النهضة والمناخ النهضوي
شهدت نهايات
القرن السابع عشر الميلادي تعارضاً حاداً بين مبدأ الحق الإلهي الذي ادعاه
الأباطرة والملوك لأنفسهم، ومبدأ سيادة الأمة أو سيادة الشعب. فإذا كان مبدأ الحق
الإلهي مؤسساً في الفكر الديني بوجه عام، ولدى الكنيسة الكاثوليكية بوجه خاص، فإن
مبدأ سيادة الشعب، على النقيض من ذلك، راح يتأسس في الفكر العلماني الحديث الذي
مهد لنشوء المجتمع الحديث وارتبط به.
وقبل ذلك،
مع نهاية القرن الخامس عشر التي يجعلها بعض المؤرخين تاريخاً لأفول النظام
الإقطاعي، وبداية الأزمنة الحديثة. قبل ذلك ونحو عام 1500 م "عاش الثلاثي
الأشهر: ليوناردو دافنشي ورافاييل وميكل انجلو، ومعهم باباوات عصر النهضة. وكذلك
دورر Durer أكبر الرسامين الألمان ومعه غرونفالد وكراناخ، أي مدرسة الرسم
الألمانية العظيمة الوحيدة التي هي شيء ناتئ وشاذ في تاريخ العبقرية الألمانية,
وإراسم Erasme أو إراسموس الهولندي صاحب "مدح الجنون" (1501) وهو نقد
لاذع لكنيسة زمنه، وأكبر إنسانويي عصر النهضة، والملقب أحياناً بفولتير اللاتيني.
والإنكليزي توماس مور Moore صاحب كتاب "اليوتوبيا" ورائد الشيوعية اليوتوبية في
العصر الحديث، ومستشار إنكلترة العظيم الذي دفع حياته ثمناً لمبدأ الوجدان (1535).
وعالم الفلك كوبرنيك البولوني، قالب النظرة إلى الكون والرمز العلمي الأكبر للعصر
كله. والأسقف الإسباني بارتولميو دو لاس كازاس أول مناهضي الاستعمار في التاريخ
الحديث.
بعدهم عاش
الأديب الفرنسي مونتيني Montaigne مؤلف المحاولات (1571-1592) وفيها "دفاع عن ريمون
سابوند" الطبيب الإسباني الذي عاش في فرنسا رافعاً لواء "كتاب
الطبيعة"، ومدهش الفكر الفرنسي الحديث بنفس جميل من ريبية وتسامح وخقة روح.
وفي إنكلترة مارلو Margowe مؤلف "حياة وموت الدكتور فاوست"، ثم شكسبير Shakespware نحو سنة 1600 أعظم مؤلفي المسرح في التاريخ الحديث. عصر شكسبير
يعرف بعصر إليزابيت ملكة إنكلترة (1558-1603). وفي إسبانيا عاش سرفانتس Cervanttes مؤلف "دون كيخوت" (1605) رائعة الأدب الإسباني، وقبله
بقليل كاموينس Camoens أكبر شعراء البرتغال. وفي إيطاليا الرسام كارافاجيو، الذي
جعل المسيح ـ الإنسان إنساناً، وأمه أماً، والألم ألماً بالتمام وقبحاً، والموت
موتاً بالتمام وقبحاً، واضعاً خاتمة جيدة لمسيرة طويلة جبارة، إيطالية، بلجيكا،
ألمانية، إسبانية الخ، هي مسيرة تأسيس الرسم الحديث. وبالسترينا Palestrina، مصلح الموسيقا الدينية، خاتم عهد وبادئ عهد في تاريخ الموسيقات
الغربية: "الموسيقا الكلاسيكية" تلوح في الأفق؛ مونتيفردي Monteverdi يضع أول أوبريت "أورفيو" ـ في سنة (1602). الفلسفة
تتمثل بـ جوردانو برونو G.Bruno الذي يحرق حياً في روما سنة 1600 ويخلفه كامبانلا Campanella الذي يقضي 27 سنة من عمره في السجن: كلاهما خرجا من رهبنة
الدومنيكان؛ وفي ألمانيا بالطبيب ـ الفيلسوف ـ الساحر باراسلس Paracelse (1493 ـ 1541)، ثم بالإسكافي والمتصوف ياكوب بوهم Jakob Boehme (1575 ـ 1624) "الفيلسوف التتوني"، أبو الفلاسفة
الألمان. وفي إنكلترة، بـ فرانسيس بيكن F. Bacon
(1561 ـ 1621) رائد "الفلسفة الحديثة"، معاصر لـ بوهم، ويقع بين طورين
فلسفيين. الفلسفة السياسية والحقوقية وتتمثل بـ الإيطالي ماكيافل صاحب
"الأمير" (1532)، والفرنسي بودان Bodin
مخترع مفهوم السيادة (1571)، وبالألماني التوسيوس Althusius
("السياسات"، 1603) والهولندي غروتيوس Grotius
("حقوق الحرب والسلم"، 1625) حاملي فكرة الحق الطبيعي. ماكيافل يفصل
السياسة عن الأخلاق، يؤسسها كعلم وضعي، كمعرفة لواقع، ويعطينا ـ بين أمور أخرى ـ
صورة عن واقع عصر لم يكن فقط عصر عمالقة الفن والفكر والاختراع والاكتشاف بل كان
أيضاً عصر عمالقة الجريمة، في إيطاليا وغيرها.
قبل هؤلاء
جميعاً، قبل منعطف سنة 1500، عاش عدد من كبار الفنانين الطليان ـ عمارة، نحت، رسم
ـ في فلورنسا العاصمة الأولى للنهضة، البندقية ومدن إيطالية أخرى، والرسام
الفلاماندي فان أيك Van
Eyck (1375 ـ 1440) في مدينة
بروج Bruges (= جسر) "بندقية الشمال" المطلة على العالم بالتجارة
والعمل. الألماني جان غونتبرغ J.Gutenberg
اخترع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر وطبع الكتاب المقدس في سنة 1456؛ وأنشأ
الإنكليزي كاكستون مطبعة في وستمنستر سنة 1476؛ بسرعة البرق، وكأن الناس على موعد،
ظهرت مطبعة في كل مدنية ذات شأن، تكونت طبقة من القراء، نشطت حركة الترجمة
والتأليف، صدرت كتب باللغات القومية ـ الشعبية، مع استمرار اللاتينية في ميدان
مقلص، وبروز اليونانية في التعليم، ومواصلة ومضاعفة بعث الثراث القديم اليوناني
واللاتيني. الأديب العلامة الإيطالي بترارك Pétrarque
أول كبار "أنسانويي" حركة النهضة عاش في أواسط القرن الرابع عشر، أما
دانته Dante، صاحب "الكوميديا الإلهية"، شاعر إيطاليا واللغة
الإيطالية الأول والأعظم، مؤسس اللغة الأدبية القومية، فقد عاش، قبله، في فلورنسا
نحو سنة 1300 ومعه الرسام جيوتو Giotto، الحلقة الوسيطة
والحاسمة نحو فن حديث مخالف ومناهض للفن البيزنطي. "فلسفة عصر النهضة"
تعيش بداياتها، بعد سقوط القسطنطينية في سنة 1453، بترجمة جديدة لأعمال أو أفكار
أرسطو وأفلاطون وأفلوطين وبارمنيد وأبيقور وابن سينا وابن رشد، على يد الفاتحين
الأوائل رجال "الأصول" مارسيل فيسين، بيك دو لا ميراندول، تيليزيو،
باتريزي، بومبونازي، (ق 15 وق 16). مدرسة بادوا Padoue
موجودة من القرن 14، "الابن رشدية اللاتينية" من القرن 13، الكنيسة تدين
ابن رشد في القرن 13 ثم أيضاً في أوائل القرن 16؛ ريمون لول، سيد أكارت، غيوم
أوكام ختموا عصر السكولاستيك الكبير. نقولا دو كوزا رجل ما بين ـ عصرين"[1].
تلكم بوادر
نهضة، ميلاد جديد، حركة شاملة في جميع قطاعات المجتمع، حركة فنية وأدبية، تفتح
فكري وروح نقدي، روح فردي وفرادة روحية، جوانية، وجدانية، كشوف جغرافية وفتوحات،
نمو وتراكم في الشغل والإنتاج، انعطاف جذري ونهائي نحو العالم الواقعي، عالم
البشر، نظرة جديدة إلى الإنسان وإلى الكون، روح عامة وعالمية، كونية، تشمل جميع
الميادين؛ الإنسان يستوي على عرش المعرفة والشغل، أعني المعرفة المكتشفة، الفاتحة،
والشغل الخلاق، لا مجرد التقليد والكدح. ليس هناك بعد بلا قبل، ولا قبل بلا بعد؛
القبل والبعد ليسا تعاقباً في الزمن فحسب، بل منطق وتاريخ، جدل تاريخي وتاريخ
جدلي، تمثل ونقد وارتقاء، نفي ونفي النفي؛ أجل أجل، تلكم بوادر النهضة وبذورها،
وهي سيرورة اندماج الثقافة الحديثة في حياة الشعب وانشغال بالعالم الأرضي
الواقعي الدنيوي واشتغال فيه، ولكننا ما زلنا نتحدث عن بوادر فحسب.
هل ثمة
علاقة بين فكرة النهضة وفكرة المجتمع الحديث، المجتمع المدني والدولة الوطنية، وهل
ثمة علاقة بين الفكر الحديث والمجتمع الحديث، وهل ثمة علاقة بين النهضة والروح
الكوني، وهل ثمة علاقة بين الروح الكوني المنشغل بالعالم الأرضي الدنيوي والمشتغل
فيه وبين ظهور الأمم الحديثة والدول القومية الحديثة، وهل القومية خصوصية محضة
وانكفاء على الذات أم درجة على سلم الارتقاء إلى الكونية، وأخيراً هل ثمة علاقة
بين فكرة الحداثة وفكرة الأمة وتعيُّنها في المجتمع المدني والدولة الوطنية /
القومية وما معنى الهوية القومية بدون مقولة الشغل والإنتاج، إنتاج الثروات
المادية والروحية على السواء، وإنتاج المجتمع الحديث والدولة الحديثة، وما موقع
الحرية في عملية / عمليات النهضة والتقدم وما أثرها فيها؟ نترك الإجابة للقارئ.
عصر النهضة
هو عصر الإنسية بامتياز؛ والإنسية لا تقتصر على إعادة الاعتبار للإنسان بصفته مركز
العالم ومعيار جميع القيم فحسب، بل بصفته ذاتاً حرة فاعلة ومسؤولة. ولكن
الإنسية إضافة إلى ذلك كانت عملية دنيوة أو علمنة للحق والحقيقة، الحقيقة ينتجها
البشر لأنفسهم في سياق العمل والإنتاج، العمل أبو الحقيقة والطبيعة أمها.
بخلاف عالم المثل والحقائق الكلية الأفلاطوني، يغدو العالم الأرضي، عالم البشر
ودنياهم موئل الحقيقة الوحيد. والحقيقة الأولى والكلية الثابتة هي الإنسان. على
لحن هذه الحقيقة تمضي سمفونية النهضة، فيتبدى من خلالها جمال العالم الأرضي
وجدارته، فلم يعد هذا العالم ظلاً شاحباً يلقيه النور الإلهي على جدار كهف.
الإنسان هو المبتدأ والخبر، هو غاية في ذاتها لا يجوز أن يكون وسيلة لأي غاية أخرى
أرضية أو سماوية؛ والعالم لم يخلق من أجل الإنسان بل هو مصنوع من لحمه ودمه، كما
قال بيك دو لا ميراندول. وأضاف: "الشياطين التي كان يخافها إنسان العصور
الوسطى ألقت بنفسها في الجحيم، ومعها الصليب الذي كان يبدو مكرساً لحمايتها".
لا ميراندول يعلن في خطابه عن "كرامة الإنسان": "الحيوانات تستمد
من بطن أمها ما يلزمها، والأرواح العليا هي من البداية ما ستكونه إلى الأبد، أما
أنت أيها الإنسان، فلك تطور، إنك تنمو وتنبسط حسب إرادتك الحرة، إنك تحمل في ذاتك
بذور الحياة التي لا حصر لها"[2].
[1] - نقلنا هذا النص الطويل من مقدمة الياس مرقص لكتاب إرنست بلوخ،
"فلسفة عصر النهضة"، لإلقاء ضوء على المناخ النهضوي الذي مهد لظهور
المجتمع المدني والدولة الوطنية / القومية، ولتوكيد العلاقة الضرورية بين الفكر
الحديث والمجتمع الحديث. يقيناً إن الفكر لا يصنع التاريخ، ولكن ليس ثمة تاريخ بلا
فكر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق