كتاب:
"من تاريخ الحركات الفكرية في الاسلام".
المؤلف: بندلي جوزي.
كتب المقدمة: حسن مروّة.
الناشران: الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين ودار الجليل، بيروت.
سنة النشر: الطبعة الثالثة، 1982 (صدرت الطبعة الاولى في القدس عام 1928).
يأخذنا هذا الكتاب الى القرون الاولى التي تلت مجيء الاسلام ويعود بنا الى ثمانية عقود خلت حين أخذ بندلي جوزي (انظر الملحق) ينشر أبحاثه في الحركات الفكرية الاسلامية. إلا أن هذه العودة لا تعني، بالضرورة، عودةً الى الوراء. فالمسألة التي يتناولها الكتاب، ذات راهنية وحضور بالغين في كافة جوانب حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية.
بالاضافة الى فصول الكتاب الخمسة، كتب الدكتور حسين مروّة مقدمة "هكذا نقرأ بندلي جوزي"، أما المؤلف فقد خص "وحدة النواميس الاجتماعية" موضوعاً لمقدمة الكتاب، في حين تناولت فصول الكتاب أسس الاسلام الاقتصادية، الامبراطورية العربية والامم المغلوبة، حركة بابك وتعاليمه الاشتراكية، الاسماعيلية والقرامطة.
عناصر الريادة في أعمال بندلي جوزي
يرى مروّة أن بندلي جوزي رائد في حقل الدراسات التراثية العربية ـ الاسلامية. فهو رائد من حيث انه عقد "الصلة الدراسية بين المنهج المادي التاريخي والتراث العربي ـ الاسلامي الفكري" (ص 1)، ورسم طريق المنهج البديل الذي يُخرج مسألة التعامل مع التراث من منظور تقديسة ونزعة التشويه البرجوازية ليدخل بها الى رحاب النزعة النقدية للتراث من موقع الاعتزاز به والطموح الى تطويره. ومن هنا كان تحدي جوزي للمنهجين السائدين في عصره: موقف التقديس المطلق للتراث وآخر معادي له. وتتجلي الريادة في أعمال جوزي، حسب ما يرى الدكتور مروّة، إضافة الى سعة الاطلاع على شؤون الثقافة العربية ـ الاسلامية وثقافات ولغات الشعوب في المزايا الرئيسية الثلاث التالية:
1) إقتحام دراسة التراث بقراءة منهجية مادية تاريخية.
2) الانطلاق من وعي علمي بارتباط حركة تطور المجتمع العربي ـ الاسلامي بالقوانين العامة ذاتها التي ترتبط بها حركة المجتمعات البشرية ككل.
3) تعرية المنطلق الفكري للمنهج البرجوازي الغربي في دراسة تراثنا الفكري. (انظر لاحقاً)
من هنا، يصطف الكتاب في طليعة الاعمال التي عمدت الى إبراز النزعات المادية في التراث والفكر العربي ـ الاسلامي التي تم طمسها لقرونٍ عديدة، ودراسة هذه النزعات في إطار الظاهر الفكرية العامة ومن خلال سياقها الاجتماعي ـ التاريخي العام، وهو ما إضطلع به د. حسين مروّة منذ خمسينات القرن المنصرم ورصد في سبيله سنوات طويلة من العمل العلمي والاكاديمي حتى إستشهاده حين إغتالته يد الغدر عام 1987 عن عمر يناهز تسعة وسبعين عاماً.
تراثنا ومؤرخو الغرب
سبق جوزي غيره من الباحثين في تعرية المنطلق الفكري للمنهج البرجوازي الغربي في دراسة تراثنا الفكري "بكونه ينكر شمولية القوانين العامة الموضوعية لحركة تطور المجتمع البشري" (ص 5 ) أي كونه ينكر خضوع المجتمع العربي ـ الاسلامي لتلك القوانين ويفتعل قوانين خاصة لهذا المجتمع "الخاص". وفي سياق كشفه هذا يفضح جوزي الاستنتاجات المعادية للعلم التي تنبني على ذلك الاساس نفسه ولا سيما الاستنتاج العنصري في تصنيف الشعوب وتمييزها عن بعضها لا بالخصائص التاريخية الواقعية بل بالخصائص الفطرية الطبيعية التي تستند الى "إن الطبيعة إختصت بعض الشعوب بالخصائص العالية الممتازة منهم، في حين إختصت الطبيعة شعوباً أخرى بخصائص أدنى شأناً في سلم التطور الحضاري" (ص 5). وبناءً على هذا الاساس الفاشي العنصري تتمايز الشعوب فيتفاضل بعضها ويتدنى بعض آخر.
كما وجد بندلي أن مؤرخي الغرب لتاريخ الامم العربية والاسلامية والشرقية بشكل عام يتسمون بقلة معرفتهم بتاريخ هذه الشعوب، كما أنهم بنوا حكمهم على مستقبل الامم الشرقية مستندين على احوالهم العمرانية والاجتماعية في الماضي القريب. وعليه، أكد جوزي ان "تاريخ الشرق وحياته الاجتماعية وعقلية شعوبه على الاطلاق والشعوب الاسلامية على الاخص تخضع لنفس النواميس والعوامل التي تخضع لها حياة وتاريخ الامم الغربية." فلا فرق ولا تفوق بين الشرق والغرب (ص 16).
أسس الاسلام الاقتصادية
يرى جوزي ان الاسلام، كغيره من الاديان، لم يكن مجرد فكرة دينية بل مسالة إقتصادية وإجتماعية أيضاً. بل لعله "مسألة إقتصادية وإجتماعية أكثر منه فكرة دينية". كما ذهب بعض المستشرقين الى ان "الداعي الى ظهور الحركة الاسلامية هو الدين، إلاّ أن القبائل العربية وسكان مكة والمدينة أقبلوا عليه ودخلوا فيه لاسباب غير دينية" (ص 17 و18).
تميزت أحوال مكة عند مجيء النبي محمد بالسمات التالية:
1) كانت مكة غنية بمركزها التجاري وتوفر الماء فيها، إضافة الى كونها مركزاً دينياً. وقد برع أهلها في التجارة وتراكمت في أيدهم رؤوس أموال كبيرة.
2) إدى توفر المال الى الفساد والربا الفاحش (مما حمل الرسول على تحريمه) الذي تسبب في خراب المستدينين وخلق طبقة من الفقراء العاجزين عن تسديد ديونهم فهربوا الى الصحراء والتحقوا بطبقة المشردين وقطّاع الطرق في حين أصبح بعضهم الآخر عبيداً (طبقة الارقاء).
3) أدى هذا الى الاصطفاف الطبقي وتشكيل طبقتين وإحتدام الصراع بينهما: الاثرياء وأصحاب البنوك وسدنة الكعبة وأصحاب السلطة (الطبقة الارستقراطية)، مقابل طبقة الصعاليك والفقراء والارقاء والمشردين.
هجرة النبي: فاتحة عهد جديد
يجزم المؤلف باننا لا نستطيع ان نحشر النبي، "المصلح المكي" كما يسميه، بين الاشتراكيين او الشيوعيين ولكنه يعتقد ان للعوامل الاجتماعية تأثيراً قوياً على دعوته ووقوفه بجانب الفقراء والصعاليك المظلومين (ص 36).
هاجر النبي الى المدينة (يوم/ليلة 16 تمّوز 623م) بعد أن إستشعر الخطر من الطبقة السائدة في مكة التي رأت في دعوته تهديداً لمصالحها وأموالها وسلطتها. ويرى جوزي ان هذه الهجرة كانت فاتحة عهد جديد في حياته وحياة الاسلام على الاطلاق، إذ أصبح الرسول "سيد قومه وزعيم عشيرته ورئيس مملكة واسعة الاطراف" بعد أن كان "واعظاً بسيطاً مضطهداً ومبشراً سلمياً". وأصبحت البلاد العربية بعد ثمانية أعوام تأتمر بامره فتسنى له ان يحقق الاصلاح الاجتماعي القائم على المبادئ السامية كالعدل والإخاء وتحرير المرأة والارقاء ومحاربة أسباب الشقاء والفقر بين أبناء جلدته في سائر البلدان العربية.
كان من أهم الاصلاحات التي أدخلها الرسول هدم العصبية الجاهلية ومحاولة توثيق عرى المحبة والمساواة والإخاء، تحسين أوضاع الفقراء وفرض "ضريبة إشتراكية" (الزكاة) على الاغنياء لمنفعة الفقراء والصعاليك، تحسين حالة المرأة، منع الربا ومنع وأد البنات وغيرها من القوانين التي تتعلق بالرق.
إلاّ أنه، يقول المؤلف، "لا بد من الاعتراف بان السنن المذكورة مع ما فيها من عناصر الرقي لم تكن لتقتل كل جراثيم الامراض الاجتماعية التي أعلن عليها الحرب المصلح العربي الكبير، وذلك لاسباب عديدة نقتصر على ذكر بعضها" (ص 44). من هذه الاسباب أن النبي لم يقصد إستئصال أسباب الشر الاجتماعي، بل كانت "غايته الكبرى ان يخفف من وطأة تلك الامراض على بعض الطبقات الفقيرة". ولو أراد ان يقتل جراثيم هذه الامراض لكان لجأ الى وسائل اخرى. لقد أجاد النبي في وصف الامراض الاجتماعية العربية وتعدادها أكثر منه في علاجها وإستئصال جراثيمها (ص 44).
كان النبي أول من "تنبه الى استياء الطبقة السفلى في مكة والطائف من حالتها الاقتصادية والاجتماعية وأول من أدرك اسباب هذا الاستياء، إلاّ ان ذلك لم يكن ليحمله على قتل أسباب الاستياء قتلاً قاضياً كأن يمنع التجارة الشخصية ويجعلها كلها تحت مراقبته الحكومة التي أسسها في المدينة، أو أن يمنع الرق منعاً باتاً، أو ينتزع الاراضي من أصحابها ويجعلها ملكاً لمن يعتملها أو يحتكر بقية مصادر الثروة الفردية التي كانت ولا تزال أصل الشرور الاجتماعية، أو يستعمل وسائط اخرى يشير اليها الاشتراكيون في هذا العصر" (ص 45 و 46). فعلى سبيل المثال، أصبحت الاراضي التي إفتتحها المسلمون بعد قليل من الزمن ملك أفراد يتصرفون بها كيف شاؤوا. ويكاد جوزي يجزم أن النبي لم يكن يهدف الى نظام اراضي جديد يمكن ان يطلق عليه ولو على وجه التقريب اسم النظام الاشتراكي أو الشيوعي لان النبي لم يكن إشتراكياً ولا شيوعياً بالمعنى الراهن لهاتين الكلمتين ولا بمعنى آخر لاسباب يرجع أكثرها الى عدم توفر الشروط اللازمة في المدينة آنذاك (سنة 622م) (ص 48).
الامبراطورية العربية وثورة الامم المغلوبة
إزدادت مسألة التوفيق بين مصالح الطبقات المتضادة صعوبة بعد الفتوحات العربية التي أدت الى حالة إجتماعية جديدة ذات علاقات متوترة بين الطبقات في المجتمع والتي ساعدت السياسة الاقتصادية للامبراطورية العربية على زيادة توترها.
إنشغل العرب بالفتوحات الواسعة وتدبيرشؤون الامبراطورية الكبيرة وتدفق الاموال من أرجائها النائية، مما إلهاهم عن التفكير في المسائل الاجتماعية والتي جاءت الحركة الاسلامية أساساً من أجل معالجتها. كما ساهمت هذه العوامل في إنتقال مركز الحركة الفكرية من مكة والمدينة الى غيرها من المدن الكبيرة، ومن العرب الى غيرهم من الامم المقهورة لأن الشروط الضرورية لظهور هذه الحركات (حالة البلاد الاقتصادية والاجتماعية) كانت متوفرة بين الشعوب غير العربية وغير الاسلامية أكثر منها بين الامة العربية.
أسباب ثورة الامم المغلوبة
تعددت الاسباب والعوامل التي أثارت نقمة سكان البلاد على العرب الذين أخذوا يعملون على "تقويض ملكهم ومقاومتهم بالسيف والقلم" كما تشهد على ذلك "الحركة الشعوبية التي إشترك فيها الفارسي والنبطي والقبطي والتركي وغيرهم...". وكان من أهم العوامل التي كانت وراء ثورات هذه الشعوب:
1) نظام الضرائب الذي كان عبئاً ثقيلاً على عاهل الامم المغلوبة.
2) الذل والاهانات التي كانت تعرضت لها تلك الشعوب. ولما لم يكن هناك من سبيل للتخلص من هذا سوى الدخول الى الاسلام، أخذت هذه الشعوب تدخل الاسلام أفواجاً (ص 57).
3) ساهم دخول الاسلام في تحسين الاوضاع المادية والاجتماعية للعمال والفلاحين، إلاّّ أن هذا لم يكن ليساويهم باخوانهم العرب لان "العرب كانت تنظر الى هؤلاء الدخلاء في الدين والقومية العربية بعين الاحتقار خلافاً للمبداً الجميل الذي جاء به النبي وأمر أصحابه باتباعه" أي مبداً المساواة في الحقوق والواجبات والإخاء بين جميع المسلمين على أختلاف قومياتهم وطبقاتهم الاجتماعية وأحوالهم الشخصية (ص58).
عاد الفلاحون الفقراء الى وضعٍ أسوأ ووقعوا في مأزق بين نارين: الدولة الغريبة عنهم من جهة، والطبقة الارستقراطية "المبعوثة حديثاً من قبرها" من جهة اخرى. أي أنه أصبح على الفلاح ان يعمل لسيدين وان يخضع لقهر وإستغلال من مستويين: الدولة المحتلة (والنضال من أجل الاستقلال القومي وإحياء دينهم القديم ولغتهم ..الخ) والطبقات المستغِلة.
أنتفض الشعب الفارسي عدة مرّات (755م، 767، و 778)، تميزت كلها بصبغة دينية، إلاّ أن هذه الصبغة لم تكن سوى حجاباً شفافاً يخفي العوامل السياسية والاقتصادية التي كانت السبب الحقيقي.
4) سوء إستعمال أموال الجباية وتسرب أموال الرعية ولا سيما أهل الذمة الى جيوب المتوظفين وتراكم ثروات كبيرة في أيدي القلة وظهور طبقة جيدة وثرية في المدينة عاصمة المملكة الجديدة.
5) أدى حب بني أمية للاموال الذي ورثوه عن أجدادهم سكّان مكة وحاجتهم الماسة اليها لقضاء مهماتهم السياسية والقيام بالفتوحات الواسعة، الى طلب المال بكل الوسائل أي زيادة الضرائب وجمعها باقسى الطرق من الطبقات الفقيرة (ص 61).
6) نظام الاراضي والذي أطلق الحرية لمن شاء من العرب المسلمين أن يقتني ما شاء من الاراضي خارج جزيرة العرب (بعد أن كان ذلك ممنوعاً أيام أبي بكر وعمر بن الخطّاب)، فتهافت أصحاب الثروة والسلطة من العرب على إمتلاك الاراضي في العراق ومصر وسائر البلاد المعروفة بخصبة تربتها.
7) إستحضار زنوج أفريقيا وإجبارهم على الشغل في مستنقعات مصر والعراق وما وراء القوقاس.
8) ظلت ضريبة أراضي الخراج (النظام الذي وضعه الخليفة عمر، كما يقال) حتى بعد الفتح وبعد أن إنتقل قسم منها الى ايدي المسلمين (ص66).
9) الاصلاحات الادارية التي أدخلها عبد الملك بن مروان بعد أن وحّد البلاد والتي شملت مسح الاراضي وتسجيلها بلغة الدولة (العربية)، سحب النقود القديمة وصك نقود جديدة، إدخال اللغة العربية بدل اللغات اليونانية والقبطية والفارسية التي كانت مستعملة في سوريا ومصر وبلاد العجم آنذاك.
الحركة البابكية والاشتراكية
لم تكن الاسباب التي دعت الشعوب المقهورة والطبقات الفقيرة لدعم دعوة بابك والإقبال عليها، دينية ولا سياسية بل إجتماعية وإقتصادية. فقد عاش سكان الامبراطورية العربية (أواخر القرن الثامن وأوائل التاسع) في مصر والعراق وارمينيا وأذربيجان في ظل ظروف قاسية وكانت شعوبها تئن تحت نير الحكام الطغاة وجباة الضرائب. لذا تآلبت الامم الايرانية المقهورة في أرمينيا وأذربيجان من خراسان في الشمال الى العراق العربي في الجنوب، تآلبت على دولة بني عبّاس وأخذت تعمل علناً على إسقاطها (ص 83).
ظهرت الحركة البابكية في ظل هذه الظروف. وقد كان بابك الخرمي (او بابك الفارسي) أول من حاول ان ينتفض رافعاً لواء الحرية في جبال قراطاغ ، كما كان أول من إنشق عن الدولة العباسية. إبتدأت حركته هذه في صيف سنة 816 أو 817 في إذربيجان وتميزت بقوة تنظيمها ووضوح غايتها، ثم أخذت تقوى وتنمو بسرعة في البلاد المجاورة حتى بلغ عدد رجالها 300 ألف مقاتل من إذربيجان والديلم فقط.
حارب الخلفاء العباسيون الحركة البابكية أكثر من عشرين سنة، إلا أن بابك وأتباعه صمدوا اما م هذه الجيوش. ويرجح جوزي أن صداقة قوية قامت بين الحركة البابكية ومبراطورية الروم وربما كان بينهما معاهدة حربية سرية. حاول بابك ان يستميل الكرد والارمن لدعوته، فشارك الكرد في حركته، أما الارمن فترددوا والتزموا الحياد.
تتمز حركة بابك عن غيرها وما سبقها من الثورات بان الغرض منها لم يكن مقاومة الاسلام ولا العرب، بل محاربة النظام الاجتماعي الذي كان يستغل الطبقات السفلى من جميع الامم التي كانت تتألف منها دولة بني عبّاس حتى الامة العربية ذاتها (التي لم تشترك في الحركة البابكية). كان البابكيون يرمون الى هدم النظام الاجتماعي المستند على أصحاب الاملاك ورؤساء الدين والجيوش المسخرّة المأجورة وإبداله بنظام جديد ليس فيه طبقات ولا نزاع مستمر بينها ولا ظالم ولا مظلوم ولا غني ولا فقير ولا سيد ولا عبد، نظام مبني على اسس العدل والإخاء والمساواة.
البابكية والاشتراكية
بالرغم من ان برنامج الحركة البابكية الكامل غير متوفر لانهم لم يحتفظوا به، إلاّ أنه مثل سائر إشتراكيي إذربيجان وطبرستان كان يحتوي على مسائل إجتماعية وإقتصادية فقط يمكن حصرها في مسألتين أساسيتين:
1) نزع الاراضي الواسعة من أربابها الذين إغتصبوها من الفلاحين وتوزيعها مجاناً على المزارعين المحتاجين اليها.
2) تحرير المرأة الشرقية أو الايرانية على الاقل من عبوديتها الابدية وإعطائها أهم ما للرجل من حقوق.
وتجدر ملاحظة أن أهم الشروط التي توفرت لظهور المبادئ الاشتراكية في تلك الاجزاء من إيران وإذربيجان هي حالة الفلاحين وعلاقتهم باصحاب الاراضي حيث كان الفلاح يعمل كالرقيق لا يملك شيئا ولا حتى حق الزواج. هكذا كانت الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية منذ حقبة ما قبل الاسلام، إلاّ أن دخول الاسلام لم يغير سوى الشيء القليل في حالة الفلاح الفارسي. أما السلطة العربية فلم يكن يهمها من أمر الاعاجم وغيرهم من الامم المغلوبة إلاّ تأدية ما عليهم من ضرائب.
لهذه الاسباب تمركزت الحركة الشيوعية في أراضي إذربيجان وأران الخصبة حيث أخذ المصلحون (مزدك وبابك) يلحون في نزع الاراضي من أيدي القلة وتوزيعها على الفلاحين مدركين أن تحرير الفلاح هو في تحرير الارض.
اسباب فشل الحركة البابكية
فشل بابك وتم القضاء على حركته سنة 838، ويرى المؤلف أن أهم أسباب فشل البابكية كانت:
1) خارجية: وتشمل الهجمة العباسية والقضاء العسكري على القوات البابكية.
2) داخلية:
أ ـ عدم إستعداد أكثر سكان الدولة العباسية لقبول النظام الاشتراكي؛
ب ـ إهتمام البابلكيين بالامة الفارسية فقط رغم أن قسماً كبيراً منها لم يدخل في دين بابك ولا إهتم بدعوته أو هبّ لمساعدته. كما أن البابكيين حصروا دعوتهم الاشتراكية في فئة قليلة من الناس التي كانت تقطن جبال آران وأذربيجان أي بين القبائل الايرانية فقط ولم يفطنوا الى إشراك الامتين العربية والتركية ولم يعملوا على إستمالتهن لعقيدتهم (وقد كانتا يومئذ أعظم الامم الاسلامية وأصحاب السلطة والاكثرية السكانية في البلاد). كذلك لم يهتموا بالبربر.
3) تنظيمية: لم يفهم الكثيرين ممن إلتفوا حول أراء بابك وحاربوا معه الغاية الكبرى من هذه الحركة، ولم يكن يهمهم من هذه الحركة الفكرية إلاّ النكاية بالسلطة الحاكمة. ومنهم من لبى دعوة بابك طمعاً بالحصول على منافع مادية "لم يكونوا لينالوها إلاّ من من وراء هذه الثورات والحروب الاهلية وأكثر هذا الفريق كان من الكرد" (ص 116).
4) فكرية: غاب عن بال البابكيين أن الافكار الجذابة لا تكفي للوصول الى الغاية، بل لا بد من تعميم الدعوة وإتخاذ أقوى الوسائل لضمان النجاح. وهذا ما إنتبه اليه للمرة الاولى في تاريخ الاسلام جماعة عبد الله بن ميمون القداح او الاسماعيليون ( ص 118 و 119).
الاسماعيلية
لم تمت أفكار بابك بموته كما أن البذور التي زرعها "وقعت في أرض طيبة خصبة أنبتت نباتاً حسناً في وقته"، وقد إستفاد منها كثيرون نخص منهم بالذكر الاسماعيليون (أو الباطنيون ) وهم أقرب الناس الى البابكية في العقيدة والغاية وأشدهم تعلقاً بالمبادئ الاشتراكية.
تعاليم الاسماعيلية
لم تظهر أفكار الاسماعيلية في يوم واحد كما أنها لم تبقى ساكنة مدة طويلة بل كانت نتاجاَ للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي سادت آنذاك، وتطورت تبعاً لمقتضيات الزمن وظروفه وتطور زعماء الحركة العقلي والادبي.
تميزت تعاليمهم السياسية والاجتماعية بانها كانت مرتبطة بآرائهم الفلسفية والادبية، ولم تختلف عن مطالب غيرهم من الشيعة أي أنها كانت ترمي الى نزع السلطة من أيدي بني عباس ونقلها الى خلفاء علي وأبنائه. وقد رأى الاسماعيليون أن القضاء على الدولة العباسية ونظامها الاجتماعي يتطلب:
1) بث الدعوة الاشتراكية بين جميع الطبقات والامم والاديان التي تتكون منها دولة المنصور؛
2) جمع كلمة كافة المستائين من حكّام بغداد وإثارة عواطف البعض منهم على هؤلاء الحكّام؛ ثم
(3) دك الاسس التي كانت قامت عليها الدولة العباسية وأهمها: الدين والأدب والعاطفة القومية.
تعرض الشيعة في نضالهم ضد الدولة العباسية للكثير من الفشل والمحن. إلا أن ما طرأ على الدولة العباسية من تغييرات سياسية وإجتماعية، أدّى الى توسيع آمال الشيعة من مجرد المطالب السياسية (عودة الخلافة الى أبناء علي) الى المطالبة بتعميم العدل بين الناس ومعالجة الامراض الاجتماعية التي حلت بالمجتمع، وهو ما أضحى محط أملهم وتوقعاتهم من "إمامهم الاكبر" أو من "المهدي المنتظر".
دخلت هذه المطالب برنامج الاسماعيلية ولقيت دعماً كبيراً في صفوفها من حيث أنها كانت ذات صلة بتعاليمهم الاجتماعية الاصلية والتي كان من أبرزها المساواة بين الجنسين وإبطال ملكية الاراضي وتوزيعها على المحتاجين مجّاناً وهي ذات المطالب التي نادت بها الحركات الشيوعية قبل الاسماعيلية مع فارقين: الاول، أن الاسماعيليين بنوا مطالبهم على مبادئ فلسفية علمية لا مجرد مبادئ أدبية، والثاني، أن الاسماعيلية وسّعت القسم الاجتماعي من برنامجها وتوفقت في بعض الاقاليم الى تحقيق نظامها الشيوعي.
الدين عند الاسماعيلية: كانت الاسماعيلية في بادئ الامر إحدى الفرق الشيعية المعتدلة وتنامت مع الزمن لتصبح حركة تدل على أصحاب مذاهب دينية مختلفة وأحزاب سياسية وآراء فلسفية وعلمية متعددة. فقد حظي الاسماعيليون بمعرفة كبيرة بالنفس البشرية وإستخدموا أساليب وطرق سيكولوجية دقيقة لإستمالة الناس الى مذهبهم والتسلط على إرادتهم وإبقائهم تحت طاعتهم. كان الدين الحقيقي عند الاسماعيلية أن "يتوصل الانسان بالتمرن المستمر والترقي من درجة الى درجة الى معرفة منازل الكون التي قطعتها العوالم (المسكونة) بعد أن إنفصلت عن الله"، كما كانوا ينادون ب"إنماء القوى العقلية ثم السيرة الحسنة والحياة الادبية الموافقة لمطالب العقل السليم" للوصول الى الغاية القصوى من الكمال العقلي والادبي الذين هما الغرض الاكبر من حياة الانسان الدينا" (ص 140 ).
الاسماعيلية والعصبية القومية: يرى المؤلف ان الاسماعيلية كانوا أول من تغلب على العصبية القومية في الاسلام التي لم يقوَ عليها بنو أمية ولا بنو عبّاس ودافعوا عن فكرة الإخاء الحقيقي (الاممية) لا بين المسلمين فحسب بل بين جميع الناس على إختلاف قومياتهم وطبقاتهم وأديانهم، أي أنهم دافعوا عن الإخاء المبني لا على وحدة الدين بل على مطالب العقل السليم.
الحياة التنظيمية للاسماعيلية
كانت الاسماعيلية حركة سرية يترأسها الامام (أو صاحب الزمان) والذي كان يتمتع بسلطة مطلقة على جميع أعضاء الجمعية، فهو بنظرهم "معصوم عن الخطأ" ويعتبر أعلى درجة أو درجات من النبي "لان ليس للحدود التي وضعها الانبياء إلاّ أهمية نسبية قد لا تتعدى زمانهم، أما حدود إمام الزمان أو تأويله لحدود غيره فلها أهمية مطلقة لا يحصرها زمان ولا مكان" (ص 138). وعليه كانوا أول بدعة في الاسلام يمكن ان نطلق عليهم اسم "العقليين".
لم يكن يعرف أغراض وطرائق الحركة الاسماعيلية إلاّ قلة من زعمائها الذين قطعوا مراتب أي مراحل التكريس وأقسموا القسم ان لا يبوحوا لاحد باسرار جمعيتهم. أما سائر الاعضاء فلم يكونوا يعرفون من أمر الجمعية إلاّ الشيء اليسير. كان للحركة سبع أو تسع رتب تنظيمية. والاعضاء الذين بلغوا الدرجة الرابعة فقط ولم يقسموا الايمان المطلوبة لم يكونوا يعرفون من برنامج الحركة سوى المبادئ الدينية والادبية. أما التعاليم السياسية والاجتماعية فكان يكشف الامر عنها للاعضاء الذين تجاوزا الدرجة الرابعة وأقسموا يمين الحركة.
كان الاسماعيليون ينشرون دعوتهم بين جميع الامم الخاضعة للدولة العباسية وبين جميع الاحزاب والاديان دون فرق لانهم كانوا يدعون الى دخول عقول الناس. وكان زعماؤهم يؤمنون بان الحزب الناجح لا بد ان يجمع الناس ويثقفهم ويدربهم على العمل وإلاّ لفشل الحزب مهما كانت أفكارهم صائبة. وقد برع الاسماعيليون في هذا المجال وجذبوا الكثيرين الى حزبهم وأفكارهم. وقد تميز أعضاء الحركة بانهم كانوا يلبون طلبات زعيمهم بتفاني ورضى وإخلاص ويبدون البسالة والتضحية في إداء مهامهم والجرأة في الدفاع عن آرائهم. وهو ما يفسر إستمرار الحركة لقرون ثلاث وبناء دولة ضخمة في مصر وشمال أفريقيا خلّفت الكثير من الآثار والعديد من الجماعات كالحشاشين والقرامطة والدروز وغيرهم من الذين ما زالوا أحياءً اليوم.
إرث الحركة الاسماعيلية
1) كانت جماعة القرامطة من أهم ما خلفه الاسماعيليون، ففيها "تجلت روح الاسماعيلية في أكمل صورة وتحققت بينها أحلامهم الاجتماعية ونظامهم الاشتراكي" (ص 154).
2) كان من أهم تأثيرات الحركة الاسماعيلية أنها مهدت السبيل لنشر الافكار الحرّة في العالم الاسلامي وشجعت الناس على المجاهرة بها وبهذا قلبت أفكارهم حياة الناس رأساً على عقب.
3) تدين العلوم الفلسفة للاسماعيليين برسائل إخوان الصفا وغيرها من المساهمات المعرفية والفلسفية الهامة في علوم التأويل والتفسير وفلسفة التصوف عند العرب والفرس.
4) ترك الاسماعيليون آثاراً كبيرة على أوروبا المسيحية في القرون الوسطى مثل حركة الجزويت (اليسوعيين) وغيرها من الاخويات المسيحية التي تأثرت بتعاليم الاسماعيليين وطرائقهم الصوفية.
حول الاتراك والصليبيين
كاد الاسماعيليون يقضون على الدولة العباسية لو لم تأتها المساعدة من أمة حديثة هي الامة التركية التي أصبحت في أواسط القرن التاسع "صاحبة الامر والنهي" في بغداد فقاومت كل معارضة للدولة وللنظام الحاكم.
أضطر الاسماعيليون الى الانسحاب الى الجبال والبلاد النائية حيث تمكنوا من الحفاظ على مبادئهم الاشتراكية وأنظمتهم الاجتماعية. أما الصليبيون، العدو الجديد القادم من الغرب، فقد داهموا الاسماعيليين بعد أن إنتهى اولئك من قتال الاتراك وزادوا من ضعفهم.
زادت هذه العوامل من ضعف الاسماعيليين فتشتت أولاد إسماعيل في شمال فارس والعراق وسوريا ثم رحلوا الى بلاد الهند وشمال أفريقيا. وقد إضطروا الى التخفي والعمل بالسر هروباً من عيون بني عباس التي كانت تلاحقهم، فسكنوا المدن البعيدة والصغيرة وأرسلوا دعاتهم الى أطراف الدولة العباسبة ليبثوا دعوتهم وتعاليمهم الدينية والاجتماعية التي أخذت رويداً رويداً تختلف عن الدين الاسلامي بل عن الدين كله واصبحت مع الزمن ديناً قائماً بذاته.
التهم ضد الاسماعيلية
وجهت الى الحركة الاسماعيلية تهم وأكاذيب كثيرة، منها الالحاد والاباحية وإرتكاب الجرائم والمحرمات والتعصب للقومية الفارسية وإستخدام كافة الوسائل للوصول الى الغاية المنشودة. كما اتهمهم بعضهم بانهم يسعون الى بناء دولة اممية شيوعية على أنقاض الدولة العباسية تكون مؤسسة على مساواة جميع الامم في الحقوق وعلى دين العقل السليم.
أما كتب الاسماعيلية النادرة وأخبار الجماعات الدينية والاجتماعية التي خرجت من أحضان الاسماعيلية (مثل القرامطة والفاطميين والحشاشين والدروز والزيدية في اليمن)، فلا تتفق مع هذه التهم وخصوصاً ما قيل في آدابهم وأخلاقهم بل إن العكس هو الاقرب الى الحقيقة.
يرد جوزي على التهم التي وجهت للاسماعيلية ومنها قتل الافراد الذي عرف عن الحشاشين وهي فئة صغيرة كان لها صلة قرابة بالاسماعيلية وعرفت بالتطرف، ويعلل هذه التصرفات على أنها كانت ردود فعل لما عانته الاسماعيلية من الحقد والبغض حيث إعتبرها الكثيرون خارجة عن الامة الاسلامية وحللوا دماء أعضائها. إلا أن المؤلف لا ينكر ان هناك حالات من الدفاع عن النفس ولكنه يؤكد ان ألآلاف من الاسماعيليين "ذهبوا ضحايا هذا التعصب الاعمي وذلك البغض الفظيع" (ص 155).
القرامطة
سال أحدهم يوماً قرمطياً عن أسباب إنتصاراتهم رغم قلة عددهم، فاجابه القرمطي:
"لانّا نطلب نجاتنا في الثبات وأنتم تطلبونه في الهرب"
تميزت القرامطة عن الاسماعيلية بانهم كانوا يشتغلون بين العرب وإخوانهم أنباط العراق وسوريا والجزيرة العربية، كما اختلفوا ببعض الامور الثانوية لا المبدئية، مما يفسر، حسب إعتقاد جوزي، لماذا كان القرامطة العرب أقل تطرقاً الى المسائل الدينية والادبية من إسماعيلية الفرس وكيف أن بعض عادات الفرس لم تكن معروفة لديهم. وعليه، يؤكد المؤلف ان قرامطة البحرين والعراق لم يكونوا يختلفون عن سائر الاسماعيلية في المسائل الاساسية من برنامجهم.
كانت مدينة واس (الواقعة بين الكوفة والبصرة) مركز القرامطة. وكان أكثر سكانها خليطاً من العرب والنبط والسودان الذين إستحضروا من أفريقيا للعمل في الاراضي تحت ظروف تشبه العبودية. وقد عرفت الحركة باسم "حماد القرمطي"، إلا أن أغلب الظن أن الحركة قد اسست قبله أو أن دعاة الاسماعيلية قد زاروا تلك المنطقة قبله وأقاموا فيها فترة طويلة رغم أنهم لم يتركوا اثراً بيناً.
بنى حماد القرمطي مركزاً للاسماعيلية قرب الكوفة أسماه "دار الهجرة" حيث كان يعقد اجتماعاته في أوقات محددة حيث كان يقيم النظر والجدل في الاحوال الاقتصادية والاجتماعية، كما كان يبلغ مناصريه ما يصله من زعيم الاسماعيلية "إمام الزمان".
لقيت دعوة حماد إقبالا كبيراً وأقام لها نظاماً يضبط أعمالها ودستورا يكون لديهم المرجعية. وقد إشترط نظامهم على:
1) دفع رسم عضوية سنوية بلغ ديناراً واحداً.
2) دفع ضريبة عرفت "بالفطر" وقيمتها درهم يؤدية كل الاسماعيليين دون إستثناء.
3) دفع ضريبة ثانية تعرف ب"الهجرة" ومقدارها دينار يدفعه كل بالغ وبالغة لسد حاجات "دار الهجرة".
لم يواجه حماد آية مقاومة لنظام ضرائبه هذا، إلا انه لم يكتف به فامر أهل القرى التي إتبعت دينه ان يحضروا الى مكان واحد كل ما يملكونه (أثاث وحلى وثياب ومأكولات ومال) حتى لم يعد أحد يملك سوى "سيفه وسلاحه". فعندما فعلوا، أمر بجعل هذه الممتلكات مشاعاً بين الاعضاء فتم توزيعه على "المحتاجين من القرامطة حتى لم يبقى بينهم فقير" (ص 163).
أخذت دعوة القرامطة تزداد إنتشاراً في سائر البلدان العربية المجاورة حتى بلغت جنوب الجزيرة العربية وتكونت لهم خلية في الاحسا من بلاد البحرين التي أصبحت بعد فترة وجيزة أهم مراكز الاسماعيلية. كما أخذت "خلاياها الباطنية" تنمو حتى عمّت أكثر البلاد العربية. وكانت هذه الخلايا تعمل تحت "مراقبة دعاة محنكين مدربين". ومما يجدر ذكره أن جماعة كبيرة من "الطبقات العالية" أقبلت على هذه الحركة وكانت القرامطة تعتمدهم عند الملمات كما كانوا عيوناً لها على حكومة بغداد التي لم تكن تعرف من أمر القرامطة إلا اليسير.
خرجت الاسماعيلية من خفائها عام 891م، وحاولت القرامطة عام 897م للمرة الاولى تنفيذ برنامجها الاشتراكي فلم توفق، ثم عاودت الكرة كلما سنحت لها الفرصة (عام 890 و891 و892) وخاضت المعركة تلو الاخرة مع عدوها في الاقاليم البعيدة عن العاصمة العباسية ولم تنجح حيث كان عدوها أقوى. وبعد وفاة الخليفة المعتضد (عام 892)، والذي بقي يقاوم الحركة الاسماعيلية، خلفه رجل ضعيف الارادة، فاستفاد زعماء الحركة الشيوعية من ضعفه فهاجموا خصمهم حتى عجزت السلطة المركزية عن إخماد ثوراتهم، فأنشأوا إمارات وممالك مستقلة منسلخة عن الخلافة العباسية.
جمهورية القرامطة
نجحت القرامطة في إقامة جمهورية لها على شواطىء الخليج العربي عرفت ب"جمهورية القرامطة". فقد إستطاع ابو سعيد الجنابي، احد دعاتهم الذين كانوا يعملون تحت مراقبة حماد القرمطي والذي كان قد أرسله داعياً الى البحرين، أن يكسب تأييد سكان تلك المقاطعة ومؤاخاتهم، فإتسع نفوذه حتى تمكن من بسط سيطرته الكاملة على ذلك الاقليم عام 900 وضمه الى "جمهوريته الشيوعية" وشرع بالزحف نحو البصرة. وفي عام 903م إستولى ابو سعيد على مدينة حجر، عاصمة البحرين، ثم زحف الى اليمامة فضمها الى عُمان واستولى على قسم كبير منها ومن الجزر التابعة لها. ولولا المنية التي وافته عام 914م لكان ضم غيرها من البلاد العربية في جمهورية إشتراكية كبيرة.
غزوة مكة
غزت القرامطة مكةَ على أيدي أبي طاهر عام 930م وقضت فيها إثني عشر يوماً قتلوا خلالها الكثير من أهلها وحجاجها ونهبوا الكثير من أموالها. ويعتقد جوزي ان الغرض من غزوة مكة كان الانتقام لدعاة القرامطة الذين قتلهم أمير الامراء سنة 929م. أما الغرض الثاني فكان الحط من قدر الخليفة وهيبته وإشغال جيشه عما كان يجري في شمال أفريقيا حيث أخذ "إمام الزمان" الاسماعيلي ينزع تلك البلاد من أيدي خلفاء بغداد وتأسيس دولة مستقلة عرفت بالفاطمية. وعليه، فاسباب غزوة مكة، كما يرى المؤلف، لم تكن السلب والقتل بل كانت سياسية وعسكرية. "...ولاسباب لا نعلمها"، يقول جوزي، لم يفكر القائد القرمطي ابو طاهر الذي إستولى على البصرة أن يغزو عاصمة الخلافة بجيشه الصغير فولى راجعاً الى بلاده.
وفاة أبي طاهر
توفي أبو طاهر عام 943م، إلاّ أن السجال والقتال بين الحكومة العباسية والقرامطة إستمر نحو نصف قرن. ويرجّح المؤلف أن القرامطة عدلوا عن الغزوات وإكتفوا، بعد ذلك، بما فتحوه من البلاد وأخذوا يشتغلون بالمتاجرة وإلتفتوا الى "إصلاح أحوالهم الداخلية وتعزيز نظامهم الاجتماعي الجديد". وليس هناك من شك بان جمهورية البحرين وصلت حداً عالياً من الرقي في إقتصادها ومعداتها الحربية كما في أخلاقها وآدابها.
نظام الحكم القرمطي
تؤمن القرامطة بالمكانة الروحية والسياسية لخلفائهم حيث كان مؤسسو حركتهم في البحرين يدعون الناس للانضمام الى مذهبهم باسم "إمام الزمان المحجوب" ثم باسم الخلفاء الفاطميين، بعد أن ظهرت دولتهم وأخذوا يجمعون الضرائب والزكاة باسمهم ويساعدوهم في حروبهم مع الخلفاء العباسيين. إلا ان بُعد المسافة التي فصلت قرامطة البحرين عن إمامهم منحهم نوعاً من الاستقلال الداخلي (أو الحكم الذاتي) والذي كان أقرب الى الحكم الجمهوري او الشورى منه الى تسلط الفرد.
كان أفراد من عائلة أبي طاهر الجنابي والمقربون منها يرأسون الحكومة ولم يكونو ليمتازوا عن غيرهم من الوزراء أو أعضاء المجلس الاداري المعروف عندهم ب"العقدانية" والذي يملك القوة الحقيقية في التشريع والتنفيذ. كان المجلس يتشكل من وزراء ستة يختارهم الشعب من أسرة أبي طاهر وأعوانه وأصحاب الثقة والدرجات العليا في الحزب. وكان هذا المجلس يقرر أموره بالشورى والوفاق الذي لا يرجع الى الشرطة والقوة الحربية بل يعود الى "النظام الاشتراكي الجديد وثقة الشعب به وبزعمائه" (ص 194).
كانت البحرين والبلدان المجاورة التي فتحها القرامطة مستقلة عن الدولة العباسية في تسيير امورها الداخلية والخارجية. فكانت الخطوة الاولى في إصلاح أحوال البلاد هي إلغاء الضرائب على الاراضي أو التقليل منها. أما الدولة فكانت تفي بحاجاتها من موارد اخرى مثل ضريبة السفن في الخليج العربي وضرائب الغرامة التي كانت تؤديها بعض قرى ومدن العراق والكوفة آنذاك. كانت التجارة، ولا سيما الخارجية منها، في أيدي الحكومة التي كانت تصرف أرباحها على الاعمال العمومية وتحسين أحوال العمال والمزارعين "فلم نسمع ولم نقرأ شيئاً يستفاد منه وجود طبقة من الناس تعمل على قتل النظام الجديد أو إسقاط الحكومة التي أوجدته ومشت عليه" (ص 200). وكانت الحكومة القرمطية ترسل سنوياً جزءاً من أموال خزينتها الى "خزينة الإمام"، وقسم آخر كان ينفق على سد تكاليف "دار الهجرة" (أي الحكومة) واسرة أبي طاهر، في حين كانت الحكومة تنفق الجزء الأكبر على الاشغال والمصالح العامة من أجل تحسين أحوال المزارعين والعمال وشراء الاراضي وتوزيعها على المحتاجين.
اما فيما يتعلق بملكية الاراضي، فان المؤلف يرجح ان القرامطة لم تتعرض لنزع الاراضي من إصحابها إما لان أكثرها كان مشاعاً بين المزارعين أو لانه لم يكن في البحرين آنذاك مشكلة اراضي بسبب وفرتها، وإما لان الحكومة كانت "تبتاع على حسابها ما تحتاج من الاراضي لتوزعه على الفلاحين الذين لم تكن لهم أراضي". عدا ذلك، فقد سادت "الصبغة الشيوعية" على أركان الحياة الاجتماعية وظواهرها وحرصت الحكومة القرمطية على نشر وتأييد هذه الصبغة. ويجزم المؤلف ان هذه الصبغة، رغم ما طرأ من تغيير على نظام القرامطة الداخلي، ظلت ظاهرة في البلاد الى أن حلّ القرن الخامس عشر وبعد ذلك، "فلم يبق في البلاد فقير" (ص 199).
أدت العوامل الخارجية (الحروب المستمرة مع الدولة العباسية) والداخلية (إنقسامات وخلافات في بيت أبي الطاهر) الى أضعاف قوة القرامطة. إلا انه يستفاد مما كتبه المؤرخون ان النظام الاشتراكي كان لا يزال قائماً في أواسط القرن الحادي عشر كما كانت حالة البلاد حسنة و"التجارة رائجة بفضل إحتكار الدولة لها وسياستها الاقتصادية العادلة". وما زال أتباع القرامطة ومذهب الاسماعيلية كثيرون، إلا أنهم "فقدوا أكثر مبادئهم الاجتماعية والسياسية وأضاعوا نظامهم الاشتراكي" وربما لم يتبقى منهم سوى "نحلة دينية سلمية جمدت وتحجرت منذ أجيال فلا تكاد تبدي حركة .." (ص 217).
خمسة قرون من الاشتراكية
دامت الدولة القرمطية، "الجمهورية العربية الاشتراكية في البحرين"، قروناً خمسة رغم الصعوبات التي أحاطت بها والخصوم التي عملوا على تدميرها. ولم يكن ليتسنى لها هذا لو إقتصر الامر على دعائم إقتصادية وإجتماعية بل لا بد أنها قامت على أسس أخلاقية وأدبية حظيت بتأييد الجماعات والافراد. وقد دللت على ذلك كتابات العديد من المؤرخين والكتاب والسياح الذين زاروا البلاد وأقاموا بين القرامطة ودرسوا نظام حياتهم.
الدين عند القرامطة
إذا قصدنا بالدين وشعائره مما ألفه الشعب البسيط، فلم يكن للقرامطة شعائر دينية تذكر رغم إستخدام زعمائهم بعض المفردات والمصطلحات المتداولة بين أصحاب الدين. فهم، كالاسماعيليين، كانوا بعيدين عن الدين وشعائره الخارجية إذ ان "دينهم الحقيقي هو مطلبهم الاجتماعي الذي كانوا يعبدونه ويؤمنون بوجوب تحقيقه إيماناً قوياً يحيون لاجله ويموتون عليه" (ص 207).
إلا ان جوزي لا ينكر انه كان للقرامطة بعض العقائد الدينية مثل تجسد الله الدوري أو تجسم العقل الاول في أئمتهم أو المهديين الذين اوكل اليهم امر "تحقيق المطلب الاكبر الاشتراكي"، وعليه يرى الكاتب ان "ديانة القرامطة لم تكن في الحقيقة إلاّ عبارة عن عبادة العقل السليم او العقل الاعلى. ولهذا لم يكن عندهم شعائر أو طقوس دينية "ولا كانت لهم حاجة اليها" (ص 208). ومع ذلك لم يكونوا يمنعون المسلمين من بناء المساجد وإقامة الصلاة وغيرها من شعائر الدين.
وبناءً عليه، لم يكن من الصعب على القرامطة بعد ان نبذوا الديانات التاريخية، "ان ينبذوا أيضاً كل ما تستند اليه كل هذه الاديان من الحدود والسنن المتعلقة بالاكل والشرب واللبس..الخ وأن يقولوا بتحليل كل ما ليس منه ضرر على الصحة ولا يحول دون تتميم الواجب والحصول على السعادة في هذه الدينا لا في العالم الآخر".
العلاقة مع الفاطميين
كان للقرامطة علاقة ودية بالفاطميين. فكانوا يساندون الدولة الفاطمية بالمال والرجال لانهم كانوا يعتقدون ان مؤسس الدولة الفاطمية عبيد الله هو حقيقة "إمام الزمان و"المهدي" المنتظر و"آخر إنسان تجسم فيه العقل الاعلى"، أي أنه كان الانسان التي طالما إنتظره القرامطة وسائر الفرق الاسماعيلية. إلاّ انهم أخذوا يدركون مع الزمن أن مؤسس هذه الدولة كاذب ومحتال فقاطعوه وحاربوه حروباُ كلفت الفاطميين ضحايا لا حصر لها مما اضطر الخلفاء الفاطميين الى بناء قلعة القاهرة عاصمة مصر اليوم (بين عامي 371 و 385) للدفاع عن عاصمتهم المعروفة سابقاً ب"الفسطاط" (ص 204).
ماذا تبقى من الاسماعيلية؟
حال ظهور الاتراك والمغول (إبتداءً من القرن التاسع الى اواسط الخامس عشر)، ومجيء الصليبيين، وما وقع بين الفاطميين والقرامطة من خلاف ناتج عن تباين في بعض المبادئ والاهداف، إضافة الى خلافات داخلية بين القرامطة إنفسهم، حالت كل هذه العوامل دون الانجاز الكامل لبرنامج القرامطة الاشتراكي مع أن قسماً كبيرا من هذا البرنامج قد تحقق. إلاّ أن تأثير الاسماعيلية في الاسلام كان كبيراً، ولا يظن المؤلف "أن دعوة أو حركة عقلية اخرى تركت في تاريخ الاسلام وعقول وحياة أبنائه من الآثار العميقة وكان لها من النتائج العملية مثلما كان للحركة الاسماعيلية" رغم أن قسماً مما زرعته الاسماعيلية "بقي الى هذا اليوم مشوهاً محرفاً في تعاليم الفرق الاسماعيلية" (ص 219 و220).
كانت فكرة التضامن بين الطبقات والدفاع عن حقوقها الاقتصادية والاجتماعية من أهم ما تركته الاسماعيلة ومن أهم مميزات "الاخويات" والطرائق الصوفية والدرويشية التي كان الشرق أول من مهد السبيل الى ظهورها. ينسب المؤلف الي الاسماعيلية نشوء الكثير من الحركات التي تعامل كافة أعضائها بالتساوي في الحقوق والواجبات "ومعاملة بعضهم بعضاً معاملة الاخ لاخيه". ولهذا أطلق على مثل هذه الحركات اسم "إخوان" الذي ما زال يستعمل في يومنا هذا لدى العديد من الجمعيات والحركات السياسية والاجتماعية. ويرجح أن أول "حلقة أخوية" ظهرت بين القرامطة كانت حلقة "إخوان الصفا" التي تأسست في النصف الثاني من القرن العاشر وكانت حلقة علمية سرية لم يعرف سوى القليل عن هوية أعضائها وأغراضهم ومكان إقامتهم مما ورد في "رسائلهم" والتي شكّلت الانسكلوبيدية العلمية الاولى من نوعها والتي يرجح ان المساهمين في كتابتها كانوا من القرامطة الذين أسسوا هذه "الحلقة الاخوية" في البصرة لنشر المبادئ الاسماعيلية والسعي وراء تحقيقها بالطرق السلمية العقلية.
إلاّ ان المؤلف يحذرنا من انه لا يجوز أن نستنتج من أبحاثه ان الافكار والحركات الاسماعيلية والقرمطية وتأثيرها على نقابات المحترفين والجمعيات الخيرية وطرق الدراويش وغيرها، "كانت دوماً مصدر الحركات الحرة في الاسلام"، كما أنه لا ينكر "أن زوايا كثيرة من زوايا الدراويش كانت مبعثاً للحركات الرجعية والتعصب الديني الاعمي وآلة لاستغلال عواطف جماهير الناس الدينية الطيبة". "وكم من حركة إبتدأت باسم الله وبركاته...إلا انها تحولت بعد وفاة مؤسيسها الى بدعة دينية أو اخوية أدبية بسيطة ذات صبغة رجعية وبرنامج أجتماعي ضعيف".
يلفت الكتاب النظر الى تأثير القرمطية ومبادئها وأنظمتها على الحركات الاوروبية وهيئاتها الاجتماعية، كما يشير الى أن الحروب الصليبية ساهمت في حمل المعلومات من بلادنا الى اوروبا والتي أثرت بدورها في حركات التجديد في ايطاليا وما جاورها وفي الاكتشافات والعلوم الحديثة.
(2)
آفاق للحوار
تفتح قراءة هذا الكتاب على آفاقٍ رحبة للحوار في العديد القضايا والاشكاليات، نكتفي بتقديم بعض الإضاءات المتواضعة لعناوينها الرئيسية.
راهنية التراث والموقف منه
ماذا نقصد بالتراث؟
لعل أهم ما يثيره الكتاب هو السؤال حول معنى التراث وكيف نقرأه. وهنا يلمح القارئ إنحياز المؤلف بوضوح الى التراث بمعناه الاشمل: ما تم إنجازه في مختلف أشكال التعبير )الفكري والادبي والفني) بما فيها أشكال التراث الشعبي (المدون منه والشفوي) لكونه بعداً أساسياً من أبعاد ملامحنا القومية والثقافية. ومن هنا فان هذا النهج يؤسس لفهم راديكالي للتراث الذي يصبح المخزون الشعبي الجمعي للجماهير والاغلبية الشعبية من حيث هي صانعة التاريخ وحاملة المجتمع بخصوصياته وهمومه وآماله وآلامه.
وإتساقاً مع هذا المفهوم ينأى المؤلف عن "القراءة النصوصية" للتراث ليقدم قراءة له من خلال الظروف الاجتماعية التي ولد فيها. فكما أن التراث ملك للناس العاديين، فان عملية نقده وتقييمه هي الاخرى ملك لهم وليست حكراً على نخبة أو شريحة معينة من المجتمع، ويقتضي هذا ضرورة نشر التراث والتعريف به، أولاً، ثم إشراك الجماهير الشعبية في عملية النقد والتقييم ثانياً.
التراث والموقف منه
بناءً على هذا الفهم للتراث، يصبح الموقف منه عنصراً من الموقف العام والفهم النقدي للواقع وللعصر، مما يعني ان موقفنا من التراث يضعنا في قلب المعركة النهضوية المحتدمة في بلادنا (بأبعادها القومية والتحريرية والتنموية وأشكالياتها في الديمقراطية والحداثة والتحديث والاصالة والاصولية والعلمانية وغيرها من عناوين السجال القائم). ومن هنا، يتوجب على أي مشروع نهضوي أن يحسم مسالة الموقف من التراث وأن يزيل الفصل بين هذا الموقف، من جهة، والموقف من المرحلة من جهة اخرى.
القراءات المتعددة للتراث
هنا ربما تكمن أهم العبر التي يكتنزها كتاب بندلي جوزي: فاذا كان التراث لا يتكرر من حيث كونه موروثاً، إلا أن لهذا التراث قراءات متعددة تبعاً للنظم الفكرية ومناهج تحليل الاوضاع الاجتماعية ـ الاقتصادية وتبعاً لسياق الحقبة التاريخية، رغم إحتفاظ هذه القراءات أحياناً ببعض العناصر المشتركة.
ومن هذا المنطلق يمكننا القول بان مواقفنا من التراث العربي ـ الاسلامي قد تاهت على مدار العقود الماضية بين المفاهيم السلفية التي إستخدمت نهج التقديس والتقليد الاعمي؛ من ناحية، ونهج الرفض والاستهانة والاستخفاف من ناحية ثانية، إضافة الى العديد من المواقف الانتهازية والانتقائية والتجزيئية التي توزعت تبعاً للنظم الفكرية والمصالح الآنية والذاتية. وفي هذا المتاه ضاع التراث وفقد الكثير من قيمته ودوره.
وعليه، يشدنا جوزي من خلال منهجه الى قراءة موضوعية للتراث في سياق ظروفه وأوضاعه، قراءة تستند الى:
1) فهم الواقع فهماً نقدياً وشمولياً بهدف التأسيس لوعي نقدي (انظر لاحقاً).
2) دراسة الثرات والفكر والثقافة والمعرفة (مصادر الوعي) والبحث عن السمات الثورية فيها وفي الحركات الاجتماعية التي أدت الى تراكمات ثورية في مراحل هامة من تاريخنا.
3) الانطلاق في هذا كله من مصالح الناس والجماهير، مما يستدعي تشخيصاً دقيقاً لهذه المصالح ومن ثم صياغة برامج لتحقيقها، اي تحديد موقف من الجماهير والطبقات الشعبية ومصالحها. وبهذا يتم وضع التراث بين أيدي الجماهير العريضة ويكون ملكاً لها، بحيث تستند موافقها الى وعيها بحقائق الواقع وتقوم نضالاتها على المشاركة الفعّالة لهذه الجماهير، مما ينفي عن التراث سمة النخبوية الثقافية والسياسية.
التراث وصياغة الوعي الثوري
في السياق ذاته، فان فهم التراث، من منظور الوعي الشعبي، يشكل شرطاً لتأسيس وعي وفكر نقدي، مما يتطلب بدوره تحليل التراث بنهج مادي تاريخي ذي أفق تقدمي ملتحم بحركة الواقع المعاصر، من ناحية، ويتفادى إسقاط مفاهيمنا المعاصرة (أي تلك المستحضرة من وضع تاريخي مغاير) على التراث، من ناحية ثانية.
وعليه، فبدون فهم دقيق للواقع، لن يتسنى بناء القوى التاريخية الساعية للتغيير. واذا فشلنا في الفهم "والتفسير"، فسوف نفشل في "التغيير". واذا عجزنا عن الإصغاء للواقع المادي والموضوعي وأمعنا في التعامل معه من باب الاستخفاف والاحتقار أو التفكير بعقل مستعار، فاننا سنصل، كما حصل في ماضينا غير البعيد، الى حلول واجوبة معلبة ومستعارة لمعضلات الواقع وأسئلته. وهنا تكمن مهمة اليسار: فلا المواقف السلفية ولا تلك الاستخفافية قادرة على إنتاج وعي نقدي علمي ولا على الاعداد للنهوض والثورة والتغيير لانها تفتقر أساساً الى الحاملة الاجتماعية (الطبقات الشعبية) لانجاز مشروع التغيير.
التراث، شكل من أشكال المقاومة
إذا كان تاريخ الشعوب وتجاربها مرشدنا، وهو كذلك، فإن مستقبل شعوبنا وهويتنا، مرهون بالمقاومة: مقاومة كافة أشكال الهيمنة الخارجية (الاجنبية) والداخلية (أنظمة وبنى الكومبرادور القطرية المرتبطة ب والعميلة للنظام الراسمالي العالمي).
وتفادياً للدخول في إشكاليات الاطار التنظيمي لهذه المقاومة (الحزب، التنظيم الثوري، الحركة السياسية ...وغيرها)، والتي تقع خارج موضوع هذه المقالة، نكتفي بالاشارة الى مسألتين أساسيتين:
1) أن إطار (اطر) المقاومة (التنظيم السياسي الجماهيري الثوري) هو أرقى أشكال التجسيد المادي والعملي للفكر الثوري، وهو مدرسة الوعي الثوري والوعاء الذي تتفاعل فيه الخبرات الجماهيرية الحية. وبهذا المعنى فهو، في الآن ذاته، وسيلة تنظيم فعل الجماهير وتنشيط حركتها وضبط إيقاعها وإطلاق العنان لابداعها. وعليه، فالتنظيم يسلح الجماهير بالوعي الذي يرشد خطاها، وهو في الوقت ذاته، الحصن الواقي لانجازاتها.
2) ان بناء هذا التنظيم الثوري لن يتسنى دون دون خلق الوعي الثوري والنقدي.
ستضيع الجهود هباءً ما لم تحسم هاتان المسألتان، لان قوى رأس المال المعولم والامبريالية وقوى اليمين والرجعية والكومبرادور المحلية ستدمر كل الجهود الساعية الى المقاومة والصمود والتغيير ناهيك عن عوامل التخلف التي ستنخرنا من الداخل.
التراث في سياق الردة السلفية
لماذا العودة الى التراث؟
نعيش في زمن يعج بالردات السلفية (والتكفيرية) وتخفت فيه أصوات اليسار وقوى التقدم والتغيير. وفي بيئة كهذه تسود المفاهيم الغيبية والمثالية، ويعلو الصخب وتعم الفوضى، فليس هناك من يصغي ولا من حوار سوى حوار الطرشان.
إلا أننا نعيش أيضاً في مرحلة هيمن فيها فكر الحركات الاصولية وعقيدتها على قطاعات كبيرة من الناس العاديين والطبقات الشعبية حيث سخرت هذه الحركات الدين ومؤسسته لخدمة غاياتها ونهجها. بالمقابل، نجد أن اليسار، قد أغفل التراث العربي ـ الاسلامي وعجز عن توعية الجماهير بفهم نقدي وعصري له، كما أخفق في إضاءة الابعاد والقيم الثورية فيه،. فكانت النتيجة خسارة مضاعفة: إغفال التراث، أولاً، وإغفال إمتداده لحاضرنا ثانياً أي إغفال التناول النقدي الخلاّق لذلك الماضي، أو كما اسماه د. فيصل درّاج، "فقدان التلاقي النقدي الخلاّق لنقد عصري لهذا التراث".
إلاً أن المفارقة الاهم تكمن في تناقض آخر: إذ بينما تتمسك بعض الحركات والاحزاب الاسلامية بالمقاومة وتزداد إدراكاً لقضايا الناس وهمومها وإقتراباً من تفهم المسائل الاجتماعية والوطنية والقومية ، نشهد اليسار وقد أدار ظهره لمهمته التاريخية، أي الدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية وصونها، وتخارجت أجزاء كبيرة منه مع الاجنبي وعملت في خدمته، فيما أضحت اجزاء اخرى مشلولة عاجزة لا تبدي حراكاً ولا مقاومةً.
الردة الدينية: ظاهرة "عالمية"
ليست الردة الدينية حكراً على منطقتنا ومجتمعاتنا ، بل هي ظاهرة "عالمية" تشمل أديان ومجتمعات وأجزاء أخرى من العالم بما فيه الغرب وفي القلب منه الولايات المتحدة الاميركية. وهي بهذا المعنى إحدى سمات المرحلة التي نعيشها تجلت سياسياً في صعود وهيمنة رأس المال المتوحش وشراسة اليمين الرجعي في تلك البلدان.
الردة وغياب الفكر الاشتراكي
في هذا السياق نشير بشكل عاجل الى قضية تحتاج الى نقاش واسع، وهي أن إنهيارالقطب الاشتراكي لم يكن إنهياراً سياسياً وإقتصادياً فحسب، بل، وربما هذا هو الاهم والأخطر، جرّ معه وفي حصيلتة آثاراً إجتماعية وثقافية وخيمة تمثلت في تراجع الفكر والقيم الاشتراكية الى الصفوف الخلفية في الوعي والمجتمع والثقافة. وقد وفر هذا "الفراغ" الحيز لعودة الفكر الغيبي والديني بحضوره الثقيل بعد أن كانت الانسانية قد خططت الى الامام، بفضل الفكر والتجربة الاشتراكية، خطوات كبيرة وأحرزت قفزات نوعية متقدمة نحو دحر المفاهيم المثالية والغيبية.
الدين ليس محور المشروع النهضوي العربي
على خلاف الاعتقاد السائد وما يبشر به الخطاب السلفي، فان الكتاب يؤكد أن الدين لم يكن القضية المركزية في المشروع النهضوي العربي ونضالاته، بل كانت المقاومة. وعلى مدى قرنين من الزمن، ظلت المقاومة المحور الاساسي لهذا المشروع: مقاومة الغازي والمحتل الاجنبي ومقاومة الاستبداد المحلي والظلم والاستغلال بكافة أشكاله الاجتماعية والاقتصادية (الطبقية). هذا لا ينفي بالطبع أن الاسلام شكل عنصراً أساسياً في هذه المشاريع كما انه لا ينفي الابعاد الدينية والثقافية والحضارية في الخطاب النهضوي والتنويري العربي منذ القرن التاسع عشر، وليس هناك من حاجة أو نية للتنكر لهذه الابعاد.
وتتجلى لنا حقيقة المقاومة هذه في رحلة بندلي جوزي عبر الحركات الثورية والاشتراكية وبرامجها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ظهرت في حقبة ظهور الاسلام والفتح الاسلامي. إلاّ أننا نستطيع أيضاً وبدون مشقة الوصول الى الاستنتاج ذاته بالعودة الى تاريخنا الحديث. فلو عدنا الى بوادر الاصلاح الاسلامي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر (دعوات جمال الدين الافغاني وتلميذه محمد عبده ومحمد رشيد رضا وكتابات عبد الرحمن الكواكبي وغيرهم)، لوجدنا ان القضية المحورية كانت القضاء على الاستعمار والاستغلال والاستبداد وليس الدين. كما ان نضال الشعوب العربية يشهد على الامر ذاته سواء في العقود الاولى من القرن العشرين أو عبر مرحلة النهوض القومي (خمسينات وستينات القرن الماضي 1952-1967) حين تصدرت واجة الكفاح قضايا النضال من أجل الاستقلال الوطني والتحرير والتحرر والنضال القومي والتنموي وبقيت المسألة الدينية في الصفوف الخلفية. ورغم قيام حركات تدعو الى تأسيس المجتمع الإسلامي حيث يطبق الإسلام كعقيدة وشريعة ونظام، فقد ظلت هذه جهوداً فكرية وسياسية وتنظيمية، فقد بقي خطر الاستعمار الغربي وإستهدافه للوطن هو الخطر الاكبر والرابط بين هذه الدعوات والافكار، الى ان أقام الامام الخميني اول تجسيد مادي لنظام سياسي اسلامي في التاريخ المعاصر.
التراث ومسؤولية اليسار
لقد قيل الكثير في تصاعد المد الديني والسلفي في بلادنا وفي العالم، إلا ان المسألة المركزية التي تعنينا هنا، هي مهمة اليسار العربي ودوره (بكافة فصائله وتياراته) حيال الخيار الوحيد الماثل أمام شعوبنا، خيار المقاومة.
إلا أن هذا لن يتسنى دون مراجعة نقدية لمسؤولية اليسار في تراجع المشروع النهضوي. ولعل الاستخفاف بالتراث، والشعبي منه خاصة، كان من أكبر مواطن الضعف في رؤى هذا اليسار وقواه عبر القرن العشرين، مما يفضي بنا الى النقاش الاوسع: كيف ساهم نهج اليسار العربي (بكافة قواه وفصائله) في فهم الواقع الاجتماعي ـ الاقتصادي في بلادنا؟ ومن ثم، كيف ساهم في الفشل الذي نعيشة، كما نعيش آثاره، اليوم؟
ملحق
بندلي جوزي في سطور
• ولد بندلي جوزي في القدس عام 1871، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدارسها ثم التحق بمدرسة كفتين الارثوذكسية قرب طرابلس الشام. أرسل في بعثة الى روسيا سنة 1891 لدارسة اللاهوت لكنه عدل عن ذلك بعد دراسته ثلاث سنوات، والتحق بجامعة قازان ونال درجة الماجستير في موضوعه المعتزلة والبحث الكلامي التاريخي في الاسلام.
• تولى مواقع أكاديمية عديدة في أذربيجان وروسيا حيث درّس اللغة العريبة وادابها وتاريخ الشرق الاسلامي.
• زار فلسطين ثلاث مرات: الاولى سنة 1908، والثانية سنة 1927 والثالثة 1930. وألقي خلال الزيارتين الاخيرتين محاضرات في تاريخ الحركات الفكرية عند العرب المسلمين والعلوم الاجتماعية الفلسفية.
• عاد ليقيم في القدس لكن السلطات التركية اجبرته على المغادرة سنة 1900.
• توفى في يناير 1942 في مدينة باكو في الاتحاد السوفيتي ودفن فيها.
• منح اسمه وسام القدس للثقافة في سنة 1990.
• كان يكتب في كبريات المجلات العربية كالمقتطف والهلال والنفائس العصرية.
• كان يجيد السريانية والعبرية واليونانية والفرنسية والالمانية والانجليزية والروسية.
• من أهم اعماله:
ـ تاج العروس في معرفة لغة الروس (جزآن)
ـ المعتزلة والبحث الكلامي والتاريخي في الاسلام (نال به درجة الماجستير).
ـ من تاريخ الحركات الفكرية في الاسلام (صدر في القدس عام 1928 ونال به درجة الدكتوراة).
ـ جبل لبنان تاريخه وحالته الحاضرة
ـ علم الاصول عند الاسلام
ـ القاموس الروسي العربي جزآن
ـ مبادئ اللغة الروسية لاولاد العرب (جزآن)
ـ وغيرها العديد من الدراسات في اللغة والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي عند العرب، اضافة الى 26 كتابا باللغة الروسية، كما ترك 9 مخطوطات بالروسية ومخطوطتين بالعربية.
المؤلف: بندلي جوزي.
كتب المقدمة: حسن مروّة.
الناشران: الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين ودار الجليل، بيروت.
سنة النشر: الطبعة الثالثة، 1982 (صدرت الطبعة الاولى في القدس عام 1928).
يأخذنا هذا الكتاب الى القرون الاولى التي تلت مجيء الاسلام ويعود بنا الى ثمانية عقود خلت حين أخذ بندلي جوزي (انظر الملحق) ينشر أبحاثه في الحركات الفكرية الاسلامية. إلا أن هذه العودة لا تعني، بالضرورة، عودةً الى الوراء. فالمسألة التي يتناولها الكتاب، ذات راهنية وحضور بالغين في كافة جوانب حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية.
بالاضافة الى فصول الكتاب الخمسة، كتب الدكتور حسين مروّة مقدمة "هكذا نقرأ بندلي جوزي"، أما المؤلف فقد خص "وحدة النواميس الاجتماعية" موضوعاً لمقدمة الكتاب، في حين تناولت فصول الكتاب أسس الاسلام الاقتصادية، الامبراطورية العربية والامم المغلوبة، حركة بابك وتعاليمه الاشتراكية، الاسماعيلية والقرامطة.
عناصر الريادة في أعمال بندلي جوزي
يرى مروّة أن بندلي جوزي رائد في حقل الدراسات التراثية العربية ـ الاسلامية. فهو رائد من حيث انه عقد "الصلة الدراسية بين المنهج المادي التاريخي والتراث العربي ـ الاسلامي الفكري" (ص 1)، ورسم طريق المنهج البديل الذي يُخرج مسألة التعامل مع التراث من منظور تقديسة ونزعة التشويه البرجوازية ليدخل بها الى رحاب النزعة النقدية للتراث من موقع الاعتزاز به والطموح الى تطويره. ومن هنا كان تحدي جوزي للمنهجين السائدين في عصره: موقف التقديس المطلق للتراث وآخر معادي له. وتتجلي الريادة في أعمال جوزي، حسب ما يرى الدكتور مروّة، إضافة الى سعة الاطلاع على شؤون الثقافة العربية ـ الاسلامية وثقافات ولغات الشعوب في المزايا الرئيسية الثلاث التالية:
1) إقتحام دراسة التراث بقراءة منهجية مادية تاريخية.
2) الانطلاق من وعي علمي بارتباط حركة تطور المجتمع العربي ـ الاسلامي بالقوانين العامة ذاتها التي ترتبط بها حركة المجتمعات البشرية ككل.
3) تعرية المنطلق الفكري للمنهج البرجوازي الغربي في دراسة تراثنا الفكري. (انظر لاحقاً)
من هنا، يصطف الكتاب في طليعة الاعمال التي عمدت الى إبراز النزعات المادية في التراث والفكر العربي ـ الاسلامي التي تم طمسها لقرونٍ عديدة، ودراسة هذه النزعات في إطار الظاهر الفكرية العامة ومن خلال سياقها الاجتماعي ـ التاريخي العام، وهو ما إضطلع به د. حسين مروّة منذ خمسينات القرن المنصرم ورصد في سبيله سنوات طويلة من العمل العلمي والاكاديمي حتى إستشهاده حين إغتالته يد الغدر عام 1987 عن عمر يناهز تسعة وسبعين عاماً.
تراثنا ومؤرخو الغرب
سبق جوزي غيره من الباحثين في تعرية المنطلق الفكري للمنهج البرجوازي الغربي في دراسة تراثنا الفكري "بكونه ينكر شمولية القوانين العامة الموضوعية لحركة تطور المجتمع البشري" (ص 5 ) أي كونه ينكر خضوع المجتمع العربي ـ الاسلامي لتلك القوانين ويفتعل قوانين خاصة لهذا المجتمع "الخاص". وفي سياق كشفه هذا يفضح جوزي الاستنتاجات المعادية للعلم التي تنبني على ذلك الاساس نفسه ولا سيما الاستنتاج العنصري في تصنيف الشعوب وتمييزها عن بعضها لا بالخصائص التاريخية الواقعية بل بالخصائص الفطرية الطبيعية التي تستند الى "إن الطبيعة إختصت بعض الشعوب بالخصائص العالية الممتازة منهم، في حين إختصت الطبيعة شعوباً أخرى بخصائص أدنى شأناً في سلم التطور الحضاري" (ص 5). وبناءً على هذا الاساس الفاشي العنصري تتمايز الشعوب فيتفاضل بعضها ويتدنى بعض آخر.
كما وجد بندلي أن مؤرخي الغرب لتاريخ الامم العربية والاسلامية والشرقية بشكل عام يتسمون بقلة معرفتهم بتاريخ هذه الشعوب، كما أنهم بنوا حكمهم على مستقبل الامم الشرقية مستندين على احوالهم العمرانية والاجتماعية في الماضي القريب. وعليه، أكد جوزي ان "تاريخ الشرق وحياته الاجتماعية وعقلية شعوبه على الاطلاق والشعوب الاسلامية على الاخص تخضع لنفس النواميس والعوامل التي تخضع لها حياة وتاريخ الامم الغربية." فلا فرق ولا تفوق بين الشرق والغرب (ص 16).
أسس الاسلام الاقتصادية
يرى جوزي ان الاسلام، كغيره من الاديان، لم يكن مجرد فكرة دينية بل مسالة إقتصادية وإجتماعية أيضاً. بل لعله "مسألة إقتصادية وإجتماعية أكثر منه فكرة دينية". كما ذهب بعض المستشرقين الى ان "الداعي الى ظهور الحركة الاسلامية هو الدين، إلاّ أن القبائل العربية وسكان مكة والمدينة أقبلوا عليه ودخلوا فيه لاسباب غير دينية" (ص 17 و18).
تميزت أحوال مكة عند مجيء النبي محمد بالسمات التالية:
1) كانت مكة غنية بمركزها التجاري وتوفر الماء فيها، إضافة الى كونها مركزاً دينياً. وقد برع أهلها في التجارة وتراكمت في أيدهم رؤوس أموال كبيرة.
2) إدى توفر المال الى الفساد والربا الفاحش (مما حمل الرسول على تحريمه) الذي تسبب في خراب المستدينين وخلق طبقة من الفقراء العاجزين عن تسديد ديونهم فهربوا الى الصحراء والتحقوا بطبقة المشردين وقطّاع الطرق في حين أصبح بعضهم الآخر عبيداً (طبقة الارقاء).
3) أدى هذا الى الاصطفاف الطبقي وتشكيل طبقتين وإحتدام الصراع بينهما: الاثرياء وأصحاب البنوك وسدنة الكعبة وأصحاب السلطة (الطبقة الارستقراطية)، مقابل طبقة الصعاليك والفقراء والارقاء والمشردين.
هجرة النبي: فاتحة عهد جديد
يجزم المؤلف باننا لا نستطيع ان نحشر النبي، "المصلح المكي" كما يسميه، بين الاشتراكيين او الشيوعيين ولكنه يعتقد ان للعوامل الاجتماعية تأثيراً قوياً على دعوته ووقوفه بجانب الفقراء والصعاليك المظلومين (ص 36).
هاجر النبي الى المدينة (يوم/ليلة 16 تمّوز 623م) بعد أن إستشعر الخطر من الطبقة السائدة في مكة التي رأت في دعوته تهديداً لمصالحها وأموالها وسلطتها. ويرى جوزي ان هذه الهجرة كانت فاتحة عهد جديد في حياته وحياة الاسلام على الاطلاق، إذ أصبح الرسول "سيد قومه وزعيم عشيرته ورئيس مملكة واسعة الاطراف" بعد أن كان "واعظاً بسيطاً مضطهداً ومبشراً سلمياً". وأصبحت البلاد العربية بعد ثمانية أعوام تأتمر بامره فتسنى له ان يحقق الاصلاح الاجتماعي القائم على المبادئ السامية كالعدل والإخاء وتحرير المرأة والارقاء ومحاربة أسباب الشقاء والفقر بين أبناء جلدته في سائر البلدان العربية.
كان من أهم الاصلاحات التي أدخلها الرسول هدم العصبية الجاهلية ومحاولة توثيق عرى المحبة والمساواة والإخاء، تحسين أوضاع الفقراء وفرض "ضريبة إشتراكية" (الزكاة) على الاغنياء لمنفعة الفقراء والصعاليك، تحسين حالة المرأة، منع الربا ومنع وأد البنات وغيرها من القوانين التي تتعلق بالرق.
إلاّ أنه، يقول المؤلف، "لا بد من الاعتراف بان السنن المذكورة مع ما فيها من عناصر الرقي لم تكن لتقتل كل جراثيم الامراض الاجتماعية التي أعلن عليها الحرب المصلح العربي الكبير، وذلك لاسباب عديدة نقتصر على ذكر بعضها" (ص 44). من هذه الاسباب أن النبي لم يقصد إستئصال أسباب الشر الاجتماعي، بل كانت "غايته الكبرى ان يخفف من وطأة تلك الامراض على بعض الطبقات الفقيرة". ولو أراد ان يقتل جراثيم هذه الامراض لكان لجأ الى وسائل اخرى. لقد أجاد النبي في وصف الامراض الاجتماعية العربية وتعدادها أكثر منه في علاجها وإستئصال جراثيمها (ص 44).
كان النبي أول من "تنبه الى استياء الطبقة السفلى في مكة والطائف من حالتها الاقتصادية والاجتماعية وأول من أدرك اسباب هذا الاستياء، إلاّ ان ذلك لم يكن ليحمله على قتل أسباب الاستياء قتلاً قاضياً كأن يمنع التجارة الشخصية ويجعلها كلها تحت مراقبته الحكومة التي أسسها في المدينة، أو أن يمنع الرق منعاً باتاً، أو ينتزع الاراضي من أصحابها ويجعلها ملكاً لمن يعتملها أو يحتكر بقية مصادر الثروة الفردية التي كانت ولا تزال أصل الشرور الاجتماعية، أو يستعمل وسائط اخرى يشير اليها الاشتراكيون في هذا العصر" (ص 45 و 46). فعلى سبيل المثال، أصبحت الاراضي التي إفتتحها المسلمون بعد قليل من الزمن ملك أفراد يتصرفون بها كيف شاؤوا. ويكاد جوزي يجزم أن النبي لم يكن يهدف الى نظام اراضي جديد يمكن ان يطلق عليه ولو على وجه التقريب اسم النظام الاشتراكي أو الشيوعي لان النبي لم يكن إشتراكياً ولا شيوعياً بالمعنى الراهن لهاتين الكلمتين ولا بمعنى آخر لاسباب يرجع أكثرها الى عدم توفر الشروط اللازمة في المدينة آنذاك (سنة 622م) (ص 48).
الامبراطورية العربية وثورة الامم المغلوبة
إزدادت مسألة التوفيق بين مصالح الطبقات المتضادة صعوبة بعد الفتوحات العربية التي أدت الى حالة إجتماعية جديدة ذات علاقات متوترة بين الطبقات في المجتمع والتي ساعدت السياسة الاقتصادية للامبراطورية العربية على زيادة توترها.
إنشغل العرب بالفتوحات الواسعة وتدبيرشؤون الامبراطورية الكبيرة وتدفق الاموال من أرجائها النائية، مما إلهاهم عن التفكير في المسائل الاجتماعية والتي جاءت الحركة الاسلامية أساساً من أجل معالجتها. كما ساهمت هذه العوامل في إنتقال مركز الحركة الفكرية من مكة والمدينة الى غيرها من المدن الكبيرة، ومن العرب الى غيرهم من الامم المقهورة لأن الشروط الضرورية لظهور هذه الحركات (حالة البلاد الاقتصادية والاجتماعية) كانت متوفرة بين الشعوب غير العربية وغير الاسلامية أكثر منها بين الامة العربية.
أسباب ثورة الامم المغلوبة
تعددت الاسباب والعوامل التي أثارت نقمة سكان البلاد على العرب الذين أخذوا يعملون على "تقويض ملكهم ومقاومتهم بالسيف والقلم" كما تشهد على ذلك "الحركة الشعوبية التي إشترك فيها الفارسي والنبطي والقبطي والتركي وغيرهم...". وكان من أهم العوامل التي كانت وراء ثورات هذه الشعوب:
1) نظام الضرائب الذي كان عبئاً ثقيلاً على عاهل الامم المغلوبة.
2) الذل والاهانات التي كانت تعرضت لها تلك الشعوب. ولما لم يكن هناك من سبيل للتخلص من هذا سوى الدخول الى الاسلام، أخذت هذه الشعوب تدخل الاسلام أفواجاً (ص 57).
3) ساهم دخول الاسلام في تحسين الاوضاع المادية والاجتماعية للعمال والفلاحين، إلاّّ أن هذا لم يكن ليساويهم باخوانهم العرب لان "العرب كانت تنظر الى هؤلاء الدخلاء في الدين والقومية العربية بعين الاحتقار خلافاً للمبداً الجميل الذي جاء به النبي وأمر أصحابه باتباعه" أي مبداً المساواة في الحقوق والواجبات والإخاء بين جميع المسلمين على أختلاف قومياتهم وطبقاتهم الاجتماعية وأحوالهم الشخصية (ص58).
عاد الفلاحون الفقراء الى وضعٍ أسوأ ووقعوا في مأزق بين نارين: الدولة الغريبة عنهم من جهة، والطبقة الارستقراطية "المبعوثة حديثاً من قبرها" من جهة اخرى. أي أنه أصبح على الفلاح ان يعمل لسيدين وان يخضع لقهر وإستغلال من مستويين: الدولة المحتلة (والنضال من أجل الاستقلال القومي وإحياء دينهم القديم ولغتهم ..الخ) والطبقات المستغِلة.
أنتفض الشعب الفارسي عدة مرّات (755م، 767، و 778)، تميزت كلها بصبغة دينية، إلاّ أن هذه الصبغة لم تكن سوى حجاباً شفافاً يخفي العوامل السياسية والاقتصادية التي كانت السبب الحقيقي.
4) سوء إستعمال أموال الجباية وتسرب أموال الرعية ولا سيما أهل الذمة الى جيوب المتوظفين وتراكم ثروات كبيرة في أيدي القلة وظهور طبقة جيدة وثرية في المدينة عاصمة المملكة الجديدة.
5) أدى حب بني أمية للاموال الذي ورثوه عن أجدادهم سكّان مكة وحاجتهم الماسة اليها لقضاء مهماتهم السياسية والقيام بالفتوحات الواسعة، الى طلب المال بكل الوسائل أي زيادة الضرائب وجمعها باقسى الطرق من الطبقات الفقيرة (ص 61).
6) نظام الاراضي والذي أطلق الحرية لمن شاء من العرب المسلمين أن يقتني ما شاء من الاراضي خارج جزيرة العرب (بعد أن كان ذلك ممنوعاً أيام أبي بكر وعمر بن الخطّاب)، فتهافت أصحاب الثروة والسلطة من العرب على إمتلاك الاراضي في العراق ومصر وسائر البلاد المعروفة بخصبة تربتها.
7) إستحضار زنوج أفريقيا وإجبارهم على الشغل في مستنقعات مصر والعراق وما وراء القوقاس.
8) ظلت ضريبة أراضي الخراج (النظام الذي وضعه الخليفة عمر، كما يقال) حتى بعد الفتح وبعد أن إنتقل قسم منها الى ايدي المسلمين (ص66).
9) الاصلاحات الادارية التي أدخلها عبد الملك بن مروان بعد أن وحّد البلاد والتي شملت مسح الاراضي وتسجيلها بلغة الدولة (العربية)، سحب النقود القديمة وصك نقود جديدة، إدخال اللغة العربية بدل اللغات اليونانية والقبطية والفارسية التي كانت مستعملة في سوريا ومصر وبلاد العجم آنذاك.
الحركة البابكية والاشتراكية
لم تكن الاسباب التي دعت الشعوب المقهورة والطبقات الفقيرة لدعم دعوة بابك والإقبال عليها، دينية ولا سياسية بل إجتماعية وإقتصادية. فقد عاش سكان الامبراطورية العربية (أواخر القرن الثامن وأوائل التاسع) في مصر والعراق وارمينيا وأذربيجان في ظل ظروف قاسية وكانت شعوبها تئن تحت نير الحكام الطغاة وجباة الضرائب. لذا تآلبت الامم الايرانية المقهورة في أرمينيا وأذربيجان من خراسان في الشمال الى العراق العربي في الجنوب، تآلبت على دولة بني عبّاس وأخذت تعمل علناً على إسقاطها (ص 83).
ظهرت الحركة البابكية في ظل هذه الظروف. وقد كان بابك الخرمي (او بابك الفارسي) أول من حاول ان ينتفض رافعاً لواء الحرية في جبال قراطاغ ، كما كان أول من إنشق عن الدولة العباسية. إبتدأت حركته هذه في صيف سنة 816 أو 817 في إذربيجان وتميزت بقوة تنظيمها ووضوح غايتها، ثم أخذت تقوى وتنمو بسرعة في البلاد المجاورة حتى بلغ عدد رجالها 300 ألف مقاتل من إذربيجان والديلم فقط.
حارب الخلفاء العباسيون الحركة البابكية أكثر من عشرين سنة، إلا أن بابك وأتباعه صمدوا اما م هذه الجيوش. ويرجح جوزي أن صداقة قوية قامت بين الحركة البابكية ومبراطورية الروم وربما كان بينهما معاهدة حربية سرية. حاول بابك ان يستميل الكرد والارمن لدعوته، فشارك الكرد في حركته، أما الارمن فترددوا والتزموا الحياد.
تتمز حركة بابك عن غيرها وما سبقها من الثورات بان الغرض منها لم يكن مقاومة الاسلام ولا العرب، بل محاربة النظام الاجتماعي الذي كان يستغل الطبقات السفلى من جميع الامم التي كانت تتألف منها دولة بني عبّاس حتى الامة العربية ذاتها (التي لم تشترك في الحركة البابكية). كان البابكيون يرمون الى هدم النظام الاجتماعي المستند على أصحاب الاملاك ورؤساء الدين والجيوش المسخرّة المأجورة وإبداله بنظام جديد ليس فيه طبقات ولا نزاع مستمر بينها ولا ظالم ولا مظلوم ولا غني ولا فقير ولا سيد ولا عبد، نظام مبني على اسس العدل والإخاء والمساواة.
البابكية والاشتراكية
بالرغم من ان برنامج الحركة البابكية الكامل غير متوفر لانهم لم يحتفظوا به، إلاّ أنه مثل سائر إشتراكيي إذربيجان وطبرستان كان يحتوي على مسائل إجتماعية وإقتصادية فقط يمكن حصرها في مسألتين أساسيتين:
1) نزع الاراضي الواسعة من أربابها الذين إغتصبوها من الفلاحين وتوزيعها مجاناً على المزارعين المحتاجين اليها.
2) تحرير المرأة الشرقية أو الايرانية على الاقل من عبوديتها الابدية وإعطائها أهم ما للرجل من حقوق.
وتجدر ملاحظة أن أهم الشروط التي توفرت لظهور المبادئ الاشتراكية في تلك الاجزاء من إيران وإذربيجان هي حالة الفلاحين وعلاقتهم باصحاب الاراضي حيث كان الفلاح يعمل كالرقيق لا يملك شيئا ولا حتى حق الزواج. هكذا كانت الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية منذ حقبة ما قبل الاسلام، إلاّ أن دخول الاسلام لم يغير سوى الشيء القليل في حالة الفلاح الفارسي. أما السلطة العربية فلم يكن يهمها من أمر الاعاجم وغيرهم من الامم المغلوبة إلاّ تأدية ما عليهم من ضرائب.
لهذه الاسباب تمركزت الحركة الشيوعية في أراضي إذربيجان وأران الخصبة حيث أخذ المصلحون (مزدك وبابك) يلحون في نزع الاراضي من أيدي القلة وتوزيعها على الفلاحين مدركين أن تحرير الفلاح هو في تحرير الارض.
اسباب فشل الحركة البابكية
فشل بابك وتم القضاء على حركته سنة 838، ويرى المؤلف أن أهم أسباب فشل البابكية كانت:
1) خارجية: وتشمل الهجمة العباسية والقضاء العسكري على القوات البابكية.
2) داخلية:
أ ـ عدم إستعداد أكثر سكان الدولة العباسية لقبول النظام الاشتراكي؛
ب ـ إهتمام البابلكيين بالامة الفارسية فقط رغم أن قسماً كبيراً منها لم يدخل في دين بابك ولا إهتم بدعوته أو هبّ لمساعدته. كما أن البابكيين حصروا دعوتهم الاشتراكية في فئة قليلة من الناس التي كانت تقطن جبال آران وأذربيجان أي بين القبائل الايرانية فقط ولم يفطنوا الى إشراك الامتين العربية والتركية ولم يعملوا على إستمالتهن لعقيدتهم (وقد كانتا يومئذ أعظم الامم الاسلامية وأصحاب السلطة والاكثرية السكانية في البلاد). كذلك لم يهتموا بالبربر.
3) تنظيمية: لم يفهم الكثيرين ممن إلتفوا حول أراء بابك وحاربوا معه الغاية الكبرى من هذه الحركة، ولم يكن يهمهم من هذه الحركة الفكرية إلاّ النكاية بالسلطة الحاكمة. ومنهم من لبى دعوة بابك طمعاً بالحصول على منافع مادية "لم يكونوا لينالوها إلاّ من من وراء هذه الثورات والحروب الاهلية وأكثر هذا الفريق كان من الكرد" (ص 116).
4) فكرية: غاب عن بال البابكيين أن الافكار الجذابة لا تكفي للوصول الى الغاية، بل لا بد من تعميم الدعوة وإتخاذ أقوى الوسائل لضمان النجاح. وهذا ما إنتبه اليه للمرة الاولى في تاريخ الاسلام جماعة عبد الله بن ميمون القداح او الاسماعيليون ( ص 118 و 119).
الاسماعيلية
لم تمت أفكار بابك بموته كما أن البذور التي زرعها "وقعت في أرض طيبة خصبة أنبتت نباتاً حسناً في وقته"، وقد إستفاد منها كثيرون نخص منهم بالذكر الاسماعيليون (أو الباطنيون ) وهم أقرب الناس الى البابكية في العقيدة والغاية وأشدهم تعلقاً بالمبادئ الاشتراكية.
تعاليم الاسماعيلية
لم تظهر أفكار الاسماعيلية في يوم واحد كما أنها لم تبقى ساكنة مدة طويلة بل كانت نتاجاَ للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي سادت آنذاك، وتطورت تبعاً لمقتضيات الزمن وظروفه وتطور زعماء الحركة العقلي والادبي.
تميزت تعاليمهم السياسية والاجتماعية بانها كانت مرتبطة بآرائهم الفلسفية والادبية، ولم تختلف عن مطالب غيرهم من الشيعة أي أنها كانت ترمي الى نزع السلطة من أيدي بني عباس ونقلها الى خلفاء علي وأبنائه. وقد رأى الاسماعيليون أن القضاء على الدولة العباسية ونظامها الاجتماعي يتطلب:
1) بث الدعوة الاشتراكية بين جميع الطبقات والامم والاديان التي تتكون منها دولة المنصور؛
2) جمع كلمة كافة المستائين من حكّام بغداد وإثارة عواطف البعض منهم على هؤلاء الحكّام؛ ثم
(3) دك الاسس التي كانت قامت عليها الدولة العباسية وأهمها: الدين والأدب والعاطفة القومية.
تعرض الشيعة في نضالهم ضد الدولة العباسية للكثير من الفشل والمحن. إلا أن ما طرأ على الدولة العباسية من تغييرات سياسية وإجتماعية، أدّى الى توسيع آمال الشيعة من مجرد المطالب السياسية (عودة الخلافة الى أبناء علي) الى المطالبة بتعميم العدل بين الناس ومعالجة الامراض الاجتماعية التي حلت بالمجتمع، وهو ما أضحى محط أملهم وتوقعاتهم من "إمامهم الاكبر" أو من "المهدي المنتظر".
دخلت هذه المطالب برنامج الاسماعيلية ولقيت دعماً كبيراً في صفوفها من حيث أنها كانت ذات صلة بتعاليمهم الاجتماعية الاصلية والتي كان من أبرزها المساواة بين الجنسين وإبطال ملكية الاراضي وتوزيعها على المحتاجين مجّاناً وهي ذات المطالب التي نادت بها الحركات الشيوعية قبل الاسماعيلية مع فارقين: الاول، أن الاسماعيليين بنوا مطالبهم على مبادئ فلسفية علمية لا مجرد مبادئ أدبية، والثاني، أن الاسماعيلية وسّعت القسم الاجتماعي من برنامجها وتوفقت في بعض الاقاليم الى تحقيق نظامها الشيوعي.
الدين عند الاسماعيلية: كانت الاسماعيلية في بادئ الامر إحدى الفرق الشيعية المعتدلة وتنامت مع الزمن لتصبح حركة تدل على أصحاب مذاهب دينية مختلفة وأحزاب سياسية وآراء فلسفية وعلمية متعددة. فقد حظي الاسماعيليون بمعرفة كبيرة بالنفس البشرية وإستخدموا أساليب وطرق سيكولوجية دقيقة لإستمالة الناس الى مذهبهم والتسلط على إرادتهم وإبقائهم تحت طاعتهم. كان الدين الحقيقي عند الاسماعيلية أن "يتوصل الانسان بالتمرن المستمر والترقي من درجة الى درجة الى معرفة منازل الكون التي قطعتها العوالم (المسكونة) بعد أن إنفصلت عن الله"، كما كانوا ينادون ب"إنماء القوى العقلية ثم السيرة الحسنة والحياة الادبية الموافقة لمطالب العقل السليم" للوصول الى الغاية القصوى من الكمال العقلي والادبي الذين هما الغرض الاكبر من حياة الانسان الدينا" (ص 140 ).
الاسماعيلية والعصبية القومية: يرى المؤلف ان الاسماعيلية كانوا أول من تغلب على العصبية القومية في الاسلام التي لم يقوَ عليها بنو أمية ولا بنو عبّاس ودافعوا عن فكرة الإخاء الحقيقي (الاممية) لا بين المسلمين فحسب بل بين جميع الناس على إختلاف قومياتهم وطبقاتهم وأديانهم، أي أنهم دافعوا عن الإخاء المبني لا على وحدة الدين بل على مطالب العقل السليم.
الحياة التنظيمية للاسماعيلية
كانت الاسماعيلية حركة سرية يترأسها الامام (أو صاحب الزمان) والذي كان يتمتع بسلطة مطلقة على جميع أعضاء الجمعية، فهو بنظرهم "معصوم عن الخطأ" ويعتبر أعلى درجة أو درجات من النبي "لان ليس للحدود التي وضعها الانبياء إلاّ أهمية نسبية قد لا تتعدى زمانهم، أما حدود إمام الزمان أو تأويله لحدود غيره فلها أهمية مطلقة لا يحصرها زمان ولا مكان" (ص 138). وعليه كانوا أول بدعة في الاسلام يمكن ان نطلق عليهم اسم "العقليين".
لم يكن يعرف أغراض وطرائق الحركة الاسماعيلية إلاّ قلة من زعمائها الذين قطعوا مراتب أي مراحل التكريس وأقسموا القسم ان لا يبوحوا لاحد باسرار جمعيتهم. أما سائر الاعضاء فلم يكونوا يعرفون من أمر الجمعية إلاّ الشيء اليسير. كان للحركة سبع أو تسع رتب تنظيمية. والاعضاء الذين بلغوا الدرجة الرابعة فقط ولم يقسموا الايمان المطلوبة لم يكونوا يعرفون من برنامج الحركة سوى المبادئ الدينية والادبية. أما التعاليم السياسية والاجتماعية فكان يكشف الامر عنها للاعضاء الذين تجاوزا الدرجة الرابعة وأقسموا يمين الحركة.
كان الاسماعيليون ينشرون دعوتهم بين جميع الامم الخاضعة للدولة العباسية وبين جميع الاحزاب والاديان دون فرق لانهم كانوا يدعون الى دخول عقول الناس. وكان زعماؤهم يؤمنون بان الحزب الناجح لا بد ان يجمع الناس ويثقفهم ويدربهم على العمل وإلاّ لفشل الحزب مهما كانت أفكارهم صائبة. وقد برع الاسماعيليون في هذا المجال وجذبوا الكثيرين الى حزبهم وأفكارهم. وقد تميز أعضاء الحركة بانهم كانوا يلبون طلبات زعيمهم بتفاني ورضى وإخلاص ويبدون البسالة والتضحية في إداء مهامهم والجرأة في الدفاع عن آرائهم. وهو ما يفسر إستمرار الحركة لقرون ثلاث وبناء دولة ضخمة في مصر وشمال أفريقيا خلّفت الكثير من الآثار والعديد من الجماعات كالحشاشين والقرامطة والدروز وغيرهم من الذين ما زالوا أحياءً اليوم.
إرث الحركة الاسماعيلية
1) كانت جماعة القرامطة من أهم ما خلفه الاسماعيليون، ففيها "تجلت روح الاسماعيلية في أكمل صورة وتحققت بينها أحلامهم الاجتماعية ونظامهم الاشتراكي" (ص 154).
2) كان من أهم تأثيرات الحركة الاسماعيلية أنها مهدت السبيل لنشر الافكار الحرّة في العالم الاسلامي وشجعت الناس على المجاهرة بها وبهذا قلبت أفكارهم حياة الناس رأساً على عقب.
3) تدين العلوم الفلسفة للاسماعيليين برسائل إخوان الصفا وغيرها من المساهمات المعرفية والفلسفية الهامة في علوم التأويل والتفسير وفلسفة التصوف عند العرب والفرس.
4) ترك الاسماعيليون آثاراً كبيرة على أوروبا المسيحية في القرون الوسطى مثل حركة الجزويت (اليسوعيين) وغيرها من الاخويات المسيحية التي تأثرت بتعاليم الاسماعيليين وطرائقهم الصوفية.
حول الاتراك والصليبيين
كاد الاسماعيليون يقضون على الدولة العباسية لو لم تأتها المساعدة من أمة حديثة هي الامة التركية التي أصبحت في أواسط القرن التاسع "صاحبة الامر والنهي" في بغداد فقاومت كل معارضة للدولة وللنظام الحاكم.
أضطر الاسماعيليون الى الانسحاب الى الجبال والبلاد النائية حيث تمكنوا من الحفاظ على مبادئهم الاشتراكية وأنظمتهم الاجتماعية. أما الصليبيون، العدو الجديد القادم من الغرب، فقد داهموا الاسماعيليين بعد أن إنتهى اولئك من قتال الاتراك وزادوا من ضعفهم.
زادت هذه العوامل من ضعف الاسماعيليين فتشتت أولاد إسماعيل في شمال فارس والعراق وسوريا ثم رحلوا الى بلاد الهند وشمال أفريقيا. وقد إضطروا الى التخفي والعمل بالسر هروباً من عيون بني عباس التي كانت تلاحقهم، فسكنوا المدن البعيدة والصغيرة وأرسلوا دعاتهم الى أطراف الدولة العباسبة ليبثوا دعوتهم وتعاليمهم الدينية والاجتماعية التي أخذت رويداً رويداً تختلف عن الدين الاسلامي بل عن الدين كله واصبحت مع الزمن ديناً قائماً بذاته.
التهم ضد الاسماعيلية
وجهت الى الحركة الاسماعيلية تهم وأكاذيب كثيرة، منها الالحاد والاباحية وإرتكاب الجرائم والمحرمات والتعصب للقومية الفارسية وإستخدام كافة الوسائل للوصول الى الغاية المنشودة. كما اتهمهم بعضهم بانهم يسعون الى بناء دولة اممية شيوعية على أنقاض الدولة العباسية تكون مؤسسة على مساواة جميع الامم في الحقوق وعلى دين العقل السليم.
أما كتب الاسماعيلية النادرة وأخبار الجماعات الدينية والاجتماعية التي خرجت من أحضان الاسماعيلية (مثل القرامطة والفاطميين والحشاشين والدروز والزيدية في اليمن)، فلا تتفق مع هذه التهم وخصوصاً ما قيل في آدابهم وأخلاقهم بل إن العكس هو الاقرب الى الحقيقة.
يرد جوزي على التهم التي وجهت للاسماعيلية ومنها قتل الافراد الذي عرف عن الحشاشين وهي فئة صغيرة كان لها صلة قرابة بالاسماعيلية وعرفت بالتطرف، ويعلل هذه التصرفات على أنها كانت ردود فعل لما عانته الاسماعيلية من الحقد والبغض حيث إعتبرها الكثيرون خارجة عن الامة الاسلامية وحللوا دماء أعضائها. إلا أن المؤلف لا ينكر ان هناك حالات من الدفاع عن النفس ولكنه يؤكد ان ألآلاف من الاسماعيليين "ذهبوا ضحايا هذا التعصب الاعمي وذلك البغض الفظيع" (ص 155).
القرامطة
سال أحدهم يوماً قرمطياً عن أسباب إنتصاراتهم رغم قلة عددهم، فاجابه القرمطي:
"لانّا نطلب نجاتنا في الثبات وأنتم تطلبونه في الهرب"
تميزت القرامطة عن الاسماعيلية بانهم كانوا يشتغلون بين العرب وإخوانهم أنباط العراق وسوريا والجزيرة العربية، كما اختلفوا ببعض الامور الثانوية لا المبدئية، مما يفسر، حسب إعتقاد جوزي، لماذا كان القرامطة العرب أقل تطرقاً الى المسائل الدينية والادبية من إسماعيلية الفرس وكيف أن بعض عادات الفرس لم تكن معروفة لديهم. وعليه، يؤكد المؤلف ان قرامطة البحرين والعراق لم يكونوا يختلفون عن سائر الاسماعيلية في المسائل الاساسية من برنامجهم.
كانت مدينة واس (الواقعة بين الكوفة والبصرة) مركز القرامطة. وكان أكثر سكانها خليطاً من العرب والنبط والسودان الذين إستحضروا من أفريقيا للعمل في الاراضي تحت ظروف تشبه العبودية. وقد عرفت الحركة باسم "حماد القرمطي"، إلا أن أغلب الظن أن الحركة قد اسست قبله أو أن دعاة الاسماعيلية قد زاروا تلك المنطقة قبله وأقاموا فيها فترة طويلة رغم أنهم لم يتركوا اثراً بيناً.
بنى حماد القرمطي مركزاً للاسماعيلية قرب الكوفة أسماه "دار الهجرة" حيث كان يعقد اجتماعاته في أوقات محددة حيث كان يقيم النظر والجدل في الاحوال الاقتصادية والاجتماعية، كما كان يبلغ مناصريه ما يصله من زعيم الاسماعيلية "إمام الزمان".
لقيت دعوة حماد إقبالا كبيراً وأقام لها نظاماً يضبط أعمالها ودستورا يكون لديهم المرجعية. وقد إشترط نظامهم على:
1) دفع رسم عضوية سنوية بلغ ديناراً واحداً.
2) دفع ضريبة عرفت "بالفطر" وقيمتها درهم يؤدية كل الاسماعيليين دون إستثناء.
3) دفع ضريبة ثانية تعرف ب"الهجرة" ومقدارها دينار يدفعه كل بالغ وبالغة لسد حاجات "دار الهجرة".
لم يواجه حماد آية مقاومة لنظام ضرائبه هذا، إلا انه لم يكتف به فامر أهل القرى التي إتبعت دينه ان يحضروا الى مكان واحد كل ما يملكونه (أثاث وحلى وثياب ومأكولات ومال) حتى لم يعد أحد يملك سوى "سيفه وسلاحه". فعندما فعلوا، أمر بجعل هذه الممتلكات مشاعاً بين الاعضاء فتم توزيعه على "المحتاجين من القرامطة حتى لم يبقى بينهم فقير" (ص 163).
أخذت دعوة القرامطة تزداد إنتشاراً في سائر البلدان العربية المجاورة حتى بلغت جنوب الجزيرة العربية وتكونت لهم خلية في الاحسا من بلاد البحرين التي أصبحت بعد فترة وجيزة أهم مراكز الاسماعيلية. كما أخذت "خلاياها الباطنية" تنمو حتى عمّت أكثر البلاد العربية. وكانت هذه الخلايا تعمل تحت "مراقبة دعاة محنكين مدربين". ومما يجدر ذكره أن جماعة كبيرة من "الطبقات العالية" أقبلت على هذه الحركة وكانت القرامطة تعتمدهم عند الملمات كما كانوا عيوناً لها على حكومة بغداد التي لم تكن تعرف من أمر القرامطة إلا اليسير.
خرجت الاسماعيلية من خفائها عام 891م، وحاولت القرامطة عام 897م للمرة الاولى تنفيذ برنامجها الاشتراكي فلم توفق، ثم عاودت الكرة كلما سنحت لها الفرصة (عام 890 و891 و892) وخاضت المعركة تلو الاخرة مع عدوها في الاقاليم البعيدة عن العاصمة العباسية ولم تنجح حيث كان عدوها أقوى. وبعد وفاة الخليفة المعتضد (عام 892)، والذي بقي يقاوم الحركة الاسماعيلية، خلفه رجل ضعيف الارادة، فاستفاد زعماء الحركة الشيوعية من ضعفه فهاجموا خصمهم حتى عجزت السلطة المركزية عن إخماد ثوراتهم، فأنشأوا إمارات وممالك مستقلة منسلخة عن الخلافة العباسية.
جمهورية القرامطة
نجحت القرامطة في إقامة جمهورية لها على شواطىء الخليج العربي عرفت ب"جمهورية القرامطة". فقد إستطاع ابو سعيد الجنابي، احد دعاتهم الذين كانوا يعملون تحت مراقبة حماد القرمطي والذي كان قد أرسله داعياً الى البحرين، أن يكسب تأييد سكان تلك المقاطعة ومؤاخاتهم، فإتسع نفوذه حتى تمكن من بسط سيطرته الكاملة على ذلك الاقليم عام 900 وضمه الى "جمهوريته الشيوعية" وشرع بالزحف نحو البصرة. وفي عام 903م إستولى ابو سعيد على مدينة حجر، عاصمة البحرين، ثم زحف الى اليمامة فضمها الى عُمان واستولى على قسم كبير منها ومن الجزر التابعة لها. ولولا المنية التي وافته عام 914م لكان ضم غيرها من البلاد العربية في جمهورية إشتراكية كبيرة.
غزوة مكة
غزت القرامطة مكةَ على أيدي أبي طاهر عام 930م وقضت فيها إثني عشر يوماً قتلوا خلالها الكثير من أهلها وحجاجها ونهبوا الكثير من أموالها. ويعتقد جوزي ان الغرض من غزوة مكة كان الانتقام لدعاة القرامطة الذين قتلهم أمير الامراء سنة 929م. أما الغرض الثاني فكان الحط من قدر الخليفة وهيبته وإشغال جيشه عما كان يجري في شمال أفريقيا حيث أخذ "إمام الزمان" الاسماعيلي ينزع تلك البلاد من أيدي خلفاء بغداد وتأسيس دولة مستقلة عرفت بالفاطمية. وعليه، فاسباب غزوة مكة، كما يرى المؤلف، لم تكن السلب والقتل بل كانت سياسية وعسكرية. "...ولاسباب لا نعلمها"، يقول جوزي، لم يفكر القائد القرمطي ابو طاهر الذي إستولى على البصرة أن يغزو عاصمة الخلافة بجيشه الصغير فولى راجعاً الى بلاده.
وفاة أبي طاهر
توفي أبو طاهر عام 943م، إلاّ أن السجال والقتال بين الحكومة العباسية والقرامطة إستمر نحو نصف قرن. ويرجّح المؤلف أن القرامطة عدلوا عن الغزوات وإكتفوا، بعد ذلك، بما فتحوه من البلاد وأخذوا يشتغلون بالمتاجرة وإلتفتوا الى "إصلاح أحوالهم الداخلية وتعزيز نظامهم الاجتماعي الجديد". وليس هناك من شك بان جمهورية البحرين وصلت حداً عالياً من الرقي في إقتصادها ومعداتها الحربية كما في أخلاقها وآدابها.
نظام الحكم القرمطي
تؤمن القرامطة بالمكانة الروحية والسياسية لخلفائهم حيث كان مؤسسو حركتهم في البحرين يدعون الناس للانضمام الى مذهبهم باسم "إمام الزمان المحجوب" ثم باسم الخلفاء الفاطميين، بعد أن ظهرت دولتهم وأخذوا يجمعون الضرائب والزكاة باسمهم ويساعدوهم في حروبهم مع الخلفاء العباسيين. إلا ان بُعد المسافة التي فصلت قرامطة البحرين عن إمامهم منحهم نوعاً من الاستقلال الداخلي (أو الحكم الذاتي) والذي كان أقرب الى الحكم الجمهوري او الشورى منه الى تسلط الفرد.
كان أفراد من عائلة أبي طاهر الجنابي والمقربون منها يرأسون الحكومة ولم يكونو ليمتازوا عن غيرهم من الوزراء أو أعضاء المجلس الاداري المعروف عندهم ب"العقدانية" والذي يملك القوة الحقيقية في التشريع والتنفيذ. كان المجلس يتشكل من وزراء ستة يختارهم الشعب من أسرة أبي طاهر وأعوانه وأصحاب الثقة والدرجات العليا في الحزب. وكان هذا المجلس يقرر أموره بالشورى والوفاق الذي لا يرجع الى الشرطة والقوة الحربية بل يعود الى "النظام الاشتراكي الجديد وثقة الشعب به وبزعمائه" (ص 194).
كانت البحرين والبلدان المجاورة التي فتحها القرامطة مستقلة عن الدولة العباسية في تسيير امورها الداخلية والخارجية. فكانت الخطوة الاولى في إصلاح أحوال البلاد هي إلغاء الضرائب على الاراضي أو التقليل منها. أما الدولة فكانت تفي بحاجاتها من موارد اخرى مثل ضريبة السفن في الخليج العربي وضرائب الغرامة التي كانت تؤديها بعض قرى ومدن العراق والكوفة آنذاك. كانت التجارة، ولا سيما الخارجية منها، في أيدي الحكومة التي كانت تصرف أرباحها على الاعمال العمومية وتحسين أحوال العمال والمزارعين "فلم نسمع ولم نقرأ شيئاً يستفاد منه وجود طبقة من الناس تعمل على قتل النظام الجديد أو إسقاط الحكومة التي أوجدته ومشت عليه" (ص 200). وكانت الحكومة القرمطية ترسل سنوياً جزءاً من أموال خزينتها الى "خزينة الإمام"، وقسم آخر كان ينفق على سد تكاليف "دار الهجرة" (أي الحكومة) واسرة أبي طاهر، في حين كانت الحكومة تنفق الجزء الأكبر على الاشغال والمصالح العامة من أجل تحسين أحوال المزارعين والعمال وشراء الاراضي وتوزيعها على المحتاجين.
اما فيما يتعلق بملكية الاراضي، فان المؤلف يرجح ان القرامطة لم تتعرض لنزع الاراضي من إصحابها إما لان أكثرها كان مشاعاً بين المزارعين أو لانه لم يكن في البحرين آنذاك مشكلة اراضي بسبب وفرتها، وإما لان الحكومة كانت "تبتاع على حسابها ما تحتاج من الاراضي لتوزعه على الفلاحين الذين لم تكن لهم أراضي". عدا ذلك، فقد سادت "الصبغة الشيوعية" على أركان الحياة الاجتماعية وظواهرها وحرصت الحكومة القرمطية على نشر وتأييد هذه الصبغة. ويجزم المؤلف ان هذه الصبغة، رغم ما طرأ من تغيير على نظام القرامطة الداخلي، ظلت ظاهرة في البلاد الى أن حلّ القرن الخامس عشر وبعد ذلك، "فلم يبق في البلاد فقير" (ص 199).
أدت العوامل الخارجية (الحروب المستمرة مع الدولة العباسية) والداخلية (إنقسامات وخلافات في بيت أبي الطاهر) الى أضعاف قوة القرامطة. إلا انه يستفاد مما كتبه المؤرخون ان النظام الاشتراكي كان لا يزال قائماً في أواسط القرن الحادي عشر كما كانت حالة البلاد حسنة و"التجارة رائجة بفضل إحتكار الدولة لها وسياستها الاقتصادية العادلة". وما زال أتباع القرامطة ومذهب الاسماعيلية كثيرون، إلا أنهم "فقدوا أكثر مبادئهم الاجتماعية والسياسية وأضاعوا نظامهم الاشتراكي" وربما لم يتبقى منهم سوى "نحلة دينية سلمية جمدت وتحجرت منذ أجيال فلا تكاد تبدي حركة .." (ص 217).
خمسة قرون من الاشتراكية
دامت الدولة القرمطية، "الجمهورية العربية الاشتراكية في البحرين"، قروناً خمسة رغم الصعوبات التي أحاطت بها والخصوم التي عملوا على تدميرها. ولم يكن ليتسنى لها هذا لو إقتصر الامر على دعائم إقتصادية وإجتماعية بل لا بد أنها قامت على أسس أخلاقية وأدبية حظيت بتأييد الجماعات والافراد. وقد دللت على ذلك كتابات العديد من المؤرخين والكتاب والسياح الذين زاروا البلاد وأقاموا بين القرامطة ودرسوا نظام حياتهم.
الدين عند القرامطة
إذا قصدنا بالدين وشعائره مما ألفه الشعب البسيط، فلم يكن للقرامطة شعائر دينية تذكر رغم إستخدام زعمائهم بعض المفردات والمصطلحات المتداولة بين أصحاب الدين. فهم، كالاسماعيليين، كانوا بعيدين عن الدين وشعائره الخارجية إذ ان "دينهم الحقيقي هو مطلبهم الاجتماعي الذي كانوا يعبدونه ويؤمنون بوجوب تحقيقه إيماناً قوياً يحيون لاجله ويموتون عليه" (ص 207).
إلا ان جوزي لا ينكر انه كان للقرامطة بعض العقائد الدينية مثل تجسد الله الدوري أو تجسم العقل الاول في أئمتهم أو المهديين الذين اوكل اليهم امر "تحقيق المطلب الاكبر الاشتراكي"، وعليه يرى الكاتب ان "ديانة القرامطة لم تكن في الحقيقة إلاّ عبارة عن عبادة العقل السليم او العقل الاعلى. ولهذا لم يكن عندهم شعائر أو طقوس دينية "ولا كانت لهم حاجة اليها" (ص 208). ومع ذلك لم يكونوا يمنعون المسلمين من بناء المساجد وإقامة الصلاة وغيرها من شعائر الدين.
وبناءً عليه، لم يكن من الصعب على القرامطة بعد ان نبذوا الديانات التاريخية، "ان ينبذوا أيضاً كل ما تستند اليه كل هذه الاديان من الحدود والسنن المتعلقة بالاكل والشرب واللبس..الخ وأن يقولوا بتحليل كل ما ليس منه ضرر على الصحة ولا يحول دون تتميم الواجب والحصول على السعادة في هذه الدينا لا في العالم الآخر".
العلاقة مع الفاطميين
كان للقرامطة علاقة ودية بالفاطميين. فكانوا يساندون الدولة الفاطمية بالمال والرجال لانهم كانوا يعتقدون ان مؤسس الدولة الفاطمية عبيد الله هو حقيقة "إمام الزمان و"المهدي" المنتظر و"آخر إنسان تجسم فيه العقل الاعلى"، أي أنه كان الانسان التي طالما إنتظره القرامطة وسائر الفرق الاسماعيلية. إلاّ انهم أخذوا يدركون مع الزمن أن مؤسس هذه الدولة كاذب ومحتال فقاطعوه وحاربوه حروباُ كلفت الفاطميين ضحايا لا حصر لها مما اضطر الخلفاء الفاطميين الى بناء قلعة القاهرة عاصمة مصر اليوم (بين عامي 371 و 385) للدفاع عن عاصمتهم المعروفة سابقاً ب"الفسطاط" (ص 204).
ماذا تبقى من الاسماعيلية؟
حال ظهور الاتراك والمغول (إبتداءً من القرن التاسع الى اواسط الخامس عشر)، ومجيء الصليبيين، وما وقع بين الفاطميين والقرامطة من خلاف ناتج عن تباين في بعض المبادئ والاهداف، إضافة الى خلافات داخلية بين القرامطة إنفسهم، حالت كل هذه العوامل دون الانجاز الكامل لبرنامج القرامطة الاشتراكي مع أن قسماً كبيرا من هذا البرنامج قد تحقق. إلاّ أن تأثير الاسماعيلية في الاسلام كان كبيراً، ولا يظن المؤلف "أن دعوة أو حركة عقلية اخرى تركت في تاريخ الاسلام وعقول وحياة أبنائه من الآثار العميقة وكان لها من النتائج العملية مثلما كان للحركة الاسماعيلية" رغم أن قسماً مما زرعته الاسماعيلية "بقي الى هذا اليوم مشوهاً محرفاً في تعاليم الفرق الاسماعيلية" (ص 219 و220).
كانت فكرة التضامن بين الطبقات والدفاع عن حقوقها الاقتصادية والاجتماعية من أهم ما تركته الاسماعيلة ومن أهم مميزات "الاخويات" والطرائق الصوفية والدرويشية التي كان الشرق أول من مهد السبيل الى ظهورها. ينسب المؤلف الي الاسماعيلية نشوء الكثير من الحركات التي تعامل كافة أعضائها بالتساوي في الحقوق والواجبات "ومعاملة بعضهم بعضاً معاملة الاخ لاخيه". ولهذا أطلق على مثل هذه الحركات اسم "إخوان" الذي ما زال يستعمل في يومنا هذا لدى العديد من الجمعيات والحركات السياسية والاجتماعية. ويرجح أن أول "حلقة أخوية" ظهرت بين القرامطة كانت حلقة "إخوان الصفا" التي تأسست في النصف الثاني من القرن العاشر وكانت حلقة علمية سرية لم يعرف سوى القليل عن هوية أعضائها وأغراضهم ومكان إقامتهم مما ورد في "رسائلهم" والتي شكّلت الانسكلوبيدية العلمية الاولى من نوعها والتي يرجح ان المساهمين في كتابتها كانوا من القرامطة الذين أسسوا هذه "الحلقة الاخوية" في البصرة لنشر المبادئ الاسماعيلية والسعي وراء تحقيقها بالطرق السلمية العقلية.
إلاّ ان المؤلف يحذرنا من انه لا يجوز أن نستنتج من أبحاثه ان الافكار والحركات الاسماعيلية والقرمطية وتأثيرها على نقابات المحترفين والجمعيات الخيرية وطرق الدراويش وغيرها، "كانت دوماً مصدر الحركات الحرة في الاسلام"، كما أنه لا ينكر "أن زوايا كثيرة من زوايا الدراويش كانت مبعثاً للحركات الرجعية والتعصب الديني الاعمي وآلة لاستغلال عواطف جماهير الناس الدينية الطيبة". "وكم من حركة إبتدأت باسم الله وبركاته...إلا انها تحولت بعد وفاة مؤسيسها الى بدعة دينية أو اخوية أدبية بسيطة ذات صبغة رجعية وبرنامج أجتماعي ضعيف".
يلفت الكتاب النظر الى تأثير القرمطية ومبادئها وأنظمتها على الحركات الاوروبية وهيئاتها الاجتماعية، كما يشير الى أن الحروب الصليبية ساهمت في حمل المعلومات من بلادنا الى اوروبا والتي أثرت بدورها في حركات التجديد في ايطاليا وما جاورها وفي الاكتشافات والعلوم الحديثة.
(2)
آفاق للحوار
تفتح قراءة هذا الكتاب على آفاقٍ رحبة للحوار في العديد القضايا والاشكاليات، نكتفي بتقديم بعض الإضاءات المتواضعة لعناوينها الرئيسية.
راهنية التراث والموقف منه
ماذا نقصد بالتراث؟
لعل أهم ما يثيره الكتاب هو السؤال حول معنى التراث وكيف نقرأه. وهنا يلمح القارئ إنحياز المؤلف بوضوح الى التراث بمعناه الاشمل: ما تم إنجازه في مختلف أشكال التعبير )الفكري والادبي والفني) بما فيها أشكال التراث الشعبي (المدون منه والشفوي) لكونه بعداً أساسياً من أبعاد ملامحنا القومية والثقافية. ومن هنا فان هذا النهج يؤسس لفهم راديكالي للتراث الذي يصبح المخزون الشعبي الجمعي للجماهير والاغلبية الشعبية من حيث هي صانعة التاريخ وحاملة المجتمع بخصوصياته وهمومه وآماله وآلامه.
وإتساقاً مع هذا المفهوم ينأى المؤلف عن "القراءة النصوصية" للتراث ليقدم قراءة له من خلال الظروف الاجتماعية التي ولد فيها. فكما أن التراث ملك للناس العاديين، فان عملية نقده وتقييمه هي الاخرى ملك لهم وليست حكراً على نخبة أو شريحة معينة من المجتمع، ويقتضي هذا ضرورة نشر التراث والتعريف به، أولاً، ثم إشراك الجماهير الشعبية في عملية النقد والتقييم ثانياً.
التراث والموقف منه
بناءً على هذا الفهم للتراث، يصبح الموقف منه عنصراً من الموقف العام والفهم النقدي للواقع وللعصر، مما يعني ان موقفنا من التراث يضعنا في قلب المعركة النهضوية المحتدمة في بلادنا (بأبعادها القومية والتحريرية والتنموية وأشكالياتها في الديمقراطية والحداثة والتحديث والاصالة والاصولية والعلمانية وغيرها من عناوين السجال القائم). ومن هنا، يتوجب على أي مشروع نهضوي أن يحسم مسالة الموقف من التراث وأن يزيل الفصل بين هذا الموقف، من جهة، والموقف من المرحلة من جهة اخرى.
القراءات المتعددة للتراث
هنا ربما تكمن أهم العبر التي يكتنزها كتاب بندلي جوزي: فاذا كان التراث لا يتكرر من حيث كونه موروثاً، إلا أن لهذا التراث قراءات متعددة تبعاً للنظم الفكرية ومناهج تحليل الاوضاع الاجتماعية ـ الاقتصادية وتبعاً لسياق الحقبة التاريخية، رغم إحتفاظ هذه القراءات أحياناً ببعض العناصر المشتركة.
ومن هذا المنطلق يمكننا القول بان مواقفنا من التراث العربي ـ الاسلامي قد تاهت على مدار العقود الماضية بين المفاهيم السلفية التي إستخدمت نهج التقديس والتقليد الاعمي؛ من ناحية، ونهج الرفض والاستهانة والاستخفاف من ناحية ثانية، إضافة الى العديد من المواقف الانتهازية والانتقائية والتجزيئية التي توزعت تبعاً للنظم الفكرية والمصالح الآنية والذاتية. وفي هذا المتاه ضاع التراث وفقد الكثير من قيمته ودوره.
وعليه، يشدنا جوزي من خلال منهجه الى قراءة موضوعية للتراث في سياق ظروفه وأوضاعه، قراءة تستند الى:
1) فهم الواقع فهماً نقدياً وشمولياً بهدف التأسيس لوعي نقدي (انظر لاحقاً).
2) دراسة الثرات والفكر والثقافة والمعرفة (مصادر الوعي) والبحث عن السمات الثورية فيها وفي الحركات الاجتماعية التي أدت الى تراكمات ثورية في مراحل هامة من تاريخنا.
3) الانطلاق في هذا كله من مصالح الناس والجماهير، مما يستدعي تشخيصاً دقيقاً لهذه المصالح ومن ثم صياغة برامج لتحقيقها، اي تحديد موقف من الجماهير والطبقات الشعبية ومصالحها. وبهذا يتم وضع التراث بين أيدي الجماهير العريضة ويكون ملكاً لها، بحيث تستند موافقها الى وعيها بحقائق الواقع وتقوم نضالاتها على المشاركة الفعّالة لهذه الجماهير، مما ينفي عن التراث سمة النخبوية الثقافية والسياسية.
التراث وصياغة الوعي الثوري
في السياق ذاته، فان فهم التراث، من منظور الوعي الشعبي، يشكل شرطاً لتأسيس وعي وفكر نقدي، مما يتطلب بدوره تحليل التراث بنهج مادي تاريخي ذي أفق تقدمي ملتحم بحركة الواقع المعاصر، من ناحية، ويتفادى إسقاط مفاهيمنا المعاصرة (أي تلك المستحضرة من وضع تاريخي مغاير) على التراث، من ناحية ثانية.
وعليه، فبدون فهم دقيق للواقع، لن يتسنى بناء القوى التاريخية الساعية للتغيير. واذا فشلنا في الفهم "والتفسير"، فسوف نفشل في "التغيير". واذا عجزنا عن الإصغاء للواقع المادي والموضوعي وأمعنا في التعامل معه من باب الاستخفاف والاحتقار أو التفكير بعقل مستعار، فاننا سنصل، كما حصل في ماضينا غير البعيد، الى حلول واجوبة معلبة ومستعارة لمعضلات الواقع وأسئلته. وهنا تكمن مهمة اليسار: فلا المواقف السلفية ولا تلك الاستخفافية قادرة على إنتاج وعي نقدي علمي ولا على الاعداد للنهوض والثورة والتغيير لانها تفتقر أساساً الى الحاملة الاجتماعية (الطبقات الشعبية) لانجاز مشروع التغيير.
التراث، شكل من أشكال المقاومة
إذا كان تاريخ الشعوب وتجاربها مرشدنا، وهو كذلك، فإن مستقبل شعوبنا وهويتنا، مرهون بالمقاومة: مقاومة كافة أشكال الهيمنة الخارجية (الاجنبية) والداخلية (أنظمة وبنى الكومبرادور القطرية المرتبطة ب والعميلة للنظام الراسمالي العالمي).
وتفادياً للدخول في إشكاليات الاطار التنظيمي لهذه المقاومة (الحزب، التنظيم الثوري، الحركة السياسية ...وغيرها)، والتي تقع خارج موضوع هذه المقالة، نكتفي بالاشارة الى مسألتين أساسيتين:
1) أن إطار (اطر) المقاومة (التنظيم السياسي الجماهيري الثوري) هو أرقى أشكال التجسيد المادي والعملي للفكر الثوري، وهو مدرسة الوعي الثوري والوعاء الذي تتفاعل فيه الخبرات الجماهيرية الحية. وبهذا المعنى فهو، في الآن ذاته، وسيلة تنظيم فعل الجماهير وتنشيط حركتها وضبط إيقاعها وإطلاق العنان لابداعها. وعليه، فالتنظيم يسلح الجماهير بالوعي الذي يرشد خطاها، وهو في الوقت ذاته، الحصن الواقي لانجازاتها.
2) ان بناء هذا التنظيم الثوري لن يتسنى دون دون خلق الوعي الثوري والنقدي.
ستضيع الجهود هباءً ما لم تحسم هاتان المسألتان، لان قوى رأس المال المعولم والامبريالية وقوى اليمين والرجعية والكومبرادور المحلية ستدمر كل الجهود الساعية الى المقاومة والصمود والتغيير ناهيك عن عوامل التخلف التي ستنخرنا من الداخل.
التراث في سياق الردة السلفية
لماذا العودة الى التراث؟
نعيش في زمن يعج بالردات السلفية (والتكفيرية) وتخفت فيه أصوات اليسار وقوى التقدم والتغيير. وفي بيئة كهذه تسود المفاهيم الغيبية والمثالية، ويعلو الصخب وتعم الفوضى، فليس هناك من يصغي ولا من حوار سوى حوار الطرشان.
إلا أننا نعيش أيضاً في مرحلة هيمن فيها فكر الحركات الاصولية وعقيدتها على قطاعات كبيرة من الناس العاديين والطبقات الشعبية حيث سخرت هذه الحركات الدين ومؤسسته لخدمة غاياتها ونهجها. بالمقابل، نجد أن اليسار، قد أغفل التراث العربي ـ الاسلامي وعجز عن توعية الجماهير بفهم نقدي وعصري له، كما أخفق في إضاءة الابعاد والقيم الثورية فيه،. فكانت النتيجة خسارة مضاعفة: إغفال التراث، أولاً، وإغفال إمتداده لحاضرنا ثانياً أي إغفال التناول النقدي الخلاّق لذلك الماضي، أو كما اسماه د. فيصل درّاج، "فقدان التلاقي النقدي الخلاّق لنقد عصري لهذا التراث".
إلاً أن المفارقة الاهم تكمن في تناقض آخر: إذ بينما تتمسك بعض الحركات والاحزاب الاسلامية بالمقاومة وتزداد إدراكاً لقضايا الناس وهمومها وإقتراباً من تفهم المسائل الاجتماعية والوطنية والقومية ، نشهد اليسار وقد أدار ظهره لمهمته التاريخية، أي الدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية وصونها، وتخارجت أجزاء كبيرة منه مع الاجنبي وعملت في خدمته، فيما أضحت اجزاء اخرى مشلولة عاجزة لا تبدي حراكاً ولا مقاومةً.
الردة الدينية: ظاهرة "عالمية"
ليست الردة الدينية حكراً على منطقتنا ومجتمعاتنا ، بل هي ظاهرة "عالمية" تشمل أديان ومجتمعات وأجزاء أخرى من العالم بما فيه الغرب وفي القلب منه الولايات المتحدة الاميركية. وهي بهذا المعنى إحدى سمات المرحلة التي نعيشها تجلت سياسياً في صعود وهيمنة رأس المال المتوحش وشراسة اليمين الرجعي في تلك البلدان.
الردة وغياب الفكر الاشتراكي
في هذا السياق نشير بشكل عاجل الى قضية تحتاج الى نقاش واسع، وهي أن إنهيارالقطب الاشتراكي لم يكن إنهياراً سياسياً وإقتصادياً فحسب، بل، وربما هذا هو الاهم والأخطر، جرّ معه وفي حصيلتة آثاراً إجتماعية وثقافية وخيمة تمثلت في تراجع الفكر والقيم الاشتراكية الى الصفوف الخلفية في الوعي والمجتمع والثقافة. وقد وفر هذا "الفراغ" الحيز لعودة الفكر الغيبي والديني بحضوره الثقيل بعد أن كانت الانسانية قد خططت الى الامام، بفضل الفكر والتجربة الاشتراكية، خطوات كبيرة وأحرزت قفزات نوعية متقدمة نحو دحر المفاهيم المثالية والغيبية.
الدين ليس محور المشروع النهضوي العربي
على خلاف الاعتقاد السائد وما يبشر به الخطاب السلفي، فان الكتاب يؤكد أن الدين لم يكن القضية المركزية في المشروع النهضوي العربي ونضالاته، بل كانت المقاومة. وعلى مدى قرنين من الزمن، ظلت المقاومة المحور الاساسي لهذا المشروع: مقاومة الغازي والمحتل الاجنبي ومقاومة الاستبداد المحلي والظلم والاستغلال بكافة أشكاله الاجتماعية والاقتصادية (الطبقية). هذا لا ينفي بالطبع أن الاسلام شكل عنصراً أساسياً في هذه المشاريع كما انه لا ينفي الابعاد الدينية والثقافية والحضارية في الخطاب النهضوي والتنويري العربي منذ القرن التاسع عشر، وليس هناك من حاجة أو نية للتنكر لهذه الابعاد.
وتتجلى لنا حقيقة المقاومة هذه في رحلة بندلي جوزي عبر الحركات الثورية والاشتراكية وبرامجها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ظهرت في حقبة ظهور الاسلام والفتح الاسلامي. إلاّ أننا نستطيع أيضاً وبدون مشقة الوصول الى الاستنتاج ذاته بالعودة الى تاريخنا الحديث. فلو عدنا الى بوادر الاصلاح الاسلامي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر (دعوات جمال الدين الافغاني وتلميذه محمد عبده ومحمد رشيد رضا وكتابات عبد الرحمن الكواكبي وغيرهم)، لوجدنا ان القضية المحورية كانت القضاء على الاستعمار والاستغلال والاستبداد وليس الدين. كما ان نضال الشعوب العربية يشهد على الامر ذاته سواء في العقود الاولى من القرن العشرين أو عبر مرحلة النهوض القومي (خمسينات وستينات القرن الماضي 1952-1967) حين تصدرت واجة الكفاح قضايا النضال من أجل الاستقلال الوطني والتحرير والتحرر والنضال القومي والتنموي وبقيت المسألة الدينية في الصفوف الخلفية. ورغم قيام حركات تدعو الى تأسيس المجتمع الإسلامي حيث يطبق الإسلام كعقيدة وشريعة ونظام، فقد ظلت هذه جهوداً فكرية وسياسية وتنظيمية، فقد بقي خطر الاستعمار الغربي وإستهدافه للوطن هو الخطر الاكبر والرابط بين هذه الدعوات والافكار، الى ان أقام الامام الخميني اول تجسيد مادي لنظام سياسي اسلامي في التاريخ المعاصر.
التراث ومسؤولية اليسار
لقد قيل الكثير في تصاعد المد الديني والسلفي في بلادنا وفي العالم، إلا ان المسألة المركزية التي تعنينا هنا، هي مهمة اليسار العربي ودوره (بكافة فصائله وتياراته) حيال الخيار الوحيد الماثل أمام شعوبنا، خيار المقاومة.
إلا أن هذا لن يتسنى دون مراجعة نقدية لمسؤولية اليسار في تراجع المشروع النهضوي. ولعل الاستخفاف بالتراث، والشعبي منه خاصة، كان من أكبر مواطن الضعف في رؤى هذا اليسار وقواه عبر القرن العشرين، مما يفضي بنا الى النقاش الاوسع: كيف ساهم نهج اليسار العربي (بكافة قواه وفصائله) في فهم الواقع الاجتماعي ـ الاقتصادي في بلادنا؟ ومن ثم، كيف ساهم في الفشل الذي نعيشة، كما نعيش آثاره، اليوم؟
ملحق
بندلي جوزي في سطور
• ولد بندلي جوزي في القدس عام 1871، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدارسها ثم التحق بمدرسة كفتين الارثوذكسية قرب طرابلس الشام. أرسل في بعثة الى روسيا سنة 1891 لدارسة اللاهوت لكنه عدل عن ذلك بعد دراسته ثلاث سنوات، والتحق بجامعة قازان ونال درجة الماجستير في موضوعه المعتزلة والبحث الكلامي التاريخي في الاسلام.
• تولى مواقع أكاديمية عديدة في أذربيجان وروسيا حيث درّس اللغة العريبة وادابها وتاريخ الشرق الاسلامي.
• زار فلسطين ثلاث مرات: الاولى سنة 1908، والثانية سنة 1927 والثالثة 1930. وألقي خلال الزيارتين الاخيرتين محاضرات في تاريخ الحركات الفكرية عند العرب المسلمين والعلوم الاجتماعية الفلسفية.
• عاد ليقيم في القدس لكن السلطات التركية اجبرته على المغادرة سنة 1900.
• توفى في يناير 1942 في مدينة باكو في الاتحاد السوفيتي ودفن فيها.
• منح اسمه وسام القدس للثقافة في سنة 1990.
• كان يكتب في كبريات المجلات العربية كالمقتطف والهلال والنفائس العصرية.
• كان يجيد السريانية والعبرية واليونانية والفرنسية والالمانية والانجليزية والروسية.
• من أهم اعماله:
ـ تاج العروس في معرفة لغة الروس (جزآن)
ـ المعتزلة والبحث الكلامي والتاريخي في الاسلام (نال به درجة الماجستير).
ـ من تاريخ الحركات الفكرية في الاسلام (صدر في القدس عام 1928 ونال به درجة الدكتوراة).
ـ جبل لبنان تاريخه وحالته الحاضرة
ـ علم الاصول عند الاسلام
ـ القاموس الروسي العربي جزآن
ـ مبادئ اللغة الروسية لاولاد العرب (جزآن)
ـ وغيرها العديد من الدراسات في اللغة والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي عند العرب، اضافة الى 26 كتابا باللغة الروسية، كما ترك 9 مخطوطات بالروسية ومخطوطتين بالعربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق