الرقيق في الخطاب السياسي المغربي
الأندلسي الوسيط
عبد الإله بنمليح
احتل الرقيق مكانة خاصة في الخطاب
السياسي لمختلف القوى التي تداولت حكم بلاد المغرب والأندلس خلال العصر الوسيط،
ذلك أنه بحكم أهمية الرقيق –خاصة من الناحيتين العددية والعسكرية- فإن حضوره في
الخطابات الرسمية كان أمرا مألوفا تمليه الظروف، كما تفصح عنه النماذج التالية
المقترحة.
فقد توجه الثائر الأندلسي الشهير عمر بن حفصون
إلى الناس، في سبيل استقطـابهم، قائلا: " طال ما عنف عليكم السلطان، وانتزع
أموالكم، وحملكم فوق طاقتكم، وأذلتكم العرب، واستعبدتكم ! وإنما أريد أن أقوم بثأركم وأخرجكم من عبوديتكم
" (
[i][1]). وكان لاستعمال ابن حفصون فكرة
الاستعباد في مقابل التحرر صدى كبيرا، يعبر عنه تعليق ابن عذاري التالي([ii][2]): " فكان ابن حفصون لا يورد هذا
على أحد إلا أجابه وشكره، فكانت طاعة أهل الحصون بهذا الوجه". وإذا كان هذا
مما أضفى على ثورة ابن حفصون مسحة اجتماعية صرفة، فإنه من ناحية أخرى وفر لها أحد
أسباب القيام والانتشار السريع.
ولدينا نموذج آخر يتمثل فيما خاطب به
أمير نكور سعيد بن صالح، في نهاية القرن 3هـ/9م وبداية القرن 4هـ/10م، عبيده
الصقالبة حين قاموا عليه مطالبين بالعتق "فقال لهم أنتم جندنا وعبيدنا وأنتم كالأحرار لا تدخلون في المواريث
ولا تجري عليكم المقاسم، فما طلبكم للعتق"([iii][3]). ويبدو أن خطاب أمير نكور لم يكن
مقنعا، ذلك أنه أمام إلحاح عبيده عليه، ورفضه الاستجابة لهم، انقلبوا عليه،
وبايعوا أخاه عبيد الله وعمه الرضا، اللذين لا شك أنها قدما وعدا بتحريرهم عندما
يتوطد لهما الأمر. وأسفر هذا الخلاف عن صدام مسلح بين الطرفين، انتهى إلى أن سعيد
بن صالح لم يظفر بصقالبته إلا "بعد حرب شديدة"([iv][4]).
وبانتقالنا إلى فترات لاحقة، نصادف
نموذجا يعبر بوضوح أكبر عن حضور متميز للرقيق في الخطاب السياسي. يهم هذا النموذج
الأندلس في بداية القرن 5هـ/11م، وهو عبارة عن خطاب صدر عن الخليفة الأموي سليمان
بن الحكم، أخ هشام المؤيد، الذي تولى الخلافة في ظروف صعبة ومليئة بالفوضى
والاضطراب، شارك فيها الرقيق الصقلبي بنصيب كبير. مصداق ذلك عدم اكتفاء الخليفة
برسالة واحدة، بل إن رسائله تكررت إلى الفتيان الصقالبة "رجاء في كرة الدولة
بهم، مقتنعا منهم بالطاعة"([v][5]). ولم يجد إلحاح سليمان على الرقيق
الصقلبي آذانا صاغية لديه، فقد انصرف أفراده عنه و"طردوا رسله، وخرسوا عن
إجابته عن كتبه، وتجردوا لحربه"([vi][6]). مما يفهم منه أن سعيه إلى استقطابهم
كان لتحقيق هدف مزدوج: الاستظهار بهم على خصومه من ناحية، وصرفهم عن محاربته من
ناحية أخرى.
وتكشف فصول من رسالتين وجههما سليمان
إلى العبيد الصقالبة، من إنشاء أبي حفص ابن برد الأكبر الوزير الكاتب (المتوفى سنة
418هـ/1027م)([vii][7]) عن نقاش طويل دار بين الطرفين. فقد
ورد في أحد فصول الرسالة الأولى – التي احتفظ لنا ابن بسام بفقرات منها –تذكير بفضائل بني أمية
منذ الخليفة عثمان بن عفان، وعطفهم على الموالي "تقدمهم في الثقة، وتقربهم
بالمودة…"([viii][8])، كما تنبههم إلى أن هؤلاء الخلفاء
كانوا وراء صعود نجم الصقالبة "حتى شـرف القوم ونبـلوا، وسمـا ذكـرهم ونسبـوا
إلى مشهـور أنسـابهم ومـذكور بيوتاتهم"([ix][9]).ثم تنتقل الرسالة إلى الهدف الأساسي
منها وهو استقطاب الصقالبة، فقد ذكر سليمان عن نفسه "لا نؤثر عليكم ولا نثق
إلا بكم"([x][10])، ويقدم لهم وعودا وإغراءات مهمة،
فإلى جانب عفوه عنهم، وعما ارتكبوه في حق الخلافة فيما قبل، نجده يعدهم أن
"نزيد في العطاء، ونترككم بمواضعكم التي ارتضيتموها، تدر عليكم جباياتها،
وتخصكم منافعها، ولا ننسىء في أموركم إذا سمعتم وأطعتم"([xi][11]).
وإذا كان هذا هو الطابع الغالب على الرسالة
الأولى، فإن الرسالة الثانية تنحو منحى مخالفا، ربما فرضه تطور الأحداث، حيث يقوم
الخطاب هذه المرة على تحجيم دور العبيد الصقـالبـة في الدولة الأموية بالأندلس.
ولعل السر في ذلك أن طابع الرسالة هو الرد على خطـاب وصـل إلى سليمـان من
الصقالبة، رأى فيه تطاولا منهم عليه. ومما ورد فيها "إنما أنتم مدبرون
مسوسون، أتباع مربوبون، وسر التدبير نازح عنكم، والسياسة القويمة محجوبة
دونكم"([xii][12]). ومع ذلك لم تخل الرسالة من الموعظة
الحسنة، والدعوة -من جديد- إلى الالتفاف حول الخليفة الذي "لا ينام على
مصالحكم، ولا يني عن منافعكم، ولا يسعى إلا فيما يرد ألفتكم، ويجمع كلمتكم"([xiii][13]).
ولعل أهم ما يستفاد من فصول هاتين
الرسالتين، هو المكانة الرفيعة التي احتلها الصقالبة في الأندلس، خلال فترة
الانتقال من الخلافة الأموية إلى دويلات الطوائف، والتي كانت وراء تهافت مختلف
القوى السياسية على استقطابهم.
ويقدم ابن خلدون([xiv][14]) تفسيرا لإقدام الدولة على اصطناع
الأجانب، رابطا ذلك ببلوغ الدولة مرحلة الهرم، إذ أمام استعصاء استمرار ولاء
صنائعها الأولين لما "يعتريهم في أنفسهم من العزة على صاحب الدولة، وقلة
الخضوع له.. ينافرهم.. ويعدل عنهم إلى استعمال سواهم". وهو ما ينطبق بامتياز
على الأندلس الأموية منذ مدة طويلة.
وارتباطا بالخطاب السياسي الموجه إلى
الرقيق مباشرة، وأمام افتقارنا إلى رسائل مماثلة لرسائل الخليفة الأموي سليمان إلى
الصقالبة، يمكن البحث في حضور مفهومي العبودية والاسترقاق في ذهنية رجال السياسة
في المغرب.
تقدم الفترة الموحدية نموذجا معبرا
لهذا الحضور. فقد استحضر الزعيم الموحدي المهدي ابن تومرت في أكثر من مناسبة،
العلاقة بين السيد والعبد، ووظفها توظيفا سياسيا صريحا. مثال ذلك تناوله موضوع
الاستناد إلى الأصل، معتبرا ما يصدر عن السيد أصل، وما يقوم به الرقيق مجرد أمارة
فقط "أن يقول سيد العبد لرجل: إذا جاءك عبدي يوم كذا فأعطه كتابا وثوبا أو
حاجة لشيء يسميه له، فالإعطاء مستند إلى قول السيد عند مجيء العبد، وقول السيد أصل
للإعطاء، ومجيء العبد إمارة للإعطاء لا يستقل مجيء العبد بالإعطاء دون قول السيد لاستحالة
انقلاب الإمارة أصلا"([xv][15]). كما استحضر ابن تومرت([xvi][16]) العلاقة ذاتها وهو يتناول موضوع الأوامر "إن السيد إذا قال لعبده:
افعل وأمره بأمر فلم يفعل حسن لومه وعقابه. فهو واجب". وغير خاف البعد
السياسي لهذا المثال الذي يفضي إلى وجوب طاعة الإمام.
وينتقل ابن تومرت([xvii][17]) في مناسبة أخرى من التنظير إلى تشخيص
واقع عملي قائم -في نظره-. فقد سجل على المرابطين، مؤاخذا إياهم على كونهم
"يلدون مع الإماء ويستكثرون من الجواري". وهي مؤاخذة تنبني على مغالطة
واضحة، فالولادة مع الإماء تمنحهن حريتهن، باعتبار تحولهن إلى وضعية أمهات أولاد.
اللهم إلا إذا كان يقصد أن ذلك لم يكن يؤدى على هذا الوجه.
وظل استحضار الرقيق في الخطاب الرسمي
الموحدي قائما بعد المهدي بن تومرت. فقد ورد في رسالتين صادرتين عن الخليفة عبد
المومن الموحدي ما ينبىء بذلك. ففي رسالة عبد المومن إلى قبيلة كزولة الصنهاجية،
تم النص على أن عدم انضمام أفرادها إلى الدعوة الموحدية ليس "من حكم العقل
ولا من نظر العقلاء، ولا أفعال الأحرار، ولو لم تكن إلا الحمية، والخروج إلى
الحرية من عبودية الأشرار.. الذين لا يرضى بصحبتهم من له أدنى عقل وميز، فكيف
بعبوديتهم.. ولو لم يكن إلا ترجيح المنافع في الدنيا، واختيار منزلة الحرية عن
منزلة العبودية فكيف اختيار خير الدنيا والآخرة"([xviii][18]). أما في رسالة الخليفة نفسه إلى أهل
مدينة بجاية، المؤرخة بـ3 ربيع الأول سنة 556هـ/2 مارس 1161م، يوصيهم فيها بإقامة
الحدود وحفظ الشرائع، فقد وردت فيها توصية بقراءة كتاب المهدي بن تومرت بشكل
إلزامي "وأشمل في هذا الإلزام الرجال والنساء والأحرار والعبيد وكل من توجه
عليه التكليف"([xix][19]). وتتوجه الرسالة في نهاية المطاف إلى
الجميع "الذكور والإناث والأحرار والعبيد وسائر أصناف الناس"([xx][20]).
وإذا كانت عبارات الرسالتين معا
تستحضر الرقيق باعتباره جزءا من كل، مما يضفي عليها طابعا تعميميا مقصودا، فإن في
إشارة ابن عبد الملك([xxi][21])، نقلا عن أحد الذين ترجم لهم، إلى
"معتقد آل عبد المومن وطائفتهم قديما وحديثا أن كل من خرج عن قبائلهم
المعتقدة هداية مهديهم وعصمته فهم عبيد لهم أرقاء"، ما يرقى بهذا الحضور إلى
مستوى عملي. فقد وردت هذه الإشارة في مجلس علم حضره الخليفة يعقوب المنصور الموحدي([xxii][22])، مما يفيد بتحول الاسترقاق إلى أداة
سياسية وسيف تسلطه السلطة على معارضيها ومناوئيها.
ويمكن أن نلحق بالخطاب السياسي
إجراءات السلطة تجاه الرقيق، وهي تدابير اتخذتها الدولة لمعالجة وضع قائم، وحين
أملتها ظروف خاصة. ويصح أن ننطلق في ذلك من تشريعات الأمير البرغواطي صالح بن
طريف، الذي حرم على أتباعه ذبح الديكة وأكلها "ومن ذبح ديكا وأكله أعتق
رقبة"([xxiii][23]). وأقدم الأمير الأغلبي إبراهيم بن
أحمد أمام تعاظم شأن أبي عبد الله الشيعي ودعوته، سنة 289هـ/902م، رغبة في استمالة
قلوب الناس، على "رد المظالم، وأسقط القبالات.. وأعتق مماليكه"([xxiv][24]). واتخذ الحكم المستنصر الأموي خطوة
مماثلة، لكن في ظروف مختلفة. فقد مرض الخليفة سنة 364هـ/974م، وعندما تماثل للشفاء
أعتق عددا كبيرا من عبيده وإمائه "تنيف عدتهم على مائة رقبة، انعقد لكثير
منهم عتق بتل ولبعضهم عتق مؤجل، ولبعضهم تدبير خلص به جميعهم من الرق"([xxv][25]).
وفي الإطار نفسه، قام المنصور بن أبي
عامر، عندما بلغه خبر انتصار ابنه عبد الملك على قوات زيري بن عطية المغراوي شمالي
المغرب الأقصى، بتحرير عدد كبير من رقيقه "أعتق.. ألفا وخمسمائة مملوك
وثلاثمائة مملوكة شكرا لله تعالى"([xxvi][26]).
وفي فترة لاحقة نصادف إجراءً اتخذه
عبد الله بن ياسين عند حلوله بديار لمتونة وجدالة في الصحراء؛ فقد وجد رجال
القبيلتين يتزوجون أكثر من أربع نساء حرائر فقال لهم "ليس هذا من السنة،
وإنما سنة الإسلام أن يجمع الرجل بين أربع نسوة فقط، وله فيما شاء من ملك اليمين
سعة"([xxvii][27]).
ويبدو أن الأمر لا يعدو كونه إجراء عاديا، الهدف من روايته إبراز أثر
حلول عبد الله بن ياسين بين صنهاجة الصحراء، وتقويم ما أصاب حياتهم من اعوجاج،
مصداق ذلك عدم تورع رجاله، وهم يقتحمون مدينة أودغست عن استباحة حريمها
"فاستباح المرابطون حريمها وجعلوا جميع ما أصابوا فيها فيئا"([xxviii][28]). وهو موقف ينم عن تعامل عبد الله بن
ياسين مع غير الموالين لدعوته على أساس أنهم كفار على "غير دين
الإسلام".
ولم يغب موضوع الرقيق عن بال الخليفة
العباسي القائم بأمر الله عبد الله بن أحمد القادر (422-467هـ/1031-1075م) وهو
يقلد يوسف بن تاشفين أمر بلاد المغرب والأندلس. فقد ورد في رسالته إليه
"فولاه الصلاة بأعمال المغرب والمعاون والأحداث والخراج والضياع والأعشار والجهبذة
والصدقات والجوالي وسائر وجوه الجبايات والعرض والعطاء والنفقة في الأولياء
والمظالم، وأسواق الرقيق، والعيار في دور الضرب والطرز والحسبة"([xxix][29]).
وتقدم فقرة أخرى من الرسالة نفسها،
توضيحات بهذا الخصوص "وأمره أن يرد أمر المظالم وأسواق الرقيق ودور الضرب
والطرز والحسبة إلى من عضد بالظلف الورع"([xxx][30]).
ويبدو أن أسواق الرقيق في المغرب
والأندلس لم تحظ بعناية الدولة المرابطية، فقد ظل أمرها على ما كانت عليه في
السابق، بدليل رسالة مؤرخة بسنة 543هـ/1148م، من الخليفة الموحدي عبد المومن ابن
علي الكومي إلى ولاته وعماله، تفيد أن هناك شططا في بيع النساء في المغرب الموحدي،
استدعى تدخل الخليفة نفسه.
وشخصت الرسالة بعض وجوه الشطط، معتبرة
إياه ارتكابا للفواحش، ذلك أن الرجل "يبتاع المرأة ويبيعها دون استبراء،
ويعبث في ذلك بكل إقدام على الله تعالى واجتراء، ولا يتحفظ من مواقعة الزنا المحصن"([xxxi][31]). ويدعو الخليفة إزاء هذا التجاوز إلى
أن "لا سبيل لأحد من هنالك أن يبتاع شيئا منهن أو يبيع حتى يستأذن الحاكم
لأمره منكم والشيوخ..وكذلك فليتوقفوا عن بيع النساء في جميع من تغنمونه منهن في
تلك الأرجاء، حتى تخاطبونا بأصل أمرهن وكيفيته، وتعلمونا من ذلك بجليته، لنرسم لكم
فيه ما يكون عليه اعتمادكم ويجري إليه اقتصادكم "([xxxii][32]). كما أمر الخليفة بضرورة تقصي الولاة
في أمور البيع والشراء، واختيار ذوي العفة والأمانة للقيام بهذا العمل: "
ولتقدموا للنظر في أسواقهن من ترضون دينه وأمانته، وتتحققون ثقته وصيانته، فمن
أبيح له البيع والابتياع أحضره الأمين المذكور ليرتفع بشهادته الشك والنزاع"([xxxiii][33]).
وسواء تعلق الأمر بالبلاد الأندلسية،
كما ورد في ديباجة الرسالة الموحدية لدى ابن القطان([xxxiv][34])، أو في جنوب المغرب الأقصى كما ورد
في تقديم الرسالة لدى أحمد عزاوي([xxxv][35])، فإن الأمر يتعلق بمناطق ثغرية، نشطت
فيها عمليات السبي، وامتلأت أسواقها بالرقيق.
ويستفاد من رسالة أخرى موجهة من
الخليفة الموحدي يوسف بن عبد المومن، سنة 561هـ/1166م، إلى قرطبة، تدعو الولاة إلى
تحري الصدق والأمانة في تنفيذ الأحكام، أن أمر أسواق الرقيق ظل على ما كان عليه في
عهد سلفه عبد المومن، وقبلهما يوسف بن تاشفين([xxxvi][36]). فقد دعت الرسالة إلى التقصي في
"القضايا المشكلة في الأموال وإطلاقها واستحقاقها، وفي الرقاب وإعتاقها
واسترقاقها"([xxxvii][37]).
وبعيدا عن أسواق الرقيق، وما عرفته من
تجاوزات مردها تهافت الناس على اقتناء الجواري، والمتاجرة فيهن، حرصت بعض النصوص
التاريخية على إظهار رجل الدولة، أميرا أو خليفة أو قائدا بمظهر الراعي لمصالح
رعيته، وخاصة منها العبيد.
فهذا ابن أبي زرع([xxxviii][38]) يعدد خصال يوسف بن تاشفين من حزم
وشجاعة، إلى جانب كونه "متفقد الموالي من رعيته". وهذا يحيى بن علي بن
غانية، الوالي المرابطي يقدم سنة 529هـ/1135م، استعدادا لمواجهة النصارى المحاصرين
لمدينة إفراغة Fraga
في الأندلس، على عمل إحساني، فقد "أرضخ العطاء لأهل عسكره.. وأعتق بعض إمائه
وعبيده"([xxxix][39]). وهذا الخليفة الموحدي عبد المومن بن
علي يبيح مدينة مراكش -وقد دخلتها قواته- مدة ثلاثة أيام، ليشمل عفوه بعد ذلك
اللمتونيين الذين "عفا عنهم.. واشتراهم من الموحدين وأعتقهم ومن عليهم
وأطلقهم"([xl][40]). وهذا الخليفة يوسف بن عبد المومن
يحتفل بمقدم أخيه أبي حفص من الأندلس، منتصرا على الثائر ابن مردنيش، في احتفال
كبير شمل العبيد أيضا، الذي كساهم "بالثياب المصنعة الألوان"([xli][41]). وهذا يعقوب المنصور، الخليفة
الموحدي، يصدر عفوه عن الأغزاز الذين والوا خصومه بني غانية "عفا.. عن جرمهم
وأعتقهم"([xlii][42]).
وفي الإطار نفسه يمكن أن نضع حملة
الخليفة يعقوب المنصور الشهيرة على القيان في دولته، حين رأى نفاق سوقهن وإقبال
الناس على اقتنائهن وإقامة مجالس لهو ومجون بحضورهن، فقد "تنكر وغضب في الله
لذلك المنكر.. فأمر بإراقة المسكرات.. ثم أمر أصحاب الشرطة بقطع الملهين والقبض
على من شهر من المغنين فثقف من وجد منهم بكل مكان فغيروا هيئاتهم وتفرقوا على
الأوطــان وبارت سوق القيان"([xliii][43]).
ملحق
فصول من رسالتي الخليفة الأموي سليمان
إلى جماعة العبيد
من إنشاء أبو حفص بن برد الأكبر
الوزير الكاتب
وله .. عن سليمان إلى جماعة العبيد:
إن الله تعالى قسم لأهل بيتنا بني
أمية من السلطان الموصول لهم بخلافة النبوة ما حازه لهم دون سائر قريش، وسراة
رجالها وافرة، وبيوت شرفها عامرة، فكان أول من أجمع عليه خيار الصحابة بالشورى
والاختيار عثمان بن عفان أمير المؤمنين ذو النورين، وصهره عليه السلام مرتين، فلم
ينكر فضله هاشمي، ولا دافع إمامته قرشي، ولا نازعة الخلافة عربي ولا عجمي؛ ثم غلب
الشقاء على أقوام فنالوا منه ما انفتح عليه باب الفتنة إلى يوم القيامة، فيالها
مصيبة صدعت شمل المسلمين، وأوهنت أركان الدين؛ وافترق أهل الإسلام بعده فرقتين، ثم
لم تجتمعا إلا على رجل منا، لرضاء الله عن سيرتنا، وأنس المسلمين إلى حسن مأخذنا،
وفضل سياستنا، فكانت الجماعة على معاوية بن أبي سفيان كاتب الوحي وصهره عليه
السلام ورديفه؛ فبلغ من ضبط الأمور، ولين الولاية، وجهاد العدو، وجباية الفيء، وبث
العدل، وإدرار العطايا، ما لا يجهله ملي ولا ذمي. وورثه ابنه وابن ابنه؛ ثم صير
الله تعالى خلافته إلى مروان بن الحكم جدنا الأعلى أمير المؤمنين، دوسر قريش
المفتي بتوفيقه، والحاكم في الأمة بتسديده؛ فألقت إليه بالمقاليد الكافة، وتداولها
بنوه آباؤنا الخلفاء الراشدون بالمشرق والأندلس إلى يومنا هذا، والله متم نعمته
علينا كما أتمها على آبائنا من قبل، إن ربنا حكيم عليم.
وفي فصل منها: ولم تزل الأئمة منا
مقبلة على مواليها، مختصة لعبيدها، تقدمهم في الثقة، وتقربهم بالمودة، وتعدهم
لحوادث الأمور، وتقذف بهم في معضلات الخطوب، فيتولون من اجتهادهم لهم ما أوجبت لهم
منهم المحبة الخالصة، حتى شرف القوم ونبلوا، وسما ذكرهم ونسبوا إلى مشهور أنسابهم،
ومذكور بيوتاتهم؛ فهم الذين تسمعون عنهم وتعرفون رياستهم كآل خالد، وبني أبي عبدة،
وبني شهيد، وبني بسيل، وبني حدير، وغيرهم من أشراف موالينا([xliv][44]). وقد أفضى الأمر إليكم، معشر
الموالي؛ فهذا اسمكم إذ قد رفع الله عنكم العبودية به، وأخرجكم من رق الملكة،
وصيركم منا، وخلطكم بنا، وأفضى بأنسابكم إلينا، والولاء لحمة، فمولى القوم منهم،
وملعون من انتمى إلى غير أبيه، وادعى إلى غير مواليه. هذا حكم الديانة على لسانه
عليه السلام؛ وأما حكم الدنيا وسير أهل السداد والصلاح فيها، فلا يخرج أيضا أن
يكون ضلعكم معنا، وميلكم إلينا، وتعصبكم لنا، فنحن أحق الناس بكم، وأجدر أن نعمل
عمل آبائنا في أمثالكم، من مواليهم الذين أجرينا ذكرهم، فإن نقمتم حالا مزقت
الشمل، ونعيتم أمرا صدع الجمع، فتلك الفتنة التي يعق فيها الابن أباه، ويقتل لها
المسلم أخاه، أجارنا الله وإياكم منها، وكشف لنا ظلمتها.
وفي فصل منها: ولعلنا فيما ساءكم من
تلك الهيئات، ونالكم من الفجعات، أوجع قلوبا، وأشد غموما. فسبحان من لو شاء
لأطلعكم على غيبنا فيكم، وعرفكم إشفاقنا عليكم؛ وكيف لا يكون ذلك كذلك وما زلتم
الشعار والدثار، لا نؤثر عليكم، ولا نثق إلا بكم؟ فإن يكن الشيطان قد نزغ بما نزغ
به بين ابني آدم فمن بعدهما من ذريته، فقد آن أن تثوب الحلوم فتعود السيوف في
أغمادها، والنبال في كنائنها، ونحن نعاهد الله ألا نؤاخذ أحدا بذنب، ولا نناله
بعقوق له ولا بأذى، ولا ننطوي له على إحنة، بل نغفر ونصفح ونزيد في العطاء،
ونترككم بمواضعكم التي ارتضيتموها، تدر عليكم جباياتها، وتخصكم منافعها، ولا ننسىء
في أموركم إذا سمعتم وأطعتم.
وله عنه إليهم في مثل ذلك من رقعة،
يقول في فصل منها :
زعم كاتب صحيفتكم أنه ما دامت خلافة
سلفنا إلا بطبقتكم، ولا عزت إلا بدعوتكم، وهذا قول من لا علم له، فلم تظهر طبقتكم
إلا حديثا، ولا كثر عددكم إلا قريبا، ولم تزل الخلافة عزيزة، والسلطان قائما بأولياء
الحق وأنصار الدين، العارفين بفضل الطاعة وموقعها من رضاه تعالى، وبنقص المعصية
وموقعها من سخطه. والمنة عليكم لمن عرفكم - معشر العبدي- بالله، وأدخلكم في دينه،
واستنقذكم من الضلالة، وأخرجكم من الكفر، ثم اصطنعكم ونوه بكم بالتصرف في الخدمة،
فنلتم بذلك البغية، وهيهات أن تقضوا الحق كله، فأقصروا عن شأوكم، فذلك أولى بكم.
وفي فصل منها: وأقسمتم على أن من
حسبناه من رؤسائكم كان أولى بالسياسة، فأنى لكم ذلك وما أنتم منه؟ وإنما أنتم
مدبرون مسوسون، أتباع مربوبون، وسر التدبير نازح عنكم، والسياسة القويمة محجوبة
دونكم؛ ومتى بلغكم قط عن عبد ثرب على مولاه فأفلح، أو سمعتم بجند شغب على مدبره
فأنجح؟ والحق لا يضره قلة أهله، والباطل لا ينفعه كثرة جمعه، فإن العاقبة للمتقين،
وحزب الله هم الغالبون؛ مع أن سفهاء كل طبقة أكثر من حلمائها، وقد رأيتم قديما
نتيجة آراء السفهاء، وكيف أخنى على أهله بموت ذلك التدبير، وطالما جهدنا في
الصلاح، وحاولنا قطع الشغب، ودفع الفتنة، فأبى الله إلا ما أراد على أيدي رؤسائكم،
الذين أتيتم على عهدهم. وأما من طلبنا من أصحابكم فإنهم قوم خدموا العمالات،
وتصرفوا في الولايات، وعابوا على الجباة، وخلدت عليهم في الديوان الحسبانات؛ فهم
الذين طولبوا في سبيل الحق، ورمي منهم دون الكل بالبعض، وأخذ فيهم وفي أسبابهم
بالرفق دون العنف فاعتدوه ظلما، وإلى صلاح مآل أمرهم إذ قوربوا، والجميع على ذلك
في خير من العافية، وبحظ من الكافية، وأمد من النظرة، إلى أن يأذن الله ببلوغ ما
يشاء من المدى. وليس كل ما يبلغكم من التشنيع ويتصل بكم من الإرجاف يلتفت إليه ذوو
العقول، ولا يصغي إليه أهل التحصيل.
وفي فصل منها: وأما ما ألصق بكم كاتب
صحيفتكم إذ قال : إن لم يعمل بما أردتم أجبتم دعوة من يناديكم؛ فليت شعري من ذا
المنادي الذي إليه تلوى الأعناق عنا، أم إلى <من> تفزعون إن فارقتم عصمتنا؟
أما إن غركم الشيطان، وأسلمكم الخذلان، لتقرعن من الندم الأسنان، بحيث لا ينفعكم
أسف، ولا يجدي عليكم لهف؛ والله تعالى ودينه وخلافته في غنى عمن عند عليه وحاده،
وألحد في الإسلام عنه وشاقة، وخرج عن الجماعة، وشق عصا الأمة، واستخف بحقوق
الأئمة، ونازع الأمر أهله، واعترض من الرأي فيما ليس من شأنه على من صيره الله
إليه، وأسلمه في يديه، واجتباه واصطفاه على علم به. ولولا أن أمير المؤمنين عرف أن
ملأكم لم يجتمع على هذا الكتاب، وتيقن أن أهل السداد منكم لم يرضوا هذا الخطاب،
لكان له في ذلك نظر يقيم الأود، ويعدل الميل، مع أن الحلم والكظم من أخلاقه،
والرفق والأناة من شيمه؛ فاقبلوا أدبه، وانتفعوا بموعظته، فلو كشف لكم الغطاء
واجتلي عليكم الغيب، لعلمتم أن أمير المؤمنين لا ينام عن مصالحكم، ولا يني في
منافعكم، ولا يسعى إلا فيما يرد ألفتكم ويجمع كلمتكم.
ابن بسام، الذخيرة في محاسن أهل
الجزيرة،
ق 1، م 1، صص 109-114.
[i][1] - ابن عذاري
المراكشي، البيان المغرب في أخبار
الأندلس والمغرب، تحقيق ج.س. كولان وإ. ليفي بروفنسال، ط.3، دار
الثقافة، بيروت، 1983، 2 : 114.
[ii][2] - نفس
المصدر والجزء والصفحة، انظر أيضا سحر سالم، "الجوانب الإيجابية في الزواج
المختلط في الأندلس"، ضمن أعمال ندوة: الغرب الإسلامي والغرب المسيحي خلال
القرون الوسطى، منشورات كلية الآداب، الرباط،1995، ص 59.
[iii][3] - أبو عبيد
البكري، المسالك والممالك، تحقيق وتقديمA.FERRE,A.P.Van LEEUWEN ، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1992، 2 : 768؛ انظر
الرواية ذاتها لدى ابن عذاري، م.س.، 1 : 177.
[v][5] - ابن بسام الشنتريني، الذخيرة في محاسن أهل
الجزيرة، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1978-1979، 5: 22.
[xiii][13] - نفسه، ق 1، م 1، ص 114. راجع فصول رسالتي الخليفة
سليمان بن الحكم إلى الصقالبة في ملحق البحث.
[xviii][18] - رسالتان موحديتان، نشر عمار الطالبي،
السلسلة التاريخية، منشورات الجامعة التونسية، 1979، صص 101-102.
[xxi][21] - ابن عبد الملك الأنصاري المراكشي، الذيل
والتكملة لكتابي الموصول والصلة، تحقيق محمد بن شريفة، دار الثقافة، بيروت، د.ت.، س 1، ق 2، ص 567.
[xxiii][23] - ابن أبي رزع الفاسي، الأنيس المطرب بروض
القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، دار المنصور، الرباط، 1973، ص
131؛ انظر أيضا لسان الدين ابن الخطيب، أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام
من ملوك الإسلام، تحقيق أحمد مختار العبادي ومحمد إبراهيم الكتاني، دار
الكتاب، الدار البيضاء، 1964، 3 : 183.
[xxv][25] - ابن حيان القرطبي، المقتبس في تاريخ الأندلس،
تحقيق عبد الرحمان علي الحجي، دار
الثقافة، بيروت، 1983، ص 206؛ راجع أيضا ابن عذاري، م.س.، 2 : 248-249.
[xxix][29] - أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، تحقيق محمد
حسين شمس الدين، دار الفكر، بيروت، 1987،
10: 31.
[xxx][30] - نفسه، 10 : 41. وإن كان الغموض يحيط بكيفية إشراف
الدولة على أسواق الرقيق وتنظيمها، من منظور الخليفة العباسي، غير أن رسالة وجهها
الخليفة العباسي الطائع عبد الكريم بن القاسم سنة 366هـ/977م إلى فخر الدولة بن
ركن الدولة بن بويه، تقدم تفاصيل عن شؤون تدبير أسواق الرقيق "وأن يتقدم إلى
ولاة أسواق الرقيق بالتحفظ فيمن يطلقون بيعه، ويمضون أمره، والتحرز من وقوع تجوز
فيه، وإهمال له، إذ كان ذلك عائدا بتحصين الفروج وتطهير الأنساب، وأن يبعدوا عنه أهل
الريبة، ويقربوا أهل العفة، ولا يمضوا بيعا على شبهة، ولا عقدا على تهمة"،
نفسه، 10 : 28.
[xxxi][31] - ابن القطان، نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار
الزمان، تحقيق محمود علي مكي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990، صص 196-197.
[xxxii][32] - نفسه، ص
197؛ راجع أيضا رسائل موحدية،
تحقيق ودراسة أحمد عزاوي، مطبعة النجاح
الجديدة، الدار البيضاء، 1995، 1 : 67، رسالة رقم 6؛ ويمكن الرجوع أيضا إلى: Brahim HARAKAT, La communauté chrétienne et celle
d’origine chrétienne en Espagne musulmane, vues par les sources arabes, p.
205 ، ضمن أعمال ندوة: الغرب
الإسلامي والغرب المسيحي، خلال القرون الوسطى، منشورات كلية الآداب، الرباط،
1995.
[xxxvi][36] - بل إن الدعوة ظلت قائمة إلى تنظيم أسواق الرقيق في
المغرب حتى فترة متأخرة. راجع في هذا الصدد إجراءات السلطان العلوي المولى سليمان،
لدى محمد بن جعفر الكتاني، سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس، بمن أقبر من العلماء
والصلحاء بفاس، طبعة حجرية، فاس، 1316 هـ،3 : 231.
[xl][40] - ابن عذاري، م.س.، قسم الموحدين، تحقيق محمد
إبراهيم الكتاني وآخرون، دار الغرب الإسلامي بيروت، دار الثقافة، الدار البيضاء،
1985، ص 28.
[xli][41] - عبد الملك ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة..،
تحقيق عبد الهادي التازي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1987،ص 213.
[xlii][42] - مجهول، كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار،
نشر وتعليق سعد زغلول عبد الحميد، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1985.
ص 151.
[xliii][43] - ابن عذاري، م.س.، قسم الموحدين، صص 173-174؛ محمد
المغراوي، "ملاحظات حول مسألة الحسبة في الدولة الموحدية"،
دراسات، مجلة كلية الآداب، أكادير، العدد 2، مطبعة النجاح الجديدة، 1988، ص 54.
[xliv][44] - عد في هذه الفقرة عددا من العائلات الهامة التي
كانت تعد موالي لبني أمية، وهي عائلات احتلت مراكز هامة في الإدارة والمجتمع، إذ
كان الولاء رابطة سيادة؛ وبعض مؤسسي هذه العائلات دخلوا الأندلس عربا أحرارا أو
والوا بني أمية في المشرق، ثم انتقل ولاؤهم إلى بني أمية بالأندلس (انظر تفصيل ذلك
لدى حسين مؤنس، فجر الأندلس، صص 408-410).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق