الأربعاء، 19 ديسمبر 2012

نظرة في كتاب "صنعة الفلاحة" لأبي عبد الله الشطيبي ( 882-963)

  دعوة الحق
123 العدد
من العلماء المغاربة، الذين اهتموا بالفلاحة، وألفوا فيها، وحذقوا صناعتها، أبو بعد الله محمد ابن علي الشطيبي الزروالي من عائلة البرجيين، الذين نزحوا من الأندلس إلى المغرب، استوطن قرية تاسفت بجبل ودكة من بني زروال، إحدى القبائل الجبلية بشمال المغرب، وجبل ودكة من الجبال المشهورة بغاباتها ومناظرها الطبيعية؛ يرتفع عن سطح البحر بنحو ثمانمائة متر، وتبلغ مساحة غاباته ثمانية ألاف هكتار، وتنبع فيه عيون متعددة تصلح للري والسقي.
ألف أبو عبد الله الشطيبي أكثر كتبه في هذا المكان الذي يخيم عليه الهدوء، وتضفي عليه الطبيعة من جمالها الساحر؛ وكان أوقاته- كما يقول هو عن نفسه- ما بين كتابة ونسخ وتأليف، وعمل في بستانه ومزارعه، والقيام بشؤون المسجد وكلفه، من تدريس وإمامة، وخطابة ووعظ. ومما يذكره في هذا الصدد، أنه انتسخ كتاب نزهة الناظرين، وتحفة القاصرين، في شرح منازل السائرين،- لأبي عبد الله المقدسي، مع المقابلة على كثير من نسخه، وكتابة تعاليق عليه، في مدة لا تتجاوز اثنين وأربعين يوما؛ قال مع شغل الدار، والقيام بضروراته، وكلفة المسجد ولأزماته، واليد الواحدة في خدمة الغلل، ولقط الفاكهة، وعمل البخائر للخضرة وغير ذلك.
انتقل في أخريات حياته إلى « تازغدرة» من أحواز ورغة، حيث توفي هناك، في ثاني ربيع الثاني عام ثلاثة وستين وتسعمائة، (963هـ)، وعمره ينيف على الثمانين. وقبره مزارة مشهورة هنالك، وعليه بناء فخك، هدمت قنابل الفرنسيين بعض جوانبه، أثناء الحرب الريفية.
قال في الدوحة: رجل أبو عبد الله الشطيبي إلى بلاد المشرق، وأقام يجول سائحا في نواحيها أعواما كثيرة، ولقي بها مشايخ عدة، لكن اعتماده في طريق القوم كان الشيخ أبي العباس الملياني، وكان كبير الشأن، زاهدا في الدينا، منقطعا في أكثر أوقاته عن الناس، وجه إليه السلطان غير مرة فلم يجب، وكان الأمراء والملوك يزورونه ويتبركون به.
ومن تلاميذه، الشيخ رضوان الجنوي الشهير، رحل إليه إلى البادية وأخذ عنه؛ وكان يجله ويعرف قدره، ويكتب إليه: أستاذنا وشيخنا...
قال في السلوة: وكان الشطيبي واسع العلم والمعرفة، شهير الذكر، صاحب التآليف المشهورة..»
وقفت على أكثر كتبه، وهي من مختلف فنون المعرفة، من تفسير وحديث، وتاريخ وأدب وتصوف(1) وآخر ما قرأت له هذا الكتاب في صناعة الفلاحة، وهو عبارة عن تلخيصات، استخلصها من كتب الفن، وأضاف إليها ما أفاده من خبرته الطويلة، وتجاربه الخاصة، وهو يعتمد أكثرها، يعتمد على تأليف لأبي عثمان بن ليون في الفلاحة، وينقل عن ابن وافد، وابن بصال، والتغزى وسواهم من علماء الأندلس، المشهورين في هذا الميدان.
والكتاب الصغير الحجم، إلا أنه- كما يقول مؤلفه- يحوي مسائل غريبة، وفوائد عجيبة، مما لا غنى عنه للمسلمين، ولا ينبغي جهله للفلاحين.
وقد ضمنه ثمانية أبواب، وكأنه أراد أن تكون على عدة أبواب الجنة، والفلاحة جنات ونعيم.
تحدث في الباب الأول عن أركان الفلاحة، وهي- عنده- أربعة:

(الركن الأول): الأراضي، وهي أجناس وأصناف متعددة، يمكن إجمالها في عشرة أنواع : اللبنة، الغليظة، السوداء، البيضاء، الحرشاء، الجبلية، الرملية، المكدنة، الحمراء، الصفراء، وتختلف في طبيعتها وصلاحيتها، فالسوداء مثلا- تصلح للحبوب، والحمراء للثمار، وهكذا... وشرها الملحاء.

(الركن الثاني) المياه، وخيرها ماء السماء والأنهار، وهنا يعرض المؤلف لصناعة القوادس وهندستها، وكيفية وضعها، وإجراء الماء فيها.

(الركن الثالث): السماد: ويتحدث المؤلف في هذا الركن عن الأزبال وأنواعها، وكيفية استعمالها والأوقات التي تصلح فيها، وينقل عن ابن بصال أن أزبال الدجاج له خاصة قد لا توجد في غيره، وتصلح للصفرة، وإنعاش النبات المتهالك.

(الركن الرابع): الخدمة، ويذكر أنها تختلف باختلاف النبات والثمار والبلاد، وهي كلها راجعة إلى العادة، ويسهب في الحديث عن أوقات الحرث، وينقل عن التغزي أن وقت الزراعة أول السنة، وهي عند أهل الشام نصف أكتوبر، والعرب يجعلون أول عامهم عند حلول الشمس برأس الحمل، والروم تجعل رأس السنة يناير، قال وهو مذهب الجنانيق.
وذيل هذا الباب بفصل في غراسة النوار، وكيفية ذلك.
أما الباب الثاني فخصصه للحديث عن الزبر والتشذيب، والتقعيم والتركيب والتنقيل وما إلى.
وتحدث في الباب الثالث عاما يضر الغلات وما ينفعها.
وبين في الباب الرابع كيفية تسيير التين وكل أنواع الثمار الصالحة لذلك، وذكر أن مما يساعد على تجفيف التين، حتى يخرج ناعما لذيذ الأكل، رشه بماء العنب.
وعقد الباب الخامس للكلام عن الحرث وأنواع الحبوب الصيفية والخريفية، وذكر الأمور المسوسة للغلات، وكيفية علاجها، وفي حديثه عن أنواع الثمار، يقارن بين أصناف اللوبيا في الأندلس ومصر والعراق، وسواء منها الحمراء والبيضاء، ويقول أنه رأى نوعا منهما مجلوبا من التكرور (يعني من بلاد السودان) في قدر اللوز، وربما كان استجلاب المغاربة له أيام المنصور الذهبي، وينهي هذا الباب بالحديث عن الروز وأنواعه، وكيفية زراعته.
وتكلم في الباب السادس عن الزريعة وأنواعها، وفصولها وأوقاتها، ويذكر قائمة مطولة بأنواع الحبوب، وأصناف البذور.
وخصص الباب السابع لزراعة الحناء، وكيفية صنعها، وما فيها من أشكال وأنواع. وأعقب هذا الباب بفصلين:
أولهما في جنس البصل، ويذكر منه الزعفران والنرجس والبهار.
وثانيهما في جنس القصب ويعني به قصب السكار.
قال أبي وافد: ويسمى القصب الأندلسي.
ويتحدث في الباب الثامن- وهو الأخير- عما ينفع الأشجار وما يضرها، وأن الشجار والنباتات كالإنسان، تعتريها آفات وأمراض، وهي في حاجة إلى الوقاية، أكثر من العلاج.
ويختم المؤلف كتابه هذا بقوله: والعم أن هذه البلدان تختلف بأمزجتها وطبائعها، قال وإنما ذكرت منها الأغلب والأكثر طبعا بمغربنا...»(2)
وهذه الكلمة تدلنا على أن المؤلف، طوف على كثير من البلدان، واختبر ترتبها، وعرف الصالح وغير الصالح منها، وخصوصا بلاد المغرب، وأعطانا خلاصة تجاربه، وعصارة فكره في هذا الكتيب، الصغير الحجم، الكثير العلم والفائدة. فإذا أردنا أن نكتب تاريخ الفلاحة ببلادنا، فيجب أن نسجل في طليعة الذي اختبروا وجربوا وكتبوا. عالمنا الجليل أبا عبد الله الشطيبي.
وما أحوجنا إلى نشر مثل هذه الكتب، التي تربط ماضينا بحاضرنا، وتطلعنا على ما خلفه أسلافنا في يمدان العلم والتجربة، والعلم حلقات متماسكة، تتصل أول فكرة منه بآخر تجربة، وفي كل زمان تتجدد معالم، وتنكشف آفاق، ولله في خلقه شؤون.

(1)  انظر مجلة (دعوة الحق) العدد الأول السنة التاسعة، وصحيفة « الميثاق» أعداد: 42، 43، 44.
(2) - ولعل ابن بصال ذكر ذلك في كتابه المطول، أما المختصر الذي نشره معهد مولاي الحسن بتطوان سنة 1955، فقد رجعنا إليه، فلم نجد هذا النص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق