الأربعاء، 30 مايو 2012






-الانتربولوجي كاتبا:‏
يدشن الباحث عبد الله حمودي بكتابه موسم بمكة انتقاله من الاشتغال
بالآليات والخطوات المدرسية ‏المشتركة لعلم الانتربولوجيا (إعلان الاختيار
المنهجي فالوصف الميداني، فالتحليل فالاستخلاصات) ‏إلى تصور آخر للبحث
الانتربولوجي تتخلخل فيه كل المعطيات البحثية الكلاسيكية، بدءا من لغة
‏وأسلوب البحث مرورا بالمعنى الابستيمولوجي للميدان ولنوعية العلاقة بين
الباحث والمبحوث، ‏ووصوله إلى كيفية إعادة بناء المعطيات الميدانية في شكل
نص مكتوب.‏

ضمن هذا التصور المغاير، تحضر متغيرات من نوع آخر لتأثيث الكتابة
الانتربولوجية، مثل ‏الذاكرة والطفولة والحكي والاستعارة والتجربة الوجودية
للباحث، والمراجعة الضمنية والعلنية لتاريخ ‏الباحث، لدرجة يصعب فيها على
القارئ تبين الفوارق بين لغة البحث والبحث في اللغة، أو بين ‏الواصف
والموصوف، بين الذات والموضوع، بين المعطى الميداني والمتخيل، بين التجربة
الميدانية ومذكرة ‏البحث، بين الكتابة الأدبية وإعادة البناء
الانتربولوجية.‏

وليس من باب الصدفة أن يستهل الباحث عبد الله حمودي كتابه هذا باستحضار
أحد مؤسسي هذا ‏التصور، بعمله المعروفمدارات حزينة فالسفر ليس وحده المعطى
المشترك بين ك. ليفي ستراوس ‏والباحث ع. حمودي، بل أيضا تخفيف، إن لم نقل،
فك علاقة الزواج الكاثوليكية التي ظلت قائمة بين ‏مفهوم العلمية والصرامة
المنهجية، ومن ثم إعادة توزيع العلمية والحقيقة على باقي أشكال الوصف
‏والحكي والتذكر والبوح الذاتي ... الخ.‏

يجد كتاب موسم بمكة موقعه ضمن تقليد انتربولوجي جديد، يكرسه الآن في
الحقل الانتربولوجي ‏باحثون/ كتاب من مثل كليفورد كيرتز (الانتربولوجي
كاتبا، سنة 1996) و جورج بلانديي ‏‏(الصرف ‏Conjugaison‏ سنة 1997). ومارك
أوجي (حرب الأحلامسنة 1997 والسفر المستحيل سنة ‏‏1997) وآخرون.‏

إنه تقليد يطرح على المجال الانتربولوجي سؤال الكتابة. لا بمعنى
الصياغة، ولكن بمعنى ما سماه ج. ‏بلاندنيي "أثر الكتابة" على النص والباحث
والخطاب الانتربولوجي، أو ما حدده بدقة ك. ليفي ‏ستراوس في مدارات حزينة،
أو في صيغة "العمل الانتربولوجي بوصفه نصا".

‏2-الحكاية وتجربة الحج:‏

‏"السفر إلى مكة ليس سفرا، بل أداء لفريضة. وهو يبدأ قبل فعل السفر مثله
في ذلك مثل جميع الأسفار، ‏لكن مع فارق كون مثيراته ومحفزاته يطبعها
القلق" (ص12). هذا القلق الذي يميز ‏رحلة الانتربولوجي إلى مكة هو ما يصفه
الكتاب طيلة عشرة فصول.‏

فانطلاقا من الفصل الأول وإلى حدود الفصل العاشر. لن يجد القارئ تحليلات
نظرية، بل سردا مرتويا هنا وهناك ‏بتأملات يقظة، لبداية التهيئ والاستعداد
للحج سواء على المستوى الإداري أو الديني– الشعائري.

فطيلة تهييئ الملف الإداري، يعيش الباحث محنته الصغيرة الأولى ببلده.
فالذهاب إلى الحج كما يخبره ‏لحسن، صديق ومخبر الباحث، يخضع قانونيا
للكوطا، حسب المناطق والعمالات (ص26). إنها بداية ‏الاحتكاك بالإدارة وأولى
الخطوات المهيئة إلى السفر لمكة بوصفه تجربة لا سفرا عاديا. يقول ع.
‏حمودي في ظل ذلك "أصبح الحج داخل شكي وألمي حجي أنا" (ص23).‏

وإذا ما كان الملف الإداري قد اختلطت أوراقه وتعطرت برائحة الرشوة
الصغيرة، فإن بداية التهييئ ‏الديني لأداء هاته الشعيرة سيضع الباحث
الأنتربولوجي في وضعية المبتدئ المتعلم: تعلم كيفيات أداء ‏الفريضة بكل
تفاصيلها وتعاليمها وغاياتها. لذلك يعلن الباحث بل يتيقن بأن السفر هاته
المرة لا يشبه ‏كل أسفاره السابقة. إنه يخلخل الأدوات المعرفية، ويعيد
النظر في موقع الذات وصلاتها بالمنتهى: ‏منتهى السفر، منتهى الحياة، منتهى
البحث...‏

داخل الكتاب لا نحس محنة المعايشة الميدانية، بل محنة الحكي عن مسار-سفر
المعايشة- أداء ‏فريضة قدسية يحضر في كل منعرجاتها ومحطاتها ما ينهك
الجسد، وما يتعب الرابطة الذاتية بالإسلام ‏والمسلمين، ويكشف علاقة الدين
والمقدس بالتجارة والسياسة. يقول الباحث: "في مسار البحث جاء ‏الحج في لحظة
غير عابرة. لقد قادتني أبحاثي السابقة إلى تفكير الدين. ولأنني تجاوزت
الخمسين من ‏عمري أجدني متسامحا أكثر مع المحافظين الذين يزدادون انتشارا.
دفعني بحثي الأكاديمي لمساءلة ‏هويتي. نعم لقد تعاملت مع الحج كمشروع بحث،
لكن أيضا تحت ظل رهانات وجودية لم يكن ‏بإمكاني تجاهلها" (ص186)‏

‏3-الطقس والنص:‏

لم يكتف عبد الله حمودي بالوصف على الطريقة الكلاسيكية لشعيرة الحج، بل
لون كل التفاصيل ‏المحكية والمعيشة، بلون السارد المعتمد على مخزونات الوعي
الذاتي، ولون الباحث الانتربولوجي ‏المجرب.‏

وإذا ما كان المسار البحثي للباحث قد دفعه لولوج عوالم مشروعه الجديد
بسؤال المعرفة والوجود، فإن ‏الحج سيصبح إثر ذلك تجربة ذاتية وموضوعا
انتربولوجيا.‏

إنه موضوع انتربولوجي من حيث كونه شعيرة قدسية ممتلئة بالرموز والسير
الذاتية، بالمتخيل ‏والديني، وفي نفس الوقت موطن لتأكيد المسلمين لهويتهم
الموحدة واختلافهم عن غيرهم (ص260). ‏ومجال لتشابك الديني بالتجاري
والايديولوجي، ومحطة لتبادل اللغات والثقافات والمعاني والنظم ‏الرمزية
(ص.290)‏

وإذا ما كان كلود ليفي ستراوس قد اعتبر أن المرء لا يمكنه أن يكون
انتربولوجي قبيلته فإن إقدام عبد ‏الله حمودي على هاته التجربة، سينجرف
بممارسته الانتربولوجية وكذا بعلاقته بموضوعه نحو مسار ‏آخر. يقول بهذا
الخصوص "لقد قادني الحج إلى مفترق طرق مغاير. فبينما كنت أظن أنني سأقوده
‏إلى عالم الانتربولوجيا، فقد تلقيته كحدث غير متوقع سيطبع حياتي" (ص265).
وبسبب ذلك سيعتبر ‏الباحث أن الحصيلة التدوينية لتجربته الميدانية لن تكون
في النهاية غير حكاية ‏Récit، سيجمع ضمنها ‏دور السارد ودور البطل (ص295).‏

داخل تجربة الحج هاته، من حيث هي تجربة الوعي الانتربولوجي وهو يعايش
طقسه، سيصادف ‏القارئ إلى جانب المتعة والقوة النظرية، ثلاث أنوية تمثلها
لحظة الإحرام، ولحظة رجم الشيطان ‏وأخيرا لحظة نحر أو ذبح الأضحية، وعلى
طول وصفها والحكي عنها يصعب التمييز بين الباحث ‏والمعايش والكاتب.‏

بعد وصفه للتعاليم الشرعية الخاصة بلحظة الإحرام، وبعد تعلمه لفعل ذلك
وهو بالمغرب، وأثناء ‏تدوينه لمذكرة البحث التي يتساءل عبد الله حمودي
بكيفية درامية عن قطعة الثوب الأبيض غير ‏المخيطة التي يرتديها الرجال
أثناء طوافهم على الكعبة، وكذا عن الوهن والضعف الذي يصيب الجسد ‏من جراء
تراكم الإجهاد: "ألم أتحول إلى شبح لذاتي تحت قوة وضغط التغيير؟" (ص63). في
لحظة ‏الإحرام يغاير الجسد ذاته، فهو هنا وهناك. على الأرض وفي السماء
وبحكم طبيعة رداء الإحرام ‏يتضاعف الإحساس بالنظير ‏Le double‏. إنه نفس
الإحساس الذي سجله الباحث بخصوص الاسم ‏أوالنعت الجديد (الحاج) الذي أصبح
يغلف الاسم الشخصي الأصلي (ص267).‏

مع شعيرة رجم الشيطان سيثير الباحث تجذر العنف في الطقس، وتجذر هذا
الأخير في الاستعارة (ص‏‏246). ففعل الرجم يطلق العنان للعنف والذي ليس غير
عنف محاك لعنف أصلي (ص 254)، مع ‏فارق هو أن الذهاب والإياب بين العنفين
ملموس وحسي هاته المرة. (ص254). يحاكي الفاعل ‏الطقوسي أثناء عملية الرجم
فعل سيدنا إسماعيل، لكن الحجارة هاته المرة لا تنزل على الشيطان ‏مباشرة،
بل على سارية. إن تحيين فعل إسماعيل، وكذا الفعل مثله ‏Faire comme‏ هو ما
يجعل هاته ‏الحركات الطقوسية حركات استعارية أساسا.‏

مع شعيرة الأضحية والتي تتزامن مع العيد الكبير، سيستعيد الباحث تحليلات
كتابهالأضحية ‏وأقنعتها وكذا ذكريات الطفولة والشباب. ففي منى، يشبه حجز
الحيوانات/الاكباش المعدة للنحر، ‏مخيمات الحجز والاعتقال (ص234). وإذا ما
كانت شعيرة الحج تستهدف "انقاذ حياة البشر" ‏وتطهيرها، فإنها في الآن نفسه
تجيز وتبيح قتل الحيوانات (ص234). فعملية نحر الأضحية تضع ‏حسب الباحث، حدا
لحياة متفردة مثلها في ذلك مثل حيواتنا الإنسانية. لذا يخلص الباحث إلى
كون ذلك ‏الفعل، فعل عنف أو بشكل أصح فعل قتل. (ص235).

نسخة راقية من الكبير علي فله الشكر العظيم


http://www.mediafire.com/?t3009n9bqk355g7

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق