الخميس، 7 فبراير 2013



صورة الجزائري في التقارير السرية الفرنسية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية من خلال وثائق الأرشيف الفرنسـي.
د. صـالـح لمــيش / أ. عبد الكامـل جويبة

======

صورة الجزائري في التقارير السرية الفرنسيـة في فترة ما بعد الحرب العـالمية الثانيـة من خـلال وثـائق الأرشيـف الفرنسـي

د. صـالـح لمــيش / أ. عبد الكامـل جويبة

الجزائر وفرنسا، الجزائر والاستعمار الفرنسي، الجزائر في فترة الاحتلال... عناوين مفادها واحد تختلف فقط في بعض الحيثيات الصغيرة، فالاستعمار هو نفسه الاستعمار في كل زمان ومكان، لكن في تتبعنا لمساره التاريخي وقفنا على تغيرات أساليبه في التعامل مع الشعوب وحركاتها التحررية، فهو يتلون كالحرباء ليخادع الشعوب ويحافظ على مصالحه في أماكن تواجده. ولعل من بين أساليبه الشهيرة، محاولة المساس بالشخصية الوطنية الجزائرية من جميع جوانبها، حتى التعريفية منها والمتصلة بالألقاب والتسميات والنعوت، والتي عمد الاستعمار الفرنسي إلى تغييرها حسب ما يتماشى ورغباته ونياته المبيتة، فاختار أسوء ما يوجد من تسميات وألقاب لكل العائلات الجزائرية، حتى أن الكثير من تلك الألقاب يصعب نطقها أمام الملأ، وبذلك سعت الإدارة الاستعمارية إلى رسم صورة الجزائري وفق إيديولوجية معينة تتصل اتصالا مباشرا بكل ما هو منبوذ في القيم الإنسانية العالمية، وهذا ما نقف على حقيقته من خلال تعدد صور الجزائري في الخطابات والوثائق الرسمية لمختلف الهيئات الفرنسية.
وتظهر نيته في هذه الخطابات للمنظومة الكولونيالية الموجهة بالدرجة الأولى إلى الجزائريين أو على حد تعبير ه « الأهالي » فكانت صورة الجزائري في أجندة الإدارة الاستعمارية الفرنسية من 1830 إلى 1962، مشوهة على الدوام.
لذلك ارتأينا في هذه المداخلة المتواضعة الوقوف على تلك الصورة وتحديد معالمها المختلفة من خلال المصادر الفرنسية خاصة منها وثائق الأرشيف الفرنسي وبالتحديد التقارير السرية الفرنسية آنذاك.
ومن تلك الصور نجد الأمي، المتمرد، الخارج عن القانون، الإرهابي والعاصي وغيرها كثير.
ففي أحد التقارير السرية الفرنسية والتي تتكلم عن هجومات 20أوت 1955 بشمال قسنطينة يصف محافظ الشرطة المركزي لسكيكدة منفذي تلك الهجومات بالخارجين عن القانون «les Hors – la loi» كما ورد في ذات التقرير صورة الإرهابي وذلك من خلال القبض على أحد الجزائريين واتهامه على أنه شارك في العمليات الإرهابية في 20 أوت الفارط «Ayan participé à l’activité terroriste du 20 Aout »([1]) وفي تقرير أخر لنفس الجهة تصر الإدارة الاستعمارية على إلصاق صفة الإرهاب بالجزائريين الذين شاركوا في عمليات العشرين أوت 1955، إذ تضع محافظة الشرطة عنوانا لتقريرها هو : « نشاط إرهابي، هجوم سكيكدة في 20 أوت 1955 من طرف الخارجين عن القانون »([2])
بينما تصور الهيئات الرسمية الفرنسية الجزائري بصور أخرى لا تقل حقارة
واستهزاء بشخصه، إلى درجة أن المرء أحيانا ينخدع بتلك الخطابات المفخخة، والتي ولا شك تحمل في ثناياها مغزى كبير هو التقليل من شأن الجزائري، ومن ذلك ما نلمسه في خطاب الحاكم العام الفرنسي «جاك سوستيل» الموجه حسبه إلى كل الجزائريين والجزائريات، إذ وبعد سرد مطول لأهداف خطابه وإظهار النوايا الحسنة من حيث أنه لا يبحث إلا على مصلحة هذا البلد وسكانه يقول في النهاية ما مضمونه: « أن سعادة الجزائر لا تكون إلا وهي فرنسية، وأن الجزائر بدون فرنسا ستكون الجحيم... » وفي هذا صورة متعفنة للجزائري، هي ذلك المغفل الذي يسهل التلاعب بمشاعره وإبعاده عن جوهر قضيته.([3])
ويرسم تقرير أخر صورا أخرى للجزائري هي العصابات واللصوص، حيث يذكر هذا التقرير أن الحوادث التي اندلعت في الفاتح من نوفمبر 1954 هي مغايرة تماما عن تلك التي وقعت في 1945، حيث أن عمليات نوفمبر 1954 هي أعمال لصوصية بإدارة وتوجيه حزب سياسي وجهات خارجية، ومن جملة ما جاء فيه:
« Actes de banditisme, orchestrés, exploités par un parti politique, dirigés de l’extérieur. »([4])
فصور الجزائري في الخطاب الكولونيالي غير منتهية وغير محددة، لأنه في كل مرة نقف على صورة جديدة يخصصها هؤلاء الفرنسيين للجزائري يرسم معالمها صاحب هذا الخطاب كيفما يحلو له، علما أن هناك نقطة إجماع بينهم جميعا هي أن للجزائري كل الصفات غير المرغوب فيها، ومن ذلك ما نقرؤه في أحد تلك التقارير السرية لاجتماع جنرالات الجيش الفرنسي في 05 مارس 1955 لدراسة الوضع في الجزائر، إذ ومن بين ما جاء في هذا التقرير السري على لسان أحد الجنرالات، « أننا نواجه صعوبات ومواجهات مسلحة في الأوراس حيث يوجد 400 مسلح متصلب مدعمين ب 1500 من الأذناب المسلحين، ففي كل الأوراس يسود جو من اللاأمن لأن السكان يدعمون "الأوغاد" سواء عن قناعة أو خوفا وهو الغالب » فقد سمح هذا المسؤول لنفسه لينعت الجزائري بالقذر أو الوغد لا لشيء سوى لأنه رفض سياسة الظلم والقهر التي فرضها الجهاز الاستعماري الفرنسي على طول أكثر من قرن من الزمان، ومن ضمن ما جاء في هذا التصريح:
«Dans tous les Aurès règne une atmosphère d’insécurité, car la population aide les Salopards soit par conviction soit plus souvent par crainte»([5]).
علما أن الإيديولوجية الفرنسية في هذا الباب لم تفرق بين من رفع السلاح في وجهها ومن ناضل دبلوماسيا بالقلم والكلمة وبين من كان من عامة الشعب البسطاء ومن كان من النخبة، فالجميع مدرجون في خانة واحدة ويشتركون في نفس الصفات وترسم لهم نفس الصور.. وهذا ما تؤكده النعوت التي وصفت بها شخصيات الحركة الوطنية، إذ وفي أحد التقارير السرية التي تتبعت تحركات وفد جبهة التحرير الوطني في الخارج بقيادة فرحات عباس نقلت أجهزة الاستخبارات الفرنسية بتاريخ: 10/08/1957 عن مراسل إذاعة القاهرة بالبرازيل، أن وفد جبهة التحرير الوطني بقيادة فرحات عباس، قد وصل إلى الأرجنتين حيث استقبل من طرف السفير السوري والسلك الدبلوماسي العربي، وكذا العديد من التنظيمات الرسمية الأرجنتينية، إذ تم رفع الأعلام الجزائرية والأرجنتينية، ولم يفوت فرحات عباس الفرصة ليصرح قائلا: « خلال ثلاث سنوات، لم يستعمل المجاهدون الجزائريون ولا سلاح واحد شيوعي... لدينا ثقة كبيرة في عدالة قضيتنا لسنا في حاجة إلى الضغط بالمساومة. » فعلقت المصالح العسكرية السرية على مضمون التصريح بعبارة قذر أو وغد والتي نوردها كما جاءت في الأصل:
»et le chantage qu’il a fait vis-à-vis au U.S.A menaçant، j’aller chercher aide en U.R.S.S ? Quel salop ! ([6]
فحق لنا أن نقول أن الإدارة الاستعمارية كانت عادلة في هذا الجانب. بين الجزائريين.
ولم تتوقف الآلة الفرنسية في فترة الاحتلال عن ابتكار الصور القبيحة وإلصاقها بالجزائري، سواء مباشرة أو عن طريق الإيحاء ومن ذلك ما نلمسه وبوضوح من خلال التقارير الفرنسية التي تتحدث عن جملة النداءات والنشريات الموجهة للجزائريين، وإذ هي تدرك أن عامة الشعب يتخبط في الجهل والأمية الذي تسببت فيه فرنسا عمدا، تقوم بكتابة تلك النشريات باللغتين الفرنسية والعربية، لكن الغريب في الأمر أن النص العربي سيق بلغة عامية بعيدة كل البعد عن العربية الفصحى، وهذا ما يوحي بشيئين الأول أن فرنسا تقول بلسان حالها هنا أن الجزائري أمي والدليل على ذلك أنه لا يفهم حتى اللغة التي يدعي أنها لغته الأم، والثاني أنها تقبح صورته لتلحق صورة أخرى إلى قاموس الصور الذي خصص للجزائري منذ بداية الاحتلال ومنذ شاعت كلمة الأهالي في الخطاب الرسمي الفرنسي، وعلى سبيل المثال لا الحصر ما ورد في نشرية صحية للحكومة العامة تحذر فيها من انتشار مرض السرطان في أوساط الجزائريين، حيث تخاطبهم بالعبارات التالية: « المكافحة ضد مرض السرطان "الكونسير" ..هذا المرض اللي جى في صفة حية تتمشى في جسد بن آدم وتاكله بالشوية...والانسان اللي مريض بيه يقدر كذلك يبرا منه بشرط يداويه في الجدية على خاطر هذا المرض كي كون جديد ويعرفه الطبيب يكون دواه ساهل بعون الله...» ([7])
وأكثر من ذلك عمد الدبلوماسيون الفرنسيون في فترة الثورة التحريرية إلى نشر أطروحة البعد الشيوعي لقادة جبهة التحرير الوطني تارة ووصفهم بالقوميين العنصريين المتعصبين تارة أخرى، حتى تنفر منهم الأوساط الليبرالية الغربية، وتتفادى التعامل والاتصال بهم، خاصة في إطار ما كانت تشهده العلاقات الدولية من صراع شديد بين الرأسمالية والاشتراكية في خضم الحرب الباردة. هذه الحرب نفسها هي التي تسببت فيما بعد في فقدان فرنسا لمكانتها عند دول غرب أوروبا الرأسمالية، لأن استمرار حرب الجزائر كلف العالم الرأسمالي خسائر فادحة، وأتاح فرصا كبيرة للإتحاد السوفيتي و المعسكر الشيوعي ليظهر بمظهر المدافع عن الشعوب المستعمرة.
وكرد فعل أولي حول عمليات الفاتح من نوفمبر، صدر أول بيان للحاكم العام الفرنسي للجزائر آنذاك "روجيه ليونار Roger Leonard " في صباح أول نوفمبر 1954م، عدد فيه الخسائر التي لحقت بجنوده، ونعت فيه المجاهدين بالمجرمين وقطاع الطرق واللصوص. كما استدعى بعض القوات الاحتياطية لتدعيم قواته بمناطق الحوادث.([8])
وفي نفس الوقت وصفت بعض الصحف الفرنسية عمليات الثوار بأنها "عصيان مؤقت لجماعات إرهابية لا رابط بينها" ([9]). وجندت للغرض نفسه الصحافة اليومية "صدى الجزائر" "برق قسنطينة" و"صدى وهران" لشن حملة إعلامية شرسة على المجاهدين والتقليل من قيمة جيش التحرير، ووصفه بالمجموعات المرتدة وقطاع الطرق وخريجي السجون والفلاقة. ولدعم هذا التوجه قام سلاح الطيران، برمي الآلاف من المنشورات تدعو السكان إلى الالتزام بالهدوء والتخلي عن العصاة([10]).
وظل الخطاب الفرنسي الكولونيالي يتفنن في ابتداع التسميات والنعوت من حين إلى أخر وفي كل مناسبة تتفق كل تلك النعوت حول هدف واحد هو تشويه صورة الجزائري في الداخل والخارج.
فحسب المختصين في الحروب والنزاعات، تسعى الصراعات بين الدول والجماعات، مهما اختلفت أسبابها وتنوعت أسلحتها، أولا وقبل كل شيء إلى تحطيم معنويات الخصم وتحطيم الإرادة الدفاعية وإدخال اليأس إلى أفراده وإشعارهم بالقصور ومن ثم إخضاعهم لإرادته واستغلالهم لصالحه.
فالمتأمل حينئذ في العوامل الأساسية الدافعة للصراع يجد أنها نفسية, وأن النتائج التي تستهدف تحقيقها نفسية بالدرجة الأول. وإذا كانت الحرب عبارة عن صراع مسلح بين دولتين أو أكثر حيث يعمل كل طرف على تحطيم الطرف الآخر والتفوق عليه، فان الصراع في علم النفس هو حالة انفعالية مؤلمة تنتاب الفرد عندما يهدد في كيانه أو عندما تحبط دوافعه أو رغباته أو طموحاته.
ونتيجة الصراع هي الانتصار أو الهزيمة. وكلاهما حالات نفسية. فالانتصار حالة مسرة ناجمة عن الشعور بالتفوق والنجاح على الخصم والسيطرة عليه. والهزيمة هي أيضا حالة نفسية مؤلمة مصحوبة بالقلق واليأس والشعور بالهوان والخضوع والاستسلام وفقدان الثقة في الذات. لذلك نجد ظاهرة التهديد والوعيد وإبراز القوى أو وسائل الفتك -وهذا سواء على مستوى الأفراد والجماعات أو الدول- إنما تستهدف إحداث الشعور بالهزيمة لدى الخصم ومن ثمة إخضاعه وقهره بدون اقتتال.
فبعض زعماء العالم المشهورين كهتلر مثلا يرى بأن ما يهمه من الحرب هو التحطيم المعنوي للخصم قبل انفجار الحرب([11])
وعموما الحرب النفسية عند الاختصاصيين تعني استخدام الدعاية والإشاعة والأساليب السيكولوجية الأخرى للتأثير على معنويات العدو، وإحداث مشاعر معينة بين الجماهير لغرض زعزعة ثقتها بنفسها وبقادتها ومعتقداتها وحتى تاريخها وهويتها، وكذا تفتيت عزيمتها وإضعاف إرادتها وخلق الانشقاقات بينها مما يشغلها عن قضيتها الأساسية ويسهل الانقضاض عليها، ولعل حرب الخليج الأخيرة سنة 2003 هي أحسن الأمثلة على ذلك وكذا بالنسبة للحرب اللبنانية الإسرائيلية سنة 2006 والتي لعبت فيها التصريحات والبيانات دورا بارزا في التأثير على هذا الطرف أو ذاك.
وعموما نجد أن مصطلح الحرب النفسية قد يرادفه عدة مصطلحات أخرى كالحرب الدعائية والحرب الفكرية والحرب السياسية والحرب الباردة... وغير ذلك وهي كلها تستهدف التأثير على نفسية الخصم ومعنوياته
والحرب النفسية أكثر شمولا واتساعا لأنها لا تشمل القوات المقاتلة فقط وإنما توجه إلى كل فئات الشعب. وكما أنها لا تعتمد المواجهة الصريحة كما يحدث في المعارك العسكرية ولكنها تلجأ إلى أساليب خفية وملتوية ومقنعة غير معروفة بالنسبة لغالبية الشعب، لذلك يكون تأثيرها أكثر خطورة.([12])
فالاستعمار الفرنسي في الجزائر ظل يزاوج بين مختلف الأساليب والسياسات فاستعمل القمع والتدمير والحرق والتقتيل والإبعاد والقضاء على قيم الشعب وتراثه الثقافي والحضاري كالدين الإسلامي واللغة العربية. وكذا سياسة التنصير والتجهيل. وفي اعتقادنا كلها تندرج تحت غطاء الحرب النفسية السيكولوجية.
فاندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر فاجأ الاستعمار الفرنسي بل أفقده صوابه فكانت ردود الفعل الأولية شبه فوضوية إذ أصبحت فرنسا تخبط خبط عشواء، لكن سرعان ما رأت أن الأمر يستدعي مجهودا إضافيا وتكتيكا خاصا مما جعلها تعيد النظر في استراتيجيتها، ومما يدل على ذلك تصريحات بعض جنرالات الجيش الفرنسي كسالان، والجنرال ماسو)اللذان أكدا على أن الهدف البعيد لهذه المعركة هو إبعاد المدنيين عن الثوار وعزلهم روحيا ووجدانيا عن الشعب الذي يمدهم بالتشجيع والمؤونة والمال.([13])
ولأجل ذلك كله عملت فرنسا على إنشاء مصلحة مختصة بالحرب النفسية والإعلامية أو ما كان يسمى بالمكتب الخامس تحت إشراف ضباط مختصين تمرنوا على ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية، ولتدعيم هذه المصلحة بمختصين – خاصة عندما تأكدت فرنسا من الحاجة الماسة لها – قررت السلطات الفرنسية إنشاء مدرسة نفسية قرب سكيكدة تحت إدارة الكولونيل بيجار([14]). ولذلك نجد الاستعمار الفرنسي لم يتوان في استعمال هذه الحرب النفسية في كل الجبهات وبألوان شتى نذكر منها:
اخـــتـــلاق الدعــايــة
والتي ارتكزت على الصحافة الفرنسية بمختلف قنواتها المكتوبة والسمعية والمرئية، لتضليل الرأي العام الجزائري والفرنسي وحتى الدولي، لرسم صورة مشوهة للجزائري على جميع الأصعدة، وذلك بتزييف الحقائق الجارية في الجزائر مدعية أن ما يجري هو عبارة عن تمرد تقوم به عصابات خارجة عن القانون، وأن السلطات ستضع حدا لها في أقرب وقت وبكل الوسائل، وهذا ما أكده " مانديس فرانس " أمام الجمعية الفرنسية في12 نوفمبر1954 حيث صرح قائلا: « إن روح الإجرام المتأصلة في حفنة من الرجال يجب أن تقابل بقمع حاسم لا يعرف الهوادة»([15]) إضافة إلى ما صرح به وزير داخليته " فرانسوا ميتيران" في 05نوفمبر1954 قائلا: « الجزائر هي فرنسا من فلاندر إلى الكونغو... » وكل تلك التصريحات كان الهدف منها التشكيك في حقيقة الثورة وإنكارا لهوية الشعب الجزائري ومطالبه الاستقلالية وقطع الطريق أمامه حتى لا يفكر أصلا في دعم الثورة أو الانضمام إليها منذ البداية.
تشويه صورة المجاهدين والتي نقلنا بعضا من معالمها سابقا معتمدين بالخصوص على الصحافة الفرنسية التي كانت تروج منذ البداية لصور مغرضة ومزيفة عن جبهة وجيش التحرير، تظهر من خلالها هؤلاء الرجال كما لو كانوا سفاحين وإرهابيين وقطاع طرق لا رحمة ولا شفقة بهم، وذلك من أجل زرع الحقد والكراهية اتجاههم بين الأوساط المحلية والدولية وحتى أفراد الجيش الفرنسي حتى لا يدخروا جهدا في القضاء عليهم بتلذذ. وفي هذا الصدد ذكر أحد المؤرخين(*) كيف تفنن الفرنسيون في سرد القصص الخيالية المرعبة عن ممارسات أفراد جيش التحرير، بغرض خلق نوع من الذعر والهلع لدى الفرنسيين بصفة عامة، حتى يؤيدوا السياسة القمعية التي يمارسها الجيش الفرنسي ضد المدنيين والثوار الجزائريين وأكثر من ذلك استدراجهم للمساهمة في هذه الأعمال الوحشية.
زرع الإشاعات
فقد عملت الإدارة الاستعمارية على نشر مجموعة من الإشاعات منذ بداية الثورة بهدف زرع الخلاف والشقاق داخل مسيري الثورة وإدخال الشك بالانتصار بين المجاهدين، ومن ذلك تصوير أفراد الجيش الفرنسي على أنهم أبطال ينتصرون يوما بعد أخر على المتمردين والعملية ما هي إلا مسألة وقت فقط، وهذا لإحداث الارتباك والتردد في صفوف جيش التحرير، ومن تلك الإشاعات أن هناك خلاف بين قيادات جبهة التحرير، وكذا محاولة القيادة العسكرية الانقلاب على زعماء الثورة، كذلك وجود حرب طاحنة بين المعتدلين والمتطرفين، والحديث عن تنظيم القبائل لانقلاب قريب... وغيرها من الإشاعات المفبركة([16]) وفي هذا صورة للجزائري الفوضوي الهمجي، البعيد كل البعد عن التنظيم.
كما حاول الاستعمار الفرنسي إظهار جبهة التحرير الوطني وأفرادها بالشيوعيين وهذا ما استدعى تدخل حلف الأطلسي إلى جانب فرنسا في حرب الجزائريين، وقد استغلت فرنسا خبر سفر وفد جبهة التحرير إلى الصين، وقامت بتسجيل اسطوانة وفرت لها كامل شروط التوزيع والانتشار، مفادها أن هؤلاء الشيوعيين قد تحالفوا مع الشيوعية المعادية للإسلام ومن ذلك وجب القيام ضدهم ومساعدة فرنسا لإلقاء القبض عليهم...([17])
استغلال الصحافة بصفة قصريه في الأسلوب النفسي، إذ عملت الإدارة الاستعمارية على دعم الصحافة الفرنسية الموالية لها بكل الوسائل في حين فرضت مراقبة مشددة على الأخرى المحايدة أو الوطنية بحيث تقوم بمنع أو حجز عناوين أو أعداد منها كلما دخلها شك في أن تقوم هذه الصحف بكشف الحقائق وتوضيحها ومنه إيقاظ الأهالي الجزائريين.([18]) وأكثر من ذلك فقد ذهبت إلى حد تزوير بعضها كصحيفة المجاهد عدد 25 مارس 1960 إضافة إلى التزوير الإذاعي والذي لا يسمح المقام للخوض في تفاصيله.
انتــهــاك الحرمــات
فالمعلوم أن كرامة المرأة وشرفها من الأشياء المقدسة في الديانات السماوية وفي معظم ثقافات العالم، والمرأة في الإسلام وفي التقاليد الجزائرية لها مكانة خاصة إلى حد أن مكانة الرجل وعزته وكذا درجة نبل الأسرة في القبيلة يتوقف على مدى حرمة المرأة وشرفها، وأن زوال هذه الحرمة من أهم عوامل الذل والهوان التي تصيب الرجل في المجتمع الذي يعيش فيه، لذلك فالدفاع عنها بكل الوسائل هو من أقدس المقدسات، ولما كان الاستعمار الفرنسي يدرك هذا جيدا، فإنه لجأ لاستغلاله في قهر الشعب الجزائري وإذلاله في كسر مقاومته وحمله على التجنيد في صفوف الحركة, وعلى سبيل المثال لا الحصر ما وقع في إحدى القرى القريبة من زمورة إحدى قرى ولاية برج بوعريريج، حيث طلب الضابط الفرنسي المسؤول عن تلك الناحية من رجال القرية التطوع لتكوين فرقة من الحركة لإحباط هجومات جيش التحرير، ولما رفض السكان هذا الطلب رفضا قاطعا جمع كل سكان القرية في ساحة وقيد الرجال وعلى بعد ثلاثين مترا جمع النساء البالغ أعمارهن ما بين 12 و50 سنة وأعطيت الأوامر من الضابط بهتك أعراضهن أمام أعين أبائهن وأبنائهن وأزواجهن وإخوانهن، إذ هددهم الضابط الفرنسي بأن يعيد الكرة لاحقا إن لم يعدلوا عن رأييهم ويقبلوا بالتطوع في الجيش الفرنسي ضد الثورة، وبعد تكرار العملية لثلاث أيام انهارت مقاومة الرجال ورذخوا لطلب الضابط الفرنسي([19])
محاولة استغلال الدين الإسلامي فلما كانت فرنسا تدرك أن إعلان الثورة كان باسم الجهاد في ضل الدين الإسلامي، وأن ذلك السبيل الوحيد للم شمل الأهالي تحت راية واحدة، لجأ الاستعمار الفرنسي لمحاولة توظيف هذه الورقة لصالحه للتأثير على الشعب الجزائري نفسيا من الناحية الدينية، باستصدار فتوى من العلماء لإبطال شرعية القتال، وهذا ما قامت به فعلا فرنسا من قبل([20]).
بث التصريحات المضادة للثورة
إضافة إلى ما سبق من الوسائل السيكولوجية التي اعتمدتها فرنسا للتأثير على الجزائريين في مختلف مراحل الثورة بهدف عزلهم عن المجاهدين وكذا إحباط العمل الثوري والتمكن من القضاء عليه، لجأت هذه المرة إلى استعمال بعض العملاء أو إجبار بعض الثوار المقبوض عليهم على الإدلاء ببعض التصريحات التي تنال من الثورة بطريقة أو بأخرى وتبرز في نفس الوقت النوايا الحسنة لفرنسا في تعاملها مع الشعب الجزائري، وحتى اللجوء إلى اختلاق بعض الأكاذيب حول القيادات السياسية والعسكرية للثورة والعمل على نشرها عبر وسائل الإعلام المختلفة.
استغلال الأوضاع الاقتــصـاديــة والاجتماعــية المتدهورة للجزائـريــين وإشعـــارهــم بـالــذنـب([21]) وذلك بدعوتهم للتراجع عن مواقفهم من فرنسا والتكفير عن أخطائهم حيث كانت كلما جاءت إلى توزيع ما يحتاج إليه الجزائريون من مؤونة وأغذية وبكميات قليلة جدا لا تفي بالغرض، بعد قطعها عليهم وتجويعهم لفترات طويلة كانت تحملهم مسؤولية هذه الحالة المتدهورة وتدعوهم للوقوف إلى جانب فرنسا التي تسعى جاهدة لتوفير ما يحتاجونه والابتعاد عن هؤلاء المتمردين في الجبال مصدر تعاستهم وفقرهم.
خـــاتـــمــة 
إن الاستعمار الفرنسي لما حل ببلادنا في 1830 أدرك كل الإدراك أن هذا الشعب لا يمكن ترويضه بسهولة، لذلك ظل يجند خبراءه في شتى الميادين للبحث عن الأساليب الناجعة للتحكم في هذا الشعب والسيطرة عليه وقتل روح المقاومة والانتفاضة فيه، فطبق عدة مشاريع وبرامج للوصول إلى تلك الغاية الدنيئة، فبدأ بالقتل الجماعي والانتقام من المقاومين ومن يتعاون معهم، وجرد السكان من ممتلكاتهم من أراضي وعقارات وحيوانات وغيرها حتى يجبرهم عن طريق الحاجة والفقر إلى الانصياع لسياسته التغريبية، كما طبق عليهم سياسة التجهيل حتى يجعل منهم غرباء في وطنهم يجهلون حقوقهم ويقومون بواجبات وأعباء غيرهم دون شكوى أو تظلم، ولم يتوان في محاربتهم في دينهم وموروثهم الحضاري، واستغلهم في نزاعات وحروب لا تعنيهم تحت التهديد تارة وتحت الإغراء تارة أخرى، ولم تتوقف سياسته عند هذا الحد بل سعى جاهدا إلى زرع الشعور بالنقص في نفسية الجزائري من خلال إيديولوجية معينة تتركز على عدة وسائل وأساليب منها رسم صور كثيرة للجزائري تجمع كلها على الصفات القبيحة المنبوذة التي تنفر العدو والصديق من الجزائري من ناحية ومن ناحية تعطي الشرعية للمحتل الفرنسي في تواجده في الجزائر، دعما لمقولته أنه جاء لنشر الحضارة في هذه الربوع التي تعاني التخلف والجهل والهمجية ووو... لكن بعد الحرب العالمية الثانية تغيرت الأوضاع والمفاهيم واستيقظ من كان في سبات وانكشفت حقائق الاستعمار وألاعيبه، فكان الرد عنيفا وقويا ممثلا في ثورة الفاتح من نوفمبر التي فاجأت العدو قبل الصديق فذهب هذه المرة تحت طائل المفاجأة إلى استعمال كل وسائل القمع والتهديد والإغراء والمراوغة، فنوع من وسائله السياسية والعسكرية والنفسية السيكولوجية في الداخل والخارج، في محاولات عديدة ومتكررة للقضاء على الثورة. لكن دون جدوى لأن تيار التحرر كان أقوى من كل الوسائل مجتمعة.
الهوامش
[1] - Centre des archives d’outre mer, boite 93/4195, rapport de la police d’Etat de Philippeville N=° 9828 en date de 06 Septembre 1955, porte l’objet ( Attaque de philippeville le 20 Aout 1955, par les Hors-la loi).
[2] - C.A.O.M, rapport de la police d’Etat de Philippeville N=° 9827 en date de 06 Septembre 1955 porte l’objet (Activité terroriste).
[3] - C.A.O.M, boite 81F/24, Déclaration de Monsieur Jacques Soustelle, Gouverneur général de l’Algérie à Radio- Algérie le 12 Janvier 1956.
[4] - C.A.O.M, boite 81F/24 Op.cit, conseil de la république, rapport d’enquête sur la situation militaire en Algérie N=° 186 en date de 06 Avril 1955, fait par le sénateur M.Rotinat.
[5]- C.A.O.M, boite 81F/24 Op.cit. Compte rendu secret, d’un réunion sur la situation en Algérie par les généraux d’Armée Française en date de 05 Mars 1955.
[6] - C.A.O.M, boite 93/4296 (La tournée de la délégation FLN en Amérique du Sud) Radio de Caire en français le 10/08/1957 à 19.15H.
[7] - C.A.O.M, boite 03H/39, Gouvernement général d’Algérie, direction de la santé publique en Algérie, un tract en Arabe pour la prévention de la maladie du Cancer.
[8] -Roger Leonard : Quatre ans en Algérie, Ed, Imprimerie officielle du gouvernement général de l’Algérie, Alger, 1955, P : 133.
[9] - حلمي محروس إسماعيل: تاريخ إفريقيا الحديث والمعاصر، ج2، مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية: 2004، ص: 663-664.
[10] - يحي بوعزيز: ثورات الجزائر في القرنين 19-20، ط2، ج1، المنظمة الوطنية للمجاهدين، الجزائر: 1998، ص: 2.
[11] - نادر العطار: العرب والحرب النفسية الإسرائيلية، مجلة الشورى، العدد 12 مارس 1976.
[12] - محي الدين مختار: محاضرات في علم النفس الاجتماعي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1982. ص: 52.
[13] - عبد الرحمان مقدم: الحرب النفسية والاستعمار الفرنسي للجزائر، مجلة الدراسات التاريخية،عدد:10 الجزائر 1997، ص: 157.
[14] - المجاهد، العدد 26 ، 1958، ص:09.
[15] - عبد الرحمان مقدم: المرجع نفسه، ص: 159.
* - إيفه كوريير.
[16] - فرانتز فانون: من أجل إفريقيا، ترجمة محمد الميلي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ص: 50.
[17] - يحي بوعزيز: سياسة نابليون الثالث في الجزائر من خلال أقواله و أفعاله، مجلة الثقافة، العدد 50، الجزائر 1979، ص ص: 14-33.
[18] -عبد الرحمان عواطف: الصحافة العربية في الجزائر، دراسة تحليلية للصحافة الثورية الجزائرية 1954-1962. المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر .1985، ص: 33.
- أنظر أيضا، جاب بلقاسم: الإعلام والدعاية وحرب التحرير، مجلة أول نوفمبر، عدد33 عدد خاص، المنظمة الوطنية للمجاهدين، الجزائر 1979، ص ص: 101-107.
[19] - عبد الرحمان مقدم: المرجع نفسه، ص: 165.
[20] - مصطفى الأشرف: الأمة والمجتمع، ترجمة حنفي بن عيسى، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1983، ص: 103.
[21] - أسعد رزق: موسوعة علم النفس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1979، ص:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق