كتاب تاريخ القرآن - ثيودور نولدكه حجم الملف 18 ميجا فقط
من اهم مافيه حل سر الحروف المقطعة بالقران والتي لم يستطع اهل التفسير حلها
للتحميل
http://www.mediafire.com/?fmpmxnzkdje
مقدمة المترجم جورج تامر
كتاب تاريخ القرآن أهم وأوسع ما صَدَرَ في القرن العشرين من كتبٍ باللغة الألمانية تتناول القرآنَ الكريم بأسره بالبحث. نواةُ هذا الكتاب هو كتاب المستشرق الكبير ثيودور نولدِكِه (1836–1930)، الذي أصدَرَه في العام 1860، بالعنوان نفسه، وعالج فيه مسألةَ نشوء نصِّ القرآن الكريم وجَمْعِه وروايته. كما ناقش في هذا الإطار مسألةَ التسلسل التاريخي للسور واقترح ترتيبًا لها يختلف عن ترتيبها بحسب زمن نزولها، كما هو معهود في الإسلام.
كان نولدِكِه قد بحث الركيزة التي اعتمد عليها فريدرِش شفالي في إعادة صياغته للجزء الأول من الكتاب الحالي في العام 1909، وذلك بطلبٍ من نولدِكِه نفسه الذي منعه تقدمُ السنِّ به من القيام بهذه المهمة، فاكتفى بكتابة مقدمة لهذا الجزء في حلَّته الجديدة. وفاة شفالي في العام 1919 حالت دون أن يعاين صدورَ الجزء الثاني الذي يتناول جَمْعَ القرآن، وكان قد أعدَّه للطبع؛ فأضاف أوغوست فيشر بعض التصحيحات عليه وأصدَرَه بعد وفاته. أما الجزء الثالث الذي كانت مهمةُ إنجازه قد انتقلتْ إلى غوتهلف برغشترسرن، فأكمله تلميذه أوتو بريتسل في مطلع العام 1937، بسبب وفاة أستاذه قبل ذلك بأربع سنوات.
ثلاثة أجيال من علماء الدراسات القرآنية الألمان تعاقبوا، إذن، على هذا الأثر، حتى أبصر النور؛ وهو يضم ما توصلوا إليه من نتائج في هذا المجال خلال نيف وسبعة عقود.
لمحة عن تاريخ الدراسات القرآنية في أوروبا
قبل أن نعرض الكتاب ونناقش محتوياته في إيجاز، لا بدَّ لنا من أن نقدِّم لمحةً تاريخية مختصرة عن أهم معالم ما سبقه من اهتمام علميٍّ بالقرآن الكريم في أوروبا، ابتداءً من النصف الأول من القرن الثاني عشر. هذا التاريخ جدير باعتباره حدًّا زمنيًّا في السياق الراهن؛ إذ قام الإنكليزي روبرت الكتوني Robertus Ketenensis في السنتين 1142 و1143، بطلبٍ من بطرس المبجَّل Petrus Venerabilis، رئيس دير كلوني، بأول ترجمة لاتينية كاملة للقرآن الكريم. وعلى الرغم من نواقصها وعدم دقتها في كثير من المواضع، حظيتْ هذه الترجمة بانتشار واسع، خصوصًا بعد طبعها في مدينة بازل في العام 1543 على يد الأستاذ في اللاهوت ثيودور الكاتبي Theodor Bibliander. بعد ذلك توالت حتى القرن الثامن عشر ترجماتٌ عدة للقرآن الكريم إلى اللغات الإنكليزية والإيطالية والألمانية والهولندية والفرنسية وسواها من اللغات الأوروبية.
ترافَق الاهتمام بترجمة القرآن واهتمامًا جديًّا بدراسته، يقوم على معرفة أوثق بمضمونه. لكن لا يخفى أن هذا الاهتمام كان، على العموم، ذا طابع اعتذاري وهجومي على حدٍّ سواء. فقد كان دارسو القرآن يدافعون، من جهة، عن عقائد مسيحية يرفضها كتابُ المسلمين، ويهاجمون، من جهة أخرى، كردٍّ على هذا الرفض، النبيَّ محمد والقرآن. مثال على ذلك هو كتاب ألَّفه الراهب الدومينِكاني ريكولدو جبل الصليب Ricoldo da Monte Croce الذي قضى في أواخر القرن الثالث عشر شطرًا من حياته في الشرق مبشِّرًا، وأتيحت له بذلك الفرصةُ لمناقشة علماء مسلمين ومجادلتهم. يقارن ريكولدو في كتابه الموجَّه ضد الإسلام القرآنَ الكريم بالكتاب المقدس، معتبرًا اختلافات القرآن عنه عيوبًا، ومشيرًا، في الوقت نفسه، إلى تناقضاته وعدم وجود أيِّ تسلسل تاريخي للأحداث المذكورة فيه. حظي الكتابُ بانتشار واسع، وطُبِع عدة مرات منذ بداية القرن السادس عشر. وقد نقله مارتِن لوثر إلى اللغة الألمانية، ناصحًا القساوسة بدراسته، ليستطيعوا تحذير الناس من "ضلالة الإسلام"! طبعًا، كان هذا في زمن هدَّدتْ فيه الجيوشُ الانكشارية وسط أوروبا ووصلت إلى مشارف فيينا.
أجل، إن صورة الإسلام في أوروبا كانت في ذاك الحين مطبوعةً بالطابع التركي – حتى إن القرآن الكريم نفسه دُعي "الكتاب المقدس التركي"؛ وهو العنوان الذي تحمله الترجمةُ الألمانية التي قام بها دافيد فريدرِش مغرلين في العام 1772 للقرآن الكريم من العربية مباشرة. ولعل هذا الواقع التاريخي مازال يؤثِّر في تشكيل صورة الإسلام في أوروبا حتى يومنا هذا.
مجموعة من الظروف الدينية، مثل النظر إلى القرآن من منظار الكتاب المقدس، ومقارنته به، والتهجُّم على الإسلام، والدفاع عن المسيحية ضد المسلمين، وتنظيم حملات التبشير في الشرق؛ والسياسية، منها الحروب الصليبية والتهديد العثماني لأوروبا – جعلتْ دراسةَ القرآن ليست غرضًا في حدِّ ذاته، بل وسيلةٌ تُستخدَم في سبيل أغراض سياسية ودينية مختلفة.
ابتداءً من أواخر القرن السادس عشر، عرفت أوروبا الدراسات الاستشراقية بمعناها الواسع، حيث تأسَّست معاهد متخصصة، اكتسبت، فيما بعد، عراقةً علمية، في لايدن وروما وأكسفورد، تلتْها معاهد مماثلة في سواها من الجامعات الأوروبية الكبرى.
ولا بدَّ من الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن بدايات الاستشراق لم تكن بدايات منظمة بقصد أن تخدم أهدافًا سياسية ما، بل كانت ثمار جهود فردية، قام بها العلماء حبًّا بالتعرف إلى الشرق ولغاته وحضاراته. لاحقًا، من بعد بدء الاستعمار، اقترن الاهتمامُ بالاستشراق بأهميته السياسية بخصوص بَسْط الدول المستعمرة سيطرتَها على المستعمرات في الشرق واستغلال ثرواتها. لم يعدْ الاستشراق، عند ذاك، حرًّا من الدوافع السياسية والاقتصادية التي كانت تتحكَّم فيه إلى حدٍّ ما.
غير أن أحد العوامل التي لعبت، بلا شك، دورًا هامًّا في تطور الدراسات الاستشراقية والإسلامية في أوروبا هو أنها تأثرت بالتطور الذي عرفتْه قبل ذلك دراسةُ لغات الكتاب المقدس، اليونانية واللاتينية والعبرية، فركزت في عصر النهضة على دراسة معمَّمة للُّغة العربية أولاً، ثم اللغتين الفارسية والتركية. هكذا سيطرت الفيلولوجيا في ذلك الحين منهجيًّا على دراسة الحضارات القديمة والشرقية التي تم السعي إلى استكشافها بواسطة فهم النصوص التي أنتجتْها.
حظي القرآن الكريم، بوصفه الأثر الأهم في تراث الإسلام، بقدر كبير من اهتمام المستشرقين. ومع نشوء المذهب الإنساني Humanism في أوروبا، نشأت نظرةٌ إلى القرآن الكريم أكثر إنصافًا، لا تقيِّمه بناءً على اختلافه، شكلاً ومضمونًا، عن الكتاب المقدس، في عهديه القديم والجديد، ولا ترى فيه كتاب شريعة فقط، أو مجموعة من الأناشيد التي تشبه المزامير، أو كتابًا نبويًّا أو رؤيويًّا وحسب، بل مزيج من هذه العناصر كلِّها. وبدأ القرآن يكتسب لدى الدارسين طابعًا مميزًا خاصًّا به، حتى ولو ظل معيارُ التقييم الأساسي مقارنةَ القرآن بكتب اليهود والمسيحيين المقدسة.
وربما كان اللاهوتي الكاثوليكي الألماني يوهان آدم مولر (1796-1838) أول مَن اعترف من العلماء الألمان باستقلالية القرآن بوصفه كتابًا دينيًّا ذا نكهة خاصة به، نشأ نتيجة خبرة دينية أصيلة، يعبِّر عنها بتأملات محرِّكة للمشاعر. مولر ينظر إلى النبي محمد في احترام، معتبرًا أن الكتاب الذي أتى به، الذي يتغذى به ملايين الناس ويسيرون على هدْيٍ من تعاليمه، لا بدَّ من أن يكون قد استُقِيَ من ملء فيَّاض. نسوق هذه الأفكار، التي نُشِرَتْ في العام 1830، لأنها تشبه إلى حدٍّ بعيد ما يذكره نولدِكِه وتلميذه شفالي في الجزء الأول من الكتاب الموضوع بين أيدينا في وصف الوحي والخبرة الدينية الصادقة التي عاشها النبي العربي.
يبدو أن هذا التبدل الذي طرأ على تقييم القرآن تزامَن وبواكيرَ تذوُّقٍ لجمال لغته. فقد وصف أحدهم – وثمة أسباب مقنعة للافتراض أنه الشاعر الألماني غوته – ترجمةَ مغرلين للقرآن، المذكورة أعلاه، بأنها "نتاج تعيس"، معبِّرًا عن الحاجة الماسة إلى ترجمة ألمانية أخرى، ينجزها شخصٌ مفعمٌ بكلِّ الأحاسيس الشعرية والنبوية، يقرأ القرآن، وهو جالس في خيمة تحت سماء الشرق، ليفقه ما يختزنه الكتابُ من معانٍ. غوته، الذي كان يكنُّ للشرق حبًّا جمًّا وللإسلام ونبيِّه احترامًا كبيرًا، صرَّح بعد أعوام، في ملاحظاته ودراساته التي كتبها للـديوان الغربي–الشرقي، بأن الأثر العظيم الذي تَرَكَه القرآن في النفوس إنما يعود إلى أسلوبه الصارم الرائع.
في شكل مماثل، تمَّ التركيز، في تقييم ترجمات ألمانية أخرى للقرآن، على ضرورة تمثُّل الترجمة بأسلوب القرآن، لتستطيع نقل ما في لغته من جمال وجلال. هكذا بدأت المعايير الأدبية الوضعية تفرض نفسها على النظر إلى الكتاب العزيز، الذي كان يُنظَر إليه سابقًا من منظار التهجُّم والاعتذار الديني والفائدة السياسية.
نشير إلى أن أحد أهم أسباب هذا التبدل كان تحرُّر دراسات علوم اللغة العربية تدريجيًّا من السيطرة الكنسية. وفي حين حصل ذلك في فرنسا نتيجة الثورة، لم يبدأ هذا التبدل في الفضاء الثقافي الألماني إلا على يد عشَّاقٍ للشرق ولغاته. هؤلاء انصرفوا إلى دراسة اللغات الشرقية، وكتبوا في قواعدها، ونقلوا بعض آثارها إلى لغتهم.
ولا بدَّ في هذا السياق من الإشارة إلى أحدهم، وهو يوزِف فون هَمَّر–بورغشتال (1774-1856)، الذي أصدر في فيينا، بين 1809 و1818، مجلة كنوز الشرق، تعالجها جماعة من العشاق، واختار لها شعارًا القول الكريم: "قُلْ لله المشرقُ والمغربُ يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم" (سورة البقرة 142). نقل هَمَّر السور الأربعين الأخيرة من القرآن إلى اللغة الألمانية بلغة مسجَّعة، وكتب مقدمة لهذه الترجمة، ربط فيها بين سحر لغة القرآن وطابعه الإلهي، معتبرًا أن الألوهة تنعكس في لغة القرآن الوعظية، وأن هذه اللغة كانت السبب في انتصار دعوة محمد، لا بقوة السيف، بل بقوة الكلام، الذي لا بدَّ من أن يكون، وهو على ما هو عليه من الروعة، كلامَ الله. وقد حفز الإحساس بتميُّز لغة القرآن وسموِّها الشاعرَ الألماني فريدرِش روكرت (1788-1866) على نقل أجزاء كبيرة منه إلى اللغة الألمانية شعرًا؛ وقد نُشِرَتْ ترجمتُه بعد وفاته.
يمكن لنا أن نصف الدراسات القرآنية التي أبصرت النور في أوروبا منذ منتصف القرن التاسع عشر بأنها تأثرت، بصفة خاصة، بالمنهجية التاريخية–النقدية التي شقَّتْ طريقَها في أوروبا في ركاب عصر التنوير ومورست في دراساتٍ حول الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، قام بها علماء پروتستانت في ألمانيا، بعيدًا عن أيِّ تأثُّر ديني، وبروح محض علمية، لا تتقيَّد بقدسية أيِّ نص. بالروح نفسها، انكبَّ بعضُ علماء اللغات الساميَّة على دراسة القرآن، محاولين استكشاف الوقائع التاريخية المرتبطة به وكيفية حدوثها وعلاقتها بنشوئه ومصيره بعد ذلك. كما أن البحث تناول علاقةَ القرآن بالكتاب المقدس، في عهديه القديم والجديد، وبالتالي، مدى تأثُّر الإسلام بدينَي التوحيد اللذين سبقاه.
القرآن الكريم كنصٍّ والنبوَّة كخبرة دينية
ماذا عن هذا الكتاب؟ إنه يتألف من أبحاث أدبية–تاريخية، تسعى إلى أن تؤرِّخ للنص القرآني، أي أن تعالجه كوثيقة من وثائق التاريخ الإنساني، رابطة إيَّاه بموقعه في الحياة، لتتابِع بعد ذلك عمليةَ جَمْعِه وتعدُّد قراءاته. والأداة الأساسية المعتمدَة في الدراسة هي البحث اللغوي. هكذا يُخضِع ثيودور نولدِكِه، في الجزء الأول من الكتاب، الآياتِ والسورَ القرآنية لتمحيص لغوي دقيق يستخرج منه، كما سبق القولُ أعلاه، ترتيبًا زمنيًّا للسور، يختلف عن ترتيب نزولها من وجهة نظر التراث الإسلامي.
يعتمد نولدِكِه، إضافة إلى الفيلولوجيا، على الأحداث التاريخية التي تشير إليها بعضُ السور والآيات، ويربطها بعضها ببعض بهدف تشكيل قاعدة تاريخية، جديرة بالثقة، يمكن الاعتماد عليها في إعداد ترتيب زمنيٍّ للسور والآيات، يؤدي بدوره إلى فهمها فهمًا أفضل. وقائع التاريخ تشكِّل في نظره معالم ثابتة، يستطيع العالِم أن يتمسَّك بها في سعيه الجاد إلى معرفة المعاني الصحيحة في خضم المعلومات، التي كثيرًا ما يكتنفها الغموضُ بسبب طول المسافة الزمنية التي تفصلنا عنها، واختلاف الظروف التي نشأت فيها، وعدم وجود وثائق مباشرة عنها. لكن نولدِكِه يعترف، في الوقت نفسه، بأن الترتيب الذي يقترحه ليس إلا ترتيبًا تخمينيًّا، وذلك بسبب فقدان الدلائل التاريخية الصلبة.
من ناحية أخرى، يدفع تمسُّك الباحث بالكلمة موضوعًا للبحث وركيزةً له في آنٍ إلى عدم الالتفات إلى معايير أخرى، كتلك التي تلعب عادة دورًا مهمًّا في التعاطي مع الكتب المقدسة. وهكذا لا يقيِّم نولدِكِه وأتباعُه من العلماء القرآن ككتاب مُنْزَل، بل كنصٍّ وَضَعَه النبيُّ محمد نتيجة إلهام، متفاعلاً مع الأحداث والتطورات الدينية والاجتماعية والسياسية التي واجَهَها خلال سني بعثته. أما مفهوم النبوَّة الذي يطالعنا على الصفحات الأولى من الكتاب، فيستند إلى ما كان الطب وعلم النفس قد توصلا إليه في ذلك الحين. وقد حققت الأبحاثُ اللاحقةُ التي تناولت ظاهرة النبوَّة نتائج قيِّمة، تلقي أضواء جديدة عليها، وتُظهِر مدى تعقُّدها وتداخُل أبعادها على مستويَي الوعي واللاوعي، على حدٍّ سواء.
بيد أنه لا بدَّ من التنويه إلى أن نولدِكِه وتلميذه لم يشكِّكا في صدق النبي، بل اعتبراه نبيًّا حقًّا، لا شك في صدق الخبرة الدينية الخاصة التي عاشها والتي يعبِّر عنها القرآنُ الكريم أحسن تعبير. ويتم التشديد، في أكثر من سياق في الكتاب، على أن النبيَّ كان مستغرقًا تمامًا في الدعوة التي آمن بأن الله اصطفاه من أجل تبليغها، وأنه كان مغمورًا بالحماس الشديد من أجل هداية قومه إلى الإيمان بالله الواحد الأحد.
يتبنَّى نولدِكِه، في الجزء الأول، التقسيم المعهود للقرآن إلى مكِّي ومدني. لكنه يوزِّع السور المكِّية على فترات ثلاث، معتمدًا على صفات أسلوبية ومضمونية تجمع بين سور المجموعة الواحدة. فهو يصف سور الفترة المكِّية الأولى بأنها تتميز عن سواها بقِصَرِها، وبلغتها الشعرية التسبيحية، وورود الكثير من الأقسام (جمع قَسَم) فيها، تهدف إلى تثبيت مضمون الرسالة وإقناع المشركين بها. ويميِّز سورَ الفترة المكية الثانية تحوُّلٌ في الأسلوب: إذ يغلب عليه طابع الوعظ والإنذار؛ وتظهر في هذه الفترة مقاطع طويلة، تسترجع أحداثًا وشخصيات من الكتاب المقدس، مبرِزَةً إياها كأمثلة على صدق الله في وعده ووعيده. أما سور الفترة الثالثة فلا تختلف كثيرًا، من حيث الأسلوب، عن سور الفترة السابقة، لكنها تتميَّز بشدة لهجة الوعيد والتهديد الموجَّه ضد الكافرين. ولم يبقَ التحول الذي حدث في رسالة النبي محمد بعد الهجرة إلى المدينة المنورة من دون تأثير واضح في السور التي نشأت هناك. فهذه تتصف بالتزامها المضموني بشؤون جماعة المؤمنين الناشئة، وبإعلانها الشرائع والتنظيمات لوضع أسُس المجتمع الجديد.
ومازال الترتيب الذي وضعه نولدِكِه للسور معتمَدًا في معظم الأوساط العلمية المتخصصة في الغرب، على الرغم من قيام باحثين آخرين، مثل الإنكليزي بل والفرنسي بلاشير، بمحاولات مماثلة، لا تتصف بالقدر نفسه من الرصانة والتحصين.
أما الجزء الثاني من الكتاب، فيعالج مسألة جمع القرآن الكريم، معتمدًا على الروايات المتوارثة، مقارنًا بعضها ببعضها الآخر في دقة، ومستخلصًا منها النتائج. وهو يناقش مسألة الجمع الأول الذي قام به زيد بن ثابت وسواه من المصاحف التي سبقت مصحف عثمان. ثم يتناول نشوء مصحف عثمان بدراسة مفصَّلة للروايات، عارضًا ترتيبه، ومعالجًا البسملة وفواتح السور. كذلك، يتطرَّق إلى ما يقال عن تحريف بعض المواضع، ثم يورِد "سورة النورين" المنحولة، مناقشًا مضمونها.
ويعالج الجزء الأخير تاريخ نصِّ القرآن، مناقشًا أهم خصائص الرسم في مصحف عثمان، ومقارنًا إيَّاه بصيغ وقراءات غير عثمانية. ثم يتناول بالتفصيل أنظمة القراءة وأشهر القراء، ويعرض أهم المصادر التي تُعنى بهذا الموضوع. وينتهي الكتاب بعرض لأهم مخطوطات القرآن التي كانت معروفة لدى الباحثين آنذاك.
يتصف البحث في مجمله بالرصانة والجدية في التعامل مع المصادر، وعلى رأسها القرآن الكريم. فحتى الجزء الأول، الذي قد يبدو أن فيه تجنِّيًا على الإسلام ونبيِّه، إنما هو قائم على دراسة فيلولوجية دقيقة لنصِّ الكتاب العزيز، لا محرِّك آخر لها إلا حب المعرفة وإشباع الرغبة في العلم. هذا ما دفع بالباحث إلى أن يعود، متَّبعًا المنهجية التاريخية–النقدية، إلى الأصول (أي، في هذه الحال، إلى نصِّ القرآن ذاته)، فيسعى إلى أن يستخرج منه نتائج تضفي عليها الثوابتُ التاريخية طابعَ اليقين. والتركيز على البحث اللغوي والأدبي ميزةٌ تتَّصف بها الدراساتُ القرآنية الألمانية في صورة عامة؛ وهي بعيدة إجمالاً عن التأثر بالنزعات السياسية والاستعمارية. وقد أوردنا جدولاً بأهم الدراسات القرآنية التي صدرت بعد هذا الكتاب، بالأخص في ألمانيا.
يحمل الكتاب، ولاسيما في جزئه الثاني، تقاطُبًا لا بدَّ هنا من الإشارة إليه. فهو يصف، على عادة أهل عصره، الأبحاث العلمية التي أنتجها البحَّاثة الأوروبيون بأنها أبحاث "مسيحية"، مقابلاً بينها وبين الأبحاث "المحمدية" أو "الإسلامية". وهو، إذ يذكر في صراحة تفوُّق الأبحاث الأوروبية من ناحية المنهجية، لا يفوته في الوقت نفسه أن ينوِّه إلى تميُّز البحَّاثة المسلمين العرب على سواهم في مجالات، لا يستطيع أقرانُهم في الغرب أن يجاروهم فيها.
أما التقاطب الذي أشرنا إليه فهو ناتج من مماهاة أوروبا بالمسيحية، من جهة، والشرق بالإسلام، من جهة أخرى. فكرة المماهاة هذه – التي مازالت، للأسف، تعشِّش في بعض الرؤوس – تؤدي، في أسوأ الأحوال، إلى تصوير العلاقة بين المنطقتين والدينين على أنها علاقة صراعية. ولا يخفى على العارف أن تصورًا كهذا فيه تشويه خطير للحقيقة التاريخية واختزال للعلاقات بين العالم العربي–الإسلامي، من جهة، والعالم الأوروبي، من جهة أخرى، إلى إحدى نواحيها فقط، وهي ناحية النزاعات العسكرية التي عرفها تاريخُ المنطقتين المتجاورتين، ما يقترن بالتغاضي عن العناصر الايجابية الأخرى كلِّها، مثل التفاعل الثقافي المشترك والتبادل التجاري. لكن التقاطب المشار إليه لا يؤثر البتَّة سلبًا على موضوعية البحث وجدية العرض.
ما الغرض من الكتاب؟
ليس الغرض من الجهد العلمي الذي يضم نتائجَه هذا الكتاب الحطَّ من قَدْر القرآن الكريم والنبي محمد. إنه، بالأحرى، محاولة علمية صادقة لاستكشاف مضامين مهمَّة في الكتاب العزيز، بواسطة ربْطِها الوثيق بشخص النبي وحيوية دعوته. وهذا يقتضي معالجة نصِّ القرآن كما وَصَلَنا، مع طرح التساؤلات حول الظروف التاريخية التي أحاطت بنزوله وروايته عِبْر التاريخ.
والبحث العلمي لا ينطلق إلا مما يستطيع العقل البشري أن يدركه وأن يقبض عليه بمفاهيم. أجل، إن الفهم قَبْضٌ معرفي على ما يُسعى إلى فهمه. ما لا يُفهَم، يمتنع القبضُ عليه بالأدوات العقلية. إنه، إذًا، موضوع إيمان أو شعور. كذلك مسألة الوحي، الذي يأتي بشرًا "مصطفين" بكلام الله، تتعدى نطاقَ قدرة العقل البشري – فهي موضوع إيمان. أما العلم فيتعاطى مع ما يمكن القبض عليه بالفهم؛ لذا يحاول أن يفسِّر ظاهرة النبوَّة بطريقة قد لا تتفق ومعطيات الإيمان.
وقد سبق للفلاسفة المسلمين، على سبيل المثال، أن حاولوا فهم ظاهرة النبوَّة من خلال أنْسَنَتِها، فشرحوا نشوء النبوَّات بواسطة مفاهيم أرسطوطالية وأفلاطونية محدثة. هكذا يعالج واضعو هذا الكتاب القرآنَ الكريم من منظور علميٍّ كنصٍّ، يُقرَأ ويُكتَب، وقد بلَّغه النبي محمد إلى أتباعه المؤمنين. الكلام الإلهي يتَّخذ حروف لغة بشرية، ويُنطَق به بألفاظ بشرية: فهو جامع للبُعدَين الإلهي والبشري معًا. وإذا كان العالِم يتعامل والقرآن الكريم وكأنه كتاب بشري فقط، فهذا ما تقتضيه الأمانةُ للعلم الذي لا يتعاطى إلا مع ما يمكن للعقل أن يحيط به، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. أما كون القرآن كتاب الله الذي نُزِّل حرفيًّا على النبي محمد فهو موضوع إيمان. وكل جهد علمي، صادق في سعيه وراء الحقيقة، جدير بالاحترام، حتى لو اعتُبِرَتْ نتائجُه خطأ. ولا يسعني في هذا السياق إلا أن أذكر ما قاله ابن رشد من أن العالِم المجتهد، إذا أصاب، فله أجران – أجر الاجتهاد وأجر الصواب -، وإذا أخطأ فله أجر واحد – لأنه اجتهد
على الرغم من تركيزه على أهمية التوافُق بين النصِّ والحدث التاريخي، لا يخفي نولدِكِه اقتناعه بأن الكثير من الأحداث التي جَرَتْ في أثناء رسالة النبي محمد لم تعدْ ممكنةً إعادةُ تركيبه في دقَّة، وبأننا لا نستطيع أن نعرف ماذا جرى في ذلك الحين فعلاً. التمسُّك بالتاريخ هو، في هذه الحال، تمسُّك منهجي، يهدف، من خلال إقامة صلة سببية بين الحدث والنص، إلى الوصول بالنصِّ إلى أكبر قَدْرٍ من الوضوح والتماسك بين أجزائه المختلفة. يمكن وصف هذه المنهجية بأنها محاولة مبدئية للعودة إلى ما قبل النص، إلى البدء، حين كان القرآن، بعدُ، في وضع المنطوق به، كلامًا حيًّا، يُتلى ويُعاد ويُحفَظ، قبل أن يدوَّن ويصبح مصحفًا.
يتمسَّك نولدِكِه بالنص، كونه محسوسًا ملموسًا، ويعامله في جِدية وضعية؛ لكنه يبدو، في الوقت نفسه، متحسِّسًا لما هو وراء النص، أي لما يسمِّيه اليوم مفكرون مسلمون حداثيون، مثل محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، الخطاب الذي تولَّد منه القرآن. البحث عن بدايات الوحي محاولة أولى للتفتيش عن عناصر هذا "الخطاب" التفاعُلي الذي تمَّ في حياة الرسول وجماعة المسلمين الأولى. وإعادة وضع النصوص في سياقها التاريخي الحي سعيٌ إلى استجلاء الخطاب الذي جاء بها؛ وهو خطاب مزدوج: فالوحي خطاب "عمودي" يجمع بين الموحي والموحى إليه؛ وهو، في الوقت نفسه، خطاب "أفقي" أيضًا، عندما يصير الوحيُ حقيقةً في التاريخ، في تفاعل مع البيئة التي تمَّ فيها.
من اهم مافيه حل سر الحروف المقطعة بالقران والتي لم يستطع اهل التفسير حلها
للتحميل
http://www.mediafire.com/?fmpmxnzkdje
مقدمة المترجم جورج تامر
كتاب تاريخ القرآن أهم وأوسع ما صَدَرَ في القرن العشرين من كتبٍ باللغة الألمانية تتناول القرآنَ الكريم بأسره بالبحث. نواةُ هذا الكتاب هو كتاب المستشرق الكبير ثيودور نولدِكِه (1836–1930)، الذي أصدَرَه في العام 1860، بالعنوان نفسه، وعالج فيه مسألةَ نشوء نصِّ القرآن الكريم وجَمْعِه وروايته. كما ناقش في هذا الإطار مسألةَ التسلسل التاريخي للسور واقترح ترتيبًا لها يختلف عن ترتيبها بحسب زمن نزولها، كما هو معهود في الإسلام.
كان نولدِكِه قد بحث الركيزة التي اعتمد عليها فريدرِش شفالي في إعادة صياغته للجزء الأول من الكتاب الحالي في العام 1909، وذلك بطلبٍ من نولدِكِه نفسه الذي منعه تقدمُ السنِّ به من القيام بهذه المهمة، فاكتفى بكتابة مقدمة لهذا الجزء في حلَّته الجديدة. وفاة شفالي في العام 1919 حالت دون أن يعاين صدورَ الجزء الثاني الذي يتناول جَمْعَ القرآن، وكان قد أعدَّه للطبع؛ فأضاف أوغوست فيشر بعض التصحيحات عليه وأصدَرَه بعد وفاته. أما الجزء الثالث الذي كانت مهمةُ إنجازه قد انتقلتْ إلى غوتهلف برغشترسرن، فأكمله تلميذه أوتو بريتسل في مطلع العام 1937، بسبب وفاة أستاذه قبل ذلك بأربع سنوات.
ثلاثة أجيال من علماء الدراسات القرآنية الألمان تعاقبوا، إذن، على هذا الأثر، حتى أبصر النور؛ وهو يضم ما توصلوا إليه من نتائج في هذا المجال خلال نيف وسبعة عقود.
لمحة عن تاريخ الدراسات القرآنية في أوروبا
قبل أن نعرض الكتاب ونناقش محتوياته في إيجاز، لا بدَّ لنا من أن نقدِّم لمحةً تاريخية مختصرة عن أهم معالم ما سبقه من اهتمام علميٍّ بالقرآن الكريم في أوروبا، ابتداءً من النصف الأول من القرن الثاني عشر. هذا التاريخ جدير باعتباره حدًّا زمنيًّا في السياق الراهن؛ إذ قام الإنكليزي روبرت الكتوني Robertus Ketenensis في السنتين 1142 و1143، بطلبٍ من بطرس المبجَّل Petrus Venerabilis، رئيس دير كلوني، بأول ترجمة لاتينية كاملة للقرآن الكريم. وعلى الرغم من نواقصها وعدم دقتها في كثير من المواضع، حظيتْ هذه الترجمة بانتشار واسع، خصوصًا بعد طبعها في مدينة بازل في العام 1543 على يد الأستاذ في اللاهوت ثيودور الكاتبي Theodor Bibliander. بعد ذلك توالت حتى القرن الثامن عشر ترجماتٌ عدة للقرآن الكريم إلى اللغات الإنكليزية والإيطالية والألمانية والهولندية والفرنسية وسواها من اللغات الأوروبية.
ترافَق الاهتمام بترجمة القرآن واهتمامًا جديًّا بدراسته، يقوم على معرفة أوثق بمضمونه. لكن لا يخفى أن هذا الاهتمام كان، على العموم، ذا طابع اعتذاري وهجومي على حدٍّ سواء. فقد كان دارسو القرآن يدافعون، من جهة، عن عقائد مسيحية يرفضها كتابُ المسلمين، ويهاجمون، من جهة أخرى، كردٍّ على هذا الرفض، النبيَّ محمد والقرآن. مثال على ذلك هو كتاب ألَّفه الراهب الدومينِكاني ريكولدو جبل الصليب Ricoldo da Monte Croce الذي قضى في أواخر القرن الثالث عشر شطرًا من حياته في الشرق مبشِّرًا، وأتيحت له بذلك الفرصةُ لمناقشة علماء مسلمين ومجادلتهم. يقارن ريكولدو في كتابه الموجَّه ضد الإسلام القرآنَ الكريم بالكتاب المقدس، معتبرًا اختلافات القرآن عنه عيوبًا، ومشيرًا، في الوقت نفسه، إلى تناقضاته وعدم وجود أيِّ تسلسل تاريخي للأحداث المذكورة فيه. حظي الكتابُ بانتشار واسع، وطُبِع عدة مرات منذ بداية القرن السادس عشر. وقد نقله مارتِن لوثر إلى اللغة الألمانية، ناصحًا القساوسة بدراسته، ليستطيعوا تحذير الناس من "ضلالة الإسلام"! طبعًا، كان هذا في زمن هدَّدتْ فيه الجيوشُ الانكشارية وسط أوروبا ووصلت إلى مشارف فيينا.
أجل، إن صورة الإسلام في أوروبا كانت في ذاك الحين مطبوعةً بالطابع التركي – حتى إن القرآن الكريم نفسه دُعي "الكتاب المقدس التركي"؛ وهو العنوان الذي تحمله الترجمةُ الألمانية التي قام بها دافيد فريدرِش مغرلين في العام 1772 للقرآن الكريم من العربية مباشرة. ولعل هذا الواقع التاريخي مازال يؤثِّر في تشكيل صورة الإسلام في أوروبا حتى يومنا هذا.
مجموعة من الظروف الدينية، مثل النظر إلى القرآن من منظار الكتاب المقدس، ومقارنته به، والتهجُّم على الإسلام، والدفاع عن المسيحية ضد المسلمين، وتنظيم حملات التبشير في الشرق؛ والسياسية، منها الحروب الصليبية والتهديد العثماني لأوروبا – جعلتْ دراسةَ القرآن ليست غرضًا في حدِّ ذاته، بل وسيلةٌ تُستخدَم في سبيل أغراض سياسية ودينية مختلفة.
ابتداءً من أواخر القرن السادس عشر، عرفت أوروبا الدراسات الاستشراقية بمعناها الواسع، حيث تأسَّست معاهد متخصصة، اكتسبت، فيما بعد، عراقةً علمية، في لايدن وروما وأكسفورد، تلتْها معاهد مماثلة في سواها من الجامعات الأوروبية الكبرى.
ولا بدَّ من الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن بدايات الاستشراق لم تكن بدايات منظمة بقصد أن تخدم أهدافًا سياسية ما، بل كانت ثمار جهود فردية، قام بها العلماء حبًّا بالتعرف إلى الشرق ولغاته وحضاراته. لاحقًا، من بعد بدء الاستعمار، اقترن الاهتمامُ بالاستشراق بأهميته السياسية بخصوص بَسْط الدول المستعمرة سيطرتَها على المستعمرات في الشرق واستغلال ثرواتها. لم يعدْ الاستشراق، عند ذاك، حرًّا من الدوافع السياسية والاقتصادية التي كانت تتحكَّم فيه إلى حدٍّ ما.
غير أن أحد العوامل التي لعبت، بلا شك، دورًا هامًّا في تطور الدراسات الاستشراقية والإسلامية في أوروبا هو أنها تأثرت بالتطور الذي عرفتْه قبل ذلك دراسةُ لغات الكتاب المقدس، اليونانية واللاتينية والعبرية، فركزت في عصر النهضة على دراسة معمَّمة للُّغة العربية أولاً، ثم اللغتين الفارسية والتركية. هكذا سيطرت الفيلولوجيا في ذلك الحين منهجيًّا على دراسة الحضارات القديمة والشرقية التي تم السعي إلى استكشافها بواسطة فهم النصوص التي أنتجتْها.
حظي القرآن الكريم، بوصفه الأثر الأهم في تراث الإسلام، بقدر كبير من اهتمام المستشرقين. ومع نشوء المذهب الإنساني Humanism في أوروبا، نشأت نظرةٌ إلى القرآن الكريم أكثر إنصافًا، لا تقيِّمه بناءً على اختلافه، شكلاً ومضمونًا، عن الكتاب المقدس، في عهديه القديم والجديد، ولا ترى فيه كتاب شريعة فقط، أو مجموعة من الأناشيد التي تشبه المزامير، أو كتابًا نبويًّا أو رؤيويًّا وحسب، بل مزيج من هذه العناصر كلِّها. وبدأ القرآن يكتسب لدى الدارسين طابعًا مميزًا خاصًّا به، حتى ولو ظل معيارُ التقييم الأساسي مقارنةَ القرآن بكتب اليهود والمسيحيين المقدسة.
وربما كان اللاهوتي الكاثوليكي الألماني يوهان آدم مولر (1796-1838) أول مَن اعترف من العلماء الألمان باستقلالية القرآن بوصفه كتابًا دينيًّا ذا نكهة خاصة به، نشأ نتيجة خبرة دينية أصيلة، يعبِّر عنها بتأملات محرِّكة للمشاعر. مولر ينظر إلى النبي محمد في احترام، معتبرًا أن الكتاب الذي أتى به، الذي يتغذى به ملايين الناس ويسيرون على هدْيٍ من تعاليمه، لا بدَّ من أن يكون قد استُقِيَ من ملء فيَّاض. نسوق هذه الأفكار، التي نُشِرَتْ في العام 1830، لأنها تشبه إلى حدٍّ بعيد ما يذكره نولدِكِه وتلميذه شفالي في الجزء الأول من الكتاب الموضوع بين أيدينا في وصف الوحي والخبرة الدينية الصادقة التي عاشها النبي العربي.
يبدو أن هذا التبدل الذي طرأ على تقييم القرآن تزامَن وبواكيرَ تذوُّقٍ لجمال لغته. فقد وصف أحدهم – وثمة أسباب مقنعة للافتراض أنه الشاعر الألماني غوته – ترجمةَ مغرلين للقرآن، المذكورة أعلاه، بأنها "نتاج تعيس"، معبِّرًا عن الحاجة الماسة إلى ترجمة ألمانية أخرى، ينجزها شخصٌ مفعمٌ بكلِّ الأحاسيس الشعرية والنبوية، يقرأ القرآن، وهو جالس في خيمة تحت سماء الشرق، ليفقه ما يختزنه الكتابُ من معانٍ. غوته، الذي كان يكنُّ للشرق حبًّا جمًّا وللإسلام ونبيِّه احترامًا كبيرًا، صرَّح بعد أعوام، في ملاحظاته ودراساته التي كتبها للـديوان الغربي–الشرقي، بأن الأثر العظيم الذي تَرَكَه القرآن في النفوس إنما يعود إلى أسلوبه الصارم الرائع.
في شكل مماثل، تمَّ التركيز، في تقييم ترجمات ألمانية أخرى للقرآن، على ضرورة تمثُّل الترجمة بأسلوب القرآن، لتستطيع نقل ما في لغته من جمال وجلال. هكذا بدأت المعايير الأدبية الوضعية تفرض نفسها على النظر إلى الكتاب العزيز، الذي كان يُنظَر إليه سابقًا من منظار التهجُّم والاعتذار الديني والفائدة السياسية.
نشير إلى أن أحد أهم أسباب هذا التبدل كان تحرُّر دراسات علوم اللغة العربية تدريجيًّا من السيطرة الكنسية. وفي حين حصل ذلك في فرنسا نتيجة الثورة، لم يبدأ هذا التبدل في الفضاء الثقافي الألماني إلا على يد عشَّاقٍ للشرق ولغاته. هؤلاء انصرفوا إلى دراسة اللغات الشرقية، وكتبوا في قواعدها، ونقلوا بعض آثارها إلى لغتهم.
ولا بدَّ في هذا السياق من الإشارة إلى أحدهم، وهو يوزِف فون هَمَّر–بورغشتال (1774-1856)، الذي أصدر في فيينا، بين 1809 و1818، مجلة كنوز الشرق، تعالجها جماعة من العشاق، واختار لها شعارًا القول الكريم: "قُلْ لله المشرقُ والمغربُ يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم" (سورة البقرة 142). نقل هَمَّر السور الأربعين الأخيرة من القرآن إلى اللغة الألمانية بلغة مسجَّعة، وكتب مقدمة لهذه الترجمة، ربط فيها بين سحر لغة القرآن وطابعه الإلهي، معتبرًا أن الألوهة تنعكس في لغة القرآن الوعظية، وأن هذه اللغة كانت السبب في انتصار دعوة محمد، لا بقوة السيف، بل بقوة الكلام، الذي لا بدَّ من أن يكون، وهو على ما هو عليه من الروعة، كلامَ الله. وقد حفز الإحساس بتميُّز لغة القرآن وسموِّها الشاعرَ الألماني فريدرِش روكرت (1788-1866) على نقل أجزاء كبيرة منه إلى اللغة الألمانية شعرًا؛ وقد نُشِرَتْ ترجمتُه بعد وفاته.
يمكن لنا أن نصف الدراسات القرآنية التي أبصرت النور في أوروبا منذ منتصف القرن التاسع عشر بأنها تأثرت، بصفة خاصة، بالمنهجية التاريخية–النقدية التي شقَّتْ طريقَها في أوروبا في ركاب عصر التنوير ومورست في دراساتٍ حول الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، قام بها علماء پروتستانت في ألمانيا، بعيدًا عن أيِّ تأثُّر ديني، وبروح محض علمية، لا تتقيَّد بقدسية أيِّ نص. بالروح نفسها، انكبَّ بعضُ علماء اللغات الساميَّة على دراسة القرآن، محاولين استكشاف الوقائع التاريخية المرتبطة به وكيفية حدوثها وعلاقتها بنشوئه ومصيره بعد ذلك. كما أن البحث تناول علاقةَ القرآن بالكتاب المقدس، في عهديه القديم والجديد، وبالتالي، مدى تأثُّر الإسلام بدينَي التوحيد اللذين سبقاه.
القرآن الكريم كنصٍّ والنبوَّة كخبرة دينية
ماذا عن هذا الكتاب؟ إنه يتألف من أبحاث أدبية–تاريخية، تسعى إلى أن تؤرِّخ للنص القرآني، أي أن تعالجه كوثيقة من وثائق التاريخ الإنساني، رابطة إيَّاه بموقعه في الحياة، لتتابِع بعد ذلك عمليةَ جَمْعِه وتعدُّد قراءاته. والأداة الأساسية المعتمدَة في الدراسة هي البحث اللغوي. هكذا يُخضِع ثيودور نولدِكِه، في الجزء الأول من الكتاب، الآياتِ والسورَ القرآنية لتمحيص لغوي دقيق يستخرج منه، كما سبق القولُ أعلاه، ترتيبًا زمنيًّا للسور، يختلف عن ترتيب نزولها من وجهة نظر التراث الإسلامي.
يعتمد نولدِكِه، إضافة إلى الفيلولوجيا، على الأحداث التاريخية التي تشير إليها بعضُ السور والآيات، ويربطها بعضها ببعض بهدف تشكيل قاعدة تاريخية، جديرة بالثقة، يمكن الاعتماد عليها في إعداد ترتيب زمنيٍّ للسور والآيات، يؤدي بدوره إلى فهمها فهمًا أفضل. وقائع التاريخ تشكِّل في نظره معالم ثابتة، يستطيع العالِم أن يتمسَّك بها في سعيه الجاد إلى معرفة المعاني الصحيحة في خضم المعلومات، التي كثيرًا ما يكتنفها الغموضُ بسبب طول المسافة الزمنية التي تفصلنا عنها، واختلاف الظروف التي نشأت فيها، وعدم وجود وثائق مباشرة عنها. لكن نولدِكِه يعترف، في الوقت نفسه، بأن الترتيب الذي يقترحه ليس إلا ترتيبًا تخمينيًّا، وذلك بسبب فقدان الدلائل التاريخية الصلبة.
من ناحية أخرى، يدفع تمسُّك الباحث بالكلمة موضوعًا للبحث وركيزةً له في آنٍ إلى عدم الالتفات إلى معايير أخرى، كتلك التي تلعب عادة دورًا مهمًّا في التعاطي مع الكتب المقدسة. وهكذا لا يقيِّم نولدِكِه وأتباعُه من العلماء القرآن ككتاب مُنْزَل، بل كنصٍّ وَضَعَه النبيُّ محمد نتيجة إلهام، متفاعلاً مع الأحداث والتطورات الدينية والاجتماعية والسياسية التي واجَهَها خلال سني بعثته. أما مفهوم النبوَّة الذي يطالعنا على الصفحات الأولى من الكتاب، فيستند إلى ما كان الطب وعلم النفس قد توصلا إليه في ذلك الحين. وقد حققت الأبحاثُ اللاحقةُ التي تناولت ظاهرة النبوَّة نتائج قيِّمة، تلقي أضواء جديدة عليها، وتُظهِر مدى تعقُّدها وتداخُل أبعادها على مستويَي الوعي واللاوعي، على حدٍّ سواء.
بيد أنه لا بدَّ من التنويه إلى أن نولدِكِه وتلميذه لم يشكِّكا في صدق النبي، بل اعتبراه نبيًّا حقًّا، لا شك في صدق الخبرة الدينية الخاصة التي عاشها والتي يعبِّر عنها القرآنُ الكريم أحسن تعبير. ويتم التشديد، في أكثر من سياق في الكتاب، على أن النبيَّ كان مستغرقًا تمامًا في الدعوة التي آمن بأن الله اصطفاه من أجل تبليغها، وأنه كان مغمورًا بالحماس الشديد من أجل هداية قومه إلى الإيمان بالله الواحد الأحد.
يتبنَّى نولدِكِه، في الجزء الأول، التقسيم المعهود للقرآن إلى مكِّي ومدني. لكنه يوزِّع السور المكِّية على فترات ثلاث، معتمدًا على صفات أسلوبية ومضمونية تجمع بين سور المجموعة الواحدة. فهو يصف سور الفترة المكِّية الأولى بأنها تتميز عن سواها بقِصَرِها، وبلغتها الشعرية التسبيحية، وورود الكثير من الأقسام (جمع قَسَم) فيها، تهدف إلى تثبيت مضمون الرسالة وإقناع المشركين بها. ويميِّز سورَ الفترة المكية الثانية تحوُّلٌ في الأسلوب: إذ يغلب عليه طابع الوعظ والإنذار؛ وتظهر في هذه الفترة مقاطع طويلة، تسترجع أحداثًا وشخصيات من الكتاب المقدس، مبرِزَةً إياها كأمثلة على صدق الله في وعده ووعيده. أما سور الفترة الثالثة فلا تختلف كثيرًا، من حيث الأسلوب، عن سور الفترة السابقة، لكنها تتميَّز بشدة لهجة الوعيد والتهديد الموجَّه ضد الكافرين. ولم يبقَ التحول الذي حدث في رسالة النبي محمد بعد الهجرة إلى المدينة المنورة من دون تأثير واضح في السور التي نشأت هناك. فهذه تتصف بالتزامها المضموني بشؤون جماعة المؤمنين الناشئة، وبإعلانها الشرائع والتنظيمات لوضع أسُس المجتمع الجديد.
ومازال الترتيب الذي وضعه نولدِكِه للسور معتمَدًا في معظم الأوساط العلمية المتخصصة في الغرب، على الرغم من قيام باحثين آخرين، مثل الإنكليزي بل والفرنسي بلاشير، بمحاولات مماثلة، لا تتصف بالقدر نفسه من الرصانة والتحصين.
أما الجزء الثاني من الكتاب، فيعالج مسألة جمع القرآن الكريم، معتمدًا على الروايات المتوارثة، مقارنًا بعضها ببعضها الآخر في دقة، ومستخلصًا منها النتائج. وهو يناقش مسألة الجمع الأول الذي قام به زيد بن ثابت وسواه من المصاحف التي سبقت مصحف عثمان. ثم يتناول نشوء مصحف عثمان بدراسة مفصَّلة للروايات، عارضًا ترتيبه، ومعالجًا البسملة وفواتح السور. كذلك، يتطرَّق إلى ما يقال عن تحريف بعض المواضع، ثم يورِد "سورة النورين" المنحولة، مناقشًا مضمونها.
ويعالج الجزء الأخير تاريخ نصِّ القرآن، مناقشًا أهم خصائص الرسم في مصحف عثمان، ومقارنًا إيَّاه بصيغ وقراءات غير عثمانية. ثم يتناول بالتفصيل أنظمة القراءة وأشهر القراء، ويعرض أهم المصادر التي تُعنى بهذا الموضوع. وينتهي الكتاب بعرض لأهم مخطوطات القرآن التي كانت معروفة لدى الباحثين آنذاك.
يتصف البحث في مجمله بالرصانة والجدية في التعامل مع المصادر، وعلى رأسها القرآن الكريم. فحتى الجزء الأول، الذي قد يبدو أن فيه تجنِّيًا على الإسلام ونبيِّه، إنما هو قائم على دراسة فيلولوجية دقيقة لنصِّ الكتاب العزيز، لا محرِّك آخر لها إلا حب المعرفة وإشباع الرغبة في العلم. هذا ما دفع بالباحث إلى أن يعود، متَّبعًا المنهجية التاريخية–النقدية، إلى الأصول (أي، في هذه الحال، إلى نصِّ القرآن ذاته)، فيسعى إلى أن يستخرج منه نتائج تضفي عليها الثوابتُ التاريخية طابعَ اليقين. والتركيز على البحث اللغوي والأدبي ميزةٌ تتَّصف بها الدراساتُ القرآنية الألمانية في صورة عامة؛ وهي بعيدة إجمالاً عن التأثر بالنزعات السياسية والاستعمارية. وقد أوردنا جدولاً بأهم الدراسات القرآنية التي صدرت بعد هذا الكتاب، بالأخص في ألمانيا.
يحمل الكتاب، ولاسيما في جزئه الثاني، تقاطُبًا لا بدَّ هنا من الإشارة إليه. فهو يصف، على عادة أهل عصره، الأبحاث العلمية التي أنتجها البحَّاثة الأوروبيون بأنها أبحاث "مسيحية"، مقابلاً بينها وبين الأبحاث "المحمدية" أو "الإسلامية". وهو، إذ يذكر في صراحة تفوُّق الأبحاث الأوروبية من ناحية المنهجية، لا يفوته في الوقت نفسه أن ينوِّه إلى تميُّز البحَّاثة المسلمين العرب على سواهم في مجالات، لا يستطيع أقرانُهم في الغرب أن يجاروهم فيها.
أما التقاطب الذي أشرنا إليه فهو ناتج من مماهاة أوروبا بالمسيحية، من جهة، والشرق بالإسلام، من جهة أخرى. فكرة المماهاة هذه – التي مازالت، للأسف، تعشِّش في بعض الرؤوس – تؤدي، في أسوأ الأحوال، إلى تصوير العلاقة بين المنطقتين والدينين على أنها علاقة صراعية. ولا يخفى على العارف أن تصورًا كهذا فيه تشويه خطير للحقيقة التاريخية واختزال للعلاقات بين العالم العربي–الإسلامي، من جهة، والعالم الأوروبي، من جهة أخرى، إلى إحدى نواحيها فقط، وهي ناحية النزاعات العسكرية التي عرفها تاريخُ المنطقتين المتجاورتين، ما يقترن بالتغاضي عن العناصر الايجابية الأخرى كلِّها، مثل التفاعل الثقافي المشترك والتبادل التجاري. لكن التقاطب المشار إليه لا يؤثر البتَّة سلبًا على موضوعية البحث وجدية العرض.
ما الغرض من الكتاب؟
ليس الغرض من الجهد العلمي الذي يضم نتائجَه هذا الكتاب الحطَّ من قَدْر القرآن الكريم والنبي محمد. إنه، بالأحرى، محاولة علمية صادقة لاستكشاف مضامين مهمَّة في الكتاب العزيز، بواسطة ربْطِها الوثيق بشخص النبي وحيوية دعوته. وهذا يقتضي معالجة نصِّ القرآن كما وَصَلَنا، مع طرح التساؤلات حول الظروف التاريخية التي أحاطت بنزوله وروايته عِبْر التاريخ.
والبحث العلمي لا ينطلق إلا مما يستطيع العقل البشري أن يدركه وأن يقبض عليه بمفاهيم. أجل، إن الفهم قَبْضٌ معرفي على ما يُسعى إلى فهمه. ما لا يُفهَم، يمتنع القبضُ عليه بالأدوات العقلية. إنه، إذًا، موضوع إيمان أو شعور. كذلك مسألة الوحي، الذي يأتي بشرًا "مصطفين" بكلام الله، تتعدى نطاقَ قدرة العقل البشري – فهي موضوع إيمان. أما العلم فيتعاطى مع ما يمكن القبض عليه بالفهم؛ لذا يحاول أن يفسِّر ظاهرة النبوَّة بطريقة قد لا تتفق ومعطيات الإيمان.
وقد سبق للفلاسفة المسلمين، على سبيل المثال، أن حاولوا فهم ظاهرة النبوَّة من خلال أنْسَنَتِها، فشرحوا نشوء النبوَّات بواسطة مفاهيم أرسطوطالية وأفلاطونية محدثة. هكذا يعالج واضعو هذا الكتاب القرآنَ الكريم من منظور علميٍّ كنصٍّ، يُقرَأ ويُكتَب، وقد بلَّغه النبي محمد إلى أتباعه المؤمنين. الكلام الإلهي يتَّخذ حروف لغة بشرية، ويُنطَق به بألفاظ بشرية: فهو جامع للبُعدَين الإلهي والبشري معًا. وإذا كان العالِم يتعامل والقرآن الكريم وكأنه كتاب بشري فقط، فهذا ما تقتضيه الأمانةُ للعلم الذي لا يتعاطى إلا مع ما يمكن للعقل أن يحيط به، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. أما كون القرآن كتاب الله الذي نُزِّل حرفيًّا على النبي محمد فهو موضوع إيمان. وكل جهد علمي، صادق في سعيه وراء الحقيقة، جدير بالاحترام، حتى لو اعتُبِرَتْ نتائجُه خطأ. ولا يسعني في هذا السياق إلا أن أذكر ما قاله ابن رشد من أن العالِم المجتهد، إذا أصاب، فله أجران – أجر الاجتهاد وأجر الصواب -، وإذا أخطأ فله أجر واحد – لأنه اجتهد
على الرغم من تركيزه على أهمية التوافُق بين النصِّ والحدث التاريخي، لا يخفي نولدِكِه اقتناعه بأن الكثير من الأحداث التي جَرَتْ في أثناء رسالة النبي محمد لم تعدْ ممكنةً إعادةُ تركيبه في دقَّة، وبأننا لا نستطيع أن نعرف ماذا جرى في ذلك الحين فعلاً. التمسُّك بالتاريخ هو، في هذه الحال، تمسُّك منهجي، يهدف، من خلال إقامة صلة سببية بين الحدث والنص، إلى الوصول بالنصِّ إلى أكبر قَدْرٍ من الوضوح والتماسك بين أجزائه المختلفة. يمكن وصف هذه المنهجية بأنها محاولة مبدئية للعودة إلى ما قبل النص، إلى البدء، حين كان القرآن، بعدُ، في وضع المنطوق به، كلامًا حيًّا، يُتلى ويُعاد ويُحفَظ، قبل أن يدوَّن ويصبح مصحفًا.
يتمسَّك نولدِكِه بالنص، كونه محسوسًا ملموسًا، ويعامله في جِدية وضعية؛ لكنه يبدو، في الوقت نفسه، متحسِّسًا لما هو وراء النص، أي لما يسمِّيه اليوم مفكرون مسلمون حداثيون، مثل محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، الخطاب الذي تولَّد منه القرآن. البحث عن بدايات الوحي محاولة أولى للتفتيش عن عناصر هذا "الخطاب" التفاعُلي الذي تمَّ في حياة الرسول وجماعة المسلمين الأولى. وإعادة وضع النصوص في سياقها التاريخي الحي سعيٌ إلى استجلاء الخطاب الذي جاء بها؛ وهو خطاب مزدوج: فالوحي خطاب "عمودي" يجمع بين الموحي والموحى إليه؛ وهو، في الوقت نفسه، خطاب "أفقي" أيضًا، عندما يصير الوحيُ حقيقةً في التاريخ، في تفاعل مع البيئة التي تمَّ فيها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق