العلاقات المغربية الهولندية والبلجيكية
شكل المغرب بحكم موقعه الجغرافي المطل على واجهتين بحريتين، منذ القدم
منطقة جلب للعديد من الدول والإمبراطوريات، سواء في إطار احتلال أراضيه أم
ربط علاقات تجارية معه. وقد تطورت تلك العلاقة على مر العصور، فكانت تتغير
حسب الظرفية التاريخية، من التعاون نحو المواجهة المباشرة وغير المباشرة؛
غير أن الحديث عن تلك العلاقات لم يكن ليعرف مساره الصحيح لولا اعتماد
المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي ربطت المغرب مع الدول الأجنبية، وخصوصا
على عهد الدولة العلوية، حيث ازداد اهتمام الأوربيين بهذا البلد، بعد
الضعف الذي دب فيه، وتكالب القوى الأجنبية للسيطرة عليه وأخذ قسط من الكعكة
الاستعمارية والمراهنة باستقلاله.
كانت علاقات المغرب مع الدول الأجنبية، خصوصا مع فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإسبانيا قد أخذت قسطا لا يستهان به في مجال البحث العلمي الأكاديمي، وظهرت دراسات وأبحاث متعددة، وهو الأمر الذي لم بالنسبة لدول أخرى كهولندا وبلجيكا واللتين لا زال البحث في مسارهما الدبلوماسي والعسكري والتجاري مع المغرب، يسير بخطى بطيئة. تعود تلك للصعوبات التي تقف أمام الباحث لاستكمال مختلف الترتيبات والقضايا المطروحة ضمن تلك العلاقات، إلى قلة الوثائق وصعوبة الوصول إلى أرشيف البلدين وندرة الدراسات التي اهتمت بالموضوع، إلا بعض الندوات واللقاءات العلمية فضلا عن ذلك فقد طرحت اللغة الهولندية إشكالا للباحثين المغاربة في الغوص في الأرشيف الهولندي وسبغ أغوار تلك العلاقة المتميزة بين البلدين عبر مختلف المراحل التاريخية.
I- أهم القضايا المطروحة في العلاقات المغربية الهولندية خلال القرن التاسع عشر
تعود العلاقات المغربية الهولندية على عهد الدولة العلوية إلى مرحلة السلطان مولاي إسماعيل (1672-1727)، الذي عقد اتفاقية مع البلدان المنخفضة (الإسطادوس)، منذ عام 1680،[1] اهتمت تلك الاتفاقية بتبادل الأسرى والسفارات وجلب الأسلحة، وهو نهج سار عليه السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1757-1790) الذي جدد الاتفاقية المغربية الهولندية وأكد بعدم أسر البحارة الهولنديين وحماية سفنهم.
وقد تطور العلاقات الدبلوماسية في مراحل لاحقة بإرسال قنصل عام هولندي إلى المغرب، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت العلاقات التجارية تنحو منحا اقتصاديا، مرتبطا بالعلاقات التجارية، لكن التساؤل المطروح كيف ستصبح هذه العلاقة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر؟
تسجل بعض الدراسات أن العلاقات المغربية مع البلدان المنخفضة عرفت تراجعا خصوصا بعد احتلالها من قبل فرنسا، وتقلص الحضور الهولندي بالمغرب، حيث كان بعض التجار الأوربيون يقومون بتنفيذ بعض المهمات للقنصل الهولندي بالمغرب، كما أن كل من ممثل إنجلترا وألمانيا المقيمين بطنجة كانا مكلفين بإدارة المصالح الهولندية بهذا البلد.[2]
وقد لاحظت نفس الدراسة التي اطلعت على تقارير نواب القنصل الهولندي بمدينة الجديدة والصويرة، أنه لم يتم تسجيل دخول أي سفينة هولندية إلى مرسى المدينتين خلال أربعينيات القرن التاسع عشر.
لكن لم ينس الهولنديون علاقاتهم التاريخية مع المغرب، حيث حصلوا عام 1858، على نفس الحقوق التي حصل عليها الإنجليز خلال المعاهدة التجارية بين المغرب وإنجلترا في عام 1856؛ والمتمثلة في حرية التجارة بالمغرب، لكن ذلك الحضور الضعيف لهولندا بالمغرب، ترجم في العدد القليل من ممثلي هذه الدولة بالمغرب والذي لم يتعد ثمانية ممثلين قنصليين القناصل، فبالإضافة إلى قنصل عام بمدينة طنجة، هناك نواب آخرون بمدن : الصويرة والعرائش والرباط وأسفي والدار البيضاء والجديدة، وعون قنصلي بمدينة تطوان. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هؤلاء الأعوان لم يكونوا مأجورين، بحيث قد يكونون تجارا أجانب يقومون بوظائف قنصلية، سواء بالنسبة لبلدانهم الأصلية أم لبلدان أخرى؛ مثل القنصل العام الإنجليزي جون هاي دريموند هاي (عميد السلك الدبلوماسي بطنجة توفي في عام 1897، بعد أن عاصر أربعة سلاطين مغاربة، وهم مولاي عبد الرحمان بن هشام وسيدي محمد بن عبد الرحمان ومولاي الحسن ومولاي عبد العزيز)، والذي قضى مدة طويلة بالمغرب وكان يقوم بهذه المهمة، كما هو الحال بالنسبة للدبلوماسيين الألمان منذ 1891، حيث نجد كل من طاطنباخ وروزن، قد شغلا منصب قنصل هولندا بالمغرب.
وكانت هولندا من البلدان التي حضرت ووقعت على بيان الذي أصدرته القوى الأوربية في مؤتمر مدريد الذي انعقد في الفترة الممتدة من 19 ماي 1880 إلى 3 يوليوز من نفس السنة، والذي نظم لمعالجة مسالة الحماية القنصلية، التي كانت من الأسباب الرئيسة في تدهور الاقتصاد المغربي، وضرب السيادة المغربية على رعاياها، بل أثرت بشكل كبير على الاحترام الواجب للمغرب.
اتخذت هولندا في شخص وزيرها المفوض بمدريد فان هلدوير، نفس الموقف الذي أخذته بريطانيا[3]، وتبادل ممثلو البلدين الرسائل لاتخاذ موقف موحد خلال ذلك المؤتمر، خصوصا إذا ما علمنا أن هولندا بدورها كان لديها بعض المحميين المغاربة، بلغ عددهم تسعة في العام 1870. وكان حضور هذا الوزير كمستمع أكثر من كونه مدعوا للمشاركة الفعلية في هذا المؤتمر الذي عمل على تدويل القضية المغربية الخاصة بالحماية القنصلية وقد استمر الموقف الهولندي غير الواضح من المسألة المغربية حاضرا كذلك في مؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1906، كما أنها كانت غير بعيدة عن الاتفاق الفرنسي الألماني في العام 1911، بعد أزمة أكادير وجلب ألمانيا لبارجتها الحربية بانتير إلى ميناء هذه المدينة للضغط على فرنسا لأخذ نصيبها من قسمة المستعمرات.
ما يمكن ملاحظته في سياق الحديث عن العلاقات المغربية الهولندية هو أن دورها أصبح ضئيلا مقارنة بما كانت عليه في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وحسب دراسة قام بها أحد الباحثين الهولنديين، وهو فيسلينك، أشار فيها إلى أن الهولنديين خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانوا لا يعرفون الشيء الكثير عن المغرب، فالرحالة الهولنديون لم يكتبوا الكثير عن هذا البلد وحتى الصحف الهولندية كتبت عدة مقالات عن الوضعية بالمغرب، إذ نجد بعضها يؤكد على أن : الفوضى تعم هذا البلد، حيث لا يوجد قانون يمكننا الاعتماد عليه، وليس هناك سلطة لتطبيقه.[4]
وكان لهذه للصحافة دور كبير في تأجيج الأزمة التي وقعت بين المغرب وهولندا بعد اعتراض أحد المراكب الهولندية بالشمال، حيث تمكن بعض المغاربة من نهبها وتحطيم أجزاء منها، لذلك عمل الهولنديون على الضغط على المخزن المغربي من أجل إصلاحها، وهو أمر استجاب له المغرب، بعد تقديم التعويضات والقصاص من مرتكبي ذلك الفعل.
وما يمكن تسجيله في إطار العلاقات المغربية الهولندية هو التراجع في المبادلات التجارية بين البلدين، من خلال انخفاض صادرات المغرب نحو هولندا منذ العام 1886 إلى العام 1913، والمتمثلة في الحبوب والبذور والجلود والأصواف... في حين ارتفعت وثيرة استيراد المغرب من هذه الدولة، خاصة المعلبات والشموع والحلوياتو والمشروبات الكحولية والآلات النحاسية والحديدية والزبادي، والورق والقماش...
وقد اعتبرت الصحف الهولندية، خاصة هيت فولك، أن المسألة المغربية من أخطر المسائل التي لها تأثيراتها على المستوى الدولي على المدى البعيد والمتوسط. لذلك يستوجب عقد مؤتمر لحل هذه المسألة، وقد جنت هولندا بعض الثمار من مساهمتها في مؤتمر الخزيرات في الفترة الممتدة من 16 يناير إلى 7 أبريل 1906، ومثلها وزيرها بمدريد تيستطا حيث تمكنت بعض الأبناك الهولندية[5] من المساهمة في بنك الدولة المغربية الذي تم إحداثه بموجب مقرارت ذلك المؤتمر بحوالي 2,5 %.
وبعد فرض الحماية على المغرب من قبل فرنسا في 30 مارس 1912، تراجعت مشاريع هولندا بالمغرب، بحيث لم تعد لديها مصالح اقتصادية بالمغرب بعد تحكم سلطات الحماية في جميع مظاهر الحياة، الاقتصادية والسياسية والعسكرية. ليبق التمثيل الدبلوماسي الهولندي بالمغرب مقتصرا على بعض القناصلة الشرفيين.
وحسب الجريدة الرسمية الهولندية الصادرة يوم 29 أبريل 1913، اعترفت هولندا رسميا بالعقد الذي وقعه المغرب مع فرنسا في 30 مارس 1912، فانتهت مرحلة طويلة من العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وهولندا، منذ التوقيع على أول اتفاقية على عهد السلطان مولاي إسماعيل إلى حدود فرض الحماية على المغرب من قبل فرنسا، أصبحت هولندا تمر عبر باريس لمتابعة مصالحها بالمغرب.
إذا كانت العلاقات المغربية الهولندية على عهد الدولة العلوية قد امتدت أكثر من ثلاثة قرون ونصف، من التبادل التجاري والتعاون العسكري، فقد تراجعت تلك العلاقة في نهاية القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين بعد استحواذ كل من فرنسا وإسبانيا على المغرب.
عموما لم تستفد هولندا من نتائج مؤتمر مدريد عام 1880، ومؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1906، لتخرج خاوية الوفاض وتعترف بنفوذ فرنسا وإسبانيا على المغرب، ويبقى التساؤل المطروح، والمشروع في الشق الثاني من نموذج العلاقات المغربية الأجنبية، وهو كيف ستكون العلاقات المغربية البلجيكية وما هي أهم القضايا التي تحكمت في مسار البلدين؟
II- العلاقات المغربية-البلجيكية من التعاون التجاري إلى التعاون العسكري وتبادل السفارات
إن الحديث عن العلاقات المغربية البلجيكية يحتم علينا بالضرورة معرفة الظروف الجيو - السياسية التي أوجدت الأرضية الملائمة للتقارب البلجيكي-المغربي.
ظهرت بلجيكا كدولة مستقلة في 4 أكتوبر 1830، ولعل هذا التأسيس في هذا الوقت بالذات في الظروف التي كانت تعيشها أغلب دول العالم والمتسمة بالصراع العسكري واشتداد المد الاستعماري، باحتلال الجزائر من قبل فرنسا عام 1830، ومحاولاتها جر المغرب نحو حرب من أجل إدخاله تحت نفوذها، دفع هذه الدولة الناشئة إلى اتخاذ مواقف معتدلة من مختلف القضايا ونهج سياسة سلسة ومرنة وإتباع مبدأ الحياد في أفق تحقيق مختلف مشاريعها الاقتصادية والسياسية، خاصة على عهد الملك ليوبولد دس ساكس.
تجمع بعض الدراسات التي تم الاطلاع عليها، على كون اهتمام بلجيكا بالمغرب، كان في العام 1838، حيث بادر الملك البلجيكي بالاتصال بالسلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام (1822-1859)، عن طريق قنصله العام بالجزائر، وهو أمر جعل هذا الملك ينشأ قنصلية بمدينة طنجة، وكان الهدف منها، ربط علاقات تجارية مع المغرب، وفسح المجل لمنتجاتها لغزو الأسواق المغربية، خاصة وأن قنصلها العام دالوين الذي عين في 1845، عمل على توطيد العلاقات التجارية بين المغرب وبلجيكا مستفيدا من المعاهدة المغربية الإنجليزية المبرمة في عام 1856.
ومنذ ذلك التاريخ عملت بلجيكا جاهدة على ترسيخ وجودها بالمغرب، سعت إلى الرفع من وثيرة استيرادها للأصواف المغربية، وإعارة بعض سفنها لنقل الحجاج المغاربة إلى الديار المقدسة.
عملت بلجيكا في سياق تطوير علاقاتها مع المغرب على دفع هذا الأخير لعقد اتفاقية معه، وهو بالفعل ما تم التوصل إليه، حيث تم التوقيع على اتفاقية بين البلدين في 4 يناير 1862 من قبل ممثل السلطان الحاج عبد الرحمان بن محمد العاجي والقنصل العام البلجيكي بطنجة: إرنست دالوين وتركزت هذه الاتفاقية على ثلاثة شروط أساسية
يؤكد الشرط الأول على مبدأ الصلح والمهادنة بين البلدين كشرط أساسي بين المملكتين في حين يركز الشرط الثاني على فتح المدن المغربية أمام التجار والنواب والقناصلة والرعايا البلجيكيين. بينما نص الشرط الثالث على تاريخ ومكان توقيع المعاهدة المغربية البلجيكية.
نجد أن دور بلجيكا في السياسة الدولية وخاصة في علاقتها بالمغرب قد عرف نوعا من التطور بعد توقيعها إلى جانب عدد من الدول الأوربية على اتفاقية منار رأس سبارتيل 1865 بطنجة، والخاص بعبور السفن عبر المضيق. كما تم شراء العتاد الحربي، وتجهيزات عسكرية من بلجيكا في عام 1866.
ولترسيخ تلك العلاقات تم تبادل عدد من السفارات بين المغرب وبلجيكا؛ فتم إرسال سفارة على عهد السلطان مولاي الحسن (1873-1894)، بقيادة الحاج محمد الزبدي الذي تم إرساله لتدارس مشكلة آفة الحماية القنصلية، عام 176، وكانت بلجيكا أحد تلك الدول التي زارها الوفد المغربي. ويسجل التاريخ كذلك سفارة أخرى لم يكتب عنها الكثير وهي سفارة محمد بن أحمد بن المؤدن السرغيني سنة 1889، حيث زار هذا السفير كل من بلجيكا والبرتغال.
وفي إطار سياسته الإصلاحية والتحديثية، عمل السلطان مولاي الحسن على الاهتمام بالمجال العسكري، إذ تم استقدام مدربين عسكريين أجانب، فضلا عن إرساله لطلبة مغاربة للتكوين في المدارس والمعاهد العسكرية الأوربية وكانت بلجيكا من الدول التي قصدتها تلك البعثات، وهناك العديد من المراسلات في هذا الشأن ومنها النص التالي وهو رسالة موجهة للحاجب موسى بن أحمد جاء فيها : فقد وصلتنا مكاتبك... مخبر فيها بمدة مقامك ببلاد البلجيك وشارحا ما قابلك به رؤساؤها من تمام الفرح ومن حضوها بمزيد الاعتناء و البرور وما أطلعوك عليه من الفبركات الهائلة التي وصفتها... من أنواع آلات الحرب وأشكالها مدافع ومكاحل على نحو ما فصلت...
وفي نفس السياق يمكن الحديث عن أهم الطلبة المغاربة الذي تكونوا في المدرسة الحربية البلجيكية، نشير إلى ابن الكعاب الذي وظف بعد رجوعه في العديد من الوظائف العسكرية[6].
وقد وصف إدريس الجعايدي، أحد الكتاب الذي رافقوا السفارة المغربية التي توجهت إلى أوربا، بقيادة الزبدى، ما رآه من كثرة المصانع الحربية والمعامل المختصة في الصناعة الحربية، وأعجب بذلك التنظيم المحكم.
وردا على تلك السفارات المغربية إلى بلجيكا، أرسلت هذه الأخيرة سفارة بقيادة البارون إدوارد فيثنال، الذي استقبل من قبل السلطان مولا ي الحسن في العام 1888، وقدم مجموعة من المشاريع منها : إنشاء السكك الحديدة لربط مدن فاس وطنجة، ووضع الخطوط التلغرافية، وغيرها من المشاريع
.ما يمكن استنتاجه في إطار العلاقات المغربية البلجيكية، أنها انتقلت من علاقات تجارية إلى تعاون عسكري في وقت كان المغرب يعرف ضغوطا خارجية، وكان ملزما بتنويع مصادره من الأسلحة بل لتكوين أفراد الجيش المغربي، وكانت بلجيكا أحد الدول التي استعان بها المغرب لتفادي ذلك النقص الذي كان يعرفه المغرب في جميع مجالات.
محمد أمين
[1] - نص الاتفاقية المغربية مع الإصطادوس والفلامنك، وردت عند بن زيدان، إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، مطبعة إديال، 1992، ص.ص. 485-492.
[2] - HLM OBDEIJN, « les relations entre le Maroc et les Pays-Bas, Aperçu Historique »,université Mohammed V, Publication de la faculté des lettres et des Sciences Humaines – Rabat, Série : Colloques et séminaires N°8.1988. p.p. 61-71
[3] - مديرية الوثائق الملكية، العدد 5، الرباط 1982، ص.ص 314-316 و ص.ص. 334-336.
[4] - Het Volk, 11 février 1906.
[5] - Le Consortium de banques néerlandaises se composent de : Nedelandse handelmaatschappij – Amsterdamse bank et Mees & Cie
[6] - للاطلاع على أسماء الطلبة المغاربة الذين ذهبوا ضمن البعثات التي وجهها السلطان مولاي الحسن، يمكن الرجوع إلى : محمد المنوني، مظاهر يقضة المغرب الحديث. 2 أجزاء، مطبعة الأمنية.
كانت علاقات المغرب مع الدول الأجنبية، خصوصا مع فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإسبانيا قد أخذت قسطا لا يستهان به في مجال البحث العلمي الأكاديمي، وظهرت دراسات وأبحاث متعددة، وهو الأمر الذي لم بالنسبة لدول أخرى كهولندا وبلجيكا واللتين لا زال البحث في مسارهما الدبلوماسي والعسكري والتجاري مع المغرب، يسير بخطى بطيئة. تعود تلك للصعوبات التي تقف أمام الباحث لاستكمال مختلف الترتيبات والقضايا المطروحة ضمن تلك العلاقات، إلى قلة الوثائق وصعوبة الوصول إلى أرشيف البلدين وندرة الدراسات التي اهتمت بالموضوع، إلا بعض الندوات واللقاءات العلمية فضلا عن ذلك فقد طرحت اللغة الهولندية إشكالا للباحثين المغاربة في الغوص في الأرشيف الهولندي وسبغ أغوار تلك العلاقة المتميزة بين البلدين عبر مختلف المراحل التاريخية.
I- أهم القضايا المطروحة في العلاقات المغربية الهولندية خلال القرن التاسع عشر
تعود العلاقات المغربية الهولندية على عهد الدولة العلوية إلى مرحلة السلطان مولاي إسماعيل (1672-1727)، الذي عقد اتفاقية مع البلدان المنخفضة (الإسطادوس)، منذ عام 1680،[1] اهتمت تلك الاتفاقية بتبادل الأسرى والسفارات وجلب الأسلحة، وهو نهج سار عليه السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1757-1790) الذي جدد الاتفاقية المغربية الهولندية وأكد بعدم أسر البحارة الهولنديين وحماية سفنهم.
وقد تطور العلاقات الدبلوماسية في مراحل لاحقة بإرسال قنصل عام هولندي إلى المغرب، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت العلاقات التجارية تنحو منحا اقتصاديا، مرتبطا بالعلاقات التجارية، لكن التساؤل المطروح كيف ستصبح هذه العلاقة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر؟
تسجل بعض الدراسات أن العلاقات المغربية مع البلدان المنخفضة عرفت تراجعا خصوصا بعد احتلالها من قبل فرنسا، وتقلص الحضور الهولندي بالمغرب، حيث كان بعض التجار الأوربيون يقومون بتنفيذ بعض المهمات للقنصل الهولندي بالمغرب، كما أن كل من ممثل إنجلترا وألمانيا المقيمين بطنجة كانا مكلفين بإدارة المصالح الهولندية بهذا البلد.[2]
وقد لاحظت نفس الدراسة التي اطلعت على تقارير نواب القنصل الهولندي بمدينة الجديدة والصويرة، أنه لم يتم تسجيل دخول أي سفينة هولندية إلى مرسى المدينتين خلال أربعينيات القرن التاسع عشر.
لكن لم ينس الهولنديون علاقاتهم التاريخية مع المغرب، حيث حصلوا عام 1858، على نفس الحقوق التي حصل عليها الإنجليز خلال المعاهدة التجارية بين المغرب وإنجلترا في عام 1856؛ والمتمثلة في حرية التجارة بالمغرب، لكن ذلك الحضور الضعيف لهولندا بالمغرب، ترجم في العدد القليل من ممثلي هذه الدولة بالمغرب والذي لم يتعد ثمانية ممثلين قنصليين القناصل، فبالإضافة إلى قنصل عام بمدينة طنجة، هناك نواب آخرون بمدن : الصويرة والعرائش والرباط وأسفي والدار البيضاء والجديدة، وعون قنصلي بمدينة تطوان. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هؤلاء الأعوان لم يكونوا مأجورين، بحيث قد يكونون تجارا أجانب يقومون بوظائف قنصلية، سواء بالنسبة لبلدانهم الأصلية أم لبلدان أخرى؛ مثل القنصل العام الإنجليزي جون هاي دريموند هاي (عميد السلك الدبلوماسي بطنجة توفي في عام 1897، بعد أن عاصر أربعة سلاطين مغاربة، وهم مولاي عبد الرحمان بن هشام وسيدي محمد بن عبد الرحمان ومولاي الحسن ومولاي عبد العزيز)، والذي قضى مدة طويلة بالمغرب وكان يقوم بهذه المهمة، كما هو الحال بالنسبة للدبلوماسيين الألمان منذ 1891، حيث نجد كل من طاطنباخ وروزن، قد شغلا منصب قنصل هولندا بالمغرب.
وكانت هولندا من البلدان التي حضرت ووقعت على بيان الذي أصدرته القوى الأوربية في مؤتمر مدريد الذي انعقد في الفترة الممتدة من 19 ماي 1880 إلى 3 يوليوز من نفس السنة، والذي نظم لمعالجة مسالة الحماية القنصلية، التي كانت من الأسباب الرئيسة في تدهور الاقتصاد المغربي، وضرب السيادة المغربية على رعاياها، بل أثرت بشكل كبير على الاحترام الواجب للمغرب.
اتخذت هولندا في شخص وزيرها المفوض بمدريد فان هلدوير، نفس الموقف الذي أخذته بريطانيا[3]، وتبادل ممثلو البلدين الرسائل لاتخاذ موقف موحد خلال ذلك المؤتمر، خصوصا إذا ما علمنا أن هولندا بدورها كان لديها بعض المحميين المغاربة، بلغ عددهم تسعة في العام 1870. وكان حضور هذا الوزير كمستمع أكثر من كونه مدعوا للمشاركة الفعلية في هذا المؤتمر الذي عمل على تدويل القضية المغربية الخاصة بالحماية القنصلية وقد استمر الموقف الهولندي غير الواضح من المسألة المغربية حاضرا كذلك في مؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1906، كما أنها كانت غير بعيدة عن الاتفاق الفرنسي الألماني في العام 1911، بعد أزمة أكادير وجلب ألمانيا لبارجتها الحربية بانتير إلى ميناء هذه المدينة للضغط على فرنسا لأخذ نصيبها من قسمة المستعمرات.
ما يمكن ملاحظته في سياق الحديث عن العلاقات المغربية الهولندية هو أن دورها أصبح ضئيلا مقارنة بما كانت عليه في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وحسب دراسة قام بها أحد الباحثين الهولنديين، وهو فيسلينك، أشار فيها إلى أن الهولنديين خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانوا لا يعرفون الشيء الكثير عن المغرب، فالرحالة الهولنديون لم يكتبوا الكثير عن هذا البلد وحتى الصحف الهولندية كتبت عدة مقالات عن الوضعية بالمغرب، إذ نجد بعضها يؤكد على أن : الفوضى تعم هذا البلد، حيث لا يوجد قانون يمكننا الاعتماد عليه، وليس هناك سلطة لتطبيقه.[4]
وكان لهذه للصحافة دور كبير في تأجيج الأزمة التي وقعت بين المغرب وهولندا بعد اعتراض أحد المراكب الهولندية بالشمال، حيث تمكن بعض المغاربة من نهبها وتحطيم أجزاء منها، لذلك عمل الهولنديون على الضغط على المخزن المغربي من أجل إصلاحها، وهو أمر استجاب له المغرب، بعد تقديم التعويضات والقصاص من مرتكبي ذلك الفعل.
وما يمكن تسجيله في إطار العلاقات المغربية الهولندية هو التراجع في المبادلات التجارية بين البلدين، من خلال انخفاض صادرات المغرب نحو هولندا منذ العام 1886 إلى العام 1913، والمتمثلة في الحبوب والبذور والجلود والأصواف... في حين ارتفعت وثيرة استيراد المغرب من هذه الدولة، خاصة المعلبات والشموع والحلوياتو والمشروبات الكحولية والآلات النحاسية والحديدية والزبادي، والورق والقماش...
وقد اعتبرت الصحف الهولندية، خاصة هيت فولك، أن المسألة المغربية من أخطر المسائل التي لها تأثيراتها على المستوى الدولي على المدى البعيد والمتوسط. لذلك يستوجب عقد مؤتمر لحل هذه المسألة، وقد جنت هولندا بعض الثمار من مساهمتها في مؤتمر الخزيرات في الفترة الممتدة من 16 يناير إلى 7 أبريل 1906، ومثلها وزيرها بمدريد تيستطا حيث تمكنت بعض الأبناك الهولندية[5] من المساهمة في بنك الدولة المغربية الذي تم إحداثه بموجب مقرارت ذلك المؤتمر بحوالي 2,5 %.
وبعد فرض الحماية على المغرب من قبل فرنسا في 30 مارس 1912، تراجعت مشاريع هولندا بالمغرب، بحيث لم تعد لديها مصالح اقتصادية بالمغرب بعد تحكم سلطات الحماية في جميع مظاهر الحياة، الاقتصادية والسياسية والعسكرية. ليبق التمثيل الدبلوماسي الهولندي بالمغرب مقتصرا على بعض القناصلة الشرفيين.
وحسب الجريدة الرسمية الهولندية الصادرة يوم 29 أبريل 1913، اعترفت هولندا رسميا بالعقد الذي وقعه المغرب مع فرنسا في 30 مارس 1912، فانتهت مرحلة طويلة من العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وهولندا، منذ التوقيع على أول اتفاقية على عهد السلطان مولاي إسماعيل إلى حدود فرض الحماية على المغرب من قبل فرنسا، أصبحت هولندا تمر عبر باريس لمتابعة مصالحها بالمغرب.
إذا كانت العلاقات المغربية الهولندية على عهد الدولة العلوية قد امتدت أكثر من ثلاثة قرون ونصف، من التبادل التجاري والتعاون العسكري، فقد تراجعت تلك العلاقة في نهاية القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين بعد استحواذ كل من فرنسا وإسبانيا على المغرب.
عموما لم تستفد هولندا من نتائج مؤتمر مدريد عام 1880، ومؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1906، لتخرج خاوية الوفاض وتعترف بنفوذ فرنسا وإسبانيا على المغرب، ويبقى التساؤل المطروح، والمشروع في الشق الثاني من نموذج العلاقات المغربية الأجنبية، وهو كيف ستكون العلاقات المغربية البلجيكية وما هي أهم القضايا التي تحكمت في مسار البلدين؟
II- العلاقات المغربية-البلجيكية من التعاون التجاري إلى التعاون العسكري وتبادل السفارات
إن الحديث عن العلاقات المغربية البلجيكية يحتم علينا بالضرورة معرفة الظروف الجيو - السياسية التي أوجدت الأرضية الملائمة للتقارب البلجيكي-المغربي.
ظهرت بلجيكا كدولة مستقلة في 4 أكتوبر 1830، ولعل هذا التأسيس في هذا الوقت بالذات في الظروف التي كانت تعيشها أغلب دول العالم والمتسمة بالصراع العسكري واشتداد المد الاستعماري، باحتلال الجزائر من قبل فرنسا عام 1830، ومحاولاتها جر المغرب نحو حرب من أجل إدخاله تحت نفوذها، دفع هذه الدولة الناشئة إلى اتخاذ مواقف معتدلة من مختلف القضايا ونهج سياسة سلسة ومرنة وإتباع مبدأ الحياد في أفق تحقيق مختلف مشاريعها الاقتصادية والسياسية، خاصة على عهد الملك ليوبولد دس ساكس.
تجمع بعض الدراسات التي تم الاطلاع عليها، على كون اهتمام بلجيكا بالمغرب، كان في العام 1838، حيث بادر الملك البلجيكي بالاتصال بالسلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام (1822-1859)، عن طريق قنصله العام بالجزائر، وهو أمر جعل هذا الملك ينشأ قنصلية بمدينة طنجة، وكان الهدف منها، ربط علاقات تجارية مع المغرب، وفسح المجل لمنتجاتها لغزو الأسواق المغربية، خاصة وأن قنصلها العام دالوين الذي عين في 1845، عمل على توطيد العلاقات التجارية بين المغرب وبلجيكا مستفيدا من المعاهدة المغربية الإنجليزية المبرمة في عام 1856.
ومنذ ذلك التاريخ عملت بلجيكا جاهدة على ترسيخ وجودها بالمغرب، سعت إلى الرفع من وثيرة استيرادها للأصواف المغربية، وإعارة بعض سفنها لنقل الحجاج المغاربة إلى الديار المقدسة.
عملت بلجيكا في سياق تطوير علاقاتها مع المغرب على دفع هذا الأخير لعقد اتفاقية معه، وهو بالفعل ما تم التوصل إليه، حيث تم التوقيع على اتفاقية بين البلدين في 4 يناير 1862 من قبل ممثل السلطان الحاج عبد الرحمان بن محمد العاجي والقنصل العام البلجيكي بطنجة: إرنست دالوين وتركزت هذه الاتفاقية على ثلاثة شروط أساسية
يؤكد الشرط الأول على مبدأ الصلح والمهادنة بين البلدين كشرط أساسي بين المملكتين في حين يركز الشرط الثاني على فتح المدن المغربية أمام التجار والنواب والقناصلة والرعايا البلجيكيين. بينما نص الشرط الثالث على تاريخ ومكان توقيع المعاهدة المغربية البلجيكية.
نجد أن دور بلجيكا في السياسة الدولية وخاصة في علاقتها بالمغرب قد عرف نوعا من التطور بعد توقيعها إلى جانب عدد من الدول الأوربية على اتفاقية منار رأس سبارتيل 1865 بطنجة، والخاص بعبور السفن عبر المضيق. كما تم شراء العتاد الحربي، وتجهيزات عسكرية من بلجيكا في عام 1866.
ولترسيخ تلك العلاقات تم تبادل عدد من السفارات بين المغرب وبلجيكا؛ فتم إرسال سفارة على عهد السلطان مولاي الحسن (1873-1894)، بقيادة الحاج محمد الزبدي الذي تم إرساله لتدارس مشكلة آفة الحماية القنصلية، عام 176، وكانت بلجيكا أحد تلك الدول التي زارها الوفد المغربي. ويسجل التاريخ كذلك سفارة أخرى لم يكتب عنها الكثير وهي سفارة محمد بن أحمد بن المؤدن السرغيني سنة 1889، حيث زار هذا السفير كل من بلجيكا والبرتغال.
وفي إطار سياسته الإصلاحية والتحديثية، عمل السلطان مولاي الحسن على الاهتمام بالمجال العسكري، إذ تم استقدام مدربين عسكريين أجانب، فضلا عن إرساله لطلبة مغاربة للتكوين في المدارس والمعاهد العسكرية الأوربية وكانت بلجيكا من الدول التي قصدتها تلك البعثات، وهناك العديد من المراسلات في هذا الشأن ومنها النص التالي وهو رسالة موجهة للحاجب موسى بن أحمد جاء فيها : فقد وصلتنا مكاتبك... مخبر فيها بمدة مقامك ببلاد البلجيك وشارحا ما قابلك به رؤساؤها من تمام الفرح ومن حضوها بمزيد الاعتناء و البرور وما أطلعوك عليه من الفبركات الهائلة التي وصفتها... من أنواع آلات الحرب وأشكالها مدافع ومكاحل على نحو ما فصلت...
وفي نفس السياق يمكن الحديث عن أهم الطلبة المغاربة الذي تكونوا في المدرسة الحربية البلجيكية، نشير إلى ابن الكعاب الذي وظف بعد رجوعه في العديد من الوظائف العسكرية[6].
وقد وصف إدريس الجعايدي، أحد الكتاب الذي رافقوا السفارة المغربية التي توجهت إلى أوربا، بقيادة الزبدى، ما رآه من كثرة المصانع الحربية والمعامل المختصة في الصناعة الحربية، وأعجب بذلك التنظيم المحكم.
وردا على تلك السفارات المغربية إلى بلجيكا، أرسلت هذه الأخيرة سفارة بقيادة البارون إدوارد فيثنال، الذي استقبل من قبل السلطان مولا ي الحسن في العام 1888، وقدم مجموعة من المشاريع منها : إنشاء السكك الحديدة لربط مدن فاس وطنجة، ووضع الخطوط التلغرافية، وغيرها من المشاريع
.ما يمكن استنتاجه في إطار العلاقات المغربية البلجيكية، أنها انتقلت من علاقات تجارية إلى تعاون عسكري في وقت كان المغرب يعرف ضغوطا خارجية، وكان ملزما بتنويع مصادره من الأسلحة بل لتكوين أفراد الجيش المغربي، وكانت بلجيكا أحد الدول التي استعان بها المغرب لتفادي ذلك النقص الذي كان يعرفه المغرب في جميع مجالات.
محمد أمين
[1] - نص الاتفاقية المغربية مع الإصطادوس والفلامنك، وردت عند بن زيدان، إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، مطبعة إديال، 1992، ص.ص. 485-492.
[2] - HLM OBDEIJN, « les relations entre le Maroc et les Pays-Bas, Aperçu Historique »,université Mohammed V, Publication de la faculté des lettres et des Sciences Humaines – Rabat, Série : Colloques et séminaires N°8.1988. p.p. 61-71
[3] - مديرية الوثائق الملكية، العدد 5، الرباط 1982، ص.ص 314-316 و ص.ص. 334-336.
[4] - Het Volk, 11 février 1906.
[5] - Le Consortium de banques néerlandaises se composent de : Nedelandse handelmaatschappij – Amsterdamse bank et Mees & Cie
[6] - للاطلاع على أسماء الطلبة المغاربة الذين ذهبوا ضمن البعثات التي وجهها السلطان مولاي الحسن، يمكن الرجوع إلى : محمد المنوني، مظاهر يقضة المغرب الحديث. 2 أجزاء، مطبعة الأمنية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق