الجمعة، 3 أغسطس 2012


 القانون والتشريع عند العرب قبل الإسلام

                                                                                                لوئ العرايشي

مفهوم القانون والدولة عند العرب قبل الإسلام

        اختلف الكتاب في تحديد أصل لفظ القانون ، فذهب بعضهم إلى القول أنه ليس عربي الأصل وانه دخيل على لغتنا ( وهو الرأي الغالب ) ، وذهب آخرون إلى القول أنه عربي الأصل مادة وشكلاً ، بدليل عدم ادراج هذا المصطلح فيما وضعه الكتاب العرب في مجموعات الألفاظ المستعربة على الرغم من شيوع استعماله وقتئذ  ، أما من حيث مادته فأصله لفظ ( قن ) ويعني تتبع أخبار الشيء للإمعان في معرفته ،  وأما من حيث وزنه فهو من صيغة ( فاعول ) العربية التي تدل على الكمال وبذل الجهد ، وذهب القائلون بالأصل الأعجمي إلى أنه مشتق من كلمة ( Kanon ) التي تعني القاعدة أو التنظيم ، وهي كلمة لاتينية اقتبس منها الفرنسيون كلمة ( Canon ) قاصدين فيها قرارات المجامع الكنسية وأخذ ها الانجليز فأطلقوها على القانون الكنسي     ( Canon Law ) ، وحدد غيرهم من الكتاب أصلاً آخر له ، فقيل أنه أصل رومي ، وقيل أنه فارسي الأصل ، ونسبة فريق إلى اللغة السريانية ، كما نسبة فريق آخر إلى اللغة العربية ، ولكل فريق حججه في دعم وجهة نظره ، والخلاف في الأصل اللفظ لا ينطوي على فائدة علمية ، ولذلك لن نتصدى له بالتفصيل أو المناقشة ، وإن كنا نميل إلى القول أنه عربي الأصل ([1]) .
        أما بالنسبة إلى تعريف القانون اصطلاحاً فيراد به أحد معنيين عام أو خاص ، فالعام هو مجموعة القواعد التي تنظم سلوك الأفراد في الجماعة تنظيماً عادلاً يكفل حريات الأفراد ويحقق الخير العام ، وتتضمن جزاء يجبر على اتباعها عند الاقتضاء ، أما التعريف الخاص فيقصد به تلك القواعد القانونية الصادرة من السلطة التشريعة بقصد تنظيم أمر معين ([2]) .
        وكان للعرب شيء من القوانين تحكم حياتهم ومعاملاتهم ، وهي قوانين لم تصدر عن سلطة تشريعية كما أصبح عليه الحال بعد مجيء الإسلام ، ولكنها كانت أوضاعاً وتقاليد وأعرافاً ([3]) .
        ولم يكن القانون عند العرب قبل الإسلام بما تضمنه من أعراف وعادات وتقاليد منظم بقانون مكتوب ، ففي مكة وعلى الرغم من أن مجلس الملأ كان وسيلة الحكم فيها وينظم شؤونها السياسية والاقتصادية والاجتماعبة ، فانه لم يخضع لقانون مكتوب وإنما كان ينظر في هذه الشؤون حسب العرف والعادة ، ولم يقضِ على حرية الأفراد فكل فرد كان متمتعاً بحريته مع شعوره بحقوق الجماعة أو حقوق القبيلة ، وهذا هو النظام نفسه الذي كان سائداً في القبيلة العربية في أنحاء شبه الجزيرة كافة فللفرد حريته وللجماعة حقوقها التي لا تتناقض مع هذه الحرية ، وعلى ذلك كانت القرارات الحاسمة في الملأ هي القرارات الجماعية ([4]) .
        ولم يكن للبدو قانون منظم مكتوب ،بل كانت لهم تقاليد يسيرة واضحة يتمسكون بها أشد التمسك ، ومفعولها يقتصر على العشيرة ولا يتعداه إلى العشائر الأخرى ، وهي تقاليد على سهولتها صلبة جامدة ، مألوفة ويصعب تغييرها ، ولم تكن هناك سلطة تنفيذية تقتص للفرد أو تنزل العقاب بالجاني ، وإذ كان يترك للمجني عليه أن يقتص لنفسه ، وقد تعاونه العشيرة في ذلك ، إلا أن عقاب الجرم كان يعُدّ دائماً حقاً خاصاً وليس هناك حق عام، فإذا أعفى المجني عليه لم يكن على الجاني أي عقاب ([5]).
        من خلال ما تقدم نجد أن العرب قبل الإسلام لم يعرفوا القانون بالمفهوم المعاصر ، ولكنهم عرفوا العرف ، وهو ما اعتاده جمهور الناس وألفوه من قول أو فعل تكرر مرة بعد مرة ، حتى تمكن أثره في نفوسهم وتلقته عقولهم بالقبول ، وهو معنى العـادة عند بعض العلماء ولكن العادة أعم من العرف ([6]) . ويقصد بالعرف أيضاً أنه
ما استقر بالنفوس وتلقته الطباع السليمة بالقبول فعلاً كان أو قولاً دون معارضة لنص أو اجماع سابق وقد يكون العرف عاماً أو قد يكون خاصاً ([7]) .
      من خلال دراسة مفهوم الدولة في معجمات العربية نجد أن هذه المعاجم لم تعرف المدلول القانوني والسياسي للدولة ([8]) . فقد اقصرت في تعريفها للدولة على معنيين هما تداول المال وتداول الغلبة في الحرب ([9]) . يقول الجوهري : ان الدولة في الحرب ان تدال احدى الفئتين على الأخرى ، يقال كانت لنا عليهم الدولة ، والجمع الدول ، والدولة (بالضم) في المال،يقال صار الفي دولة بينهم يتداولونه ، يكون مرة لهذا ومرة لهذا ([10]) .
        وأستعمل القرآن الكريم مصطلح الدولة المعنيين المتقدمين أنفسهما إذ ورد في وصفه للصراع بين المسلمين والمشركين مصطلح دولة بمعنى تداول الغلبة في الحرب ] إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ[ ([11]) ، كما ذكر مصطلح دولة في مجال حديثه عن توزيع فيء بني النضير فقال ] مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ [ ([12]) .
        والدولة هي مؤسسة لتنظيم الحياة الجماعية لمجتمع ما ، وتتميز الدولة عن كل الأشكال الأخرى للجماعات الانسانية بإستوحاذها على السيادة ، فالمقاطعة هي مجمع اقليمي مقسم إلى حكومة ورعايا ، كما أن النقابة أو الكنيسة يمكن ان تكون كذلك ، ولكن أياً من هذه لا تملك سلطة قسرية عليا ([13]). وقد أصبح الآن من البديهيات الأساسية في علم السياسة وجوب التمييز بدقة بين الدولة والحكومة فالحكومة ليس سوى وكيلة الدولة ، وهي توجد لتنفيذ أهداف الدولة وهي ذاتها ليست السلطة القسرية العليا ، بل هي مجرد الجهاز الاداري الذي يضع أهداف تلك السلطة موضع التنفيذ وهي ليست ذات سيادة بالمعنى الذي تكون عليه الدولة ذات سيادة ، فاختصاصها يتحدد بالسلطة التي ترى الدولة منحها لها ، وإذا تخطت تلك السلطة فإنها تصبح موضع المحاسبة ([14]) .
        أذن الدولة هي مجتمع متكامل وأصبحت له سلطة قسرية تعلو بشكل شرعي على أي فرد أو جماعة يعيشون في هذا المجتمع ([15]) .
        ويرى محمد حميد الله ان العرب كانوا يتكلمون لغة مشتركة ، ويشتركون في الأسواق العامة ، ويستشيرون الكهان أنفسهم ، ويعبدون آلهة مشتركة ، وإلى حد كبير يراعون العادات نفسها ويعيشون في دويلات مستقلة تقوم على المدن ، قد جعل في الإمكان أن يتطور قانون يحكم العلاقات بينهم في حدود ما لديهم من امكانيات لممارسة سلطات السيادة ، ولا يمكن القول باختلاف وضع هذه الجماعات التي تتمتع بالحكم الذاتي ، أي اختلاف أساسي عن الدول الأخرى من حيث القابلية لتطبيق القانون الدولي وفاعليته ، والحق أن الرابطة الداخلية للقرابة الجامعة بين العرب كانت تجعل لهم طابع الأمة الواحدة من الناحية العلمية على الرغم من توزعها بين مدن صغيرة متباينة ([16]) .
        ولم تكن دويلات المدن في بلاد العرب وحدها على هذه الظاهرة ، ولكن عدد كبير من القبائل الرحل كانت لها شخصية سياسية على وفق الطبيعة نفسها ، ولم يكونوا دون غيرهم من حيث الحكم الذاتي في معناه السياسي ، فقد كان لهم " أقليم " وإن كانوا يعيشون في اجزائه المختلفة وفقاً للفصول المختلفة على مدار العام ، وكان لهم أيضاً تنظيم سياسي ، فكانوا يقيمون العدالة ويشنون الحرب ويعقدون المعاهدات كأي دولة من الدول ([17]) .
       والعرب قبل الإسلام عرفوا الدولة ولكن ليس بالمفهوم المعاصر ([18]) . حيث كانت الرابطة التي تربطهم تقوم على أساس القرابة الحقيقية أو المصطنعة (الولاء) ([19]) .
        ويلاحظ أن دولة المدينة قد سبقت في الظهور الأنواع الأخرى من الدول ، وكانت النواة الأولى التي تشكلت فيها الدولة القومية ، ثم الدولة الامبراطورية بعد ذلك ، فمن اتحاد مجموعة دويلات المدينة نشأت الدولة القومية ، ومن توسع الدولة القومية على حساب جيرانها من دول المدن أو الدول القومية تكونت الامبراطوريات الواسعة([20]).
        وعلى الرغم من هذا فان المفهوم القانوني للدول بوصفها جماعة من الأفراد تقطن على وجه الدوام والاستقرار أقليماً جغرافياً معيناً ، وتخضع في تنظيم شؤونها لسلطة سياسية مستقلة عن أشخاص الحكام الذين يمارسونها لم يعرف إلا في العصور الحديثة ([21]) .












([1])   البكري : عبد الباقي وآخرون ، المدخل لدراسة القانون ، ( الموصل : 1982م ) ص15 .
([2])   عامر : عبد العزيز ، المدخل لدراسة القانون المقارن بالفقه الإسلامي ، نظرية القانون ( بنغازي : 1977 ) ص12 .
([3])   موسى : محمد يوسف ، المدخل لدراسة الفقه الإسلامي ( القاهرة : 1061 ) ص14 .
([4])   الشريف : أحمد ابراهيم ، مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول ( القاهرة : 1964 ) ص113 .
([5])   العلي : صالح أحمد ، محاضرات في تاريخ العرب قبل الإسلام ( الموصل : 1981 ) ص162 .
([6])   الصالح : أحمد بن محمد ، المصادر الأصلية والتبعية للشريعة الإسلامية وقواعد الفقه فيها وبيان قدرتها على حل مشكلات المجتمع المعاصر ( السعودية : 1989 ) ص33 .
([7])   مدكور : محمد سلام ، مدخل للفقه الإسلامي ( القاهرة : 1963 ) ط2 ، ص81 .
([8])   الملاح : هاشم يحيى ، مفهوم الدولة واشكاليات استخدامه في تدوين التاريخ العربي الإسلامي ، مجلة المجمع العلمي جـ4 ، مجلد 45 ( بغداد : 1998 ) ص5 .
([9])   ابن منظور : جمال الدين محمد بن مكرم الانصاري ، لسان العرب ( القاهرة : 1302هـ ) ج13 ص267 ـ 268 .
([10])   الجوهري : اسماعيل بن حماد ، صحاح ـ تاج اللغة وصحاح العربية ( مصر : 1956 ) جـ 4 ، ص1699 ـ 1700 .
([11])   القرآن الكريم ، سورة آل عمران ، آية 140 .
([12])   القرآن الكريم ، سورة الحشر ، آية 7 .
([13])   لاسكي : هارولد ، الدولة في النظرية والتطبيق ، ترجمة أحمد محمد غنيم وكامل زهير ( مصر : 1958 ) ص9 .
([14])   لاسكي ، المرجع السابق ، ص10 ـ 11 .
([15])   المرجع نفسه ، ص 8 .
([16])   الحيدر آبادي ، محمد : حميد الله ، دولة الإسلام والعلم ( القاهرة : 1962 ) ص82 .
([17])   المرجع نفسه ، ص84 ـ 85 .
([18])   الملاح : هاشم يحيى ، نشأة وتطور مفهوم الدولة في الفكر الإسلامي ( دراسة مقارنة ) مجلة آداب الرافدين ( الموصل / 1972 ) العدد 4 ، ص49 . 
([19])   المرجع نفسه ، ص51 .
(3)  للمزيد عن الولاء ، أنظر : الشاهين محمد عمر " الحياة الاقتصادية للموالي في الدولة الأموية " اطروحة ماجستير غير منشورة ، الموصل 1996 ، ص13 .
(4)   الملاح : هاشم يحيى ، دولة المدينة بين اثينا ومكة ، دراسة مقارنة ، مجلة آدار الرافدين ( الموصل : 1972 ) العدد 4 ، ص61 .
([21])   الملاح : هاشم يحيى ، نشأة وتطور مفهوم الدولة في الفكر الإسلامي ، مجلة آداب الرافدين ( الموصل : 1972 ) العدد 4 ، ص49 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق