الأربعاء، 13 مارس 2013


كينيث براون، من الأنثروبولوجيا إلى الأدب
yyy

يبدو لي هذا السرد الذي أقترحه في هذه الورقة غير مقنع، سواء من حيث تمرينه الاستبطاني أو التبريري. ومع ذلك أغامر دون تعقل. فقد أسقط في سرد مسار شخصي، وأنا أستجيب لهذا التحدي لحكي مساري الفكري والمهني، وانتقالي من الاستشراق إلى التاريخ فإلى الأنثربولوجيا ثم إلى الأدب. وتعد آخر مرحلة من هذا المسار، أي الانتقال إلى الأدب، نتيجة لشعور من عدم الرضى كان قد تبين عام 1989 بمدينة مانشيستر حيث كنت أدرس الأنثربولوجيا الاجتماعية والسوسيولوجيا لمدة عشرين سنة. وقد أحسست بذلك عندما عدت من السينغال، إذ قضيت بجامعة دكار مدة سنة كأستاذ زائر.

شعرت بـ "أزمتي كباحث في الأنثربولوجيا" في بلاد السينغال. فقد عجزت هناك عن تملك ثقافة أخرى، والارتماء في ميدان آخر للبحث، مع ما يقتضيه هذا الأمر من جهد لتعلم لهجات البلاد والتنقيب في الأرشيفات. فقد كنت على يقين، بعد الأبحاث التي قمت بها في البلدان المغاربية، أن معرفة اللغة المحلية والاستئناس بالنصوص المكتوبة، المنشورة منها والمخطوطة، أمران ضروريان للوصول إلى "ترجمة ثقافة ما"، حسب التعريف الذي منحه إيفانس بريتشارد للتوجه الأنثربولوجي.

حاولت في سنة 1988، وأنا أكتب سيرة أدبية لأحد رجالات تونس الذي تعرفت عليه خلال أبحاثي في هذا البلد، أن أقدم من خلال حياته نظرة حول التاريخ الاجتماعي لقريته الأصلية. ظهرت هذه المحاولة وكأنها "قصة". وتبين أنها تختلف كثيرا عن كتاباتي السابقة. والغريب في الأمر أن أول مقال كنت قد كتبته، وأنا باحث في المغرب عام 1967، كان أيضا من جنس السيرة "صورة مثقف مغربي: أحمد بن خالد الناصري". لكن هذا النص كان ذا طبيعة استشراقية وأنثربولوجية. أما السيرة التي كتبتها حول رفيقي التونسي، محمد عمور، فهي قصة تقريبا.

عندما عدت إلى جامعة مانشيستر سنة 1989 بدأت أعطي الكثير من النصوص الأدبية لطلبتي في السوسيولوجيا والأنثربولوجيا، إذ اقترحت عليهم قراءة أعمال أدبية، من نجيب محفوظ إلى محمد شكري مرورا بكَروسمان وماميري ويشار كمال، وأعمال أخرى لأدباء إيرانيين. ونبعت من هذه التجربة فكرة إنشاء مجلة ثقافية وأدبية. ففي هذا الوقت بالذات أسست مجلتي "متوسطيات" (Méditerranéennes). كنت أرغب في احتضان كتاب وشعراء، ولكن أيضا أنثربولوجيين ومؤرخين وصحفيين لتقديم نصوص إبداعية.

كنت قد اكتشفت في التعليم أن الطلبة يستطيعون، من خلال الأدب، تصور الآخر والإحساس به وتقمص الحالات البشرية، أكثر مما يستطيعونه من خلال العلوم الإنسانية. وتعبر الأعداد الأولى من المجلة عن هذه الرغبة. فقد نشرنا سنة 1991 مثلا شعر محمود درويش الطويل، "ذاكرة النسيان"، ونص خوان كَواتيصولو حول مقبرة القاهرة، "مدينة الموتى"، وشعر جون شارل ديبول الذي لم يتضمن فعلا واحدا، وتحقيقا حول الكوسوفو، "كوسوفو 1990" لـيان تراينر.

كــــــان شعار المجلة هو ثلاثة أحرف من"i"، والتي تحيل إلى "inédits, idées, images" (مستجدات، أفكار، صور). كان الهدف هو إحداث حلبة متوسطية لتبادل الأفكار والصور بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط (صور، رسومات أو فنون تشكيلية). ومنذ البداية كانت المجلة مزدوجة اللغة، بالفرنسية والإنجليزية. وأنا مدين في هذا الاختيار لجاك بيرك الذي كان يصر على النزعة المتوسطية لفرنسا. وهذا ما قربني، أنا كذلك، من ميداني المغاربي. ومن جهة أخرى، يمثل هذا الاختيار رغبة في خلق نوع من المناعة ضد الميول الإثنومركزية.

في سنة 1992 أتيحت لي، بفضل "لطافة" السيدة تاتشر، فرصة الحصول على تقاعد نسبي (تسع سنوات قبل التقاعد الرسمي المحدد في 65 سنة)، فرحلت صحبة خزانتي ومجلتي إلى باريس. ومنذ ذلك الحين، أصدرنا ثلاثة عشر عددا. وبالنسبة لي فإن ما يعبر بشكل أفضل عما أريد إثارته ونشره هو ربما هذا النص المأخوذ من كتاب "رسائل بَعدية" لدومينيك إيدي (1993)، تحت عنوان "اسم الله". هنا يوضح إيدي معنى اسم الله واستعمالاته المختلفة في لبنان. وهذا مقتطف من النص:

" […] يمثل الحس العائلي نموذجا عاطفيا في كل الظروف، إذ لا يغادر المرء بيته حتى يجده بعد برهة في الحانوت، في السوق، في المطعم أو في الحانة، نحب أولا ونتبين بعد ذلك. كان ذلك نوعا من التحدي العاطفي، نوعا من الحاجة إلى الأمان، نوعا من النرجسية الجماعية كالطفل الذي تربطه بالأم علاقات حب أقوى مما تربطه بالأمة. ففي غياب الوطنية القومية كانت تعلو الوطنية العائلية. كانت علاقات القرابة موجودة في كل شيء. كان الجميع يعرف الجميع. "لقد سمعت عنك" كما يقول الناس على الفور وهم يتصافحون ولا يتعارفون. يسأل الأول : "هل تحتاج لشيء ؟". ويجيب الثاني : "لا أحتاج إلا لرضاك". الله يحفظك، الله يحميك، الله يرشدك، الله يبعد عنك السوء، الله يعطيك الخير، الله يقيك من الشر، الله يعفيك، الله يمنحك القوة، الله يشفق عليك، الله يرضى عنك، الله معك. كان الله معنا لأنه يضم نفس اللغز في هذه الديانة كما في تلك، وكان في هذا الاسم ما يكفي لإرضاء الجميع. لم نكن نتخاطفه، لم نكن نتدخل في شؤونه. كنا نكتفي بالاستشهاد به. كان الله نقطة التقاء، كان مناعة، كان كلمة السر، كان هو السرمدي الذي يرافقنا حين لا يتبقى لدينا ما نقوله. ثم إن اسم الله يتحمل إلى ما لا نهاية الإصرار والتكرار بالعربية كما بالفرنسية. اذكر اسم الله عشر مرات أو مائة مرة وستجد هذه الكلمة لينة، طيعة، متكيفة، تعتنق مزاجنا، تنساب مع النغم، مع الرقص، مع الحنين، مع الابتهال، مع الغضب. اذكر اسم الله وسترى سلاسة في نطق حرفيها : اللام والهاء. هو الاسم القهار، الذي لا يخشى أحدا، هو الاسم الخارق الذي لا يتصوره أحدا، هو شرود الذهن وسط الكلام. الله رب الكلمات، الله دين اللغة، الله عندما تشرق الأنوار، الله عندما تختفي الأنوار، الله عندما تستفهم الكارثة، الله عندما تتفادى الكارثة، الله عندما تصفق على فنان، الله عندما تلاطف المستقبل، الله عندما تستحضر الذكرى، الله عندما لا يحصل شيء، الله عندما تقع على الأرض، الله عندما لا تقع على الأرض، الله مهما حصل، الله عندما تحيي فتاة حسناء، الله عندما تكسر الصمت، الله عندما تتنفس الصعداء، الله عندما تكتشف الحقيقة، الله عندما تكتشف الكذب […]

أريد أن أحكي بإيجاز المسار الذي قادني من لوس أنجلس إلى باريس. وأود أن أشير أن رغبتي في تركيب مختلف وقائع المجتمع من تاريخ وبنية اجتماعية وثقافة وأشكال تعبيرية، هي نتيجة صيرورة بدأت مع طبيعة تكويني.

درست التاريخ في بداية الأمر، ثم الاستشراق بجامعة شيكاكَو، حيث تعلمت الكثير من "موت دانتون" لبوشنير. وعشت هذه التجربة بواسطة روايات إميل زولا وأناتول فرانس. وبعد ذلك تابعت دراساتي في الاستشراق، كطالب زائر، بالجامعة العبرية بالقدس. كان ذلك عام 1956. ما أثار انتباهي هناك هو أن الدراسات حول العالم العربي كانت تقصي الفلسطينيين، سواء الذين يعيشون بإسرائيل كمواطنين عرب إسرائيليين، أو لاجئي 1948. كانوا يدرسون في الخفاء، كانوا معنا ولم نكن نراهم. ولم أتعلم شيئا أيضا من اليهود القادمين من البلدان العربية، لأن تاريخهم ووجودهم كانا مجهولين أو مطبوعين بالكثير من الفولكلور. هذا بالرغم من وجود طلبة يهود "شرقيين" ذوي مصداقية.

كنت أحار أمام صمت هؤلاء وخِفيتهم. هنا بالضبط كانت تكمن المظاهر الأساسية لواقع المجتمع الإسرائيلي المعقد، ولعلاقات هذا المجتمع مع الفلسطينيين والعرب بشكل عام. وأجدني آسفا حقا لغياب الحس الأنثربولوجي لدي في هذه الفترة، أو على الأقل لغياب الحس الإخباري، الذي كان من شأنه أن يمكنني من كتابة يومياتي في حينها وأدون ما كنت أراه وأسمعه. ومهما يكن من أمر فإنني على يقين من أن تجربة الشباب هذه، كوني فهمت وجود أشخاص مَخْفِيين، قد كان لها عميق الأثر على تكويني اللاحق.

لكن دراساتي الأساسية تابعتها بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس. كان الأستاذ المشرف على أطروحتي هو فون كرانبوم المختص في تاريخ الإسلام وحضارته، والمتأثر بالأنثربولوجي الأمريكي ريدفيلد وزملائه وأبحاثهم حول الحضارات غير الغربية بجامعة شيكاكو. ففي كتابه "المؤسسات الإسلامية" ذكر فون كرانبوم، في فصل مخصص للحج، البستاني وهو من مؤلفي القرن العاشر، ومالكوم على السواء. ورغم توجهه الاستشراقي التقليدي، كان يميل إلى فهم التعدد الهائل لأشكال الحضارة الإسلامية. لقد استفدت كثيرا من فهمه للإسلام الذي كان يعتبره كالخِمار الذي يغطي كل شيء ولكنه لا يحجب شيئا. فمن خلال شهادات البستاني ومالكوم حول الحج، المضمنة في سيرتهما الذاتية، ندرك، على نحو أفضل مما تقدمه النصوص الفقهية، معاني الحج المتعددة المتداخلة ضمن سياقات تاريخية حقيقية.

في الأصل، كان اهتمامي بالمدينة الإسلامية وكأنه نابع من النموذج الاستشراقي الذي يظهر مع كتابات فون كرانبوم وجيب، وأعمال الفرنسيين أمثال سوفاجي ومارسي وآخرين. وقد أحسست مرة أخرى في دراسة المدن وفق هذا النموذج غياب فضاء آهل وحي، وغياب البشر. فالناس الذين يصنعون المدينة، وتصنعهم في نفس الوقت هذه المدينة، كانوا غائبين. وخلال هذه الفترة من الدراسة بلوس أنجلس، قبل أن أتوجه إلى المغرب للقيام بأبحاث الدكتوراه، كانت لي فرصة سارة سنة 1963 لمتابعة دروس جاك بيرك واستكشافها عندما قدم إلى هناك كأستاذ زائر. كانت لدي أصلا رغبة في البحث ضمن أطروحتي حول مدينة مغربية، وكنت قد حضرت ورقة بخصوص حِرف فاس من خلال كتاب روجي لوتورنو الضخم. وتجرأت لعرض هذه الورقة على جاك بيرك، الذي أبدى، على عكس ما كنت أتوقعه، اهتماما بورقتي هذه وعلق عليها بشكل مفصل. كان هذا التشجيع هاما بالنسبة لي، بحيث شكل المرشد الرئيسي لاستكشاف بلاد المغارب. وعندما ذهبت في صيف عام 1963 إلى تونس لمتابعة دروس مكثفة في العربية بمدرسة بورقيبة بالعاصمة، كانت لي فرصة الاطلاع على رسالة تقديمية موجهة إلى زملائه التونسيين. وابتداءً من هذا اللقاء، وكلما ذهبت إلى باريس، إلا وزُرت الشيخ بيرك، إذ استمرت علاقاتنا حتى وافته المنية.

خلال الستينيات، لما كنت طالبا، تأثرت على مستوى المنهج والكتابة ببعض الكتاب على نحو خاص: قراءتي لمذكرات هادريان التي أبدعتها ماركَريت يورسينار، وكتابات بول تومسون ويان فانسينا حول التاريخ الشفهي، ومؤلفات أوسكار ليويس. ثم اكتشفت وقرأت بتمعن الأطروحة القيمة التي أنجزها محمد الناصري في الجغرافية البشرية حول مدينة سلا. حينها قررت خوض غمار البحث في التاريخ الاجتماعي لهذه المدينة.

في الميدان، أي بهذه المدينة (1967-1965)، حصلت على مكانتي، ووجدت من يتحدث معي، واتضحت توجهاتي، وتذوقت نكهة المنطوق العربي، بفضل محمد الناصري الذي استغرب، عند وصولي، لطالب أمريكي بريء مثلي متحمس لهذه المدينة. كانت هنالك الأرشيفات، كما كانت الشهادات. لقد بذلت كل ما في وسعي للاستماع لأصوات الناس، وتسجيل رواياتهم، مما مكنني من ابتكار عدد من النصوص: أوصاف الاحتفالات العائلية، روايات حول الاحتجاجات ضد الظهير البربري، وأيضا ذكريات سوَّاقٍ بتجربته في الحياة كشخص "عادي". وحاولت بعد ذلك أن أكتب في فصل من أطروحتي سلسلة من البورتريهات حول رجالات سلا، لكنني لم أتجرأ على هذا التمرين "الأدبي"، فلم أدمج هذه البورتريهات لا في الأطروحة ولا في الكتاب المنشور. كانت الفكرة الأصل هي أن أترك الناس يتحدثون، وأن أتحدث أنا أيضا، في نفس الوقت، أن أعرض حكيا لروايات كنت على يقين من أنها حقيقية، روايات يسردها أصحابها. كانت نتيجة هذا البحث هي "أهل سلا"، كتاب في التاريخ الاجتماعي للمدينة من 1830 إلى 1930 النابع من أطروحتي.

وحررت أطروحتي في جامعة شيكاكَو. وكانت للقاءاتي الفكرية في هذا الوقت مع كليفورد وهيلاري كَيرتز، وتلامذتهم لورانس روزين وبول رابيناو وديل إكلمان، وأنثربولوجيين آخرين أمثال لويد فاليرز ونور يالمان، أثر كبير على طريقة تفكيري ومعالجتي للمعارف التي تجمعت لدي حول سلا. ومن دون شك كانت أفكار كَيرتز هي التي أثرت بشكل كبير على عملي هذا. كنت قد تعرفت عليه سنة 1966 بالمغرب عندما كان هو وزوجته بمدينة صفرو. تحدثنا كثيرا حول مسألة "المدينة العربية الإسلامية". وقرأت إثر ذلك بإمعان ما كتبه حول إندونيسيا، وبالخصوص كتابه "التاريخ الاجتماعي لمدينة إندونيسية". كنت قد درست فيما قبل كتابه "الديانة في جافا"، وكنت أعرف أن هذا الرجل أثربولوجي أمريكي كبير، ويعشق الكتابة. لقد تعلمت منه مستلزمات التنبه والعناية بشأن ما يسميه بإعادة البناء الأنثربولوجي لإعادة بناء ما يرويه المتحدث عن مجتمعه، والتي شكلت بالنسبة لي عنصرا رئيسيا في طريقة رؤيتي للأشياء وكتابتها. وبعد ثلاثين سنة عن هذه الأطروحة وعن هذه الإقامة بشيكاكَو التي دامت أربعة أعوام، اكتشفت من جديد هذه الحميميات الكَيرتيزية عندما ترجمت صحبة ميشيل جولي فصلا من سيرة كَيرتز الذاتية حول أبحاثه بالمغرب. ففي مساري كباحث ونَسَبي الفكري المغاربي أجدني مدينا لأستاذَيَّ الكبيرين جاك بيرك وكليفورد كَيرتز. ويمكن القول أن المغرب محظوظ لأنه كان محط دراسة من طرف باحثين كبار في ميدان العلوم الاجتماعية أمثال إدوارد ويسترمارك، وروبير مونتان، وجاك بيرك، وإرنست كَيلنر، وكليفورد كَيرتز، وبول باسكون.

وفي هذه المرحلة أيضا، من 1967 إلى 1971، بشيكاكَو قرأت عمل إرنست كَيلنر "صلحاء الأطلس" وهو مازال مخطوطا. فقد تأثرت كثيرا بجرأته الخارقة في التحليل. وبعد ذلك بقليل تعرفت على هذا الرجل الذي علق على أطروحتي بتفصيل. ومنذ ذلك الحين قرأت كتاباته واستفدت منها كثيرا. ومن دون أن أرتبط بهذه المدرسة أو تلك، يمكنني القول بأن هؤلاء الباحثين ظلوا أساتذة بالنسبة لي في مجال الفكر والكتابة الأنثربولوجييْن الأنجلوساكسونييْن حول المغرب. فأنا لا أضع نفسي لا مع الإنقساميين الكَيلنيريين، ولا مع الأنثربولوجيين التأويليين، إذ لم يسبق لي أن شاركت أبدا، وبصورة رسمية، في نقاشات حول مناهج الأنثربولوجيا ونظرياتها. فإذا استحضرنا المقارنة بين القنافذ والثعالب في طريقة تصورهما للواقع، على النحو الذي يطرحه إساي برلين (1953)، فإن تصوري يتطابق مع الثعالب الذين لا يمتلكون تصورا متجانسا للعالم، بل تصورات متعددة وأحيانا متضاربة. (ينطلق برلين من كلام الشاعر الإغريقي أرشيلوك: "الثعلب يعرف أشياء كثيرة، لكن القنفذ يعرف شيئا كبيرا"). ويصنف برلين كلا من كَوتي وبوشكين في خانة الثعالب، ودوستويوفسكي وتولستوي في خانة القنافذ. لقد امتلك تولستوي موهبة الثعلب في الأوصاف الدقيقة للحياة البشرية، لكنه ظل يبحث عن موهبة ذلك القنفذ من أجل نظرية تحتضن الوجود الإنساني.

من الوهلة الأولى يظهر إرنست كَيلنر قنفذا بارعا، إذ أن كل الوقائع التي عالجها تدخل ضمن نسق متجانس، من انقسامية ومملوكية وصوفية. أما كليفورد كَيرتز فهو مثل الثعلب، حيث أن المواقع (جافا، المغرب)، والاقتصاديات، والسياقات التاريخية تنتج وقائع متنوعة. ومن ثم فهي لا تقدم نمطا متجانسا. لكنني بدأت أشك في ذلك. وعلى كل حال، ربما يكون كليفورد كَيرتز هو القنفذ، إذ أن بناءه يمتلك التجانس، ويتوفر على هندسة ذات قاعدة واحدة. وعلى العكس من ذلك، يبقى إرنست كَيلنر قريبا إلى القنفذ منه إلى الثعلب. إنه ثعلب ماهر يشبه القنفذ، من حيث لا يُقِر أو من حيث لا يدري. فالنماذج المتجانسة التي بلورها هي نماذج شفافة. فهي ليست سوى أدوات منهجية وفرضيات استكشافية. لا وجود لعمل كامل. عندما كنت أحضر الدكتوراه في شيكاكَو، قلت لدافيد شنيدير، وكان وقتئذ من الأساتذة الكبار في الأنثربولوجيا، أنني أهيأ أطروحتي مع كليفورد كَيرتز وأنني أرغب في أن أتَكَوَّن بجد في الأنثربولوجيا بمتابعة محاضرته حول "الأنساق"، التي كانت تعتبر من المواد الأساسية للانخراط في مسار الأنثربولوجيا. فأجابني بأن ما يشتغل حوله كَيرتز هو أقرب إلى الشعر منه إلى الأنثربولوجيا، ولم يسمح لي بالحضور إلى دروسه التي لم تكن مفتوحة إلا في وجه الذين يتخرجون أنثربولوجيين احترافيين. ومن الطريف في الأمر أنني أصبحت، وأنا أتنقل بين المعارف، أنثربولوجيا وشاعرا في نفس الوقت.

وخلال مقامي بالمغرب للمرة الثانية في سنتي 1969-1970، في منطقة سوس، انتقلت بشكل صريح لدراسة الشعر الأمازيغي، والروايات الشفهية باعتبارها ذاكرة للتعبير عن طرق تلقي الحياة اليومية والوقائع، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لأشعار حول حرب تازروالت وأيت جيرار، وأشعار زلزال أكَادير. تُظهر هذه النصوص طريقة حكي العنف والقدر. ومن تم نبع اهتمامي بالمعجم المعمول به محليا، أي التفسير الدلالي لبعض الكلمات المفتاحية والمفاهيم مثل السيبة والعار، وهي مقولات غنية جدا لفهم المغرب وإدراك هذه المجتمعات.

وبعد هذه الأبحاث الميدانية بالمغرب ذهبت إلى مانشيستر حيث دَرَّست، من بين ما درست، الأنثربولوجيا الحضرية، و"التقاليد الكبرى"، بتعاون مع زملاء مختصين في البوذية والهندوسية. وقد كانت فكرة "التقاليد الكبرى" من ابتكار ريدفيلد، وأيضا كَيلنر إلى حد ما. ومفاد هذه الفكرة أساسا أن كل حضارة تنطوي على تقليد كبير، خاصة في المدن، وتقاليد محلية في القرى. وبالنسبة لي، كباحث ذي تكوين استشراقي/تاريخي، كان تدريس الأنثربولوجيا الاجتماعية البريطانية بمانشيستر، في شعبة ذي شأن، أسسها ماكس كَلوكمان، بمثابة تحدي كبير. وقد أتاحت الندوات والنقاشات وتبادل الأفكار مع الزملاء والطلبة، المدعويين إلى معهد مانشيستر هذا ظروفا ملائمة لتعلم الأنثربولوجيا. فبهذه المؤسسة تبلور "تحليل الشبكات" وتطور بواسطة كلايد ميتشيل ومعاونيه، كما تبلور مفهوم "العالم الثالث" بواسطة بيتر وُرسلي. وهنا أيضا كان كَلوكمان وإيمريس وبيترز يعشقون نادي مانشيستر يونايتد لكرة القدم، الذي كان حينئذ في أوج عطاءه، ويحضرون مبارياته كل سبت.

لقد تكون لدي هذا الشغف الحقيقي بعرض الشهادة وإبراز معارف الآخرين خلال مقامي بمانشيستر. وسيطرت عليَّ فكرة استعمال الرسومات والصور والأفلام. وهكذا حاولت، دون أن أفلح، أن أصور فيلما حول العمال السوسيين المهاجرين، حول ذهابهم وإيابهم بين قرية سيدي أحمد أوموسى بالمغرب، وجونفيليي قرب باريس. كنت أطمح في إظهار حياتهم، وفي إعطائهم الكلمة لحكي حياتهم، وبواسطة أناس كنت قد عرفتهم عندما كنت أبحث في المغرب، والذين هاجروا من أجل العمل في فرنسا.

واشتغلت خلال سنة 1975-1976 بصفة منظمة في تونس بقرية على الساحل، إذ كتبت عقب هذا البحث أول نص "أدبي" به كثير من الخيال في استعماله للغة الشعرية. وقد نشر إدموند بورك صيغة مختصرة من هذا النص في كتابه حول سِير رجالات المغرب والمشرق. وقد نشر هذا النص كاملا بالفرنسية بالقاهرة في مجلة مركز الدراسات والمستندات الاقتصادية والقانونية "Cedej". كنت قد اقترحته على مجلة أنثربولوجية بستوكهولم، لكن لجنتها العلمية وجدته "شاذا"، و"ما بعد حداثيا"، قريبا من تدوينات الميدان منه إلى النص العلمي. ربما كانت هذه اللجنة على حق إلى حد ما.

لقد ظل مشروعي الحقيقي للكتابة حول تونس ناقصا: سيرة الشيخ محمد كركار، السلفي البارز، وأحد مؤسسي الدستور القديم. كنت قد عثرت على نسخة من مذكرة كان يسجل فيها أحلامه لما كان بالسجن في قلعة إيف بمرسيليا خلال الحرب العالمية الأولى. كان هذا الرجل جنديا فرنسيا، واتهم بنشاطه الوطني. فقد يُمَكن هذا النص من كتابة سيرة جديدة بكل المقاييس. إنني أحتفظ بها لأيامي الأخيرة ...

وفي سنة 1979 عدت إلى الشرق الأدنى، إلى إسرائيل والأراضي المحتلة. وقررت القيام بتحقيق مصور، بفضل صور جون مور. وكان قد ألهمني كتابه "الرجل السابع" حول العمال المهاجرين بأوربا، الذي أنجزه بتعاون مع جون بيرجي، وخصوصا الطريقة التي كان يكتب بها هذا الأخير، والتي كان يستفز بها القارئ. هذا ما ألهمني فعلا وأعجبني. وهكذا، شيدت فسيفساءً، واستعملت حوارات وروايات وأشعار ومقالات صحفية. ويعد هذا الكتاب شهادة وسردا مدعوما بالصور لرحلة استكشافية. لقد كنا، أنا ومور، شاهدين على احتلال مأساوي. ومن دون شك نبعت فكرة المزاوجة بين السرد والصور في مجلة "متوسطيات" من هذه التجربة. ونشر النص في نهاية الأمر تحت عنوان "رحلة التيه" بمجلة تصدرها جامعة بانسيلفانيا (1982). وبعد خمسة عشر سنة على هذه التجربة، عقب عودتي من الجزائر التي أقمت بها بضعة أسابيع في ربيع عام 1993، استعملت نفس الأسلوب، إذ كتبت بمجلة "متوسطيات" مقالا بعنوان "تائه بالجزائر".

وأخيرا وجدت شكل الكتابة التي تستجيب لميولي نحو التحقيق واستعمال الصور في النص. فقد بدأت أفكر في الصورة، في حقيقة الأمر، عندما كنت أشتغل بتعاون مع جون مور. فإلى حدود الستينيات تم التفكير في الصورة وإمكانية تعويضها للكلام وجعلها شاهدا فوريا (أفكر مثلا في عمل وُلكر إيفانس). تعتبر الصور "شفافة"، إذ تمكن من الوصول إلى الواقع بشكل مباشر. وفُهِمت الصورة بعد ذلك من زاوية المظهر السكوني الذي قد يكون خارج السياق والمعنى. والحال أن معنى الأشياء الملاحَظة يرتبط بالصيرورة ويحتاج إلى بعد سردي.

عندما رأيت الصور التي أنجزها جون مور خلال رحلتنا أدركت إلى أي حد كانت ملاحظتي ذاتية. لقد كانت الوضعية العامة التي تم فيها التقاط الصورة غنية بالمعطيات، أفهمتني أهمية ما قيل لحظة هذا الالتقاط. غالبا ما كان فهمي للصورة وتأويلي لها يتشكل من خلال الوضعية في شموليتها. ولذلك، ارتبط التحدي، بالنسبة لي، بجعل الصورة حساسة ومفهومة، والملاحظة ذاتية، وبإبداء الشهادة والعثور على من يشهد. وربما يمثل هذا الأمر انتقالا من الأنثربولوجيا إلى الأدب.

هكذا انتقلت من الاستشراق إلى التاريخ الاجتماعي، فإلى الأنثربولوجيا ثم إلى الأدب، أو بالأحرى إلى الرغبة في إثارة ميول للكتابة الأدبية لدى الجامعيين والصحفيين وآخرين. وإذا كان عليَّ أن أنعت الهوية المهنية التي أرغب فيها، فسأختار من دون شك صفة "الراوي" الذي ينقل حياة العالم المتوسطي الذي أعشقه. ولم يتغير التحدي الذي أضعه نصب أعيني، أي كيف يمكن للمتلقي أن يفهم بشكل واضح الأشخاص والأحاسيس ويستطيع تخيلهم، وكيف يمكن أن أقدم شهادتي الشخصية، وكيف يمكن أن أثير شهادة الآخرين الذين يكتبون أو يحكون.

عقب مداخلتي الشفهية في ندوة جمعية الأنثربولوجيا المتوسطية (ADAM) بالدار البيضاء، قال لي صديقي عبد القادر الزغـــل، وهو سوسيولوجي تونسي أعرفه منذ ثلاثين سنة: "أظن أنني أفهمك الآن. أنت صعلوك حقيقي". كان يشير إلى أولئك التائهين والشعراء الهائمين في عصر الجاهلية. هذا التمثل لا يزعجني.




K. Brown, Pour témoigner d’un itinéraire anthropologique, in D. Alberta et M. Tozy, éds., La Méditerranée des anthropologues. Fractures, filiations, contiguïtés, Paris, Maisonneuve et Larose, 2005, pp. 119-127.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق