه عبد الرحمن، نفسه ص 108. ربما نحتاج لتحقيق هذا الأمر لفيلسوف مثل ميشيل فوكو، الذي صرح عقب صدور كتابه الكلمات والأشياء 1966، أن الفلسفة بمعناها القديم قد انتهت. وميزة فوكو أنه أنقد الخطاب الفلسفي من عموميته وتجريده " و أنزله إلى الأرض".
18- محمد اركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي ترجمة هاشم صالح المركز الثقافي العربي ومركز الإنماء القومي الطبعة الثانية 1966 ص 131.
19- لا نحتاج إلى التذكير أن الكسندر كوجيف كان شارحا لهيغل وكتب كتالبا "مدخل لقرارءة هيغل" وكتب دولولز كتاب "نيشة والفلسفة" وقبله كان سارتر يحاول إعادة إنتاج وتبيئة الفينومينولوجيا داخل التربة الثقافية الفرنسية إلى جانب ميولوبي نتي. فهل نقول إن الفلسفة الفرنسية المعاصرة في إحدى جوانبها هي مجرد فلسفة تابعة للفلسفة الألمانية هذا دون أن ننسى تأثر جون بوفري بهيد قرو فوكو بينشته وهيبوليت بهيغل …
20- عبد السلام بعبد العالي، نحن والتيارات الفلسفية مجلة الوحدة العربية السنة الخامسة العدد 60 شتنبر 1989 ص 35.
Gaston Bachelard, la philosophie du non, cérés, éditions Tunisie 1993 p 124 -21
22- طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ص 116.
23- طه عبد الرحمن، نفسه ص 134.
24- طه عبد الرحمن، نفسه ص 140
25- طه عبد الرحمن، نفسه ص 141.
26- فرح أنطوان، ابن رشد وفلسفته مع نصوص المناظرة بين محمد عبده وفرح أنطوان، تقديم أدونيس العكرة دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى 1981 ص 84.
Abdallah Laroui, Islam et modernité, centre culturel arabe, 2ème édition 2001 p 82-83. -27
28- عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، دار توبقال للنشر المغرب الطبعة الأولى 1994 ص 45.‬

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق