الجمعة، 3 أغسطس 2012

 القبيلة ـ الدولة عند العرب
                                                     لوئ العريشي
        لم تكن في بلاد الحجاز قبل ظهور الإسلام دولة عامة بالمعنى القانوني الذي نفهمه الآن عن الدولة ، وانما كانت عندهم القبيلة ، وهي كيان اجتماعي طبيعي بالغ درجة النماء عرف بأسم " القبيلة " ، يقوم فيه رؤساء العشائر والبطون برعاية شؤون الجماعة ، وكانت القبيلة هي الوحدة السياسية ، كقريش في مكة وثقيف في الطائف على سبيل المثال ، وقد جرى عرف العرب على الانتساب إلى القبائل لا إلى المدن ، بل لم يعرف الانتساب إلى المدن إلا في القرن الثاني للهجرة ([1]) .
        والقبيلة هي جماعة من الناس ينتسب جميع أفرادها أو يعتقدون أنهم ينتسبون إلى جد واحد مشترك ، ويعتقدون أن رابطة الدم الواحد تجمعهم ، ويسكنون عادة في منطقة واحدة ، وإذا ارتحلوا ارتحلوا معاً ، وهم يحملون واجبات مشتركة في الدفاع عن القبيلة وفي الدية ([2]) .
        ويعرفها آخرون بأنها مجموعة من الناس كانت تؤمن بوجود رابطة تجمعهم ، تقوم على أساسين من وحدة الدم ووحدة الجماعة وفي ظل هذه الرابطة نشأ قانون عرفي ينظم العلاقة بين الفرد والجماعة على أساس من التضامن بينهما في الحقوق والواجبات،وهذا القانون العرفي كانت تتمسك به القبيلة أشد التمسك في نظامها السياسي والاجتماعي على السواء ([3]) . كما أن القبيلة هي عماد الحياة في البادية بها يحتمي الأعرابي في الدفاع عن نفسه وعن ماله ، حيث لا (شرَط) في البوادي تؤدب المعتدين ، ولا سجون يسجن فيها الخارجون عن نظام المجتمع ، وكل ما هناك         ( عصبية ) تأخذ بالحق و ( أعراف ) يجب أن تطاع ، والرابط الذي يربط شمل القبيلة ويجمع شتاتها هو ( النسب ) ويفسر ذلك بارتباط القبيلة كلها بنسب واحد وبدم واحد ، وبصلب جد أعلى أنحدر منه أفراد القبيلة في اعتقادهم ، ولهذا نجد أهل الانساب يرجعون نسب لكل قبيلة إلى جد أعلى ، ثم يرجعون أنساب الجدود أي أجداد القبائل الأقدم وهكذا حتى يصلون إلى الجذمين للعرب قحطان وعدنان ([4]) .
        وهنا قد يتسأل الباحث المعاصر : هل أن القبيلة عند العرب كانت مرادفاً للدولة من حيث المقومات والأهداف ؟ إن الإجابة عن هذا التساءل تتطلب التعرف على أركان الدولة من الناحية القانونية وهي الشعب والحكومة والأقليم والسيادة وعلينا محاولة التعرف على ما يقابلها في القبيلة .
        فالشعب قبل الإسلام هو أبناء القبيلة ، وتقوم العلاقة بينهم على رابطة الدم ، أي على فكرة أن القبيلة تنحدر من صلب رجل عاش حقاً ومات . وان افرادها يرتبطون بينهم برابطة الدم ، أي ان بينهم قرابة وصلة رحم ، أما وطن القبيلة فالأرض التي  نشأت فيها ، ثم الأرض التي هي عليها حمى القبيلة ، ومن أرضها تكونت دولتها وعلى رأسها سيد القبيلة ، ويشعر سكان المدن والقرى أنهم كالقبيلة من أصل واحد ، وإن لهم جداً أعلى يرجع نسبهم إليه أو جده أن انتمى أهل المدينة إلى امرأة ، وذلك لإعتقادهم أنهم من قبيلة واحدة في الأصل هاجرت إلى هذا المكان فسكنت فيه ([5]) فمرجع نسب أهل مكة إلى قريش ونهاية نسب أهل يثرب من الأوس والخزرج إلى ( قيلة ) جدتهم ، ونسب أهل الطائف إلى ثقيف ، فنحن إذن وان كنا أمام مدن وقرى ، أي أمام عرب حضر ، لكننا نجد أنفسنا أمام نظام يقوم على أساس قبيلة وعقلية قبلية ([6]) ، وكان كل عضو في القبيلة يجد من واجبه ان يتضامن مع أفراد قبيلته في السراء والضراء وان ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً ، وفي هذا الوضع القبلي لم يكن هناك تمايز بين شخصية الفرد وشخصيته القبلية بل كانت شخصية الفرد تذوب في شخصية القبيلة ([7]) ، والشعب هو أبناء القبيلة التي تنتمي إليها الملوك والكهنة ثم القبائل المتحالفة والقبائل المغلوبة والقبائل على أمرها التي اضطرت إلى الخضوع لها بالقوة ، فهم بمعنى ( أمه ) و
( شعب ) باصطلاحنا الحديث .
        وينطبق ذلك على حكومات الإعراب كذلك ، لتكونها من قبيلة رئيسية إلى جانبها قبائل صارت منها لعوامل متعددة ([8]) .
        وجد القبيلة هو مصدر الهامها ورابطها الروحي الذي يربط بينها ، وباسمه تتنادى في الغزوات والحروب ، لتنبعث حرارة الاندفاع والحماسة في القتال ، وبه يدعو للنخوة أبناؤها ، ومن يلتجيء إلى القبيلة مولى أو جار وبأسمه يحلف كما يحلف بأسماء الألهة ([9]) .
        والقبيلة في البادية دولة صغيرة تنطبق عليها مقومات الدولة ، وأهل الوبر لم تكن لهم أوطان ثابتة بسبب تنقلهم الدائم وراء مصادر الماء والعشب وكان ضيق أسباب الحياة في الصحراء حافزاً لهذه القبائل المبتدئة على التنقل والتحرك ، كما كان سبباً في اعتزازهم بالعصبية التي أملتها الظروف الصعبة المحيطة بهم ، وبفضل العصبية أمكن لهذه القبائل أن تدافع عن كيانها والتغلب على غيرها لتضمن لنفسها مورداً لحياتها ، ولذلك كانت حياة القبائل البادئة صراعاً دائماً ، والصراع هجوم يتم بقصد الحصول على مزيد من الرزق ، والدفاع وللحفاظ على وجود القبيلة ، والدفاع والهجوم يتطلبان التكتل والدخول في احلاف مع القبائل الأخرى ، ولهذا عُدّ قانون البادية الغالب وقوامه، " ان الحق يقوم على القوة " ، فمن كان سيفه أمضى وأقوى كانت له الكلمة والغلبة وكان الحق في جانبه ([10]) .
        وهكذا كانت القبيلة في الواقع دولة لها وطنها الذي تكونت به ومواطنوها وهم أفرادها وساداتها ورؤساء أفخاذها ، كما أن لها اعرافها وسياستها فيما يخص الداخل والخارج ، ولها مجلسها كذلك ، وهو مجلس القبيلة المكون من وجوه أفخاذ القبيلة من أصحاب الرأي والسداد والحكمة ، فإذا حدث للقبيلة حادث اجتمع هؤلاء الرؤساء للنظر فيه ([11]) .
       ومن مصادر القوة الوطنية في أية أمة حية المصلحة العامة ، لأنه لو ترك الأمر لكل فرد من أفراد الأمة في أن يعمل كما يرى ويعتقد لأنهدم النظام ولأنهارت الأمة ، فالمصلحة العامة أساس هذا الروح الذي يجعل كل فرد من الأمة يسهم بنصيب وافر في طريق واحد لغاية واحدة يصبو إليها الجميع ([12]) .
        ولقد كان من مصلحة القبيلة أن تكون يداً واحدة في كل الأحوال ، لأنها إذا انقسمت على نفسها في أمر ما تلاشت ، فالمصلحة كانت ولا تزال تقتضي وجود التضامن الشديد ، إذا ان القبيلة محاطة بالأعداء ، وانقسامها يعني ضعفها وتلاشيها .
        أما عن عامل الشعور فكان كل فرد في القبيلة يحس بأنه مدين في كل شيء عزيز عنده إلى قبيلته ، فهي التي حمته وترعرع فيها حتى صار رجلاً ، فكان لزاماً عليه ان يخلص لها ويتفانى في الدفاع عن شرفها ([13]) ، ويرى أبن خلدون ان قوة الملك ووحدة القلوب بين الناس هي نتيجة للعصبية ، إذ قال " إن الملك إنما يحصل بالتغلب ، والتغلب إنما يكون بالعصبية وإتفاق الأهواء على المطالبة " ([14]) .
        من جانب آخر نجد أن عرب ما قبل الإسلام  لم تكن عندهم نظرة سياسية قومية عامة ، بمعنى السعي ليجمع شمل العرب كلهم وإنشاء دولة عامة عربية ، وإنما كانت دولهم ملكيه يسيرها ملوك أو سادات قبائل على وفق المثل التي يرسمونها ويسعون لتحقيقها بتوسيع حكمهم وبمناهضة أعدائهم ،ودولة ليست لها مثل عليا لا يمكن ان تفكر في سياسة عالية ، والإسلام هو الذي جعل العرب يخرجون من جزيرتهم بمثله التي جاء بها ومنها نشر رسالته ودخول الناس فيه فتمكنوا بهذه الرسالة من الفتح ([15]) .
        وبعد كل هذا وذاك ، نستطيع التفرقة بين القبائل المستقرة مثل قريش في مكة والتي كونت أقرب ما يكون ( دولة مدينة ) ، وبين القبائل المتفرقة المتنقلة البدوية والتي ليس لها أقليم دائم ، ولكن لها ( حمى ) تتنقل فيه .
        وبناءً على ما تقدم اتضحت لنا وجهتا نظر ، الأولى تقول : إن هذه القبائل ليست دولة لفقدان ركن الأقليـم ، والثانية ترى : أنها دولة  لوجـود المجتمع السياسي المتمثل بوجود ( حاكم ومحكوم ) فضلاً عن وجود أقليم ( حمى ) غير ثابت وتوفر عنصر السيادة .
       


([1])   الشريف ، مكة والمدينة ص23 ـ 24 .
([2])   العسلي : خالد صالح ، دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام والعهود الإسلامية المبكرة ، ط1 ( بغداد / 2002 ) جـ 1 ، ص60 .
([3])   الشريف : المرجع السابق ، ص24 .
([4])   علي : جواد ، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ( بيروت : 1978 ) ط2 ، جـ4 ، ص313 .
([5])   المرجع نفسه ، جـ5 ، ص178 .
([6])   المرجع نفسه ، جـ5 ، ص180 .
([7])   الملاح : هاشم يحيى ، نشأة وتطور مفهوم الدولة في الفكر الإسلامي ص51 .
([8])   الشريف ، مكة والمدينة ص23 ، علي : جواد ، المفصل ، جـ 5 ، ص178 ـ 179 .
([9])   علي : جواد ، المفصل ، جـ 5 ، ص180 .
([10])   السالم : السيد عبد العزيز ، تاريخ الدولة العربية ، تاريخ العرب من ظهور الإسلام حتى سقوط الدولة الأموية ( الإسكندرية : د . ت ) ص18 .
([11])   الشريف ، المرجع السابق ، ص23 ـ 24 . علي : جواد ، المرجع السابق ج 5  ص 178 .
([12])   الشريف ، مكة والمدينة ، ص50 .
([13])   المرجع نفسه ، ص50 .
([14])   ابن خلدون : عبد الرحمن بن خلد ، المقدمة ( بيروت : د . ت ) ، ص 157 .
([15])   علي : جواد ، الفكر السياسي العربي قبل الإسلام ، بحث من كتاب حول كتابه التاريخ ( بغداد : 1979 ) ص53 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق