الحضارة ودور الفكرة الدينية في قيامها عند المفكر الجزائري مالك بن نبي
لقد
شغلت فكرة الحضارة اهتمام العديد من المفكرين والمصلحين والمؤرخين، وقد
كان مالك بن نبي أحد هؤلاء المفكرين الذين شغلتهم هذه القضية، إذ احتلت
عنده مكانة مركزية، ولذلك نجد كتبه جميعا قد صدرت تحت عنوان ثابت هو مشكلات
الحضارة.
وقد
عمل على دراستها من زوايا مختلفة، فأحاط بجميع جوانبها التاريخية والنفسية
والوظيفية باعتبارها ظاهرة كونية، فكانت كل مشكلة شعب في تحليلاته هي في
جوهرها مشكلة حضارته، يقول مالك بن نبي (لا يمكن لشعب ان يفهم مشكلته ما لم
يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها)
فما معنى الحضارة ؟ وماذا تعني في فكر مالك بن نبي؟
يعتبر
مصطلح الحضارة من المصطلحات التي لم تستعمل في الفكر العربي إلا منذ وقت
قريب، وقد جاء في لسان العرب تحت مادة الحضر: أنها الإقامة في الحضر أي في
المدن والقرى، وهي بخلاف البداوة التي تعني الإقامة المتنقلة في البوادي،
فالحضر إذن خلاف البدو، أما الحضارة كمفهوم معاصر فإنها تعبر عن الرقي
العلمي والأدبي والفني والتكنولوجي.
وقد
بدأت الجذور الأولى للحضارة مع ظهور الزراعة والاستقرار في الحضر، وهو
الشيء الذي مكن الإنسان من شق طريق التقدم والتطور والرفاهية والازدهار.
إن
اهتمام مالك بن نبي بالحضارة جعله يعرفها من الناحية الوظيفية (بأنها جملة
العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد من أعضائه
جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتقدمه)1 وصاغها من حيث التركيب بمعادلة
دقيقة: حضارة = إنسان + تراب+ وقت.
لهذا
نجد مالك بن نبي يستهل كتابه ( شروط الحضارة) بقصيدة رمزية رائعة من
أبياتها ( فغبط آدم هذه الحيوانات كلها لما أوتيت من مأكل ومأوى ولما آمنت
من خوف، فازداد في قلبه الندم....هنالك رفع يديه إلى السماء يتضرع،
فاستجابت له السماء قائلة: اذهب أيها الرجل (أي آدم) فإنني أعطيتك عقلا
ويدا وأعطيتك ترابا وزمنا )2
فمالك
يعتبر كل الأجناس والشعوب مؤهلة لإنشاء الحضارة، لأن الله منحها الرصيد
الأولي والضروري ألا وهو التراب والوقت، فمتى وجدت الأعمدة الثلاثة
(الإنسان، التراب، الزمن) توفرت المواد الخام لإنتاج الحضارة، لكن الأمر
عند مالك بن نبي يحتاج إلى مركب تاريخي تكويني بغيابه تبقى العناصر الثلاثة
موادا خاما لا تجدي نفعا، ومركب الحضارة هذا هو الدين أو الفكرة الدينية
عموما، فالحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية(فلا تظهر في أمة من الأمم
إلا في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شرعة ومنهاجا، إذ هي- على
الأقل- تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي، فكأنما قدر للإنسان ألا
تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية )3.
فالحضارة
تظهر بدافع الفكرة الدينية، وتنتهي بانتهاء هذه الفكرة، لذلك يجب البحث في
كل حضارة عن أصلها الديني، لذلك فالحضارة تسير كما تسير الشمس إذ تشرق في
أفق معين ثم ما تلبث أن تتحول عنه إلى أفق آخر، فتتشكل الحضارة على شكل
دورة تبتدئ بالنشوء والازدهار فالأفول والسقوط، وقد تناول بالدراسة
والتحليل هذه النظرية كل من ابن خلدون واشبنجلر وتوينبي4.
أما دورة الحضارة عند مالك بن نبي فتمر بثلاث مراحل:
1- مرحلة الروح: 2- مرحلة العقل 3- مرحلة الغريزة .
وتتميز
مرحلة الروح بطاقتها الحيوية وفعاليتها وشرارتها وبدورها الكبير في بزوغ
فجر حضارة جديدة، لكن سرعان ما تحدث أسباب ووقائع تؤدي إلى تفسخ القيم
الروحية شيئا فشيئا لتحل مرحلة جديدة هي مرحل العقل والازدهار المتميزة
بالعطاء والإبداع، ثم نتيجة عوامل نفسية واجتماعية يكون من أهمها ظهور
الترف والظلم والفساد المؤذنين بخراب العمران، فتنتهي هذه المرحلة لتفسخ
المجال لانطلاق الغريزة الإنسانية التي تحل محل العقل فتعيد الإنسان مرة
أخرى إلى الانحطاط والتخلف، وإذا أردت مثالا حيا على ذلك فلا باس ان نستطرد
معك دورة الحضارة الإسلامية عند مالك بن نبي.
تبدأ
دورة الحضارة الإسلامية في رأي مالك بن نبي مع نزول الوحي على الرسول صلى
الله عليه وسلم بغار حراء، وكانت هذه هي بداية المرحلة الأولى من مراحل
الدورة الحضارية التي هي مرحلة الروح ، والتي استطاع خلالها العرب البسطاء
والمشتتون في قبائل متنازعة ان يصبحوا بناة حضارة وحملة مشعل السلام والفكر
والتقدم بعد ان تمكن الإسلام من قلوبهم، واستمرت هذه المرحلة طيلة فترة
الخلافة الراشدة وحتى حدود موقعة صفين ( سنة 38ه ) حيث كانت هذه المعركة
بداية الفصل بين طور الروح وطور العقل الذي دخلت إليه الحضارة الإسلامية مع
بزوغ الدولة الأموية، واستمرت هذه المرحلة قرونا طويلة استطاع خلالها
الإسلام ان يصل إلى أقصى جنوب شرق آسيا وشمال إفريقيا وأجزاء من أوربا،
وبظهور عوامل نفسية واجتماعية بدأ منحى السقوط والاندحار والأفول مع دخول
مرحلة الغريزة إلى الوجود، وما زلنا نعاني إلى اليوم من ويلات هذا
الاندحار.
نلاحظ
من خلال هذا الاستطراد ما للفكرة الدينية من دور في قيام الحضارات عند
مالك بن نبي منذ الأزل، وحتى الحضارة الغربية المعاصرة في نظره قامت على
أساس ديني وعقدي (فالروح المسيحية ومبدأها الخلقي هما القاعدتان اللتان
شيدت عليهما أوربا سيادتها التاريخية)5
أما
بالنسبة للشيوعية فان مالك يعتبرها أزمة للحضارة المسيحية، فهي قامت على
أنقاض استغلال الدين المسيحي من طرف الكنيسة، ودفعت المنتمين إليها إلى
التضحية والبذل في سبيلها بكل غال ونفيس، ومن ثم فان قانون الفكرة الدينية
ينطبق عليها، وإن بشكل مغاير.
من
خلال ما سبق نستنتج أن الفكرة الدينية أساس مهم وسبب قوي في نشوء الحضارات
عند مالك بن نبي، فهي بمثابة مركب يؤلف بين العناصر الثلاثة
(الإنسان،الوقت، التراب)، لتصبح عناصر مبدعة بعدما كانت عناصر خاملة.
فإذا
كانت للحضارة دورة تبتدئ بالنشوء وتمر عبر الازدهار والعطاء وتنتهي
بالسقوط، فإن موقع الإنسان قبل هذه المراحل وخلالها وبعدها يطرح أكثر من
سؤال، فمالك يعتبر أن الإنسان السابق للحضارة هو شخص بسيط يعيش على الفطرة،
ومستعد للدخول في طور الحضارة بسرعة، لأنه يحمل خصائص تؤهله لذلك، بخلاف
إنسان ما بعد الحضارة والذي أصبح يحمل في كيانه جميع الجراثيم والمشاكل
التي تعرض لها خلال فترات متفرقة من تاريخه، ويصبح مجتمع ما بعد الحضارة
مجتمع متصف بالجمود وعدم الفاعلية، والميل نحو التخلف والنكوص إلى الخلف،
لأن إنسان ما بعد الحضارة عجز تماما عن تطبيق مواهبه الخاصة على الوقت
والتراب لأنها تحللت، ومعها بالموازاة تحللت جميع القيم الاجتماعية الأخرى،
فأصبح هذا الإنسان خارجا عن التاريخ، وعن دورة الحضارة.
وهذا
التصور ينطبق على المجتمع المسلم بعد سقوط دولة الموحدين في الغرب
الإسلامي، لأن إنسان ما بعد الموحدين في نظر مالك بن نبي قد فقد دوره
الاجتماعي، وأصبح يشكو من مرض مزمن يتجلى في العجز وعدم القدرة على مواجهة
المشاكل التي تعترضه، وخلال هذه المرحلة انتقل المشعل الحضاري نحو الغرب
الأوربي الذي امتلك زمام العلوم والاقتصاد والتكنولوجيا، وأصبح الإنسان
المسلم عبدا لهذه الحضارة الغربية، يستورد نفاياتها ومنتجاتها، ومنبهرا
بها، في الوقت الذي عملت فيه هذه الحضارة على طمس كل محاولة جادة للنهضة في
العالم الإسلامي وذلك بوسيلة الاستعمار.
ويرى
مالك بن نبي أن السبب الرئيسي لوجود الاستعمار هو القابلية للاستعمار في
المجتمع المستعمر، فهو إذن نتيجة وليس سبب، فلكي نتحرر من الاستعمار وأثره
يجب أن نتحرر أولا من سببه، وهو القابلية في نفوسنا للاستعمار، يقول مالك(
ما استعمروك إلا لوجود القابلية للاستعمار فيك)، وهكذا وبعد أن انطلقت
شرارة المقاومة الوطنية الصادقة المنبثقة من الدين الإسلامي، والمبنية على
الجهاد والتضحية، خرج الاحتلال العسكري، لكن ماذا حصل بعد ذلك؟
لقد
تولى السلطة في بلادنا أناسا كان قد أعدهم الغرب لاستكمال مشروع الاستعمار
الثقافي والفكري، وأصبحنا غارقين في التبعية المطلقة لهم، فإنسان اليوم
عندنا أصبح مكبل اليدين، حاول ان يتخلص من وضعه المتخلف، فاتجه الى طريق
استيراد منتجات الغرب وتكديسها، متوهما بذلك انه يسير في الطريق الصحيح نحو
الحضارة لأنه سوف يقتني جميع منتجاتها، ناسيا ان التكديس والاستيراد هي
ظاهرة اجتماعية نفسية تميز مجتمعات عصور الانحطاط، فاستيراد المنتجات ليس
أمرا مفيدا للمجتمع، بل هو أمر مضر به وبمصلحته.
فمشكلات
التخلف لا تعالج بوسائل جاهزة أنتجتها حضارة أخرى، ولكنها تواجه بحضارة
ذاتية قادرة على تحريك الطاقات الموجودة لديها، فالحضارة هي التي تصنع
منتجاتها وليس المنتجات هي التي تصنع الحضارة.
ترى ما هو الحل الذي يطرحه مالك بن نبي على إنسان ما بعد الحضارة لكي يدخل من جديد في دورة التاريخ؟
الحل
هو أن يتغير هذا الإنسان تغيرا جذريا، لكي يستأنف دوره في حياة الحضارة،
ولكي يسير في اتجاه منحى التاريخ الإنساني بعد أن كان خارجه، ولن يكون ذلك
إلا بتحويل القيم الروحية إلى قيم اجتماعية فاعلة لا خاملة، فيعود للدين
الإسلامي دوره الاجتماعي المطلوب، ومن هنا لا يستبعد مالك بن نبي أن يحمل
المجتمع الإسلامي مشعل الحضارة من جديد، إن هو وفر الشروط اللازمة لها، وفي
مقدمتها إحياء الفكرة الدينية، بحيث لا يصبح الدين عند المسلم دين متوارث
فردي قابع في المسجد فقط، بل دين قيم له دور اجتماعي فاعل، ومن ثم فإن فكرة
تحول الحضارة وانتقالها من الغرب إلى الشرق أمر وارد لا محالة عند مالك بن
نبي، في ظل شروط معينة حددها قد نتطرق إليها مرة أخرى.
----------------------
الهوامش
1- مالك بن نبي ( مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) ص5.
2- انظر كتاب (شروط النهضة ) لنفس المؤلف.
3- انظر ( شروط النهضة ) ص57.
4- نفسه.
5- انظر كتاب خاليد فؤاد طحطح ( نظريات في فلسفة التاريخ) مطبعة الخليج العربي. تطوان.
6- مالك بن نبي ( شروط النهضة).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق