الخميس، 28 فبراير 2013


ابن أبي زرع

كتاب الأنيس المطرب بروض القرطاس ف أخبار ملوك المغرب

الخبر عن ظهور الدولة المرابطة اللمتونية وقيامها بالقبلة والمغرب وبلاد الأندلس
وذكر ملوكهم ومدة أيامهم إلى انقضائها وذهابها
ذكر محمد بن الحسن بن أحمد ابن يعقوب الهمداني صاحب كتاب الإكليل في الدولة الحميرية أن لمتونة فخذ من صنهاجة، وصنهاجة فخذ من ولد عبد الشمس بن وائل بن حمير، وأن الملك إفريقش بن وائل بن حمير لما ملك حمير خرج غازياً نحو بلاد المغرب وأرض إفريقية. فلما توغل بالمغرب بنا مدينة إفريقية، وهي مشتقة من اسمه، وخلف بها من قبائل حمير وزعمائها صنهاجة ليردوا البربر عن شاكلتهم ويأخذوا خراجهم ويدبروا أمرهم.
وروى أبو عبيدة عن ابن الكلبي أن إفريقش لما نقل البربر عن الشام ومصر إلى المغرب وبنا مدينة إفريقية وأنزل البربر منازلهم من المغرب ترك فيهم قبيلتين من دهاته وهما صنهاجة وكتامة، فهما في البربر إلى اليوم.
وقال الزبير بن بكان إن صنهاج أبو صنهاجة هو صنهاج بن حمير بن سبأ ولد حمير من سبأ لصلبه.
وقال أبو فارس عبد العزيز الملزوزي الشاعر في ارجوزته في التاريخ المسمى بنظم السلوك في الأنبياء والخلفاء والملوك:
مرابطون أصلهم من حميرقد بعدت أنسابهم عن مُضر
وأن صنهاج أبوه حميروهو ابنه لصلبه لا العنصر
أكرم به من نسب صريحفقلته لا تخفه بالتصريح
وعدلهم وفضلهم مشهوروخجدهم وسعدهم مذكور
وقيل صنهاجة فخذ من هوارة، وهوارة فخذ من حمير يمانيون من ولد الحصوري بن وائل بن حمير. وإنما سموا هوارة لأن أباهم المشهور لما أجال في البلاد ووقع بالمغرب بقبلة القيروان من بلاد إفريقية قال: لقد تهورنا في البلاد فسموا هوارة بذكل والله أعلم.
وتقسم صنهاجة على سبعين قبيلة، منهم لمتونة وجدالة ومسوفة ولمطة ومسراتة وتلكاتة ومداسة وبنو وارث وبنو مشلير وبنو دخير وبنو زياد وبنو موسى وبنو لماس وبنو فشتال، وفي كل فرقة وقبيلة بطون وأفخاذ وقبائل أكثر من أن تحصى. وهذه القبائل كلها صحراويون بلادهم في القبلة مسيرة سبعة أشهر طولاً ومسيرة أربعة أشهر عرضاً من نول لمطة إلى قبلة إفريقية وقبلة القيروان من بلاد إفريقية، وهي ما بين بلاد البربر وبلاد السودان.
وهو قوم لا يعرفون حرثاً ولا ثماراً، وإنما أموالهم الأنعام وعيشهم من اللحم واللبن، يقوم أحدهم عمره فلا يألك خبزاً إلا إن يمر ببلادهم التجار فيتحفونهم بالخبز. والدقيق وأكثرهم على السنة والجماعة يجاهدون السودان.
وكان أول ملك منهم بالصحراء تَيَولوثان بن تيكلان الصنهاجي اللمتوني ملك بلاد الصحراء بأسرها. ودان له بها أزيد من ملوك السودان كلهم يودون إليه الجزية. وكان عمله مسيرة ثلاثة أشهر في مثلها كلها عامرة. وكان يركب في مائة ألف نجيب. وكان في أيام الإمام عبد الرحمان القائم بالأدلس، ودامت أيامه وطال عمره نحواً من ثمانين سنة إلى أن توفي في سنة اثنتين وعشرين ومائتين.
فولى بعده حفيده الأكبر بن بطين بن تيولوثان المذكور. فقام بأمر صنحاجة إلى أن توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين فكانت أيامه خمساً وستين سنة.
فولي بعده ولده تبيم بن الأثر فقام ملكاً على قبائل صنهاجة إلى سنة ست وثلاث مائة، فقامت عليه أشياخ قبائل صنهاجة فقتلوه. فافترق أمرهم فلم يجتمعوا على أحد بعده. فاختافت كلمتهم وتفرقت أهواؤهم مدة من مائة وعشرين سنة، إلى أن قام فيهم الأمير أبو عبد الله محمد بن تيفات المعروف بتارسنا اللمتوني. فاجتمعوا عليه وقدموه على أنفسهم. وكان من أهل الدين والفضل والصلاح والحج والجهاد فأقام أميراً على صنهاجة مدة من ثلاثة أعوام إلى أن استشهد في غزوة له بموضع يقال له بقارة، وهم قبائل من السودان يسكنون مقربة من مدينة تاتكلاسين غرباً منها. كانوا على دين اليهودية، ومدينة تاتكلاسين يسكنها قبيلة من صنهاجة يعرفون ببني وارث، وهم قوم صالحون على السنة والجماعة أسلموا على يد عقبة بن نافع الفهري أيام فتح المغرب، وهم يجاهدون السودان الذين هم على غير الإسلام.
فلما توفي الأمير أبو عبد الله بن تيفات اللمتوني ولى أمر صنهاجة بعده صهره يحيى بن إبراهيم الجدالي.
الخبر عن دولة الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي وقيامه بأمر صنهاجة
ولي الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي بعد وفاة محمد بن ترسنا اللمتوني، وجدالة ولمتونة إخوة يجتمعون في أب واحد وهم يسكنون آخر بلاد الإسلام ويحاربون السودان. ويليهم من جهة المغرب البحرُ المحيط. فأقام الأمير يحيى بن إبراهيم على رئاسة صنهاجة وحروبهم مع أعدائهم إلى سنة سبع وعشرين وأربع مائة.
فاستخلف ولده إبراهيم بن يحيى على رئاسة صنهاجة وحروبهم مع أعدائهم. واتحل إلى المشرق برسم حج بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي عليه السلام، فوصل فقضى حجه وزيارته، وقفل إلى بلاده. فمر في طريقه بمدينة القيروان، فلقي بها الفقيه الصالح أبا عمران موسى ابن أبي حاج الفاسي، كان قد رحل من مدينة فاس فاستوطن القيروان يأخذ عن أبي الحسن القابسي، ثم رحل إلى بغداد فحضر بها مجلس الفقيه القاضي أبي بكر الطيب فأخذ عنه علماً كثيراً، ثم عاد إلى القيروان فلم يزل بها حتى توفي رحمه الله لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان المعظم سنة ثلاثين وأربع مائة.
فلما وصل يحيى بن إبراهيم الجدالي إلى القيروان ألقى بها أبا عمران الفاسي يدرس العلم فجلس إليه وسمع منه. فرآه أبو عمران محباً في الخير فأعجبه حاله فسأله عن اسمه ونسبه وبلده. وأخبره بذلك وأعلمه بسعة بلاده نما فليه من الخلق. فقال له ومن ينتحلون من المذاهب. فقال له إنهم قوم غلب عليهم الجهل وليس لهم كثير علم. فاختبره الفقيه وسأله عن موجوبات دينه، ولم يجده يعرف من دينه شيئاً ولا يحفظه لا من الكتاب ولا من السنة، إلا أنه حريص على التعلم صحيح النية والعقيدة واليقين، جاهل بما يصلح دينه. فقال له ما يمنعك من تعليم العلم؟ فقال له يا سيدي إن أهل بلادنا قوم عمهم الجهل ليس فيهم من يقرأ القرآن وهم مع ذلك يحبون الخير ويرغبون فيه ويسارعون إليه لم يجدوا من يقرئهم القرآن ويدرسهم العلم ويفقههم في دينهم ويدعوهم إلى العلم بالكتاب والسنة ويعلمهم شرائع الإسلام ويبين سنن النبي عليه السلام، فلو أبغيت الثواب من الله تعالى في تعليمهم الخير لبعثت معي إلى بلدنا بعض طلبتك وتلاميذك فيقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، فينتفعون به ويسمعون له ويطيعون، فيكون لك في ذلك الأجر العظيم والثواب الجسيم عند الله تعالى، إذ تكون سبباً لهدايتهم.
فندب الشيخ الفقيه أبو عمران تلاميذه إلى ذلك. فامتنعوا منه وأشفقوا من دخول الصحراء، ولم يجبه منهم أحد ممن يرضاه الشيخ. فلما يئس منهم، قال له: إني أعرف ببلاد نفيس من أرض المصامدة فقيهاً حادقاً تقياً ورعاً، لقيني هنا وأخذ عني علماً كثيراً وعرفت ذلك منه، اسمه وجاج بن زلوا اللمطي من أهل السوس الأقصى، وهو الآن يتعبد ويدرس العلم ويدعوا الناس إلى الخير في رباطة هنالك، وله تلاميذ جملة يقرؤون عليه العلم. أكتب له كتاباً لينظر في تلاميذه من يبعثه معك، فسر إليه فعنده تجد ما تريد. فكتب إليه الفقيه أبو عمران كتاباً فيه: سلام عليك ورحمة الله تعالى أما بعد إذا وصلك حامل كتابي هذا هو يحيى بن إبراهيم الجدالي فابعث معه إلى بلده من تثق بدينه وورعه وكثرة علمه وسياسة ليعلمهم القرآن وشرائع الإسلام ويفقههم في دينهم، ولك وله في ذلك الثواب والأجر العظيم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. والسلام.
فسار يحيى بن إبراهيم الجدالي بكتاب أبي عمران حتى وصل الفقيه وجاج بمدينة نفيس. فسلم عليه ودفع إليه الكتاب، وذلك في شهر رجب الفرد سنة ثلاثين وأربع مائة. فقرأ الفقيه وجاج الكتاب، ثم جمع تلاميذه فقرأه عليهم ونبدهم [نبأهم؟] لما أمر به الشيخ أبو عمران الفاسي، فانتدب لذلك رجل منهم جزولي النسب يعرف بعبد الله بن ياسين الجزولي، وكان من حداق الطلبة الأذكياء النبهاء النبلاء، من أهل الدين والفضل والتقي والفقه والأدب والسياسة مشارك في العلوم. فخرج مع يحيى بن إبراهيم حتى وصل إلى بلاد جدالة. فتلقاه قبائل جدالة ولمتونة بالسرور وفرحوا به غاية وبالغوا في إكرامه وبره.
الخبر عن دخول الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي ببلاد صنهاجة
وقيامه بها مع لمتونة والمرابطين من قبائل صنهاجة
هو عبد الله بن ياسين ابن مكوك بن سير علي بن ياسين الجزولي. لما وصل مع يحيى ابن إبراهيم إلى بلاد صنهاجة ونزل بساحتهم، ورأى المنظرات ظاهرة فيهم شائعة عندهم، ووجد الرجل منهم تتروج ست نسوة وسبع نسوة وعشرة وما شاء فأنكر ذلك عليهم ونهاهم عنه، وقال لهم: ليس هذا من السنة، وإنما سنة الإسلام أن يجمع الرجل بين أربع نسوة حرائر فقط وله سعة فيما شاء من ملك اليمين. فجعل يعلمهم الدين ويبين لهم الشرائع والسنة يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
فلما رأوه شدد في ترك ما هم عليه من المنكرات، تبرؤوا منه وهجروه ونفروه وثقل ذلك عليهم. ومع ذلك فإنه وجد أكثرهم لا يصلون وليس عندهم من الإسلام إلا الشهدتين، وقد غلب عليهم الجهم. فلما رأى عبد الله بن ياسين إعراضهم عنه واتباعهم أهواءهم أراد الرحيل عنهم إلى بلاد السودان الذين دخلوا في الإسلام، إذ كان الإسلام بها قد ظهر. فلم يتركه يحيى بن إبراهيم الجدالي، وقال له: إني لا أتركك تنصرف وإنما أتيت بك لأنتفع بعلمك في خاصة نفسي وديني، وما علي ممن ضل من قومي، ولاكن يا سيدي هل لك في رأي أشير به عليك إن كنت تريد الآخرة؟ قال وما هو؟ قال إن هاهنا في بلدنا جزيرة في البحر دخلنا إليها على أقدامنا، وإذا ملأ دخلنا في الزوارق، وفيها الحلال المحض الذي لا تشك فيه من الشجر البرية وصيد البر والبحر من أصناف الطير والوحش والحوت، فندخل إليها فنعيش فيها بالحلال ونعبد الله حتى نموت.
فقال له عبد الله بن ياسين: هذا أحسن، فهلم بنا ندخلها على اسم الله تعالى. فدخلاها ودخل معهما سبعة نفر من جدالة. فابتنا بها رابطة وأقام بها مع أصحابه يعبدون الله تعالى مدة من ثلاثة أشهر. فتسامع الناس بخبرهم وأنهم يطلبون الجنة والنجاة من النار. فكثر الوراد عليهم والتوابون. فأخذ عبد الله بن ياسين يقرئهم القرآن ويستميلهم إلى الخير ويرغبهم في ثواب الله تعالى ويحذرهم أليم عذابه حتى تمكن حبه في قلوبهم، فلم تمر عليه حتى اجتمع عليه من تلاميذه نحو ألف رجل من أشراف صنهاجة، فسماهم المرابطين للزومهم رابطته.
وأخذ يعلمهم الكتاب والسنة والوضوء والصلاة والزكاة وما فرض الله عليهم من ذلك. فلما تفقهوا في ذلك وكثروا، أقام فيهم خطيباً فوعظهم وشوقهم إلى الجنة وخوفهم النار، وأمرهم بتقوى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخبرهم بما في ذلك كم ثواب الله تعالى وعظيم الأجر. ثم دعاهم إلى جهاد من خالفهم من قبائل صنهاجة. وقال لهم: معشر المرابطين إنكم جمع كثير وأنتم وجوه قبائلكم ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله تعالى وهداكم إلى صراطه المستقيم، فوجب عليكم أن تشكروا نعمته عليكم وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في سبيل الله حق جهاده. فقالوا له: أيها الشيخ المبارك مُرنا بما شئت، تجدنا سامعين لك مطيعين، ولو أمرتنا بقتل آبائنا لفعلنا. فقال لهم: اخرجوا على بركة الله تعالى، وانذروا قومكم وخوفوهم عقاب الله وأبلغوهم حجته، فإن تابوا وأنابوا ورجعوا إلى الحق وأقلعوا مما هم عليه، فخلوا سبيلهم. وإن أبوا عن ذلك وتمادوا في غيهم ولجوا في طغيانهم، استغثنا بالله تعالى عليهم وجاهدناهم حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين.
فسار كل رجل منهم إلى قومه وعشيرته، فوعظهم وأنذرهم ودعاهم إلى الإقلاع عما هم بسبيله. فلم يكن منهم من يقبل ولا يرجع. فخرج إليهم عبد الله بن ياسين فجمع أشياخ القبائل ورؤسائهم، وقرأ عليهم حجة الله ودعاهم إلى التوبة وخوفهم عقاب الله، فأقام ينذرهم سبعة أيام، وهم و في كل ذلك لا يلتفتون إلى قوله ولا يزدادون إلا فساداً. فلما يئس منهم قال لأصحابه: قد أبلغنا الحجة وأنذرنا، وقد وجب علينا الآن جهادهم، فاغزوهم على بركة الله تعالى.
فبدأ أولاً بقائل جدالة فغزاهم في ثلاثة آلاف رجل من المرابطين، فاهزموا بين يديه، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وأسلم الباقون إسلاماً جديداً، وحسنت حالتهم وأدوا ما يلزمهم من جميع ما فرض عليهم، وذلك في شهر صفر سنة أربع وثلاثين وأربع مائة.
ثم سار إلى قبائل لمتونة، فنزل بهم وقاتلهم حتى ظهر عليهم وأذعنوا إلى الطاعة وتابوا وبايعوه على إقامة الكتاب والسنة.
ثم سار إلى قبائل مسوفة، فغزاهم حتى أذعنوا له وبايعوه على بايعته قبائل لمتونة وجدالة. فلما رأى ذلك قبائل صنهاجة فتسارعوا إلى التوبة وإلى مبايعته وأقروا له بالسمع والطاعة.
فكان كل من أقبل إليه تائباً منهم ظهره بأن يضربه مائة سوط، ثم يعلمه القرآن وشرائع الإسلام، ويأمرهم بالصلاة والزكاة وإخراج العشر، وجعل لذلك بيت مال يجمعها فيه، وأخذ يركب منه الجيوش ويشتري السلاح ويغزو القبائل حتى ملك جميع بلاد الصحراء، واستولى على قائلها، وجمع أسلاب المقتولين في تلك الغزوات، وجعلها فيها للمرابطين، وبعث بمال عظيم مما اجتمع عنده من الزكاة والإعشار والإخماس إلى طلبة بلاد المصامدة وقضاتها، فاشتهر أمرهم في جميع بلاد الصحراء وبلاد القبلة وبلاد المصامدة وسائر المغرب، وإنه قام رجل بجدالة يدعوا إلى الله وإلى الطريق المستقيم ويحكم بما أنزل الله، وأنه متواضع زاهد في الدنيا، وانتشر ذلك عنه في بلاد السودان.
وتوفي يحيى بن إبراهيم الجدالي. فأراد عبد الله بن ياسين أن يقدم غيره في موضعه ليقوم بحروبهم، وكان أكثر قبائل صنهاجة طائعة لله تعالى وديناً وصلاحاً لمتونة. فكان عبد الله بن ياسين يكرمهم ويشرفهم على قبائل صنهاجة، وذلك لما أراد الله تعالى من ظهور أمرهم وتملكهم على المغرب والأندلس. فجمع عند الله بن ياسين برؤساء القبائل من صنهاجة فقدم عليهم يحيى بن عمر اللمتوني وأمره على سائرهم، وعبد الله بن ياسين هو الأمير على الحقيقة، لأنه هو الذي يأمر وينهى ويعطي ويأخذ، فكان الأمير يتولى النظر في أمور حروبهم، وعبد الله بن ياسين ينظر في دياناتهم وأحكامهم وياخذ زكاتهم وإعشارهم.
الخبر عن الأمير يحيى بن عمر بن تلاكاكين الصنهاجي اللمتوني
لما قدم عبد الله بن ياسين يحيى بن عمر اللمتوني المرابط، وكان من أهل الدين المتين والفضل والورع وازهد في الدنيا والصلا لأمره بالجهاد، وكان يحيى شديد الانقياد لعبد الله بن ياسين كثير الطاعة له فيما يأمره به وينهاه عنه. فمن حسن طاعته له إنه لما قال له يوماً وجب عليك أدبٌ، قال فيماذا يا سيدي؟ قال له: لا أعرفك به حتى أخذه منك. فكشف من بشرته فضربه عشرين شوطاً، ثم قال له: إنما ضربتك لأنك باشرت القتال وأمضيت الحرب بنفسك، وذلك خطأ منك، فإن الأمير لا يقاتل وإنما يقف يحرض الناس ويقوي نفوسهم، فإن حياة الأمير حياة عسكره وموته فناء جيوشه. فاستولى الأمير يحيى على جميع بلاد الصحراء وغزا بلاد السودان ففتح كثيراً منها.
فلما كان في سنة سبع وأربعين وأربع مائة جمعوا فقهاء سجلماسة وفقهاء درعة وصلحاؤهم فكتبوا إلى الفقيه عبد الله بن ياسين وإلى الأمير يحيى بن عمر وأشياخ المرابطين كتاباً يرغبون منهم الوصول إلى بلادهم ليطهروها مما هي فيه من المنكرات وشدة العسف والجور، وعرفوهم بما هم فيه بها أهل العلم والدين وسائر المسلمين من الذل والصغار والجور مع أميرهم مسعود بن وانودين الزناتي المغراوي. فلما وصل الكتاب لعبد الله بن ياسين جمع رؤساء المرابطين وقرأ عليهم الكتاب وشاورهم في الأمر. فقالوا له: أيها الشيخ الفقيه، هذا مما يلزمنا ويلزمك، فسر بنا على بركة الله تعالى. فأمرهم بالجهاد، وخرج بهم في الموفي عشرين لصفر سنة سبع وأربعين وأربع مائة في جيش عظيم من المرابطين. فسار حتى وصل بلاد درعة، فوجد بها عامل أمير سجلماسة، فأخرجه عنها. ووجد بها خمسين ألف ناقة كانت في مراعيها لصاحب سجلماسة مسعود المغراوي، فعلم الأمير مسعود بذلك، فجمع جيوشه وخرج نحوهم. فالتقى الجمعان، فكانت بينهم حروب عظيمة. ثم منح الله تعالى المرابطين فيها النصر على مغراوة، فقتل مسعود بن وانودين المغرواوي وأكثر جيوشه وفر الباقون. فأخذعبد الله بن ياسين أموالهم ودوابهم وأسلحتهم مع الإبل الذي أخذ في درعة. فأخرج منه خمس جميعه ففرقه لفقهاء سجلماسة ودرعة وصلحائهم، وقسم الباقي على المرابطين، وارتحل من فوره حتى دخل مدينة سجلماسة. فقتل بها من وجد فيها من مغراوة، وأقام بها حتى هدنها وأصلح أحوالها وغير ما وجد فيها [من] المنكرات، وقطع المزامير، وأحرق الديار التي كانت لها بيع الخمر، وأزال المكوس، وأسقط المغارم المخزنية، وترك ما أوجب تركه الكتاب والسنة. فقدم عليها عاملاً من لمتونة، وانصرف إلى الصحراء.
وتوفي الأمير أبو زكرياء يحيى بن عمر في جهاد كان له هنالك ببلاد السودان. فقدم الفقيه عبد الله بن ياسي في مكانه أخاه أبا بكر بن عمر اللمتوني، وذلك في شهر محرم سنة ثمان وأربعين وأربع مائة.
الخبر عن دولة الأمير أبي بكر بن عمر اللمتوني المرابط
لما توفي يحيى بن عمر قدم عبد الله بن ياسين عوضاً منه أخاه أبا بكر بن عمر وقلده أمر الحرب. فندب المرابطين إلى غزو بلاد المصامدة وبلاد السوس، فخرج إليها في جيوش عظيمة، وذلك في شهر ربيع الثاني من سنة ثمان وأربعين وأربع مائة. وكان الأمير أبو بكر رجلاً صالحاً متورعاً، فجعل على مقدمته ابن عمه يوسف بن تاشفين اللمتوني. ثم سار حتى وصل بلاد السوس فغزا بلاد جزولة، وفتح مدينة ماسة ومدينة تارودانت وجميع بلاد السوس.
وكانت بتارودانت قوم من الروافض يقال لهم البجيلة منسوبين إلى علي بن عبد الله المبجلي الرافضي، كان قدم إلى السوس في حين قام عبيد الله الشيعي بإفريقية، فأشاع هنالك مذهبه. فتوارثوه بعده جيلاً بعد جيل وقرنا بعد قرن، لا يرون الحق إلا ما في أيديهم. فقاتلهم الأمير أبو بكر وعبد الله بن ياسين حتى فتح مدينتهم عنوة، وقتل بها من الروافض خلق كثير، فرجع من بقي منهم إلى السنة. وأخذ أموال من قتل منهم فجعلها فيئاً للمرابطين. وأظهر الله المرابطين وعلا كلمتهم.
ففتح معاقل بلاد السوس، وأطاعتهم جميع قبائلها، فأخرج عبد الله بن ياسين عماله على نواحيها وأمرهم بإقامة العدل وإظهار السنة فيها وأخذ الزكاة والعشر، وأسقط ما سوى ذلك من المغارم المحدثة.
وارتحل إلى بلاد المصامدة. ففتح جبال درن وفتح أيضاً بلاد رودة وفتح مدينة شفشاوة بالسيف. ثم فتح نفيس وسائر بلاد جدميوة. وأتته قبائل رجراجة وحاحة فبايعوه. وارتحل إلى مدينة أغمات، وبها يومئذ أميرها لقوط بن يوسف بن علي المغراوي. فنزل عليها وضيق عليه بالحصار، وقاتله أشد القتال. فلما رأى لقوط ما لا طاقة له به أسلمها له وفر عنها ليلاً هو وجميع حشمه إلى ناحية تادلا، فنزل في حماء بني يفرون أرباباها. ودخل المرابطون مدينة أغمات في سنة تسع وأربعين وأربع مائة. فأقام عبد الله بن ياسين بمدينة أغمات نحو الشهرين حتى استراح الماربطون. ثم خرج بهم إلى غزو تادلا، ففتحها وقتل من وجد بها من بني يفرون من ملوكها، وظفر بلفوط المغراوي فقتله. ثم سار إلى بلد تامسنا، ففتحها. فأخبر أن بساحلها قبائل برغواطة في عدد عظيم وأنهم مجوس كفار.
الخبر عن عزو عبد الله بن ياسين مجوس برغواطة
وذكر مذهبهم السخيف وديانتهم الخسيسة
لما وصل عبد الله بن ياسين إلى بلاد تامسنا، أُخبر أن بساحلها قبائل برغواطة في أمم لا تحصى، وأنهم مجوس أهل ضلال وكفر. وأخبر بديانتهم الخبيثة التي تمسكوا بها، وقيل له إن برغواطة قبائل كثيرة، وليس لهم أب واحد ولا أم واحدة، وإنما هم أخلاط من قبائل شتى من البربر اجتمعوا إلى صالح بن طريف القائم بتامسنا حين ادعى النبوة في أيام هشام بن عبد الملك بن مروان. وكان أصله لعنه الله من برناط حصن من عمل شدونة من بلاد الأندلس، فكان يقال من تبعه ودخل في ديانته برناطي، فعربته العرب وقالوا برغوطي، فسموا برغواطة.
وكان صالح بن طريف الذي ادعى فيهم رجلاً خبيثاً يهودي الأصل من ولد شمعون بن يقعوب عليه السلام نشأ من بلاد الأندلس، ثم رحل إلى المشرق فقرأ على عبيد الله المعتزلي القدري، واشتغل بالسحر فجمع منه فنوناً كثيرة، وقدم المغرب فنزل بلاد تامسنا، فوجد بها قبائل من البربر جهالاً، فأظهر لهم الإسلام والزهد والورع، فأخذ بعقولهم واستمالهم بسحره ولسانه وأراهم من نوارجه وتمويهاته، فاستهواهم بذلك. وأقروا بفضله واعترفوا بولايته فقدموه على أنفسهم، وصدروا عن رأيه في جميع أمورهم، ووقفوا عند أمره ونهيه، فادعا النبوة وتسمى بصالح المؤمنين، وقال لهم: أنا صالح المؤمنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. وشرع لهم الديانة التي أخذوها عنه، وذلك في سنة خمس وعشرين ومائة.
وكان الضلال الذي شرع لهم يقرون بنبوته، وإنهم يصومون شهر رجب ويأكلون شهر رمضان. وفرض عليهم عشر صلوات خمساً بلليل وخمساً بالنهار، وأن الأضحية واجبة على كل مسلم في الحادي والعشرين من المحرم، وشرع لهم في الوضوء غسل السرة والخاصرتين، وصلاتهم إيماء لا سجود فيها، ويسجدون في آخر ركعة خمس سجدات. ويقولون عند الطعام والشراب باسم ياكس، وزعم أن تفسيره بسم الله. وأمرهم أن يخرجوا العشر من جميع الثمار. وأباح لهم أن يتزوج الرجل من النساء ما شاء، ولا يتزوج من بنات عمه، ويطلقون ويرجعون ألف مرة في اليوم، فلا تحرم عليهم المرأة بشيء من ذلك. وأمرهم بقتل السارق حيث وجد، وزعم أنه لا يطهره من ذنبه إلا السيف. وأمرهم بالدية من البقر، وحرم عليهم رأس كل حيوان والدجاجة مكروه أكله. وقد وقتهم في الأوقات الديكة، وحرم عليهم ذبحها وأكلها، ومن ذبح ديكاً وأكله أعتق رقبة. وأمرهم أن يلحسوا بُزاق ولاتهم تبركاً، فكان يبصق في أكفهم فيلحسونه تبركاً به ويحملونه إلى مرضائهم فيستشفون به.
ووضع لهم قرآناً يقرؤونه في صلواته ويتلونه في مساجدهم، وزعم أنه أنزل عليه وأنه وحي من الله تعالى إليه، ومن شك في شيء من ذلك منهم فهو كافر. والقرآن الذي شرع لهم ثمانين سورة سماها لهم بأسماء النبيين، منها سورة آدم وسورة نوح وسررة أيوب وسورة موسى وسورة هارون وسورة الأسباط وسورة فرعون وسورة بني إسرائيل وسورة الديك وسورة الخجر وسورة الجراد وسورة الجبل وسورة هاروت وماروت وسورة إبليس وسورة الحشر وسورة غرائب الدنيا. وفيها العلم العظيم عندهم، وأمرهم ألا غسل من جنابة إلا من الحرام.
وقد ذكرنا أخبار برغواطة وملوكهم مستوفية في كتابنا الكبير المسى بزهرة البستان في أخبار الزمان وذكر الموجود مما وقع في الوجود . قال المؤلف عفا الله عنه: فلما سمع عبد الله بن ياسين بحال برغواطة وما هم عليه من الضلالة، راى أن الواجب تقديم جهادهم على غيرهم، فسار إلى غزوهم في جيوش المرابطين، والأمير على برغواطة يومئذ أبو حفص بن عبد الله بن أبي عبيد محمد بن بقلد بن اليسع بن صالح بن طريف البرغواطي المتنبئ. فكانت بينه وبين عبد الله بن ياسين حروب عظيمة وملاحم شديدة، مات فيها من الفريقين خلق كثير. فاستشهد فيها عبد الله بن ياسين الجزولي مهدي المرابطين ورئيسهم. ثقل بالجراح في الحرب وحمل إلى معسكره وبه رمق.
فجمع أشياخ المرابطين ورؤساؤهم، فقال لهم: يا معشر المرابطين إنكم في بلاد أعدائكم، وإني ميت في يومي هذا لا محالة. فإياكم أن تجبنوا فتفشلوا فتذهب ريحكم، وكونوا ألفة وأعواناً على الحق وإخواناً في ذات الله تعالى، وإياكم والمخالقة والتحاسد على طلب الرئاسة، فإن الله يؤتي ملكه من يشاء ويستخلف في أرضه من أحب من عباده. وإني قد ذهبت عنكم فانظروا من تقدموه منكم يقوم بأمركم ويقود جيوشكم ويغزوا عدوكم ويقسم بينكم فيئكم ويأخذ زكاتكم وإعشاركم. فأف[ا]ق رأيهم على تقديم أمير الحرب أبي بكر بن عمر اللمتوني، فقدمه عبد الله بن ياسين عليهم لاتفاق من جميع اأشياخ صنهاجة واجتماع منهم على ذلك. وتوفي عبد الله بن ياسين في عشاء يومه ذلك وذلك يوم الأحد الرابع والعشرين الجمادي الأولى سنة إحدى وخمسين وأربع مائة. ودفن بموضع يعرف بكريفلة بتامسنا، وبنا على قبره مسجداً.
وكان عبد الله بن ياسين شديد الورع في المطعم والمشرب، فكان بطول إقامته فيهم لم يأكل شيئاً من لحمانهم ولا شرب من ألبانهم، فإن أموالهم كانت غير مطيبة لشدة جهلهم، فكان يتعيش من لحوم الصيد. وكان مع ذلك كثير النكاح يتزوج في كل شهر عدداً من النساء وبطلقهن، ولا يسمع بامرأة جميلة إلا خطبها، ولا يجاوز في مهرها أربعة مثاقيل. وكان يأخذ الثلث من الأموال المختلطة ويرى أن ذلك يحلل باقيها وذلك شذوذ من الفعل.
ومما يذكر من فضله وصلاحه ومن بركاته التي شاهدها الناس أن المرابطين خرجوا معه في بعض غزواته للسودان فنفدوا الماء حتى أشرفوا على التلف. فقام عبد الله بن ياسين وتيمم فصلى ركعتين ودعا الله تعالى، وآمن المرابطون على دعائه. فلما فرغ من الدعاء قال لهم: احفروا تحت مصلاي هذا. فحفروا فوجدوا الماء على مقدار شبر من الأرض. فشربوا منه واستقوا وملؤوا أوعيتهم بماء عذب بارد.
ومن بركاته أنه نزل منزلاً بركة كثيرة الضفادع لا يقدر أحد أن يستقر حوله لكثرة نقيقها وصياحها. فوقف عليه عبد الله بن ياسين حداها فسكنت الضفادع ولم يسمع لها نقيق. فلما تباعد عنها عادت.
ولم يزل صائماً من يوم دخل بلادهم إلى أن توفي رحمه الله. ومن حسن سياسة فيهم أنه أقام فيهم السنة والجماعة في المدة القليلة، وحكم عليهم أن من فاتته الصلاة في الجماعة ضربه عشرين سوطاً، ومن فاتته ركعة ضربه خمسة أسواط.
الخبر عن دولة الأمير أبي بكر بن عمر الصنهاجي اللمتوني
هو الأمير أبو بكر بن عمر بن تلاكاكين بن واياقطين اللمتوني المحمدي، أمه حرة جدالية اسمها صفية. لما قدمه عبد الله بن ياسين، بايعته قبائل المرابطين من صنهاجة وغيرهم، فتمت له البيعة. كان أول فعله أن أخذ في دفن عبد الله بن ياسين. فلما فرغ من دفنه عبّأ جيوشه وقصد إلى قتال برغواطة مصمماً في حربه متوكلاً على الله تعالى في جميع أموره. فاستأصل برغواطة حتى فروا بين يديه، وهو في أثرهم يقتل ويسبي حتى اثخن فيهم، وتفرقت برغواطة في الشعارى وأدعنوا له بالطاعة وأسلموا إسلاماً جديداً. ولم يبق لديانتهم الخسيسة أثر إلى اليوم. وجمع أمواله وغنائمهم وقسمها بين المرابطين، ورجع إلى مدينة أغمات فأقام بها إلى شهر صفر سنة اثنتين وخمسين وأربع مائة.
فخرج بجيوشه إلى بلاد المغرب في أمم لا تحصى من صنهاجة وجزولة والمصامدة ففتح بلاد فازاز وجبالها وسائر بلاد زناتة وفتح مدائن مكناسة، وارتحل عنها إلى مدينة لنواتة فحاصرها حتى دخلها بالسيف، وقتل بها خلقاً كثيراً من بني يفرون. وكان دخوله إياها وتخريبها في آخر يوم شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين وأربع مائة. فلم تعمر بعدها إلى اليوم.
فلما فرغ من فتح لواتة ارتحل إلى مدينة أغمات. وكان قد تزوج بها امرأة اسمها زينب بنت إسحاق الهواري رجل من التجار أصله من القيروان. وكانت امرأة حازمة لبيبة ذات رأي وعقل وجزالة ومعرفة بالأمور حتى كان يقال لها ساحرة. فأق[ا]م الأمير أبو بكر معها بأغمات من ثلاثة أشهر إلى أن قدم عليه رسول من بلاد القبلة فأخبره باختلال الصحراء. وكان الأمير أبو بكر رجلاً صالحاً كثير الورع، فلم يستحل قتال المسلمين وسفك دماءهم. فعزم على السير إلى الصحراء ليصلح أحوالها ويقيم فيها يجاهد الكفار من السودان. فلما عزم إلى الخروج للصحراء طلق زوجته زينب وقال لها عند فراقه لها: يا زينب إنك ذات حسن وجمال فائق وإني سائر إلى الصحراء برسم الجهاد لعل أرزق الشهادة والفوز بالأجر الوافر، وأنت امرأة غليظة لا طاقة لك على بلاد الصحراء، وأنا مطلقك. فإذا تمت عدتك فزوجي ابن عمي يوسف بن تاشفين، فهو خليفتي على بلاد المغرب. فطلقها.
ثم ارتحل عن أغمات وأخذ على بلاد تدلا حتى خرج إلى سجلماسة، فدخلها وأقام بها أياماً حتى أصلح أحوالها. فلما أراد السفر منها دعا ابن عمه يوسف بن تاشفين فعقده على المغرب، وفوض إليه أمره، وأمره بالرجوع إلى قتل من به من مغراوة وبني يفرون وقبائل البربر وزناتة. واتفق على تقديمه أشياخ المرابطين لما يعلموا من دينه وفضله وشجاعته وحزمه ونجدته وعدله وورعه وسداد رأيه ويمن نقيبته. فرجع يوسف بن تاشفين إلى المغرب بنصف جيش المرابطين، وارتحل الأمير أبو بكر بن عمر بالنصف الثاني إلى الصحراء وذلك في شهر ذي قعدة من سنة ثلاث وخمسين وأربع مائة.
فتزوج يوسف بن تاشفين زينب المذكورة فكانت القائمة بملكه والمدبرة لأمره والفاتحة بحسن سياستها أكثر بلاد المغرب إلى أن توفيت في سنة أربع ستين وأرع مائة. وسار الأمير أبو بكر إلى الصحراء فهدنها وسكن أحموالها. وجمع جيوشاً كثيرة وخرج إلى غزو بلاد السودان، فجاهدهم حتى فتح بلادهم مسيرة ثلاثة أشهر. وغلب أيضاً يوسف بن تاشفين على أكثر بلاد المغرب واستوثق أمره به.
فلما سمع الأمير أبو بكر بضخامة ملك يوسف بن تاشفين وما فتح الله عليه من بلاد المغرب أقبل إليه من الصحراء ليعزله ويولي غيره. فأحس يوسف بن تاشفين بذلك، فشاور زوجته في ذلك الأمر. فقالت له: يا يوسف إن ابن عمك رجل متورع في سفك الدماء فإذا لقيته فقصر عما كان يعهده منك من الأدب والتواضع وأظهرله غلظة حتى كأنك مساوياً له ومقاوم، ولاطفه مع ذلك بالهدية والأموال والخلع والثياب والطعام والطرف. واستكثر من ذلك، فإنه ببلاد الصحراء وكل شيء عندهم من هنا مستطرف. فلما قرب الأمير أبو بكر بن عمر من عمل يوسف خرج إليه فتلقاه في الطريق، فسلم عليه وهو راكب سلاماً مختصراً ولم ينزل له. فنظر الأمير أبو بكر كثرة جيوشه، فقال له: يا يوسف ما تصنع بهذه الجيوش كلها؟ قال له: أستعين بها على من خالفني. فارتاب أبو بكر من سلامه عليه راكباً ومن جوابه، ونظر إلى ألف بعير موقرة قد أقبلت، قال: ما هذا الإبل الموقرة؟ قال أيها الأمير إني جئتك بكل ما معي من مال وثياب وشيء من الطعام والأدام لتستعين به على الصحراء. فازداد تعرفاً من حاله وعلم أنه لا يتخلا له عن الأمر. فقال له: يا ابن عمي، انزل أوصيك. فنزل يوسف ونزل الأمير أبو بكر، ففرش لهما فرش فقعدا عليه. فقال له: يا يوسف إني قد وليتك هذا الأمر وإني مسؤول عنها فتق الله في المسلمين واعتقني واعتق نفسك ولا يضيع من أمور رعيتك شيئاً، فإنك مسؤول عنهم والله تعالى يصلحك ويمدك ويوفقك للعمل الصالح والعدل في رعيتك، وهو خليفتي عليك وعليهم.
ثم ودعه وانصرف إلى الصحراء. فأقام بها مدة يجاهد الكفرة من السودان إلى أن استشهد رحمه الله في بعض غزواته، رمي بسهم مسموم فمات رحمه الله، وذلك في شهر شعبان المكرم سنة ثمانين وأربع مائة بعد أن استقام له أمر بلاد الصحراء إلى جبال الذهب من بلاد السودان، وخلص الأمر ليوسف بن تشفين من بعده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق