شخصية عبد المؤمن بن علي من خلال نقوده
الدكتور صالح يوسف بن قربة
أستاذ الحضارة والآثار الإسلامية
معهد الآثار ـ جامعة الجزائر
تمهيد
ممَّا لا ريب فيه أن دراسة الشخصيات التاريخية في الحضارة العربية الإسلامية عامة، والمغربية بشكل خاص، تعتبر من المواضيع القليلة النادرة التي لم تحظ إلاَّ بالقليل من اهتمامات المؤرخين والباحثين والعلماء المشتغلين بمسائل تاريخ المغرب في العصر الإسلامي على الرغم من أهمية الموضوع، ووفرة المادة التاريخية والأثرية بشكل يستدعي الانتباه حقاً. ونشير هنا إلى أننا عندما نتحدث عن هذه الظاهرة، لا ننفي إطلاقاً ظهور محاولات جادة تبلورت في شكل بحوث ودراسات تناولت بعض الأعلام والشخصيات البارزة في تاريخ المغرب الإسلامي، ولكن الملاحظ على هذه الأعمال اعتماد أصحابها في تحقيق تاريخ ومساهمات تلك الشخصيات في شتى الميادين، على المصادر التاريخية وحدها، دون الاستعانة والاستفادة من المصادر المادية المتمثلة في المخلفات والشواهد الأثرية المعاصرة للأحداث، وهي كثيرة جداً ولها دورها الإيجابي في تعرُّف المنجزات العلمية والصناعية والمعمارية والفنية، التي تشكل نسبة كبيرة من تراثنا الحضاري المجهول، تعرُّفاً ملموساً. وهكذا يمكن القول في ضوء ما سبق بأنه حتى يومنا هذا ما زالت الدراسات والبحوث في مجال التاريخ والحضارة الإسلامية، تفتقر إلى مثل هذه الأدوات المستعملة في البحث والتنقيب عن الماضي. وفي هذا النطاق، ارتأينا أن نتناول شخصية فريدة في تاريخها ومتميزة في أعمالها بما تركته من آثار عميقة في المجتمع غيرت مسيرته وظهرت واضحة جلية في كثير من المنجزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. تلكم الشخصية هي عبد المؤمن بن علي الكَومي مؤسس دولة الموحدين (541 ـ 668 هـ) وموحد بلدان المغرب العربي، لأول مرة في تاريخها منذ الفتح الإسلامي لها. وفي هذه المداخلة، سنحاول تحديد بعض مآثر هذا الخليفة التي كثر عنها الحديث في السنوات الأخيرة، وخاصة معالم شخصية هذا الرجل التي سنبذل كل ما في وسعنا بما توافر لدينا من أدوات البحث. ولذلك سنروم توضيحها والكشف عنها، ملتزمين بالموضوعية العلمية والتحليل المنطقي في الإفادة من الآثار عامة والمسكوكات أو النقود على الخصوص. وعليه، فإن النقود الموحدية، بنوعيها الفضي والذهبي، ستكون المصدر الأساسي الذي سنحتكم إليه في هذه الدراسة التي تستخلص الحقائق والوقائع التي سنستند إليها في تحديد الخصائص العامة لشخصية الخليفة عبد المؤمن بن علي، هذه الشخصية الفذة التي قدَّر لها أن تقود بلاد المغرب من مرحلة التشتت والانقسامات السياسية والمذهبية إلى مرحلة الوحدة والقوة تحت راية خلافة موحدة لها،لأول مرة في تاريخ المغرب. ومن هنا تبدو أهمية النقود بصفتها وثائق رسمية معاصرة للحكام أو الفترة المراد دراستها؛ فهي بمثابة شارة من شارات الخليفة أو السلطان أو من ينوب عنه، ومظهر من مظاهر السلطة والنظام، ومرآة تعكس نشاط الدولة في مختلف الميادين.
وإذا كان ظهور الموحدين في المغرب الإسلامي أوائل القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، قد أحدث انقلاباً في الأفكار والمفاهيم الدينية والسياسية والاقتصادية، فإن ذلك جاء نتيجة طبيعية لحركة محمد بن تومرت الإصلاحية التي شملت جوانب مختلفة من حياة المجتمع المغربي، وتجلت آثارها واضحة في كثير من نواحي الحياة، ومن بينها النقود. وإذا كانت النقود (السكة) عموماً ترتبط بالاتجاهات السياسية والمذهبية التي تواكب عادة ظهور دولة ما في مكان ما وزمان ما، فإن هذه الحقائق جميعها تنطبق تماماً على دولة الموحدين التي يمثل ظهورها طفرة تاريخية لم يسبق لها نظير في تاريخ المغرب منذ العصور القديمة. وقبل أن نسهب في الحديث عن شخصية عبد المؤمن بن علي ([1]) كما تتراءى من خلال النقود، يحسن بنا أن نمهد بلمحة تاريخية نوضح فيها ظهورها وأسماءها ومصطلحاتها التي عرفت بها وأهم الأنواع المستعملة آنذاك.
أولاً ـ ظهور النقود الموحدية
ليس من السهل تحديد تاريخ ظهور النقود الموحدية من وجهة النظر التاريخية، لانعدام الوثائق من جهة؛ وحتى إذا توافرت وتضمنت بين ثناياها إشارات أو تلميحات من جهة أخرى، فإنها تحتاج إلى غربلة ودراسة دقيقة للتأكد من صحة أخبارها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر ما ورد بخصوصها في كتاب البيدق([2]) "أخبار المهدي بن تومرت" الذي أودعه معلومات غزيرة وقيمة عن فكرة نشأة حركة الموحدين في بداية تكوّنها. وبالمقابل، فإنه لم يعر أي اهتمام لمسألة النقد التي تعتبر أداة فعالة في النظام الاقتصادي وارتباطها الشديد بالحكام، وأكتفي بالإشارة إلى منزلة »السكاكين« أو المشرفين على ضرب النقود، والتي كانت تلي منزلة »المحتسبين« مباشرة.
والملاحظ من تتبع الرواية التاريخية عند مؤرخي المغرب الإسلامي أنها لا تحتوي على تفاصيل جديدة حول الموضوع، ولكنها تجمع على نسبة اختراع الدراهم الموحدية إلى محمد بن تومرت وتطلق عليه بعض النّعوت التي تؤكد فكرة إنشائه لهذا النوع من النقود. فتصفه بـ»صاحب الدرهم المربع«([3]) تارة، أو »صاحب الدرهم المركن«([4]) تارة أخرى. وإذا أخذنا بوجهة النظر التاريخية، قد يكون الإمام ابن تومرت هو صاحب اختراع النقود الموحدية بما لا يدع مجالاً للشك. ولكن الأمر قد يختلف تماماً فيما يتعلق بهذه المسألة إذا احتكمنا فيها إلى وجهة النظر الأثرية التي يمثلها علم الآثار ممثلاً في النقود. والمعروف أثرياً أن النقود تمثل وثائق مادية معاصرة يصعب الطعن في معلوماتها. ولكن الإشكال يزداد غموضاً بسبب خلو النقود الموحدية من تاريخ الضّرب واسم الأمير، باستثناء أنصاف الدرهم التي نقش عليها اسم عبد المؤمن بن علي.
وهنا تبدو صعوبة تحديد تاريخ الضّرب بدقّة. وإذا سلنا بأن الزعيم الروحي لحركة الموحدين المهدي ابن تومرت »لم يضرب النقود باسمه«([5])، على اعتبار أن وضعه يشبه تماماً الدور الذي قام به عبد الله بن ياسين الزعيم الروحي للمرابطين، لأن الرجلين لم يضربا نقوداً باسميهما، ولا سيما أن المهدي نفسه كان يدّعي العصمة، الأمر الذي جعله يترفع عن ذكر اسمه أو نقشه في النقود، ومن ثم يمنح حق ضربها لعبد المؤمن بن علي. ويعزّز هذا الرأي تسميته لعبد المؤمن بـ»إمرة المؤمنين« سنة 524 هـ/ 1130 م ([6]). لذلك فإن تاريخ ضرب الدراهم قد تم في زمن عبد المؤمن.
وفي ضوء المعطيات السابقة يمكن القول بأن تاريخ ضرب النقود الموحدية الفضية (الدراهم) والذهبية (الدنانير) قد بدأ مع عبد المؤمن بن علي([7]). ومن المحتمل جداً أن يكون ذلك منذ سنة 524 هـ/ 1130 م، أي بعد وفاة المهدي بن تومرت. غير أننا لا نستطيع، في غياب الشواهد، أن نحدّد السنة التي انطلقت فيها عملية سك النقود الموحدية، ولا سيما في هذه الفترة المبكرة من نضالهم ضد المرابطين؛ إذ لم تكن بحوزتهم دور للضرب تقوم بإنتاج كميات تغطي احتياجاتهم الشديدة، كأعطيات الجند مثلاً. يضاف إلى ذلك أن الموحدين أنفسهم لم يستعملوا الدراهم المربعة إلاّ بعد وفاة زعيمهم، واستقرار أحوالهم بقيام الدولة في عهد الخليفة عبد المؤمن بن علي. ونعتقد أن دار السكة بمراكش هي التي بدأت بإنتاج النقود الجديدة، ذات الطراز المتميز. وباتساع نفوذ الموحدين، انتشرت النقود وزادت ظاهرة تأسيس دور السكة في جميع أنحاء المغرب والأندلس. وتأسيساً على ما تقدم، يكون عبد المؤمن أول من سك النقود الفضية والذهبية المربعة الشكل والمستديرة التي تضم بداخلها مربعاً أو مثلّثاً. إذن فما الدرهم الموحدي الذي أحدث تجديداً في عالم المسكوكات؟
1 ـ الدرهم المربع
الدرهم الموحدي الجديد والفريد في شكله ومضمونه، في عالم المسكوكات الفضية الإسلامية منذ ضرب المسلمون الدراهم العربية الخالصة في عهد الأمويين بدمشق ابتداء من سنة 78 هـ، والتي لم تعرف خلال مسيرتها الطويلة عبر الدول والعصور الإسلامية تغييراً أو تطويراً في شكلها وحجمها باستثناء التعديلات التي شهدتها في نصوصها وعباراتها تبعاً لاختلاف ميول حكام تلك الدول واتجاهاتهم المتباينة حسب مقتضيات المكان والزمان المتعلقة بأمور الحكم. ومن هنا تبدو أهميتها بما هي ظاهرة حضارية تستحق الدراسة والاستقصاء من قبل الباحثين المختصين والمشتغلين بمسائل تاريخ المغرب الإسلامي، لما تؤدِّيه من دور في الكشف عن جوانب خفية من حياة المجتمع آنذاك.
وبالنظر إلى النقود الفضية الموحدية بصفتها حدثاً تاريخيّاً هامّاً، آثرنا إعطاء تعريف مختص لأهم أنواع النقود التي ساد التعامل بها خلال فترة حكم الخليفة عبد المؤمن بن علي لارتباطها بالموضوع. فالدرهم عبارة عن قطعة معدنية من الفضة، مربعة غير منتظمة الشكل طول ضلعها 14 × 16 سم، يتوسطها مربعان متداخلان، الأول خال من الزخرفة والثاني من حبيبات متراصة متلاصقة تشبه حبات اللؤلؤ. أما وزنه، فكان يعادل نصف الدرهم الإسلامي وهو درهم الكيل؛ فإذا كان وزن الدرهم الإسلامي هو 2.975 غرام، فإن وزن الدرهم الموحدي: 2.975/ 2 = 1.49([8]). تبين هذه النسبة انخفاض الوزن الشرعي بالنصف تقريباً. وكانت الدراهم المربعة وأنصافها تحمل كتابتين مركزيتين من الوجهين نفذت نصوصهما بطريقة الحفر البارز، بأسلوب الخط النسخي الموحدي.
ونقرأ على وجه الدراهم المربعة، كتابة من ثلاثة سطور أفقية تشير إلى هذه الصيغ الثلاث التالية حسب ترتيبها على القطعة وهي:
1 ـ لا إله إلاّ الله
2 ـ الأمر كله لله
3 ـ لا قوة إلاّ بالله.
بينما خصصت كتابة الظهر لتسجيل الشهادتين في صيغة جديدة مقرونة بلقب إمام الموحدين محمد بن تومرت هكذا:
1 ـ الله ربنا
2 ـ محمد رسولنا
3 ـ المهدي إمامنا.
ونلاحظ استحداث عبارات جديدة متميزة فيها انسجام وتناسب في اللفظ مع اختلاف في المعنى والهدف. وهذا الأسلوب المتميز لم يسبق أن استعمل على المسكوكات الإسلامية. فالعبارات الثلاث في الوجه تختم باسم الجلالة (الله)، والظاهرة نفسها يمكن ملاحظتها على عبارات الظهر التي تختم هي أيضاً
بـ»نا «الدَّالّة على الجماعة([9]). وهي بهذا المفهوم وسيلة إعلامية تترجم فلسفة الدعوة الموحدية في ميدان العقيدة، عدا عبارة »المهدي إمامنا« التي تؤكد إقرار الموحدين بإمامة محمد ابن تومرت والتي تشكل ركناً من أركان الدعوة الموحدية نفسها.
بـ»نا «الدَّالّة على الجماعة([9]). وهي بهذا المفهوم وسيلة إعلامية تترجم فلسفة الدعوة الموحدية في ميدان العقيدة، عدا عبارة »المهدي إمامنا« التي تؤكد إقرار الموحدين بإمامة محمد ابن تومرت والتي تشكل ركناً من أركان الدعوة الموحدية نفسها.
أما الدرهم المؤمني ـ نسبة إلى عبد المؤمن بن علي ـ، فهو يعادل من الناحية الوزنية نصف درهم النصاب، مربع الشكل تقريباً، طول ضلعه 11 × 13 سم، ووزنه 0.55 ~0.75 غ. والدراهم المؤمنية على نمطين مختلفين من حيث النصوص المسجلة عليها([10]). إذ نقرأ على النمط الأول في الوجه الآية الأولى من فاتحة الكتاب في ثلاثة سطور أفقية متوازية، على النحو التالي:
1 ـ الحمد لله
2 ـ رب
3 ـ العالمين.
وعلى الظهر:
1 ـ أبو محمد عبد
2 ـ المومن بن علي
3 ـ أمير المؤمنين.
أما نصوص نقود النمط الثاني، فنجدها تتألف من كتابتين مركزيَّتين على النحو التالي:
في الوجه:
1 ـ الحمد لله
2 ـ رب
3 ـ العالمين.
في الظهر:
1 ـ الأمر كله
2 ـ لله لا قوة
3 ـ إلاّ بالله.
ومن استعراضنا المتقدم، يتبين أن النقود الفضية الموحدية مجردة من تاريخ الضرب، وأنها نادراً ما تذكر مكان الضرب. وهذه الظاهرة الفنية تعتبر من أهم خصائص النقود الموحدية عامة. ولما كانت النقود تمثل وسائل إعلامية ودعائية للدولة، فقد علق الموحدون عليها أهمية كبيرة تتجلى لنا بوضوح في ما اختاروه من العبارات الدينية المؤثرة بما يتناسب والجو العام الذي كان قوامه الشعور الديني المتعطش إلى المذهب السّني. لذلك نراهم ينقشون عبارات دينية وأجزاء من الآيات القرآنية لا تقبل الجدل والنقاش لإعجازها وشموليتها وتأثيرها القوي نفسياً ومعنوياً. أما شخصية عبد المؤمن بن علي، فتظهر في المسكوكات بوضوح ممثلة في نقش اسمه وكنيته ولقبه الخليفي (»أمير المؤمنين«) الذي يكشف عن شخصيته الطموحة المتطلعة إلى حكم العالم الإسلامي، »فكان شديد الملوكية كأنه كان ورثها كابراً عن كابر، لا يرضى إلاّ بمعالي الأمور« ([11]). والمعروف أن هذا اللقب ظل إلى ذلك الوقت مقتصراً على خلفاء بني العباس في بغداد والفاطميين في مصر بالقاهرة، وكان عبد المؤمن يرى أنه أحق بتولي خلافة المسلمين. وفضلاً عن هذه الصفة، فإن خلو النقود من اسم»المهدي« ولقبه يدل دلالة واضحة على التفرد بالسلطة وحصر الحكم في أسرته الكومية المؤمنية. ومن هنا يمكن تفسير هذا الإجراء السلطوي بأنه ينم عن دهاء سياسي، يدل على ذلك ادعاؤه النسب العدناني القريشي الذي يؤهله لخلافة المسلمين.
قطعة مستديرة الشكل من معدن الذهب، قطره حوالي 20 ملم. أما وزن دينار عبد المؤمن بن علي، فكان يساوي 12 قيراطاً، والقيراط يساوي ثلاث حبات من حبات الشعير المتوسط، أي أن 12 قيراطاً = (12 × 3 = 36 حبة) وتعادل حوالي 2.33 غرام من الذهب، ونصف دينار عبد المؤمن طبقاً لهذه النسبة المحدَّدة يكون وزنه إذن: (36 ÷ 2 = 18 حبة من حبات الشعير المتوسط)، وهي تعادل 1.16 غرام .
وإذا كان وزن الدينار الإسلامي الذي حدده مرسوم الإصلاح النقدي في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان هو 4.25 غرام من الذهب، فإننا نلاحظ انخفاضاً كبيراً في وزن الدينار المؤمني الذي أصبح يمثل نصف الدينار([13]) الشرعي تقريباً. ولا شك أن هذا التدني في وزن النقود الموحدية في هذه الفترة المبكرة من تكوين الدولة الموحدية له ما يبرِّره سياسياً واقتصادياً. أما التصميم الهندسي لشكل الدينار المؤمني، فهو ابتكار جديد لم يكن معروفاً من قبل في عالم المسكوكات الإسلامية عامة، إذ يتكون من قطعة مستديرة الشكل من معدن الذهب، يزيِّنها من أحد وجهيها حلقة مستديرة على هيئة خطين رفيعين أحدهما منقط والآخر غفل من التنقيط، وبعبارة أدق من حلقتين الأولى خطية والثانية منقوطة، تضمان بداخلهما ثلاثة مربعات، اثنان خطيان والثالث منقط. وهذه الصورة الجديدة للدينار المغربي تجعل الباحث يتساءل عن الدوافع والأسباب التي كانت وراء هذا الابتكار الجديد الذي يمثل اتجاهاً جديداً في تاريخ نظم السكة الإسلامية بشكل عام والمغربية بشكل خاص.
فهل هناك خلفية تاريخية يمكن الاستناد إليها في تفسير ذلك؟ وهل كان ذلك ردَّ فعل على المرابطين الذين كانت سكتهم مستديرة؟ أو كان ذلك نتيجة حتمية لفكرة التوحيد، التي تعني الأصالة والتجديد، ونبذ التقليد والاقتباس؟
الواقع أنه من الصعب جداً إعطاء إجابة علمية مقنعة لأول وهلة، لأن ذلك يستوجب القيام بالبحث والتنقيب في تراث الموحدين الفكري والحضاري، وقراءة مدققة في كتب التاريخ! ونعتقد، طبقاً لبعض المعطيات التي توافرت لدينا، ومنها إقدام عبد المؤمن على تطبيق مبادئ المهدي بن تومرت في الميدان والداعية إلى نشر المذهب التوحيديّ بالإقناع والقوة في كل بلدان المغرب الإسلامي وإحلاله محل المذهب المالكي والقضاء على الفروع، فضلاً عن محاولة القضاء على القوى السياسية التي كانت تتقاسم البلاد. ولتحقيق هذا المشروع الحضاري الجديد، كان عليه أن يأتي بالبديل في كل الميادين. ومن هنا تكمن أهمية هذا الاختراع الجديد الذي عبّر بشكله ومضمونه المتميز عن عظمة هذا التوحيد السياسي والمذهبي والاقتصادي، وسوف نناقش هذه المسألة لاحقاً. وبعد أن تعرفنا شكل العملة الذهبية الموحدية، يتحتم علينا معرفة مضامينها الفكرية، حتى يتسنى فهم المبادئ والأفكار التي جاء بها عبد المؤمن بن علي.
كان الدينار الموحدي في عهد هذا الخليفة يعرف باسم الدينار المؤمني([14])، نسبة إلى صاحبه. وتتألف نصوصه الكتابية من كتابتين إحداهما هامشية والأخرى مركزية من الوجهين، نفذت بطريقة الحفر البارز، بأسلوب الخط النسخي الموحدي. ففي الوجه، كتابة هامشية تتألف من أربع عبارات دينية تسير عكس عقارب الساعة:
1 ـ بسم الله الرحمن الرحيم
2 ـ صلى الله على محمد
3 ـ وآله الطيبين
4 ـ الطاهرين.
أما الكتابة المركزية، فتتكون من ثلاثة سطور أفقية متوازية تشير إلى الشهادتين:
1 ـ لا إله إلاّ
2 ـ الله محمد
3 ـ رسول الله.
وفيما يتعلق بالظهر، نقرأ:
1 ـ أبو محمد عبد
2 ـ المؤمن بن علي
3 ـ أمير المؤمنين
4 ـ الحمد لله رب العالمين.
الكتابة المركزية
1 ـ المهدي إمام
2 ـ الأمة القائم
3 ـ بأمر الله.
أما النصوص الكتابية المسجلة على نصف الدينار المؤمني([15])، فقد اختلفت عباراتها عن نصوص الدينار بعض الاختلاف، يتبين لنا هذا الاختلاف والتوافق في ما يأتي:
الوجه:
أ . كتابة الهامش:
1 ـ بسم الله
2 ـ الرحمن الرحيم
3 ـ صلى الله على محمد؛
ب. الكتابة المركزية
1 ـ لا إله إلاّ
2 ـ الله محمد
3 ـ رسول الله.
الظهر:
أ . كتابة الهامش:
1 ـ أبو محمد عبد
2 ـ المؤمن بن علي
3 ـ أمير المؤمنين
ب. الكتابة المركزية:
1 ـ المهدي
2 ـ خليفة الله.
ولا شك في أن هذه الصيغ والعبارات الدينية الجديدة ستختفي من قاموس السكة الذهبية الموحدية بعد وفاة عبد المؤمن بن علي سنة 558 هـ/ 1162 م . هذه هي الأنواع التي ضربها هذا الخليفة طوال فترة حكمه. وفيما يتعلق بأجزاء الدينار الأخرى كالثلث والربع وغيرها، فلم تصلنا منها نماذج تؤكد رواج أو عدم رواج أجزاء الدينار في المعاملات والتعامل بين الناس. ومعنى ذلك أن الدينار ونصف الدينار والدرهم ونصف الدرهم سيشكلان مصدراً وثائقياً ومحوراً أساسياً في دراستنا لشخصية عبد المؤمن. الذي كان مثار نقاش وجدال بين الباحثين والمؤرخين.
ثانياً: خصائص شخصية عبد المؤمن بن علي
في ضوء الدراسة التحليلية المستخلصة من نصوص السكة الموحدية، والتي كشفت عن مجموعة من الأبعاد والحقائق التي كثيراً ما أكدها المؤرخون القدامى والمحدثون، ومن بينها ما يمكن اعتباره مفتاحاً لتعرُّف شخصية عبد المؤمن بن علي بما انطوت عليه من الأبعاد في النواحي السياسية والدينية والاقتصادية والفنية وغيرها. نستخلص ما يلي:
1 ـ الناحية السياسية
أ. بعد النظر:
كان عبد المؤمن بن علي ممن يتوخون هدفهم باستمرار، فلا يحيدون عنه. ولما كان هدفه بعد وفاة المهدي بن تومرت ومبايعة جماعة الموحدين له البيعة الخاصة بصفته خليفة سنة 524 هـ/ 1130 م والبيعة العامة حوالي سنة 526 هـ/ 1130 م على أرجح الأقوال، بصرف النظر عن اختلاف روايات المؤرخين وتضارب أقوالهم في ظروف توليته الخلافة، هو نشر الدعوة وتعاليم الإمام بن تومرت ومواصلة طريقه، فلم يلتفت للمنافع المادية بقدر ما كان يهتم بهدفه الأصلي في الميدان، وهو القضاء نهائياً على المرابطين وإزالة رسومهم من المغرب. ولتحقيق هذا الهدف، قاد الجيوش الموحدية منذ سنة 524 هـ/ 1130 م، قيادة متواضعة تلقى خلالها درساً من الهزيمة التي مني بها في معركة البحيرة، الأمر الذي دفعه إلى تغيير خطته الحربية وفق خطط جديدة منتظمة، فتجنب باستمرار ملاقاة المرابطين في ساحة القتال (السهل). ولذلك قوّى سلطته في سلاسل جبال المغرب الأقصى، الواحدة تلو الأخرى، انطلاقاً من الأطلس الكبير ثم الأوسط ثم الريف، فالسلسلة الجبلية الواقعة جنوبي مدينة تلمسان([18]). ولذلك لم يخاطر عبد المؤمن بالنزول إلى السهل، بل شق طريقه عبر الجبال بمهارة فائقة. وهنا تظهر هذه الأساليب جديدة غير مألوفة من قبل، لأنها كانت تناسب ظروف الموحدين العسكرية. وهكذا أحرز النصر على المرابطين خلال سنوات قلائل من الصراع بين الطرفين، وتوج ذلك بسقوط مراكش عاصمة ملكهم سنة 541 هـ/ 1143 م .
وتعتبر هذه السنة نقطة تحول كبرى في تاريخ المغرب وحضارته، وفيها تم إعلان أول خلافة موحدة بصفتها نظاماً سياسيّاً جديداً ذا أبعاد مذهبية وفلسفية ومنهجية متميزة في إدارة الدولة ومفهوم الملك. وبعمله هذا يكون قد حقق حلم ابن تومرت في تأسيس خلافة تقوم على تطبيق نظريته ومبادئه التي ناضل من أجل نشرها، بالحكمة تارة وبالسيف تارة أخرى([19]).
وهكذا، فإنه لأول مرة في تاريخ بلاد المغرب الإسلامي، منذ الفتح العربي لها، توحدت تلك البلاد، بفضل قيادة حربية جيدة وسياسة رشيدة، كان الفضل فيها يرجع إلى عبد المؤمن بن علي. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت حدود الخلافة الموحدية تمتد من حدود مصر شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن شمال البحر المتوسط إلى الصحراء جنوباً. وما دمنا بصدد دراسة هذه الشخصية الفريدة، فلابد لنا في هذا النطاق من الربط بينها وبين تأسيس الخلافة الموحدية بصفتها نظام حكم جديد، وضرب السكة بصفتها رمزاً وشعاراً رسميّاً لها. والسكة بهذا المفهوم، تعتبر وثائق رسمية ووسائل إعلامية فعالة في نشر أفكار الدولة وبرامجها ومشاريعها المستقبلية وعلاقتها بجيرانها. وهي إلى جانب ذلك، تمثل العملة الرسمية في المعاملات من بيع وشراء، ومؤشراً للحكم على قوة الدولة واقتصادها ورخاء الحياة المعيشية في المجتمع، وقد تكشف عن الضعف والفقر، إلخ.
ولذلك تعتبر السكة من مستلزمات الدولة. فعن طريقها تتأكد شرعية الخلافة ومؤسسها، من خلال نقش اسمه وكنيته ولقبه عليها. ولتخليد هذا الحدث العظيم، أصدرت دور السكة بمراكش كميّات هائلة من النقود ذات التصميم الهندسي الجديد المتميّز شكلاً ومضموناً عن النقود التي ضربها الحكام الذين تعاقبوا على حكم بلاد المغرب الإسلامي والأندلس قبل ظهور الموحدين. وجميع النقود التي ضربت في هذه الفترة المبكرة، سواء أكانت فضية أو ذهبية تحمل اسم الخليفة عبد المؤمن »أمير المؤمنين« ولقبه. غير أن الظاهرة التي تستوجب الوقوف حقاً، هي أن جل هذه النقود مجرد من تاريخ الضّرب. ولذلك لابد لنا، إزاء هذه الظاهرة، من الاحتكام إلى المصادر التاريخية التي أشارت إلى هذا الحدث، وخصوصاً تحديد المناسبة التي سمّي فيها عبد المؤمن بلقب الخليفة »أمير المؤمنين«. ومن بين هذه المصادر نذكر كتاب "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" لعبد الواحد المراكشي الذي ذكر أثناء حديثه عن الحرب بين المرابطين والموحدين سبب تسمية عبد المؤمن بلقب »أمير المؤمنين« خلال الإعداد البشري والمعنوي لمعركة البحيرة سنة 524 هـ، حيث أمَّر المهدي ابن تومرت على جيش الموحدين عبد المؤمن فقال: »أنتم المؤمنون وهذا أميركم« ([20]). فاستحق عبد المؤمن من ذلك اليوم لقب أمير المؤمنين. ونعتقد أن ذلك كان من بين الأمور التي شجعت هذا الرجل على سرعة نقشه على النقود أولاً، ثم إعلان نفسه أميراً للمؤمنين بعد فتح مراكش ثانياً. ومع ذلك، فإن مسألة تحديد تاريخ ظهور هذا اللقب على النقود تبقى معلقة ويصعب على الباحث إعطاء إجابة محددة فيها، بسبب خلو النقود الموحدية جميعها من تاريخ الضرب. لكن من وجهة النظر التاريخية، فقد فصل فيها المؤرخون بالرغم من اختلافهم حول السنة التي ظهر فيها عبد المؤمن رسمياً أميراً للموحدين([21])، بعد البيعة العامة. وكيفما كان الأمر، فالذي يستشف من سير الحوادث وكلام المؤرخين أن عبد المؤمن قد وفق في الوصول إلى خلافة الموحدين، التي أكد الإمام ابن تومرت وجوبها وأحقيتها في الظهور كما يبدو، وذلك من مخاطبته للصبيان: »إنما الله إله واحد، والرسول حق والمهدي حق والخليفة حق« ([22]).
وتظهر شخصية عبد المؤمن، كما جسدتها النقود، في نظام الوراثة الذي أعلنه بعد تولي الخلافة بعدة سنوات ممثلاً في العهد لولده الأكبر محمد، إذ ليس هناك شك في ما للنقود (المسكوكات) الذهبية من أهمية خاصة في تشخيص ومعرفة الأحداث التي تتعلق بالفترة التي ضربت فيها... فالسكة هي الحكم إذا ما تناقضت الروايات والأقوال حول شخصية خليفة أو حاكم برز فجأة على مسرح الأحداث السياسية ثم اختفى فجأة في رسوم الدولة.
وقبل أن نعرض لهذا الحدث كما صورته النقود، لابد من الإشارة إلى التغير الذي أدخله عبد المؤمن في هيكل السلطة؛ إذ كانت هذه عند وفاة المهدي بن تومرت عبارة عن سلطة شيوخ مجموعات القبائل الذين تجمعهم مجالس مختلفة. فقام عبد المؤمن بنقل هذا الشكل من الحكم الجماعي إلى سلطة قريبة من سلطة الملوك([23]). هذه السلطة الجديدة يتمتع فيها هو وأفراد أسرته. والملاحظ أن عبد المؤمن قد نفّذ هذا التغير الجذري في السلطة من خلال مجموعة من الإجراءات والعمليات المتتالية([24])، لعل أهمها جميعاً إقدام عبد المؤمن بن علي على تعيين ولاية العهد في أحد أبنائه. وقد شرح ابن الأثير تفاصيل هذه الخطوة الجريئة بقوله:
في هذه السنة أمر عبد المؤمن بالبيعة لولده محمد بولاية عهده. وكان الشرط والقاعدة بين عبد المؤمن وبين عمر الهنتاتي أن يلي عمر الأمر بعد عبد المؤمن؛ فلما تمكن عبد المؤمن من الملك وكثر أولاده، أحب أن ينتقل الملك إليهم، فأحضر أمراء العرب من هلال زغبه وعدي وغيرهم إليه ووصلهم وأحسن إليهم ووضع عليهم من يقول لهم ليطلبوا من عبد المؤمن ويقولوا له: نريد أن نجعل وليّ عهد من ولدك، يرجع الناس إليه بعدك. ففعلوا ذلك، فلم يجبهم إكراماً لعمر الهنتاتي لعلو منزلته في الموحدين وقال لهم: إن الأمر لأبي حفص عمر. فلما علم عمر بذلك، خاف على نفسه، فحضر عند عبد المؤمن وأجاب إلى خلع نفسه. فحينئذ بويع لمحمد بولاية العهد، وكتب إلى جميع البلاد بذلك، وخطب له فيها جميعها، فأخرج عبد المؤمن في ذلك اليوم من الأموال شيئاً كثيراً([25]).
وبهذا الإجراء، عين عبد المؤمن أولاده على الأقاليم والولايات، تمهيداً للاستئثار بالسلطة نهائياً.
يقول ابن الأثير: »فأخرج عبد المؤمن في ذلك اليوم من الأموال شيئاً كثيراً«. لا شك أن تلك الأموال التي وزِّعت على الناس كانت ممثلة في النقود التي أخرجتها دور السكة لأول مرة باسم ولي العهد أبي عبد الله محمد (551 ـ 558 هـ) تخليداً لهذه الذكرى. وقد كانت هذه النقود الذهبية مثار جدال بين علماء المسكوكات الذين أشكل عليهم الأمر في معرفة اسم صاحبها، فنسبوها خطأ إلى محمد الناصر رابع خلفاء الموحدين الذي حكم بين 595 و610 هـ، على أساس أنها حملت اسمه وكنيته ولقبه: »الأمير الأجلّ أبو عبد الله محمد«. وقد اختلط الأمر على هؤلاء العلماء لتشابه وتماثل اسم الأميرين، أبو عبد الله محمد بن عبد المؤمن وأبو عبد الله محمد الناصر بن يعقوب المنصور، دون البحث والتحقيق في الظروف والملابسات والمناسبة التي ظهرت فيها هذه النقود وعليها هذا اللقب الفخري المركب »الأمير الأجلّ«.
وكانت حجة هؤلاء الباحثين في إصدار هذا الحكم، ما ورد بشأن هذه المسألة في المصادر التي تذكر أن أبا يوسف يعقوب المنصور كان يتعجل البيعة لولده ووليّ عهده أبي عبد الله محمد لضمان ولاية العهد له، ولا سيما الوثيقة المتضمنة للبيعة التي كتبها أهل قرطبة بمبايعة ولي العهد أبي عبد الله محمد، وذلك في أوائل شهر ذي القعدة من سنة 588 هـ ([26]).
أما نصوص هذا النقد، فهي كالتالي:
الوجه:
أ . الهامش:
1 ـ وإلهكم
2 ـ إله واحد
3 ـ لا إله إلاّ هو
4 ـ الرحمن الرحيم.
ب. المركز:
1 ـ بسم الله الرحمن الرحيم
2 ـ لا إله إلاّ الله
3 ـ محمد رسول الله
4 ـ المهدي إمام الأمة.
الظهر:
أ. الهامش:
1 ـ الأمير الأجل
2 ـ أبو عبد الله
3 ـ محمد بن
ب. المركز:
1 ـ القائم بأمر الله
2 ـ الخليفة أبو محمد
3 ـ عبد المؤمن بن علي
4 ـ أمير المؤمنين.
والحجة في كتابة مركز الظهر التي تؤكّد ـ بما لا يدع مجالاً للشك ـ أنها لأبي محمد عبد المؤمن بن علي، ولي عهده. يدل على ذلك أن القائم بأمر الله (أي نشر الدين) هو عبد المؤمن نفسه؛كما أن عبارة »ابن أمير المؤمنين« ـ الواردة بكتابة هامش الظهر (السطر الرابع) ـ تظهر لأول مرة على السكة الذهبية الموحدية.
وهنا تظهر معالم شخصية عبد المؤمن القوية في التسمية بلقب »الخليفة« بالسطر الثاني من الكتابة المركزية، مما يؤكد تطلع هذا الخليفة إلى حكم العالم الإسلامي بدلاً من الخليفة العباسي، الذي أصبح عاجزاً عن تولي هذا الأمر إذا كان يرى نفسه أنه هو وأسرته من الموحدين أحق بحكم العالم الإسلامي وحماية الحرمين الشريفين([28]).
ويبدو أن الدعوة الموحدية الجديدة قد بهرت عقول المغاربة. يدل على ذلك هذه السرعة العجيبة التي انتشرت فيها والنجاح الكبير الذي أحرزته في وقت قصير. وتظهر عبقرية عبد المؤمن السياسية في أنه نجح في توحيد المغرب الإسلامي وأجزاء من الأندلس لأول مرة في التاريخ، وبعد أن كانت أجزاؤه موزعة بين قوى سياسية (مثل الزيريِّين والحماديِّين والمرابطين)، لكل منها مجالها الحيوي، أصبحت تابعة للخلافة المركزية في مراكش.
ويدعم هذا التوحيد السياسي ما شيده من دور السكة التي انتشرت على مساحة واسعة في المغرب والأندلس، بشكل لم يسبق له مثيل، والتي كانت مهمتها إصدار النقود الموحدية، دليلِ السيادة والسلطان. ومن آثار شخصية عبد المؤمن أن اسمه وألقابه الخلافية مثل »القائم بأمر الله« و»الخليفة أبو محمد عبد المؤمن بن علي أمير المؤمنين«، بقيت ثابتة على السكة الذهبية إلى سقوط الدولة سنة 668 هـ/ 1269 م .
2 ـ الناحية الدينية
عبّر الخليفة عبد المؤمن بن علي عن معلم من معالم السياسة والعقيدة في المغرب الإسلامي. ويعتبر عمله في مجموعه تكملة للعمل الذي قام به ابن تومرت في نشر مبادئه، وبناء الدولة القائمة على أساسه. ولا شك أنه نجح نجاحاً كبيراً عندما وسع سلطان حركة الموحدين إلى تلك الحدود التي ذكرناها، بعدما كان هذا السلطان منحصراً في جبال الأطلس الكبير عند وفاة المهدي. ومع أنه لم يتم له تحقيق ما نادى به المهدي، بنشر عقيدة التوحيد في ديار الإسلام كلها ومقاتلة الدجال في فلسطين، فإنه أوصل سلطان الدولة إلى حدود لم تتجاوزها إلاَّ قليلاً طوال مدة حكمها وخلال مراحل ازدهارها بعد وفاته. وفضلاً عن ذلك، فقد كان عبد المؤمن وفياً لمبادئ ابن تومرت؛ يدل على ذلك استمراره في حفظ مبادئه وأمْرِ الناس بحفظها، حتى أن مجموعة من العقائد المتبقية عن المهدي، وهي "أعز ما يطلب"، إنما جمعها عبد المؤمن نفسه. ويتجلى عمله في ميدان العقيدة في ما قام به من محاربة المنكر وأهل الرأي وكتب فروع الفقه المالكية، كما هي سائدة عند المغاربة والأندلسيين بشكل دائم، ولا سيما عند المرابطين، »فأمر بتحريق كتب الفروع ورد الناس إلى قراءة الحديث، وكتب بذلك إلى جميع طلبة المغرب والعدوة« ([29]).
ولكن هناك من الباحثين المعاصرين([30]) من يرى أن عبد المؤمن لم يكن وفيّاً لتعاليم المهدي بن تومرت إطلاقاً. فعلى الرغم من أنه كان ورعاً شديد الورع وشديد الالتزام بالسنن الدينية التي استنّها المهدي، فإنه لم يتوافر له البيان نفسه ولا الإقناع نفسه. يدل على ذلك تلك النصوص التي كتبها حول أمور الدين؛ فجلها يبعث على الملل، لعدم احتوائها على شيء هام، ليضاف إلى ذلك أن عبد المؤمن نفسه لم يحتفظ بشيء منها، سوى صرامة ابن تومرت في الميدان. فلما استولى على إفريقية وتحرير المهدية من النورمانديين، »عرض الإسلام على من بها من اليهود والنصارى. فمن أسلم سلم، ومن امتنع قتل« على حد تعبير ابن الأثير([31]). ومهما يكن من أمر اتهام هذا الباحث لشخصية عبد المؤمن اتجاه مبادئ أستاذه الأول، فإن الواقع التاريخي المدعم بالبيانات المتوافرة، وكذا الأعمال المعتبرة التي حققها في ميدان إصلاح العقيدة ونشر مبادئ التوحيد، كفيلة بأن تبعد عنه هذه التهمة الواهية، وترفعه إلى مصاف العلماء والمفكرين الذين كانوا ينفذون تطبيق أفكارهم ونظرياتهم في الميدان عملياً، وهو ما تحقق لابن تومرت أولاً ثم لعبد المؤمن بن علي ثانياً اللذين نجحا وأخفق الآخرون، ومنهم الإمام أبو حامد الغزالي الذي ناضل من أجل خلق مجتمع إسلامي مثالي. وتبلورت النتائج التطبيقية لهذا المنهج الجديد في ما نقشه عبد المؤمن بن علي على النقود من نصوص دينية كانت بمثابة كتاب مفتوح يقرأه الناس في المناطق القريبة والبعيدة. وستكون لنا وقفة مع هذا الموضوع بعد حين. وفي ضوء الجهود التي بذلت والنتائج التي تحققت في عهد هذا الخليفة وخلفائه من بعده، يمكن القول بأن الفكر العقدي والفلسفي في المغرب الإسلامي قد دخل ضمن إشكالية أساسية تمثلت في بناء العقيدة الإسلامية على الحقيقة ودعم النقل بالعقل. وبذلك عبر الفكر المغربي على عهد الموحدين، انطلاقاً منها، عن همومه الدينية والسياسية، التي تجاذبت الأجزاء العباسية والفاطمية من العالم الإسلامي([32]). وهذا ما دعا ابن تومرت إلى تقويم طريقة الانتماء إلى هذه الإشكالية. ولما كان المرابطون يشجعون عقيدة قائمة على النقل فقط، فقد وجب إصلاحها بدعمها بالعقل؛ إذ رأى المهدي في عقيدة المرابطين تصوُّراً مشبهاً ومجسماً لله، بسبب إهمالهم الأصول المقدسة في ميدان الشريعة، معتمدين الرأي وكتب الفروع (الفقه) المالكية. ولذلك لم يستطيعوا قراءة هذه الأصول المقدسة بمضامينها المفهومية الأصيلة، ولا دعّموها عقلياً. فجاءت عقيدتهم عقيدة قوامها التجسيم بدل التوحيد والتنزيه حسب رأي ابن تومرت.
وهذا يعني ـ حسب مذهبه ـ أن تصحيح العقيدة لا يتحقق إلاّ بنبذ التقليد والعودة إلى الأصول انطلاقاً من قراءة عقلية للنصوص المقدسة التي تتحدث عن الله تعالى والمنظمة لعلاقته بالإنسان. هذه جملة من الأسباب دفعت بابن تومرت إلى إنتاج خطاب عقدي وإلى العمل على تحقيقه ميدانياً بممارسة سياسية وعسكرية، وهو ما طبع الدعوة أو الحركة الموحدية بأنها ثورة دينية ومعرفية وثقافية معبرة بذلك عن مرحلة أساسية من مراحل التطور الحضاري للمغرب الإسلامي، مرحلة النمو والطموح وتبلور الاتجاهات العقلية في جميع نواحي الحياة الاجتماعية والثقافية([33]). ولهذا خصص ابن تومرت أجزاء من كتابه "أعز ما يطلب" وممارسة السياسة لتجسيد عقيدة قوامها التوحيد والتنزيه المطلقان، الأمر الذي دعا إلى اعتماد وسائل متعددة، منها وسيلة تعلم التوحيد واكتسابه، ووسيلة الحرب والتقتيل من أجل التوحيد. وذهب إلى أبعد من ذلك، فقرّر وجوب العلم بالتوحيد وتقديمه على العبادة، ثم قرَّر أن إثبات العلم بالتوحيد لا يكون إلاّ عن طريق العقل. هذه الأفكار والمفاهيم الجديدة في ميدان العقيدة تولى مهمة نشرها وتوصيلها إلى الأفراد والجماعات الخليفة عبد المؤمن بن علي، وذلك باستعمال النقود بما تحمله من نصوص وآيات وعبارات وجمل دينية تشرح مضامين العقيدة، لما للنقود من تأثير مباشر على المتعاملين بها، ولأن النقود هي الوسائل الإعلامية والدعائية في ذلك الوقت، تيسّر عمليتي التوصيل والتأصيل بين أفراد المجتمع حكاماً ومحكومين لا فرق بين خاصتهم وعامَّتِهم. وهذه المسألة بالذات هي التي دفعت عبد المؤمن إلى انتقاء العبارات والآيات المعبرة تعبيراً صادقاً دقيقاً عن هذا الأسلوب في بلورة الاتجاه الديني الجديد. ولتدعيم وإنجاح هذه الوسيلة وتحقيق الهدف المنشود، أسس العديد من دور السكة في جميع ممتلكات الدولة بالمغرب والأندلس، لتتولى إنتاج الكميات الهائلة من النقود تسهيلاً لعملية البيع والشراء من جهة، ومن جهة ثانية لتمكين الناس من القراءة والاطلاع على مذهب الدولة وبرامجها المختلفة.
وكان عبد المؤمن يعي ذلك تمام الوعي. لذلك اختار من الشعارات المنقوشة على النقود الفضية والذهبية في شكل عبارات سلسة مرنة يسهل على العام والخاص فهمها واستيعابها. وبذلك ساهمت النقود، بما هي وسائل إعلامية مقروءة، في نشر الوعي حول مفهوم التوحيد. وخلاصة القول عن شخصية عبد المؤمن الدينية ـ كما جسدتها نقوده ـ إنه كان رجلاً حكيماً، ومسلماً مخلصاً، شديد الالتزام بتطبيـق مبادئ الدين الإسلامي تطبيقاً فعلياً، وكان ـ رحمه الله ـ لا يتسامح مع من خرج عن الشرع أو أخل بفريضة من فرائض الصلاة أو الصوم.
ومن مظاهر سياسته الدينية الاهتمام بالجيل الناشئ الذي يتوقف عليه مستقبل الأمة، وهو ما أشار إليه ابن القطان بقوله: »ومن مكارم عبد المؤمن حضه الناس على العلم وإرادته لهم ولبنيهم ما يريده لنفسه ولبنيه... واستدعاؤه الصبيان الصغار من أبناء إشبيلية وقرطبة وفاس وتلمسان إلى حضرته ليعلمهم ويحفظهم القرآن والحديث« ([34]). ويضيف صاحب كتاب "الحلل الموشية" »أن هؤلاء الطلبة كانوا يدربون على ركوب الخيل والرمي بالقوس وعلى السباحة والتجديف في بحيرة صنعها الخليفة خارج بستان، وأن عددهم بلغ ثلاثة آلاف طالبٍ كأنهم أبناء ليلة واحدة« ([35]).
3 ـ الناحية الاقتصادية
والراجح أن عبد المؤمن بن علي منذ اعتلائه عرش الخلافة الموحدية في مراكش، قد رأى أن حق الخليفة في ضرب المسكوكات موزع بين حكام وقواد، من أمثال المرابطين في المغرب الأقصى والأندلس، والحماديين والزيريين في المغربين الأوسط والأدنى (إفريقية). ولما كانت السكة ـ كما يذكر ابن خلدون في "مقدمتـ"ـه ـ أهم شارة من شارات الملك والسلطان »وهي وظيفة ضرورية للملك، إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات، ويتقون في سلامتها الغش بختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة«([36]).
ويستطرد ابن خلدون مشيراً إلى استحداث الموحدين لسكة جديدة بقوله:
ولما جاءت دولة الموحدين، كان ممّا سنَّ لهم المهدي اتخاذ سكة الدرهم مربع الشكل، وأن يرسم في دائرة الدينار شكل مربع في وسطه، ويملأ من أحد الجانبين تهليلاً وتحميداً، ومن الجانب الآخر كتباً في السطور باسمه واسم الخلفاء من بعده. ففعل ذلك الموحدون، وكانت سكتهم على هذا الشكل لهذا العهد([37]).
ولما كانت (أي السكة) لا تقل عن ذكر اسم الخليفة في الخطبة يوم الجمعة، فإن عبد المؤمن وجد لزاماً عليه أن يذكر هذا الحق للرئيس الأعلى للدولة الموحدية، وهو الخليفة الموحدي وحده. ولم يكن ليتأتى له ذلك إلاَّ بعد أن يقضي على القوى السياسية المتبقية في المغرب والأندلس؛ فقضى على الحماديين في المغرب الأوسط وطرد النورمانديين من تونس والمهدية، واستولى على طرابلس وما وراءها، هذا فضلاً عن ضم الأجزاء الغربية والوسطى من الأندلس، وفي قضائه على هذه الفئات كلها قضاء على مسكوكاتهم، التي كانوا قد ضربوها بأسمائهم، وبذلك نجح في توحيد المغرب الإسلامي وأجزاء من الأندلس، تحت سلطة عليا واحدة هي سلطة عبد المؤمن بن علي. وإذا كانت هذه الدوافع هي التي دفعت الخليفة إلى توحيد النظام النقدي للمغرب لأول مرة في التاريخ، فإن الدوافع الاقتصادية تكمن في انعدام وجود عملة ذهبية مغربية موحدة حتى عهد عبد المؤمن بن علي على الرغم من مضي خمسة قرون ونيف. وهكذا تعامل المسلمون في المغرب الإسلامي بدنانير دولة مختلفة الأحجام والأوزان([38])، وارتبطوا بأسعارها وأوزانها ومعيارها. ولما كانت الدنانير هي العملات الرئيسة في الاقتصاد المغربي، رأى عبد المؤمن أنه لا يمكن أن تستمر الأوضاع الاقتصادية والأنظمة النقدية على هذه الوتيرة. ولذلك فكر في إيجاد بديل يكون في مستوى هذا الحدث، ولن يكون ذلك إلاّ بتحرير النظام الاقتصادي المغربي من هذه الفوضى النقدية المتمثلة في كثرة العملات والوسطاء. وبالرغم من هذه الدوافع السياسية والاقتصادية والدينية، فإن الخليفة عبد المؤمن كان يقدّر تماماً خطورة الميدان النقدي إذا استمرت الأحوال على ما كانت عليه. الواقع أن هذا الموضوع، أي إصلاح النظام النقدي، يعتبر من الموضوعات الهامة لدراسة السكة الموحدية، ولن نتطرق لتفاصيله، ولكن سنحاول أن نصل إلى الحقائق مباشرة. لعل هذه المحاولة الناجحة (التي تعتبر تجربة تاريخيّة رائدة في ميدان الوحدة المغاربية جديرة بأن تكون مثالاً يحتذى) والتي أخفق الملوك والسلاطين في تحقيقها باستثناء عبد الملك ابن مروان، محرِّر الاقتصاد الإسلامي من فلك الدنانير البيزنطية، بضرب العملة العربية الإسلامية الخالصة. وستبقى هذه المأثرة مرتبطة بشخصية الخليفة عبد المؤمن، موحد النظام الاقتصادي المغربي على أسس نقدية موحدة. وقد شمل هذا التنظيم المالي كل بلدان الخلافة الموحدية وممتلكاتها. ومن آثار هذه السياسة أنه أمر بتكسير أراضي إفريقية والغرب سنة 555 هـ/ 1160 م .
وفي هذه السنة (أي 555 هـ) أمر عبد المؤمن بتكسير بلاد إفريقية والمغرب وكسّر بلاد إفريقية من برقة إلى بلاد نول من السوس الأقصى بالفراسخ([39])والأميال([40]) طولاً وعرضاً، فأسقط من التكسير الثلث في الجبال والشعارى والأنهار والسبخات والطرقات والحزون. وما بقي سقط عليه الخراج، وألزم كل قبلة قسطها من الزرع والورق، فهو أول من أحدث ذلك بالمغرب ([41]).
ويعتبر هذا النص ذا قيمة تاريخية واقتصادية، لأنه يؤرخ لأول مشروع استصلاحي للأراضي الخصبة الصالحة للفلاحة في تاريخ المغرب الإسلامي عامة، والعهد الموحدي خاصة.
وهذا المشروع الفريد يعتبر تكملة للمشاريع الموحدية التي وضع قواعدها الأولى الخليفة عبد المؤمن بن علي. ولكن الظاهرة اللاَّفتة للنظر وتستحق الدراسة في هذا الإجراء هي فرض ضريبة الخراج، بدل العشر. وحتى لو افترضنا أن كلمة »الخراج« قد تشير إلى الضرائب عامة، فإن الذي يثير التساؤل ويستوجب الوقوف عنده هو أن المؤرخ ابن أبي زرع الذي أورد هذا النص، يتبعه بذكر كمية هذه الضريبة في الأندلس عندما يتحدث عن جماعة أعفوا منها في عهده: »وحرِّرت أملاكهم، فلم تزل محرّرة إلى انقضاء أيامهم. فليس في أملاكهم رباعة، وجميع بلاد الأندلس مربعة« ([42]). ومهما يكن من أمر هذه المسألة، فإنها لا تعدو أن تكون الكلمة خراجاً كبير الكمية يصل إلى الربع. وهذا يتفق مع اعتبار الموحدين لسكان البلاد التي خضعت لسلطانهم غير مسلمين، ما داموا غير موحدين؛ كما أنه ينسجم مع معاملتهم للبلاد التي قاومتهم في قتل الأعداد الكبيرة ورفض منح الأمان لمن يستسلم قبل السقوط. وليس معنى هذا أنه كانت للموحدين سياسة ضرائبية ثابتة، تطبق على الجميع خلال مراحل التاريخ الموحدي، بل كانت مرتبطة بموقف السكان من الموحدين([43]).
ومن الأمثلة على هذه السياسة ما حدث في تونس التي لم تصمد في مقاومة الموحدين إلاَّ أياماً. إذ خرج إلى عبد المؤمن سبعة عشر رجلاً من أعيان البلد يسألونه الأمان لأهل بلدهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، فإنه لم يمنح ذلك إلاَّ لهؤلاء الأعيان لمبادرتهم إلى الطاعة. أما بقية أهل البلد، فقد أمنهم في أنفسهم وأهاليهم وقاسمهم على أموالهم وأملاكهم. وبعد أن نفذ أمناؤه مقاسمة الأموال، أخذ من سكانهم أجرة عن نصف مساكنهم([44]).
والملاحظ أنه كانت للحروب الدامية بين المرابطين والموحدين أثرها الواضح على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، فاضطربت الحياة الاقتصادية اضطراباً لا نظير له. فغلت الأسعار وقلت الأقوات وساد الخوف والفوضى وانتشر اللصوص في الطرقات، لانعدام الأمن والاستقرار. ولم تنته هذه الفوضى بالقضاء على المرابطين وقيام دولة الموحدين، بل انتشرت الثورات ضد الموحدين في كل ناحية، ولم يستطيعوا إخمادها وتخليص البلاد منها إلاَّ سنة 549 هـ/ 1154 م على يد عبد المؤمن. ومنذ ذلك التاريخ عاد الأمن والاستقرار، فأخذت الحياة الاقتصادية تنتعش وتحسنت أحوال الرعية. والمعروف أن الحياة في المغرب تقوم أصلاً على الزراعة أو الفلاحة، حتى إن ابن عبدون يقول بهذا الشأن: »فالفلاحة هي العمران... وببطلتها تفسد الأحوال وينحل كل نظام«.
4 ـ الناحية الفنية
وإذا كنا قد أتينا على مناقشة أهم الصفات والأبعاد في شخصية عبد المؤمن بن علي، فهناك من الأبعاد والنواحي الأخرى ما لم نشر إليه بعد، والتي لا تقل أهمية عما سبقها. ومن بين تلك النواحي والأبعاد: البعد الفني الذي لم يلق هو أيضاً اهتماماً من قبل الدارسين ومؤرخي الفنون، على الرغم من أهميته في مجال دراسة الطرز الفنية والمعمارية، التي اقترن ظهورها ـ رؤية وأسلوباً ـ بالموحدين([45]). ومن بين تلك الأساليب الفنية الجديدة التي ارتبطت بشخصية عبد المؤمن، ابتكار الشكل الهندسي المربع للعملة الفضية الموحدية لأول مرة في تاريخ المسكوكات الإسلامية. يدل على ذلك أن جميع النقود المتداولة في العالم الإسلامي شرقه وغربه إلى ذلك الوقت (القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي) كانت مدوّرة الشكل وتتألف من كتابتين هامشية ومركزية في العهد الأموي، ثم كتابتين هامشية ومركزية في العهد العباسي والفاطمي. ولكن بمجيء الموحدين، اختفى هذا الأسلوب الصناعي والفني في إنتاج النقود، وحل محله ابتكار الشكل المربع المتميِّز بكتابتين مركزيتين من الوجه والظهر. وفي هذا الإطار، نلاحظ بروز شخصية الخليفة عبد المؤمن الذي يرجع إليه الفضل في استعمال خط النسخ المغربي في تنفيذ نصوص الدرهم المربع وأجزائه، فضلاً عن استعمالاته في الدنانير الذهبية استعمالاً يتميّز بالجدة ومراعاة الشكل والمضمون، وانسجام الكتابة أو اقترانها بالشكل والنقد. وتتضح الأسلوبية الجديدة في وحدة العبارات والآيات القرآنية التي زادت شكل النقود قوة وانسجاماً. يدل على هذه الروح الفنية التي بلغها الخطّاط أو الفتَّاح الموحدي كما تسميه المصادر، تلك العبارات أو الجمل الدينية المنقوشة على الدراهم، والمتميِّزة بانسجامها وتماثلها مع الشكل، والمجال لا يتسع لذكر تفاصيل هذه الظاهرة الفنية.
وهذا التوحيد بين الشكل والمضمون كان منطلقاً أساسياً في مختلف النواحي السياسية والمذهبية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية، وكأن عبد المؤمن يهدف ضمنياً إلى تحقيق الوحدة الفنية على أساس التكامل في الأهداف والمشاريع. وهكذا يمكن القول بأن الموحدين منذ عهد مؤسس دولتهم قد حققوا هذه الوحدة الفنية الإسلامية عبر ممتلكاتهم الواسعة، فامتزجت فنون الأندلس ومصر والعراق بغيرها من الفنون المحلية الإسلامية كالفن الزيري ـ الحمادي والمرابطي بالفن المغربي الموحدي الجديد. ويكفي أن نذكر في هذا المقام تجسيداً لهذه الوحدة الفنية هو مئذنة قلعة بني حماد، التي كانت النموذج الذي احتذاه المعماريون وظهر بصورة أوضح في المنارات الثلاث: الكتبية في مراكش وحسان بالرباط والجيرالدا في إشبيلية.
ويدل الاكتفاء ببناء مئذنة واحدة في مساجد بلاد المغرب الإسلامي على وحدة المذهب الديني الذي تمسك به المغاربة وهو المذهب السنِّي المالكي. ولا يتسع المجال للحديث عن منشآت الموحدين ومؤسساتهم في عهد الخليفة عبد المؤمن، والتعرض لفلسفة الفن والروح التي امتاز بها الفنان الموحدي في إنجاز أعماله الفنية والصناعية.
الخلاصة
كان لهذه الشخصية التاريخية دورها الإيجابي في وحدة المغرب الإسلامي سياسياً ومذهبياً، وهي وحدة انعكست فيما بعد على ظهور الشخصية المغاربية في مجالات الأدب والفلسفة والعلوم والفنون والعمارة؛ وتميزت بلاد المغرب منذ عهد الموحدين بطرازها المعماري والفني، وفي مجالي النقل والعقل، فتبارى العلماء للمشاركة في المجالين، بحيث برز أمثال ابن رشد وابن زهر، إلخ.
([1]) هو عبد المؤمن بن علي بن علويّ الكَومي نسبة إلى كَومية، وهي قبيلة صغيرة كانت تسكن على ساحل البحر بضواحي هنين من أعمال تلمسان. ولد بقرية تاجرة سنة 487 هـ/ 1094 م في عهد يوسف بن تاشفين، من أب كان يشتغل بالطين. وحسب عبد الواحد المراكشي، فإن عبد المؤمن كان يقول إذا ذكر كَومية: »لست منهم وإنما نحن لقيس عيلان بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان؛ والكَومية علينا حق الولادة بينهم والمنشإ فيهم، وهم الأخوال«. (المعجب، ص. 197). وقدر له أن يسجل اسمه ضمن قائمة العظماء من مؤسسي الدول في الحضارة العربية الإسلامية وقاد الموحدين وفق سياسة حكيمة ودهاء إلى أن توفي سنة 558 هـ/ 1163 م .
Brunschvig, «Esquisse d’histoire monétaire almohade-hafside», in: Mélanges William Marçais, Paris, 1950; S. Lane Poole, The Coins of the Moors of Africa and Spain and the Kings and Emams of the Yemen.
Bel, «Contribution a 1x [0].... étude des dirhemes a 1x[0].... époque almohades»; F. Codera, Tratado de Numismatica, p. 221; Riero, La Moneda Arabigo-Espaٌola , p. 65.
([24]) بدأت هذه العملية بإدخال القبائل العربية البدوية إلى المغرب الأقصى، بعد أن كانت مضاربها لا تتجاوز المغرب الأوسط (الجزائر) وخاصة في منطقة بوسعادة. ولما هزمهم عبد المؤمن، أقنعهم بدخول المغرب طوعاً أو أخذ رهائن منهم. ويبدو أن السبب الذي تقدمه الروايات هو الاستعانة بهم للجهاد في الأندلس، ولكن الحقيقة غير ذلك. فقد ظهر الخلاف واضحاً بين شيوخ الموحدين عقب الحملة التي قامت على الحماديِّين سنة 547 هـ، حيث أظهر أخوان من إخوة المهدي مع شيوخ آخرين عداوة سافرة لعبد المؤمن، مما جعله يحتمي بهذه القوة. وهكذا بعد أقل من ثلاث سنوات من اعتماده على هذه القوة، خطا عبد المؤمن خطوة جريئة فعلاً نحو حصر الحكم في أسرته، وذلك بمبايعة أحد أبنائه للعهد.
([33]) عبد الواحد العسري، المقال السابق، ص. 430. وهنا لابد من الإشارة إلى أنه بالرغم من تميّز الفكر الموحدي التومرتي بهذه الخصائص الجديدة، فلم ينج هو أيضاً من روح الانتقاد والاتهام خصوصاً من طرف الفكر الصوفي آنذاك والذي واجه الموحدين وعقيدتهم. نذكر على سبيل المثال لا الحصر، "الصلاة المشيشية " للمولى عبد السلام والتي كانت رد فعل عنيد على عقيدة ابن تومرت، حيث يقول: »اللهم أخرجني من أوحال التوحيد«.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق