تطور المجال الدفاعي المعماري بالمغرب
تطور المجال الدفاعي المعماري بالمغرب
محمد أمين
أصل
المقال مداخلة، ألقيت بمدينة تاوريرت، بمناسبة الأنشطة الثقافية للسنة
الجامعية 2006-2007، التي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة ما
بين 8 و9 ماي 2007
سيركز موضوع مداخلتي على جوانب لها ارتباط بتطور المجال الدفاعي المعماري بالمغرب، وتهدف إلى الوقوف عند التطور الذي لحق مجال التحصينات والمعالم العسكرية التي كانت في فترة من الفترات التاريخية تلعب دورا محوريا في حماية البلاد، إضافة إلى أنها أنها جزء لا يتجزأ من التاريخ العسكري المغربي، كما البحث فيها واستنكاه مكوناتها وخصائصها يفيد الباحث في معرفة التطور الذي شهده الفكر العسكري المغربي من جهة والخطوات التي قطعها المعمار والمنشآت العسكرية من جهة ثانية. وعليه سيتناول هذا الموضوع النقط التالية :
- مقاربة نظرية؛ رصد أولي ضمن الإستوغرافيا؛ : دراسة التحصينات
- مفهوم اختيار الموقع الجغرافي في إقامة التحصين لدى الإخباريين؛
- تطور المجال الدفاعي المغربي عبر مجاله الحدودي، رصد كرونولوجي لأهم التطورات التي حصلت على هذا المجال؛
- خلاصة
1- دراسة التحصينات: رصد أولي ضمن الإستوغرافيا
من المتعارف عليه أن مسألة الدفاع شكلت منذ القدم هاجسا لدى الإنسان، حيث ظهر مفهوم التحصينات الدفاعية منذ بداية انشغاله بالاستقرار، وتدل الأبحاث الأركيولوجية في عدد من المناطق على وجود تحصينات بدائية التجأ إليها الإنسان للاحتماء، إما من الظروف المناخية القاسية، أو من الحيوانات الضارية التي كانت تطارده، بل إن الدور الوظيفي أصبح أكثر إلحاحا أمام بداية الصراع على البقاء مع بقية جنسه.
وعليه فمنذ أن استشعر الإنسان ضرورة وضع حد للهجمات والاعتداءات، لم يتوان في البحث عن أساليب مختلفة تقيه الخطر المحدق، فانتقل من تحصينات بسيطة، بساطة فكره، إلى اعتماد الصخور والأشجار والانتقال في مراحل تاريخية لاحقة إلى اعتماد طرق ومناهج تتخذ من الهندسة والعلوم المصاحبة سندا في تطوير مجال تحصنه. والجدير بالذكر أن التجمعات البشرية قديما كانت تعتمد أشكالا مختلفة للتحصين، وذلك بإحاطة مكان استقرارها بأسوار وأبواب حتى تتمكن من حماية نفسها، مما أوجد الأرضية المناسبة لظهور المدن بجميع أشكالها، ويحيل بعض الباحثين على أن نشأة الدولة مرتبطة بقيام جماعة ما، بخلق كيان سياسي للدفاع عن نفسها، لذا فجوهر أي دولة يتمحور حول حماية حدودها، كما تذكر المصادر القديمة أن الحيثيين والبابليين والفرس والرومان والموريين، برعوا في إقامة التحصينات التي ظلت صامدة إلى أبعد مدى[2].
إن تطور مسألة دفع الخطر ارتبطت بتطور الفكر العسكري الإنساني، فمع نشوب الحروب أصبحت الحاجة ضرورية لاعتماد أسس تضمن أمن المجموعة البشرية التي تتعرض للهجمات. فغدت مسألة اختيار المكان حتمية في تشييد منشآت عسكرية تصمد أمام ضربات واختراقات المهاجمين في حالة الحرب وتوفير مصادر التموين في حالة الحصار. لذلك كان للعوامل الجغرافية والبشرية دور في حسم العديد من الحروب التي دارت في مختلف بقاع المعمور بالاعتماد على طبوغرافية الموقع التي تبقى أكثر العناصر ثباتا، واختيار المحاور وحواجز المناورة، وتوازن مسرح العملياتومدى قدرة وكفاءة القائد الميداني في إدارة المعركة وفك الحصار وتوفير التموين الذي هو ضروري في حالة الحصار الذي قد تتعرض له التحصينات، والذي يتركز أساسا في حل مسألة إطعام الجنود وصيانة العربات وإصلاح الدروع وتأمين الجنود والمحافظة على أرواحهم.[3] باعتبار أن مسألة الدفاع والتحصين كما هي بالنسبة للحرب تخضع لظروف الزمان والمكان والمناخ والأرض والتكتيك[4].
لقد كان طبيعيا أن تهتم الدراسات الأنتروبولوجية والأركيولوجية بهذا المكون، الذي يشكل فصلا أساسيا من تطور النظام البشري وطبيعة معاشه وسط مجاله الحيوي بشتى أصنافه، وفي هذا الصدد أولى الدارسون الغربيون حيزا واسعا من دراساتهم لتتبع تطور التحصينات بضفتي حوض البحر المتوسط، بحكم قدم استقرار الإنسان بها فكان أن توافق الاهتمام مع نوعية التطور الذي عرفه هذا المجال بشمال إفريقيا، فتعددت الدراسات ما بين الرصد والتحليل لمختلف مظاهر تطور المجال التحصيني الموظف من قبل شعوب المنطقة. ففي العصر الروماني مثلا يعتبر كتاب ماركو فترفيوس (Marco Vitruvius)، من أهم المؤلفات في المجال المعماري، الذي اعتمد كمرجع أصيل في المعمار الإيطالي، إذ يحتوي على تفاصيل دقيقة ومهمة عن كيفية البناء في العصر الروماني، وقد تمت ترجمته إلى العديد من اللغات ومنها الإنجليزية[5].
وفي المغرب اعتبرت مسألة التأليف في مجال التحصينات الإسلامية، أي التي أنشأها المغاربة، حسب باتريس كرسيي (Patrice Cressier)، في مقال بعنوان: التحصينات الإسلامية بالمغرب: عناصر بيبليوغرافيا[6]، لم ترق بعد إلى مستوى باقي المجالات الأخرى من الدراسات، بناءا على جرد لمختلف المؤلفات والمقالات التي جعلت التحصينات موضوع بحث لها خلال قرن ونصف، حيث لم تتعد 160 عنوانا،تنوعت ما بين مؤلفات حول الدفاعوالتحصينات الحضرية الخاصة بالمدن (défense urbaine)، والقلاع الخاصة بالدولة (Forteresses étatiques)، والتحصينات الريفية أو القروية، بالإضافة إلى مكونات التحصينات من أبراج دائرية وأسوار مزدوجة، والأبواب والرباطات، والحصون المتواجدة بالجبال بما فيها الهري، أي المخزن أو المخازن.
وبقراءة متأنية للمبيان الذي أورده الباحث يمكن اعتبار مرحلة الحماية، الأكثر تأليفا في مجال التحصينات القروسطية والحديثة، إذ تنوع تخصص الدارسين للتحصينات والهندسة المعمارية الإسلامية ما بين الإداريين كبول بيرتيــــيه(P. Berthier)، والعـــسكريين مثل دولا شابيل (F. de La Chapelle)، والمســــتعربين كهــــنري باسيط (Henri Basset)، والمتبربرين كلاووست (E. Laoust)، وعلماء الآثار والمتخصصين في التاريخ القديم والمؤرخين كتوفينو وماريون (R. Thouvenot, J. Marion)، وعلماء عصــور ما قبل التاريخ كروهلمان (A. Ruhlmann)، ومؤرخي العلوم كهنري طيراس (HenriTerasse)، ومهندسين كهــاينو (J. Hainaut)، وأطباء كـهيـربــر (J. Herber)، ومؤرخي الإســـــــلام كـروزنــبرغر (B.Rosenberger)، وعلماء اجتماع كبول باسكون(P. Pascon).إلا أنه بالرغم من هذا التنوع في الاختصاصيين ومكانتهم العلمية والأكاديمية، فإن الاهتمام كان منصبا حول المدن التي سجلت نسبة% 32 ، يتبعها التأليف في مجال المخازن الجماعية بـ% 18، والتحصينات القروية بـ% 12، والقصبات العلوية بـ% 8. وهكذا فإن كل هذه المعطيات تدل على أن المعالم التي شيدت عبر تاريخ المغرب لم تدرس بشكل دقيق مقارنة مع المرحلة الموحدية والعلوية.
وعلى مستوى منطقة الحماية الإسبانية فقد جرت أبحاث حول المواقع والبقايا الأثرية أنجزت من قبل أنترفونتورس (interventores)، اعتمدت على التنقيب الذي قام به عالما الآثار الإسبانيان موران كوستافينو كالان عام 1948، وموران باردون عام 1949، (Morنn & Gustavino Gallant – morنn Bardِn)، حيث يحتفظ متحف تطوان بلائحة لمختلف التحصينات الإسلامية التي تم رصدها من قبل مجموعة البحث الأركيولوجي[7].
كما أن بعض المونوغرافيات القديمة تشير في بعض الأحيان إلى أنظمة دفاعية في بعض المراكز الصغيرة، التي قد تتطور وتصبح مدنا فيما بعد فتختفي تلك التحصينات ويصعب بالتالي تحديد مجالها ومكوناتها.
لهذا يتضح أن الاهتمام بالمجال الدفاعي بالمغرب، خاصة من قبل المؤسسات الفرنسية خلال مرحلة الحماية قد كان له حضور قوي، بل إن ذلك يعد استمرارا لما دأبت عليه كتب الرحلات والجغرافيين الذين زاروا المغرب منذ القرن الثامن عشر[8]. غير أن ذلك لا ينفي وجود اهتمام المسلمين بهذا بالمجال وتخصيص حيز مهم له باعتباره إحدى الدعائم الأساسية في حماية بيضة الإسلام.
2- مفهوم اختيار الموقع الجغرافي في إقامة التحصين لدى الإخباريين
إن الحديث عن موضوع التحصينات العسكرية بالمغرب يستدعي ضبط بعض المصطلحات التي كثيرا ما تتردد على الألسن دون معرفة مفهومها ودلالاتها، وهو ما يدفع على تحديد سياقها التاريخي ومهماتها والغرض من إنشائها نذكر منها: القصبة والقلعة والسقالة والبرج.
فالقصبة: بناء محصن تحيط به أسوار من جميع الجهات، وتتخلله أبواب محصنة بوسائل دفاعية، وفي أركانه أو على طول أسواره أبراج للمراقبة. وقد عُرفت القصبة في شمال إفريقيا وفي شبه الجزيرة الإيبيرية، إذ تعرف لدى البرتغاليين بـ الكسوفا (Alcaçova) وعند الإسبانيين بـألكزابا (Alcazaba)، كما أن الفهارس الفرنسية تدرج كلمة القصبة في تعريفاتها بـ (Casbah)، وتعني مدينة محصنة بكل وسائل الدفاع والمقاومة، إذ يختار لها موقع استراتيجي لتسهيل عملية التزود بالتموين خلال الحصار، وغالبا ما تكون فوق ربوة وبالقرب من موارد المياه، وبالتالي تخضع لمفهوم الموقع من وجهة خاصة.
أما البرج[9]: فهو بناء عال محصن، قد يكون مرتبطا بغيره من البنايات (أسوار، أبواب الأسوار...) أو منعزلا عنها. وتكون هذه الأبراج إما مستطيلة أو مربعة أو دائرية أو نصف دائرية أو متعددة الأضلاع. تبرز بشكل واضح خارج أسوار القصبة، ومرتبة ترتيبا منتظما على طول الجدار، أو على واجهتي الأبواب. كما أن هذه الأبراج يمكن تشييدها معزولة عن القصبة فتعتبر حصنا يدافع عن منطقة معينة ومجهز بفتحات للمراقبة ونصب المدافع وغرفة للحراس.
والقلعة [10]: بناية غايتها التحصين ضد العدو، وتمتاز بطابع خاص يجعلها أقرب إلى جهاز الدولة منها إلى جهاز القبيلة أو الجماعة على عكس القصبة.
والسقالة : تدل على معان كثيرة، توجد في المعاجم الإسبانية والتركية (Scala)، وتعني قصبة صغيرة تواجه البحر، تعد للحرب كما تستعمل للجمارك، وتشكل مخرجا ومدخلا للبحر.
الأبواب[11]: الباب أحد العناصر المعمارية الأساسية في تركيبة أي بناية مهما كان دورها، فهو الذي يوصل ما بين داخل المباني وخارجها، ولا يختلف تنظيم الأبواب في المدن عن الوظائف التي استعمل من أجلها؛ وهي إما أدوار اقتصادية، حيث كانت تؤدى بها المكوس، أو أدوار دفاعية لحماية البناية من التهديدات الخارجية[12].
فهذه التعريفات الاصطلاحية تدل على الارتباط الوثيق ما بين مختلف هذه البنايات والمفاهيم الدفاعية العامة للموقع، وإن كان عنصر الاختلاف فيما بينها يتحدد انطلاقا من طبيعة الأدوار والمهمات التي تخصص لها. لكنها في نفس الوقت تحافظ على منطق الموقع الثابت من حيث الواجهة الدفاعية، والقوة التحصينية ونوعية الشكل الهندسي والخصوصية الجغرافية والطبوغرافية، سواء على مستوى المناطق الساحلية أم الداخلية؛ علما أن هذا التنوع المجالي حاضر بقوة ضمن الجغرافية المغربية المتميزة.
لقد حدد ابن خلدون في إطار حديثه عن جغرافية المدن مجموعة من العناصر المرتبطة بتحقيق شرط الدفاع وتأمين الموقع واختيار المجال بناء على دفع المضار وجلب المنافع وتسهيل المرافق[13]. فلا يتم الاستقرار إلا عن طريق العمران والإنسان يحتاج إلى وازع يدفع به الشر عن نفسه نظرا لما جبل عليه من طباع حيوانية كالعدوان والظلم حسب ابن خلدون، إن هذا الوازع يرتبط بالاجتماع الإنساني ويحقق مبتغاه من العمران.
وقد سانده ابن الأزرق في ذلك حين اعتبر أن تأسيس المدن مرتبط ارتباطا وثيقا بدفع المضار وجلب المنافع[14]، علما أن مفهوم التحصين كان له ارتباط وثيق بمجال تأمين عناصر الحكم التي هي الجند والمال والعمارة والرعية[15]، حسب ابن رضوان في مؤلفه الشهب اللامعة في السياسة النافعة[16].
فكان اختيار موضع التحصينات لدى الإخباريين ليس عبثيا، بل متأصلا وخاضعا لمقاييس معلومة جغرافية تتساوق ومنطق الحاكمية (Dominante) الحديث الذي وضعه كارل فون كلاوزفيتيز في اختيار المواضع الدفاعية ضمن المجالات الحربية المختلفة، على اعتبار الأهمية القصوى التي تمارسها طبيعة الأرض في اختيار أماكن التحصن والدفاع في آن واحد. فالمصطلح لا ينحصر هنا عند بعده اللغوي فحسب، بل يجد مدلوله في نوعية الوظائف الدفاعية وطبيعة البناء المؤسس حوله في رسم مجال دفاعي ووقائي عبر عدد من المستويات يظهر غناها في تنوعها واحتوائها لأصناف معمارية عسكرية، قد تتخذ أسماء موحدة مثل القلاع والقصبات والأبراج والأسوار التي سبق تحديد مفاهيمها.
غير أن خصوصيتها الجغرافية والتاريخية تظل حاضرة، يعكسها بعد حضاري، غالبا ما يستفيد بدوره من عنصر التلاقح والتجاذب ما بين الساكنة المتجاورة، بل المتحاربة أيضا. فهو مبني على إنتاج فكري ويدوي للإنسان المغربي في مراحل تاريخية مختلفة. كما أنه يحفل في مختلف مضامينه بأبعاد إبداعية خاصة في مجال الهندسة المعمارية بجميع أصنافها وتشكيلاتها. حيث يتخذ في جانبه العسكري دلالات دفاعية إذ يحقق شرط تعذر تخطيه، ويوفر شروط الأمان، ويفتح المجال للمواجهة والتخندق، فيكون بذلك مستجيبا للمفهوم العام لاختيار الموقع الطوبوغرافي في علاقته بالمجال الدفاعي العسكري.
إن هذه التحديدات تفرض، ولا شك، الانتقال إلى النقطة الثالثة من الموضوع والمتعلقة بتقديم رصد تاريخي لتطور التحصينات العسكرية عبر مختلف المراحل، وتحديد معانيها وفق خصوصيتها المغربية. فكيف اهتم المغاربة بمجال التحصينات عبر تاريخيهم العسكري بالأساس ؟
3- تطور المجال الدفاعي المغربي عبر مجاله الحدودي
إذا كانت الشعوب العريقة تقاس بمدى مساهمتها في التطور الحضاري للإنسانية، ومحافظتها على التراث، كيفما كان مكتوبا أو عمرانا، فإن التاريخ يشهد لها بذلك، اعترافا منه بالدور الفعال لتلك الأمم في ترسيخ قيم إنسانية محضة. والمغرب بتاريخه الغني بالأحداث، بسط نفوذه على شمال إفريقيا والأندلس في إطار إمبراطورية مترامية الأطراف في القرن الحادي والثاني عشرللميلاد، تراجعت بعد سقوط الأندلس واستقلال بعض المناطق التي كانت خاضعة له، ليتعرض بعد ذلك لحملات عسكرية أجنبية، واحتلال سواحله من قبل إسبانيا والبرتغال في القرن الخامس والسادس عشر. فكان من نتائج ذلك ترك إرث معماري وعمراني مهم من تحصينات وقلاع، يشهد عليه رصيد تراثي مكتوب تزخر به العديد من المكتبات العامة والخاصة ضمن مخطوطات ووثائق تغطي معظم فتراته التاريخية.
لقد ولد هاجس الهجمات المتكررة، سواء الأجنبية أم تلك الناتجة عن بعض الاضطرابات الداخلية، الحاجة إلى ضرورة تشييد عدد من التحصينات بأهم المدن والمناطق الحساسة. خاصة إذا كانت مسألة حماية الحدود من الأخطار المحدقة بالدولة مرتبطة باحتلال تلك الدولة لمنطقة إستراتيجية واقتصادية كبيرة، إذ أن وظيفة السلطان حينها كانت تتمثل في إيجاد الوسائل الضرورية لضمان أمن شعبه واستقرار بلده. فطبيعي أن المنظومات المرجعية المتحكمة في الفكر العسكري الدفاعي المغربي لم تخرج عن تلك القاعدة المتعارف عليها في المشرق ضمن فصول عدة، منها ما يعرف بالآداب السلطانية، فهل اعتماد التراث المعروف بالآداب السلطانية من قبل سلاطين وملوك المغرب في تحديد علاقتهم بأوجه التسيير في المجال الدفاعي كان حاضرا؟ وهل رأى سلاطين المغرب في نهجهم لسياسة عسكرية دفاعية، النظر من زاوية واحدة وهي الدفاع فقط عن المغرب كبلد مستقل؟ أم كانت هناك تصورات أبعد من ذلك وهو الحفاظ على الترابط بين وجود المغرب كمجال جغرافي والدين الإسلامي كمعتقد رسمي ؟ وهي تساؤلات مشروعة وضعها الكثير من الباحثين، ولم يجدوا لها أجوبة مقنعة.
لقد تطور المجال الدفاعي المغربي منذ مرحلة ما قبل الإسلام، وانتشرت التحصينات على مجموع ترابه. حيث أثبتت الأبحاث الأركيولوجية وجود أحزمة دفاعية خصوصا خلال الوجود الروماني إذ عمد الأباطرة الرومان إلى إنشاء شبكة من المواقع العسكرية وأبراج المراقبة قصد التحكم في النقط الإستراتيجية، خاصة في ليكسوس وتامودا وشالة ووليلي، وباناسا وتاموسيدا والأمثلة كثيرة حول هذا الجانب من تاريخ المغرب.
إن نظرية التطور في المعالم العسكرية، تجد تفسيرها في تنوع الأساليب التي يتم تبنيها في التخطيطات المعمارية المدنية. فكانت هذه المعالم العسكرية تستجيب لمتطلبات المرحلة التاريخية وتتساوق مع الأهداف الدفاعية المتوخاة من بنائها. وتفيد دراسة الآثار المتبقية من العصر الروماني في التعرف بشكل دقيق على نظام الحكم الذي استخدمه الرومان بالمغرب، من خلال المباني الإدارية والمراكز العسكرية، إذ كان الاهتمام بالتحصين مهما، حيث عملوا على بناء مدن وإحاطتها بأسوار ضخمة وأبراج دفاعية تقيهم هجمات السكان المغاربة.
كما أن دخول الإسلام إلى شمال إفريقيا عموما والمغرب والأندلس بشكل خاص هيأ أرضية خصبة لتطور المعمار العسكري المغربي، بفعل التأثيرات المشرقية والمسيحية، بما فيها من فن قوطي ورومانسيكي المتأثر بالمعالم والأشكال الهندسية الشرقية[17]. فضلا عن التأثيرات الأندلسية في إطار عملية التفاعل مع ما كان سائدا في هذه المنطقة من شمال إفريقيا، كالأشكال النجمية وغيرها من العناصر المرتبطة بالمعمار بشكل عام، والمعمار المرتبط بالتحصينات بشكل خاص.
فالتطور الذي عرفه مجال التحصينات واختيار مواقع بنائها اختلف بحسب المراحل التاريخية ومدى حاجة المغرب للدفاع عن وحدته. إذ بنظرة تأملية في هذه التحصينات يمكن الاطلاع على ذلك التطور الذي حصل لها لجميع مكوناتها. ويمكن لمس ذلك من خلال تطور وسائل ومواد البناء سواء من الطابية[18](التراب المدكوك والخليط بين الجير والحصى وأحيانا قطع الخزف)، أو الطوب[19] أو من الحجر المنحوت أو طريقة ترتيب الحجارة أو غيرها، أو في شكل تصميمها. إذ تكون في الغالب رباعية الأضلاع أو غـير منتظمة، وتسهل عملية الانسحاب أو تلقي المعلومات والتموين. وقد تطور الشكل الهندسي للبنايات العسكرية بالمغرب منذ عهد الأدارسة حيث انتشرت مراكز خاصة لحراسة الثغور وتسوير المدن، خصوصا مدينة فاس والبصرة، وإنشاء القلاع كقلعة حجر النسر وجراوة وتاميدلت وغيرها من المواقع الإستراتيجية.
أما المرابطون فقد شيدوا العديد من التحصينات للدفاع عن إمبراطوريتهم بالارتكاز على تنظيم عسكري محكم[20]، باعتبار أن : أساس الدولة هو التنظيم العسكري السليم[21] فلقد كانت خطتهم العسكرية تعتمد وضع شبكة من الحصون لحراسة محاور الطرق الإستراتيجية ومراقبة القبائل، وتدعيم سيطرتهم عليها والحد من تحركاتها، فقد شيدوا سلسلة من الحصون والقلاع. وحرصوا على : تثبيت سيادتهم في المغرب الأقصى وإخضاع القبائل المغربية المغلوبة لتستكين لحكمهم... فأكثروا القلاع والحصون حول جبال الأطلس لإخضاع المصامدة والسيطرة عليهم[22]. كما قاموا ببناء مجموعة من الحصون في مختلف المناطق القبلية التي أخضعوها وخاصة في المواقع التي تمكن من المراقبة المستمرة للقبائل مثل الجبال والهضاب والأماكن المنعزلة، ويتجلى ذلك على الخصوص من خلال الأماكن التي تم اختيارها لبناء هذه الحصون والقلاع مثل تادلا وأزرو وهسكورة وتازغدرا... والتي تعتبر كلها مناطق جبلية[23].
فلقد كانت هذه الحصون عبارة عن قلاع عسكرية: تتألف من جدران سميكة غليظة تنهض سامقة في الجو تتخللها أبراج على هيئة نصف دائرة وتحيط بها الخنادق الواسعة[24]، أما مسألة تسييرها فكانت توكل إلى قائد عسكري يكون مسؤولا عن حامية من الجنود تسهر على مواجهة تحركات القبائل وحماية المدن من خطرها.
وخير مثال على ذلك قصبة النصراني وحصن أمركو الذي شيد على علو مرتفع لحراسة سفوح الجبال والممرات الإستراتيجية، ويعتبر من أروع ما خلفه المرابطون في مجال التحصينات العسكرية، إذ يشرف على وادي ورغة جنوب قلعة بني تاودا وقلعة تاسفيوت. وتتخلله أبراج دائرية مبنية بالأحجار وسور سميك ومحاط بخنادق دفاعية. وتاسغيموت استعمل في بنائه الحجارة العادية والطابية، حيث روعي في هذا الاختيار الموقع والمجال الطوبوغرافي أساسا. ولم يكتف المرابطون بالتحصينات الجبلية فقط، بل تم تحصين المدن وتسويرها: كمدينة مكناس، وتلمسان وأسوار وهران. ويبدو النموذج المرابطي واضحا في مدينة مراكش. التي شكلت العاصمة السياسية للبلاد طيلة عملية التوحيد السياسي، حيث ارتكز بناؤها على دواعي أمنية وعسكرية بالأساس. ويستشف من خلال رواية ابن خلدون حول بناء هذه المدينة إذ يقول : اختط يوسف مدينة مراكش ونزلها بالخيام وأدار سورها على مسجد وقصبة صغيرة لاختزان أمواله وسلاحه. كمل تشيدها وأسوارها علي ابنه من بعد ست وعشرين وخمسمائة. وجعل يوسف مدينة مراكش لنزله لعسكره والتمرس بقبائل المصامدة المصيفة بمواطنهم بها في جبل درن، فلم يكن في قبائل المغرب أشد منهم ولا أكثر منهم جمعا...[25]
كما عمدوا إلى بناء سلسلة من المراكز الدفاعية بالجنوب انطلاقا من سوس إلى شرق مدينة فاس، وتم تدعيم هذه التحصينات بأبراج دائرية وأسوار مضلعة، كقلعة زاكورة التي تم تزويدها بحاميات عسكرية، فضلا عن دعمها بمرافق حيوية كسكنى القائد ومخازن المؤن والأسلحة، وحصن تاسنولت بقبيلة ماسة في إقليم تزنيت.
وعليه فإن المرابطين كانوا يستحضرون في سياستهم الدفاعية منطق الموقع باعتمادهم على استغلال المجال المنبسط وخلق مدينة عسكرية محصنة بمكونات أساسية لصد جميع أشكال الاختراق. لقد كانت مدينة مراكش نموذجا لتطبيق مفهوم علاقة المدينة بالحرب، وقد ذكر أبو بكر الصنهاجي المعروف بالبيدق أن المرابطين شيدوا حوالي 23 حصنا[26].
أما الموحدون فقد اتسعت عنايتهم بالتحصينات، إذ أصبحت القصبة تعني كل مدينة محصنة بأسوار وأبراج، كما غدت القصبة تحتوي على مرافق اجتماعية؛ من مساجد وحمامات ومخازن للتموين، وسجن، وسوق، ومساكن للعسكر، وقصر السلطان، ومقر قائد الجيش، وبساتين.
لقد حافظ الموحدون على نفس السياسة الدفاعية التي اعتمدها أسلافهم المرابطون، ويظهر ذلك جليا في ترميم وبناء عدد من التحصينات، كان أهمها تينمال التي اختارها المهدي بن تومرت، منطلقا لدعوته وتجييش أتباعه، واعتبرت حصنا منيعا بشهادة صاحب الحلل الموشية، إذ يقول فيها: وأن المهدي توجه إلى تينمال، لما رأى من منعتها، وحصانة موضعها... وأدار على المدينة سورا أحاط بها من كل جانب، وبنى على رأس الجبل سورا، وأفرد في قمته حصنا يكتشف على ما وراء الجبل، ولا يعلم مدينة أحصن من تينمال، لا يدخلها الفارس إلا من شرقها، أو من غربها[27]، وقد اعتمد في بناء الحصون على رجل من أهل الأندلس يدعى الفلكي الأندلسي، حيث ذكر صاحب الحلل أنه : أول من صنع له حصونا، ضبط بها أنقاب جبل درن، الذي يتوقع بسببها الخوف من نزولهم إلى البسائط، فمنعهم من الهبوط عليها[28]، كما عمد خلفه عبد المومن على نهج سياسة دفاعية عبرت عن حس إستراتيجي ووعي دفاعي، فتم بناء حصن بجبل طارق، وجعله قاعدة أمامية للدفاع عن بلاد المغرب، وتشييد رباط تازة عام 529 هـ، ليخصص كقلعة عسكرية مهمة، ورباط تيط المعروف حاليا بمولاي عبد الله بالقرب من الجديدة[29]، يضاف إلى ذلك العديد من الأسوار والأبواب خاصة في مدينة الرباط (باب الوداية، باب الأحد، باب الرواح، باب العلو باب الزعير...) أو في مدينة مراكش (باب أكناو)، حيث شيد السلطان المنصور الموحدي القصبة وجهزها بأبراج ضخمة. وتميزت أسوارها بالارتفاع والصلابة ومتانة سمكها. كما تنوعت الخيارات في تصاميم البناء واستيعاب بعض العناصر المأخوذة من حضارات أخرى، خاصة تلك التي سادت بالأندلس[30].
الواضح أن الموحدين قد حققوا ثورة معمارية مست الجانب الدفاعي، إذ اعتبرت أرقى ما وصل إليه المغاربة خلال تلك الحقبة، فقد أثبتت مختلف الدراسات الأركيولوجية أن المهندسين المغاربة، أو ذوي أصول أجنبية، وخاصة منهم الأندلسيين تجاوزوا المعضلات الهندسية بوضع مخططات ورسوم وزخاريف تدل على مستوى عال من المعرفة بالعلوم الرياضية والهندسية[31]، وشكلت تلك المنشآت الدفاعية بالتالي حزاما أمنيا ضد أي تدخل خارجي، وبذلك لجأ الموحدون إلى تحديد تقنيات التصميمات كما هو الأمر في الأبراج ذات التصميم المتعدد الزوايا وسيادة الحصون ذات التصميم الرباعي أو شبه مستطيل وذات الأبواب الملتوية وتعميم استخدام الطين الممزوج بالقش[32]، وبذلك يظل القرن السادس الهجري/الحادي عشر الميلادي، قرن البناء والتشييد بالحجارة، إذ عرف المعمار العسكري بالهياكل الضخمة والبنايات الفخمة، فكان لتوزيع المنشآت العسكرية عبر مجال جغرافي واختيار استراتيجي دوره في تحقيق ما وصلت إليه هذه الإمبراطورية من قوة عسكرية.
لقد شكلت مسألة التحصينات خلال العهد المريني نقطة بارزة في سياسيتهم الدفاعية، إذ إنها لم تتغير عن العهد السابق، فانتشرت على طول البلاد وتم ترميم العديد من المنشآت العسكرية، وتشييد أخرى، فاهتموا ببناء قلاع ساحلية لمواجهة القرصنة الأوربية، حيث شيدوا أربعة حصون شاهقة بسبتة، وشبكة من القلاع الممتدة من أسفي إلى مدينة الجزائر، وحصنوا جبل طارق، وبنوا قصبة تطوان، وقلعة دبدو وغيرها[33].
وتعتبر قصبة شالة مثالا حيا في مجال التحصين واختيار المجال والموضع الجغرافي بإطلالتها على وادي أبي رقراق، وهو ما جعلها تؤمن الأراضي الفلاحية المجاورة للوادي. وتميزت القصبة بإحاطتها بالأسوار ذات أبراج بلغ عددها اثنان وعشرون برجا للمراقبة موزعة على طول الأسوار، وقد شيدت لأغراض دفاعية محضة، حيث اتخذت الأسوار شكلا مخمس الأضلاع غير منتظم، وتتميز بالارتفاع وبباب ضخم كسيت واجهته من الداخل والخارج بالحجارة المنحوتة.
مثال آخر بمدينة سلا التي أحاطها المرينيون بأسوار خاصة في الواجهة الغربية في عهد يعقوب بن عبد الحق، وبأبواب ضخمة على الطراز الموحدي كباب المريسة[34] وباب دار الصنعة[35]. كما أن مدينة فاس لم تغب عن السياسة الدفاعية التي نهجها المرينيون، إذ أحيطت بسلسلة من الأسوار، ويعتبر السور الداخلي، الذي بني على عهد السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق مؤسس الدولة المرينية، نموذجا لذلك[36]. كما أسسوا عدة مراكز ونقط حربية أخرى؛ كحاميات عسكرية على طول الساحل المغربي، يغادرها الجنود ويعودون إليها بعد تنفيذ مهماتهم العسكرية.
لقد مثلت مدينة سبتة خلال المرحلة المرينية نموذجا في مجال التحصين، فقد أنشأ بها السلطان أبي الحسن المريني أربعة حصون شاهقة سواء في اليابسة أو البحر، مثل برج الماء. كما شيد شبكة من القلاع الدفاعية على طول الشواطئ المغربية من الرباط إلى أسفي، ثم من سبتة إلى مدينة الجزائر. وكانت هذه التحصينات عبارة عن قلاع يعلوها برج للإشارة يرابط به الجنود الذين يقومون بالدفاع عن السواحل المهددة بالخطر، كما أنه في حالة حدوث هجوم كان الحراس يقومون بإيقاظ النار في أعلى المعقل للإعلام بالخطر المحدق من أسفي إلى مدينة الجزائر على طول مسافة تزيد عن الألف كيلومتر. وفي حالة تهديد أحد الشواطئ المغربية فإن المسؤول عن البرج يقوم بالنفخ في بوق النفير حتى ينبه إلى ظهور خطر.
على العموم فإن المتتبع لتطور التحصينات العسكرية وخصوصياتها المعمارية خلال المرحلة الوسيطية يستشف أنها ظلت وفية لاختيارات دفاعية تنسجم وطبيعة التطور العسكري، وحافظت على مميزاتها ومكوناتها الأساسية واختياراتها الجغرافية. حيث كان هدف المهندس المعماري المغربي على عهد الدولة المرينية يتوخى ضمان متانة الهيكل ومزيدا من الزخرفة والتنسيق بين جميع مكونات المعلمة[37]. واختيار أماكن تكون قريبة من المواد المستعملة في البناء؛ مما أفرز ازدهارا في الحضارة وتقدما في مجال العمران؛ الذي بدأ يتبلور فيه ازدواج نمطين متقاربين، الأول طابع مغربي أصيل والآخر أندلسي في قالب جديد سمي بالفن الإسلامي الموريسكي الذي سينتشر خلال المراحل اللاحقة وسينحصر في رقعة جغرافية صغيرة ومتفرقة، أطلق عليهم المدن الموريسكية، كتطوان[38] أو بعض الأحياء الموريسكية المتواجدة ببعض المدن المغربية كفاس مكناس وآسفي. ويشير بعض الدارسين إلى أن الخصوصيات التقنية والفنية للمعمار المبني بالتراب الموريسكي بمدينة الرباط تكمن في أنه استعمل فيه التراب، وضعفت جودة الطابية وانعدم الانسجام بين المواد الأخرى إذ تم استعمالها في غير محلها أو بطريقة عشوائية كالحجر المنحوت والآجر والأحجار المتوسطة والصغيرة. وشقف الخزف. وفيما يتعلق بالخصوصيات الهندسية فإن العمارة العسكرية الموريسكية المبنية بالتراب يطبعها الارتجال، وأن الأبراج مربعة الشكل وملتصقة بالسور[39] أو نصف دائرية كبرج سيدي مخلوف وهو جزء من السور الأندلسي ويعتبر قمة في بناء الأبراج في تلك المرحلة[40].
إلا أن هذه الأحكام يمكن تجاوزها إذا ما اعتبرنا المرحلة التاريخية الدقيقة التي أنشئت فيها والتي لم تعط الأولوية لتشييد التحصينات بقدر ما كان الاهتمام بالجهاد البحري أو ما اصطلح على تسميته بالقرصنة البحرية[41]. وبالرغم من ذلك فإن تلك المعالم لازالت ماثلة إلى اليوم تقاوم من أجل البقاء، لتشهد على مرحلة من مراحل تطور الفكر الدفاعي الذي عرفه المغرب.
فما هي التغيرات التي ستطرأ على المنشآت العسكرية والاختيارات الإستراتيجية في المرحلة الحديثة؟
لعل ما يميز المرحلة الحديثة هو ظهور السلاح الناري، مما فرض تقنيات جديدة في أساليب المجال الدفاعي بجميع مكوناته وتجلياته، حيث إن الهندسة العسكرية وتحديد مجال التحصينات كانت ولابد أن تتلاءم وطبيعة الأسلحة الجديدة[42]. وقد حظيت التصاميم بدراسة إستراتيجية الهجوم والحصار، وتقدير مدى مقاومة تلك التحصينات لضربات المدافع وطرق الاختراق، وهو ما دفع المهندسين العسكريين والبنائين إلى استلهام النموذج الأوربي، وخاصة النموذج الإسباني والإيطالي، وذلك بالاعتماد على تقنيات حفر الخنادق وتقوية سجف السرير بالأحجار والدبش.
وعليه فإن العهد السعدي تميز بالمنشآت العسكرية وانتشارها في جميع ربوع البلاد من أجل ضمان الأمن وتميزت بظهور فن جديد في مجال التحصينات بما يسمى بالهندسة الباستيونية[43]. وقد امتدت هذه التحصينات من الساحل الأطلسي حتى أقصى الحدود الشرقية لتافيلالت ومنها إلى تغازى حيث تنتشر منشآت عسكرية مثل قصبة أزرو بسوس، وقصبة أنس قرب درن وقصبة وارزازات ودادس ومزكيطا وتنزولين ولكتاوا بالإضافة إلى قصبتين بإقليم التوات بهدف حماية طرق التجارة الصحراوية، الذاهبة أو القادمة من السودان، حيث توجد حاميات بها قائد يمثل السلطان، وهو ما يدل على حضور تحديد جغرافي دفاعي في توزيع المنشآت العسكرية خلال هذه المرحلة حتى في أقصى الجنوب المغربي وتخوم الصحراء[44].
فيما يتعلق بالمناطق الشمالية فقد أنشأ السعديون عدة معسكرات وحصون منها : تحصينات فاس: البرج الشمالي الذي بني على شكل مربع، ينتهي عند زواياه الأربعة بأبراج مثلثة الشكل، مما جعله يطل بمدافعه الضخمة على كل الجهات من فوق أسوار قصيرة الارتفاع سميكة عند القاعدة[45]. والبرج الجنوبي: وهما من الإتقان بحيث لا يعرف قدرهما إلا من وقف عليهما حسب الإفراني في نزهة الحادي أو فيما كتبه الفشتالي في مناهل الصفا بقوله: أدار بها من الأبراج الضخمة... حصونا شامخة، تفننت في سبيل التحصين أوضاعها، يحرس بعضها بعضا، وتكاثر عدد أنقاضها الفاخرة ، وبرج اللقلاق وبرج الفتح بالعرائش، الباستيون بتازة، الذي روعي في بناءه شروط استعمال الأسلحة النارية، خصوصا المدفعية، حيث شكل هذا الحصن ركيزة أساسية في الدفاع عن المدينة، إذ أن موقعه الاستراتيجي خول إمكانية التحكم في كل أطراف المدينة وكل الجهة الشرقية والجنوبية، كما تم تشييد تحصينات بدبدو وبادس والقصر الكبير، وعدة حصون للحاميات العسكرية. كما تم ترميم حصن أصيلا، يضاف إلى ذلك القصبات والتحصينات التي بنيت على طول السواحل المغربية ومن أهمها باديس ومليلية[46].
وعليه، فالاهتمام السعدي بهذه المناطق يرجع إلى حساسيتها العسكرية، حيث تمثل واجهة المغرب المطلة على العالم المسيحي وعلى أتراك الجزائر في الشرق. فتقويتها من الناحية التحصينية والعسكرية يعد وسيلة حمائية ضرورية لردع أي هجوم أو غزو خارجي محتمل. وهو أمر يدل على تخصيص الثغور بحزام دفاعي محكم يتلاءم مع طبيعة المجال الساحلي[47]. لقد شكل التحصين عند السعديين خصوصا لمدينة فاس هاجسا دائما، مما جعل سلاطين الدولة يعملون، وبشكل دوري، على ترميم جميع المنشآت العسكرية والدفاعية وتطعيمها بالقوات اللازمة، خاصة من الجيش الناري. وتدل مختلف المعالم العسكرية للمدينة والتي لازالت ماثلة إلى اليوم، على حسن تدبير المجال التحصيني، بأن كانت المدينة تتوفر على برجين متكاملي العناصر الهندسية، فضلا عن عدد من الأبراج المطوقة بحزام سميك من الجدران القادرة على التصدي لضربات المدفعية في حالة وقوعها[48]. كما أن مجال التحصين هذا كان ماثلا في المنطقة المتقدمة من الواجهة الشرقية، وبالضبط مدينة تازة التي ظلت العين المتتبعة لمختلف تحركات كل عنصر تركي يمكن أن يهدد أمن العاصمة السعدية. كما هو الحال بالنسبة للثغور المحادية للساحل الأطلسي (العرائش، القصر الصغير)[49 ].
لقد نجح السعديون في سياستهم الدفاعية إلى أبعد حد، إذ ضمن المغرب بفضلها بعده عن السيطرة العثمانية على عكس بقية الدول المجاورة، وهو الهاجس الذي جعل سلاطين هذه الدولة يولون اهتماما بالغا بالمنطقة الشرقية، حيث استغلوا الموقع الاستراتيجي لبعض المدن كتاوريرت التي بناها المرينيون؛ وتم ترميمها وتدعيمها بحامية عسكرية دعما للمجهود الدفاعي الذي طبقوه لحماية العاصمة من كل هجوم محتمل من قبل الأتراك العثمانيين المستقرين بالجزائر
لقد كانت مسألة التحصينات والدفاع عن الدولة حاضرة بقوة على عهد الدولة العلوية الشريفة[50]؛ فقد خصص السلطان مولاي الرشيد ألف مثقال لبناء القصبة الجديدة بفاس، وألف دينار لبناء قصبة الخميس وبناء قصبة شراردة عام 1670، في حين عمد السلطان مولاي إسماعيل الذي سخر نفسه لتشييد وتجديد العديد من القصبات في مواقع دفاعية تغطي مجال نفوذه[51]، إلى نهج سياسة عسكرية، رغم أن المغرب قد عرف في عهد الأسر السابقة نظام الحصون والقصبات التي كان دورها مقتصرا في الدفاع عن حدود البلاد الخارجية وعن رد هجمات القبائل، بل إن هذا السلطان قد سن نظاما جديدا في مجال الدفاع والتحصينات وتقسيم المغرب إلى ثلاثة مقاطعات عسكرية وهي : تافيلالت ومراكش وفاس[52]. وتميز بخصائص منها : الخاصية الأمنية المتمثلة في استخدام القلاع لمراقبة القبائل، الخاصية الضبطية المتمثلة في تأمين الطرق التجارية وضمان سلامة المسافرين، والخاصية الجبائية لاستحصال الضرائب من القبائل[53]. ولضمان استقرار القبائل، خاصة تلك المتمردة باستمرار، لجأ السلطان إلى بناء مجموعة من القلاع العسكرية[54]، كلفت بمراقبة هذه القبائل، وغالبا ما بنيت هذه القلاع أثناء حركاته إلى المناطق الجبلية كمنطقة الأطلس المتوسط أو المنطقة الشرقية.
وفي وصف لهذه القصبات والقلاع العسكرية أكد الناصري في الاستقصا :
دخلت سنة ست وتسعين وألف فيها خرج السلطان غازيا بلاد ملوية، وجعل طريقه على مدينة صفرو، ففرت قبائل البربر إلى رؤوس الجبال وهم آيت موسى وشغروسن وأيوب وعلاهم وقادم وحيون، فأمر السلطان ببناء قلعة باعليل وأخرى على وادي كيكو من أسفله، وأخرى على وادي سورة على وادي تشواكت، ثم خرج السلطان بملوية ففرت القبائل المذكورة إلى جبل العياشي وتفرقوا في شعابه، فأمر ببناء قلعة بدار الطمع، وقلعة بتايبوست، وقلعة بني مطير، وقلعة بواطواط وقلعة بالقصابي، وأقام على نهر ملوية يبث السرايا ويشن الغارات على البربر قريبا من سنة، والعمل مستمر في بناء القلاع إلى أن أكملت أسوارها، وأنزل رحمه الله بكل قلعة أربعمائة من خيل العبيد بعيالهم [55].
كما أشار الناصري كذلك إلى القلاع التي شيدها بالأطلس المتوسط حيث قال : دخلت سنة خمس وتسعين وألف، خرج السلطان في العساكر إلى جبال فزاز لحرب صنهاجة من البربر الذين هنالك، فلما سمعوا بخروج السلطان انهزموا إلى ملوية، فدخل السلطان بلادهم واختط قلعة بعين اللوح بسفح جبلهم ثم نزل بعين أصرو فأمر ببناء قلعة هنالك بسفح جبل أيضا، ثم تبع آثارهم إلى أن دخلوا جبل العياشي وتربص رحمه الله بملوية إلى أن دخل الشتاء، وكان قصده بذلك التربص إتمام سور القلعتين، ولما عزم الرجوع أنزل بقلعة أصرو ألف فارس وبقلعة عين اللوح خمسمائة فارس فأخذوا بمخنقهم واستراح الناس من عيثهم ببسيط سائس [56].
وفي نفس السياق أشار هنري طيراس[57] إلى أن مدينة مكناس[58] بنيت لتقوم بوظائف دفاعية، حيث كانت عبارة عن قلعة كبرى ومخزنا للأسلحة وقاعدة لانطلاق الحركات السلطانية ضد الأطلس المتوسط ومنطقة لحماية الطريق الذاهبة من تادلا إلى مراكش وجنوب المغرب.
جانب آخر عمل السلطان مولاي إسماعيل على سنه في مجال التحصينات، هو اهتمامه بتوفير الشروط المادية لضمان سير نظامها، إذ كان من بين الوظائف التي تم تكليف القلعة بها هو تحصيل الضرائب، أي تقريب الإدارة الجبائية من القبائل وضبط عملية الجباية المحلية واستغلال جزء من هذه الضرائب لتموين القلاع: وقد أشار الناصري إلى ذلك بقوله : عين [السلطان مولاي إسماعيل] لكل قبيلة تلك البلاد قلعتها التي تدفع بها زكواتها وأعشارها لمؤونة العبيد وعلف خيولهم...[59]
وفي حالة ضعف السلطة المركزية كان ينعكس ذلك على القلعة، حيث إن الضرائب التي تقوم بجبايتها انعدمت بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل وأشار أكنسوس في مؤلفه الجيش العرمرم أنه : لما مات المولى إسماعيل انقطع عن عسكر القلع المدد الذي كان به قوامهم ولم يلتفت إليهم أحد من أولاد الملوك من بعد، ولا وصلهم بإعانة فخرجوا إلى التمعش على أولادهم وأنفسهم بالقبائل التي هم فيها وامتدت أيدي النهب للقلع التي تركوها فأخذوا أبوابها وسقوفها ولم يبق إلا الجدران...[60]
ويحيل المؤرخون على 79 قصبة، وهي عبارة عن أحزمـةدفـاعية[61]، ومراكز مراقـبة في مواجهة القبائل، كقصبة تادلا بالأطلس، وقصبة حميدوش بالضفة اليمنى لتانسيفت أو قصبات لإسكان قبائل الكيش مثل قصبة كناوة بمدينة سلا وقصبة مكناس... أما السلطان سيدي محمد بن عبد الله فقد اهتم بدوره ببناء العديد من التحصينات فضلا عن بناء مدينة الصويرة وتحصينها، والتي كانت شبيهة بالمراكز المحصنة التي سبق أن أسسها الإسبانيون والبرتغاليون، وسموها بريزيديوس(Presidios)، وهي حصون ومواقع تجارية تتولى حراستها حاميات عسكرية، ويتم إغلاق أبواب المدينة ليلا[62]، كما قام بتشييد العديد من السقالات بالرباط وسلا وأبراج وسقالة الدار البيضاء فضلا عن تجديد الأسوار بجل المدن المغربية، خاصة بمدينة تطوان[63]. وأنشأ السلطان مولاي عبد الرحمان أشبار الرباط وسلا وقصبة الصخيرات وقصبة بوزنيقة[64]. وهي في مجملها منشآت خضعت لاعتبارات مجالية جمعت ما بين الارتفاع، والمناعة والقرب من المورد التموينية للجيش.
لقد تميزت المرحلة التاريخية الممتدة زمنيا من سنة1844 إلى سنة1912 ، تاريخ فرض الحماية، بكونها مرحلة مهمة في التاريخ العسكري المغربي، فخلالها بدل سلاطين المغرب جهودا كبيرة لإصلاح القطاع العسكري وكل ما يتصل به، وإرسال طلبة مغاربة إلى أوربا للأخذ بأساليب العلم والاستفادة من التجارب في المجال الدفاعي[65]. وقد شكلت تلك البعثات نواة للهندسة المعمارية الحربية، كما تم توقيع مجموعة من الاتفاقيات بين المغرب ودول أوربية (فرنسا، إنجلترا، إيطاليا، ألمانيا،...) من أجل اقتناء الأسلحة للتقوية وتدعيم تحصينات الثغور[66]، وذلك بتحصين المراسي المغربية بإعادة بناء وإصلاح الأبراج ومدها بالأسلحة وإصدار أوامر صارمة من أجل الاهتمام بها لكونها الواجهة الأولى للاحتكاك مع الأجنبي[67]. لعل تفقد السلاطين العلويين للثغور، والأمر بإحصاء ما فيها من مدافع وتزويدها بالجنود والعتاد، ليدل على العناية الخاصة التي أولوها لهذا الجانب. وقد تميزت المرحلة بتشييد العديد من التحصينات على طول السواحل المغربية حيث نهج السلطان مولاي الحسن الهندسة الحديثة في التصميم المعماري واختيار مواضعها في كل من مدينتي طنجة[68] وفاس، وأبراج وسور الحسني بتزنيت[69]،كما تم تشييد البرج الكبير المعروف ببرج هرفي بالرباط من قبل المهندس الألماني روتنبورغ
سيركز موضوع مداخلتي على جوانب لها ارتباط بتطور المجال الدفاعي المعماري بالمغرب، وتهدف إلى الوقوف عند التطور الذي لحق مجال التحصينات والمعالم العسكرية التي كانت في فترة من الفترات التاريخية تلعب دورا محوريا في حماية البلاد، إضافة إلى أنها أنها جزء لا يتجزأ من التاريخ العسكري المغربي، كما البحث فيها واستنكاه مكوناتها وخصائصها يفيد الباحث في معرفة التطور الذي شهده الفكر العسكري المغربي من جهة والخطوات التي قطعها المعمار والمنشآت العسكرية من جهة ثانية. وعليه سيتناول هذا الموضوع النقط التالية :
- مقاربة نظرية؛ رصد أولي ضمن الإستوغرافيا؛ : دراسة التحصينات
- مفهوم اختيار الموقع الجغرافي في إقامة التحصين لدى الإخباريين؛
- تطور المجال الدفاعي المغربي عبر مجاله الحدودي، رصد كرونولوجي لأهم التطورات التي حصلت على هذا المجال؛
- خلاصة
1- دراسة التحصينات: رصد أولي ضمن الإستوغرافيا
من المتعارف عليه أن مسألة الدفاع شكلت منذ القدم هاجسا لدى الإنسان، حيث ظهر مفهوم التحصينات الدفاعية منذ بداية انشغاله بالاستقرار، وتدل الأبحاث الأركيولوجية في عدد من المناطق على وجود تحصينات بدائية التجأ إليها الإنسان للاحتماء، إما من الظروف المناخية القاسية، أو من الحيوانات الضارية التي كانت تطارده، بل إن الدور الوظيفي أصبح أكثر إلحاحا أمام بداية الصراع على البقاء مع بقية جنسه.
وعليه فمنذ أن استشعر الإنسان ضرورة وضع حد للهجمات والاعتداءات، لم يتوان في البحث عن أساليب مختلفة تقيه الخطر المحدق، فانتقل من تحصينات بسيطة، بساطة فكره، إلى اعتماد الصخور والأشجار والانتقال في مراحل تاريخية لاحقة إلى اعتماد طرق ومناهج تتخذ من الهندسة والعلوم المصاحبة سندا في تطوير مجال تحصنه. والجدير بالذكر أن التجمعات البشرية قديما كانت تعتمد أشكالا مختلفة للتحصين، وذلك بإحاطة مكان استقرارها بأسوار وأبواب حتى تتمكن من حماية نفسها، مما أوجد الأرضية المناسبة لظهور المدن بجميع أشكالها، ويحيل بعض الباحثين على أن نشأة الدولة مرتبطة بقيام جماعة ما، بخلق كيان سياسي للدفاع عن نفسها، لذا فجوهر أي دولة يتمحور حول حماية حدودها، كما تذكر المصادر القديمة أن الحيثيين والبابليين والفرس والرومان والموريين، برعوا في إقامة التحصينات التي ظلت صامدة إلى أبعد مدى[2].
إن تطور مسألة دفع الخطر ارتبطت بتطور الفكر العسكري الإنساني، فمع نشوب الحروب أصبحت الحاجة ضرورية لاعتماد أسس تضمن أمن المجموعة البشرية التي تتعرض للهجمات. فغدت مسألة اختيار المكان حتمية في تشييد منشآت عسكرية تصمد أمام ضربات واختراقات المهاجمين في حالة الحرب وتوفير مصادر التموين في حالة الحصار. لذلك كان للعوامل الجغرافية والبشرية دور في حسم العديد من الحروب التي دارت في مختلف بقاع المعمور بالاعتماد على طبوغرافية الموقع التي تبقى أكثر العناصر ثباتا، واختيار المحاور وحواجز المناورة، وتوازن مسرح العملياتومدى قدرة وكفاءة القائد الميداني في إدارة المعركة وفك الحصار وتوفير التموين الذي هو ضروري في حالة الحصار الذي قد تتعرض له التحصينات، والذي يتركز أساسا في حل مسألة إطعام الجنود وصيانة العربات وإصلاح الدروع وتأمين الجنود والمحافظة على أرواحهم.[3] باعتبار أن مسألة الدفاع والتحصين كما هي بالنسبة للحرب تخضع لظروف الزمان والمكان والمناخ والأرض والتكتيك[4].
لقد كان طبيعيا أن تهتم الدراسات الأنتروبولوجية والأركيولوجية بهذا المكون، الذي يشكل فصلا أساسيا من تطور النظام البشري وطبيعة معاشه وسط مجاله الحيوي بشتى أصنافه، وفي هذا الصدد أولى الدارسون الغربيون حيزا واسعا من دراساتهم لتتبع تطور التحصينات بضفتي حوض البحر المتوسط، بحكم قدم استقرار الإنسان بها فكان أن توافق الاهتمام مع نوعية التطور الذي عرفه هذا المجال بشمال إفريقيا، فتعددت الدراسات ما بين الرصد والتحليل لمختلف مظاهر تطور المجال التحصيني الموظف من قبل شعوب المنطقة. ففي العصر الروماني مثلا يعتبر كتاب ماركو فترفيوس (Marco Vitruvius)، من أهم المؤلفات في المجال المعماري، الذي اعتمد كمرجع أصيل في المعمار الإيطالي، إذ يحتوي على تفاصيل دقيقة ومهمة عن كيفية البناء في العصر الروماني، وقد تمت ترجمته إلى العديد من اللغات ومنها الإنجليزية[5].
وفي المغرب اعتبرت مسألة التأليف في مجال التحصينات الإسلامية، أي التي أنشأها المغاربة، حسب باتريس كرسيي (Patrice Cressier)، في مقال بعنوان: التحصينات الإسلامية بالمغرب: عناصر بيبليوغرافيا[6]، لم ترق بعد إلى مستوى باقي المجالات الأخرى من الدراسات، بناءا على جرد لمختلف المؤلفات والمقالات التي جعلت التحصينات موضوع بحث لها خلال قرن ونصف، حيث لم تتعد 160 عنوانا،تنوعت ما بين مؤلفات حول الدفاعوالتحصينات الحضرية الخاصة بالمدن (défense urbaine)، والقلاع الخاصة بالدولة (Forteresses étatiques)، والتحصينات الريفية أو القروية، بالإضافة إلى مكونات التحصينات من أبراج دائرية وأسوار مزدوجة، والأبواب والرباطات، والحصون المتواجدة بالجبال بما فيها الهري، أي المخزن أو المخازن.
وبقراءة متأنية للمبيان الذي أورده الباحث يمكن اعتبار مرحلة الحماية، الأكثر تأليفا في مجال التحصينات القروسطية والحديثة، إذ تنوع تخصص الدارسين للتحصينات والهندسة المعمارية الإسلامية ما بين الإداريين كبول بيرتيــــيه(P. Berthier)، والعـــسكريين مثل دولا شابيل (F. de La Chapelle)، والمســــتعربين كهــــنري باسيط (Henri Basset)، والمتبربرين كلاووست (E. Laoust)، وعلماء الآثار والمتخصصين في التاريخ القديم والمؤرخين كتوفينو وماريون (R. Thouvenot, J. Marion)، وعلماء عصــور ما قبل التاريخ كروهلمان (A. Ruhlmann)، ومؤرخي العلوم كهنري طيراس (HenriTerasse)، ومهندسين كهــاينو (J. Hainaut)، وأطباء كـهيـربــر (J. Herber)، ومؤرخي الإســـــــلام كـروزنــبرغر (B.Rosenberger)، وعلماء اجتماع كبول باسكون(P. Pascon).إلا أنه بالرغم من هذا التنوع في الاختصاصيين ومكانتهم العلمية والأكاديمية، فإن الاهتمام كان منصبا حول المدن التي سجلت نسبة% 32 ، يتبعها التأليف في مجال المخازن الجماعية بـ% 18، والتحصينات القروية بـ% 12، والقصبات العلوية بـ% 8. وهكذا فإن كل هذه المعطيات تدل على أن المعالم التي شيدت عبر تاريخ المغرب لم تدرس بشكل دقيق مقارنة مع المرحلة الموحدية والعلوية.
وعلى مستوى منطقة الحماية الإسبانية فقد جرت أبحاث حول المواقع والبقايا الأثرية أنجزت من قبل أنترفونتورس (interventores)، اعتمدت على التنقيب الذي قام به عالما الآثار الإسبانيان موران كوستافينو كالان عام 1948، وموران باردون عام 1949، (Morنn & Gustavino Gallant – morنn Bardِn)، حيث يحتفظ متحف تطوان بلائحة لمختلف التحصينات الإسلامية التي تم رصدها من قبل مجموعة البحث الأركيولوجي[7].
كما أن بعض المونوغرافيات القديمة تشير في بعض الأحيان إلى أنظمة دفاعية في بعض المراكز الصغيرة، التي قد تتطور وتصبح مدنا فيما بعد فتختفي تلك التحصينات ويصعب بالتالي تحديد مجالها ومكوناتها.
لهذا يتضح أن الاهتمام بالمجال الدفاعي بالمغرب، خاصة من قبل المؤسسات الفرنسية خلال مرحلة الحماية قد كان له حضور قوي، بل إن ذلك يعد استمرارا لما دأبت عليه كتب الرحلات والجغرافيين الذين زاروا المغرب منذ القرن الثامن عشر[8]. غير أن ذلك لا ينفي وجود اهتمام المسلمين بهذا بالمجال وتخصيص حيز مهم له باعتباره إحدى الدعائم الأساسية في حماية بيضة الإسلام.
2- مفهوم اختيار الموقع الجغرافي في إقامة التحصين لدى الإخباريين
إن الحديث عن موضوع التحصينات العسكرية بالمغرب يستدعي ضبط بعض المصطلحات التي كثيرا ما تتردد على الألسن دون معرفة مفهومها ودلالاتها، وهو ما يدفع على تحديد سياقها التاريخي ومهماتها والغرض من إنشائها نذكر منها: القصبة والقلعة والسقالة والبرج.
فالقصبة: بناء محصن تحيط به أسوار من جميع الجهات، وتتخلله أبواب محصنة بوسائل دفاعية، وفي أركانه أو على طول أسواره أبراج للمراقبة. وقد عُرفت القصبة في شمال إفريقيا وفي شبه الجزيرة الإيبيرية، إذ تعرف لدى البرتغاليين بـ الكسوفا (Alcaçova) وعند الإسبانيين بـألكزابا (Alcazaba)، كما أن الفهارس الفرنسية تدرج كلمة القصبة في تعريفاتها بـ (Casbah)، وتعني مدينة محصنة بكل وسائل الدفاع والمقاومة، إذ يختار لها موقع استراتيجي لتسهيل عملية التزود بالتموين خلال الحصار، وغالبا ما تكون فوق ربوة وبالقرب من موارد المياه، وبالتالي تخضع لمفهوم الموقع من وجهة خاصة.
أما البرج[9]: فهو بناء عال محصن، قد يكون مرتبطا بغيره من البنايات (أسوار، أبواب الأسوار...) أو منعزلا عنها. وتكون هذه الأبراج إما مستطيلة أو مربعة أو دائرية أو نصف دائرية أو متعددة الأضلاع. تبرز بشكل واضح خارج أسوار القصبة، ومرتبة ترتيبا منتظما على طول الجدار، أو على واجهتي الأبواب. كما أن هذه الأبراج يمكن تشييدها معزولة عن القصبة فتعتبر حصنا يدافع عن منطقة معينة ومجهز بفتحات للمراقبة ونصب المدافع وغرفة للحراس.
والقلعة [10]: بناية غايتها التحصين ضد العدو، وتمتاز بطابع خاص يجعلها أقرب إلى جهاز الدولة منها إلى جهاز القبيلة أو الجماعة على عكس القصبة.
والسقالة : تدل على معان كثيرة، توجد في المعاجم الإسبانية والتركية (Scala)، وتعني قصبة صغيرة تواجه البحر، تعد للحرب كما تستعمل للجمارك، وتشكل مخرجا ومدخلا للبحر.
الأبواب[11]: الباب أحد العناصر المعمارية الأساسية في تركيبة أي بناية مهما كان دورها، فهو الذي يوصل ما بين داخل المباني وخارجها، ولا يختلف تنظيم الأبواب في المدن عن الوظائف التي استعمل من أجلها؛ وهي إما أدوار اقتصادية، حيث كانت تؤدى بها المكوس، أو أدوار دفاعية لحماية البناية من التهديدات الخارجية[12].
فهذه التعريفات الاصطلاحية تدل على الارتباط الوثيق ما بين مختلف هذه البنايات والمفاهيم الدفاعية العامة للموقع، وإن كان عنصر الاختلاف فيما بينها يتحدد انطلاقا من طبيعة الأدوار والمهمات التي تخصص لها. لكنها في نفس الوقت تحافظ على منطق الموقع الثابت من حيث الواجهة الدفاعية، والقوة التحصينية ونوعية الشكل الهندسي والخصوصية الجغرافية والطبوغرافية، سواء على مستوى المناطق الساحلية أم الداخلية؛ علما أن هذا التنوع المجالي حاضر بقوة ضمن الجغرافية المغربية المتميزة.
لقد حدد ابن خلدون في إطار حديثه عن جغرافية المدن مجموعة من العناصر المرتبطة بتحقيق شرط الدفاع وتأمين الموقع واختيار المجال بناء على دفع المضار وجلب المنافع وتسهيل المرافق[13]. فلا يتم الاستقرار إلا عن طريق العمران والإنسان يحتاج إلى وازع يدفع به الشر عن نفسه نظرا لما جبل عليه من طباع حيوانية كالعدوان والظلم حسب ابن خلدون، إن هذا الوازع يرتبط بالاجتماع الإنساني ويحقق مبتغاه من العمران.
وقد سانده ابن الأزرق في ذلك حين اعتبر أن تأسيس المدن مرتبط ارتباطا وثيقا بدفع المضار وجلب المنافع[14]، علما أن مفهوم التحصين كان له ارتباط وثيق بمجال تأمين عناصر الحكم التي هي الجند والمال والعمارة والرعية[15]، حسب ابن رضوان في مؤلفه الشهب اللامعة في السياسة النافعة[16].
فكان اختيار موضع التحصينات لدى الإخباريين ليس عبثيا، بل متأصلا وخاضعا لمقاييس معلومة جغرافية تتساوق ومنطق الحاكمية (Dominante) الحديث الذي وضعه كارل فون كلاوزفيتيز في اختيار المواضع الدفاعية ضمن المجالات الحربية المختلفة، على اعتبار الأهمية القصوى التي تمارسها طبيعة الأرض في اختيار أماكن التحصن والدفاع في آن واحد. فالمصطلح لا ينحصر هنا عند بعده اللغوي فحسب، بل يجد مدلوله في نوعية الوظائف الدفاعية وطبيعة البناء المؤسس حوله في رسم مجال دفاعي ووقائي عبر عدد من المستويات يظهر غناها في تنوعها واحتوائها لأصناف معمارية عسكرية، قد تتخذ أسماء موحدة مثل القلاع والقصبات والأبراج والأسوار التي سبق تحديد مفاهيمها.
غير أن خصوصيتها الجغرافية والتاريخية تظل حاضرة، يعكسها بعد حضاري، غالبا ما يستفيد بدوره من عنصر التلاقح والتجاذب ما بين الساكنة المتجاورة، بل المتحاربة أيضا. فهو مبني على إنتاج فكري ويدوي للإنسان المغربي في مراحل تاريخية مختلفة. كما أنه يحفل في مختلف مضامينه بأبعاد إبداعية خاصة في مجال الهندسة المعمارية بجميع أصنافها وتشكيلاتها. حيث يتخذ في جانبه العسكري دلالات دفاعية إذ يحقق شرط تعذر تخطيه، ويوفر شروط الأمان، ويفتح المجال للمواجهة والتخندق، فيكون بذلك مستجيبا للمفهوم العام لاختيار الموقع الطوبوغرافي في علاقته بالمجال الدفاعي العسكري.
إن هذه التحديدات تفرض، ولا شك، الانتقال إلى النقطة الثالثة من الموضوع والمتعلقة بتقديم رصد تاريخي لتطور التحصينات العسكرية عبر مختلف المراحل، وتحديد معانيها وفق خصوصيتها المغربية. فكيف اهتم المغاربة بمجال التحصينات عبر تاريخيهم العسكري بالأساس ؟
3- تطور المجال الدفاعي المغربي عبر مجاله الحدودي
إذا كانت الشعوب العريقة تقاس بمدى مساهمتها في التطور الحضاري للإنسانية، ومحافظتها على التراث، كيفما كان مكتوبا أو عمرانا، فإن التاريخ يشهد لها بذلك، اعترافا منه بالدور الفعال لتلك الأمم في ترسيخ قيم إنسانية محضة. والمغرب بتاريخه الغني بالأحداث، بسط نفوذه على شمال إفريقيا والأندلس في إطار إمبراطورية مترامية الأطراف في القرن الحادي والثاني عشرللميلاد، تراجعت بعد سقوط الأندلس واستقلال بعض المناطق التي كانت خاضعة له، ليتعرض بعد ذلك لحملات عسكرية أجنبية، واحتلال سواحله من قبل إسبانيا والبرتغال في القرن الخامس والسادس عشر. فكان من نتائج ذلك ترك إرث معماري وعمراني مهم من تحصينات وقلاع، يشهد عليه رصيد تراثي مكتوب تزخر به العديد من المكتبات العامة والخاصة ضمن مخطوطات ووثائق تغطي معظم فتراته التاريخية.
لقد ولد هاجس الهجمات المتكررة، سواء الأجنبية أم تلك الناتجة عن بعض الاضطرابات الداخلية، الحاجة إلى ضرورة تشييد عدد من التحصينات بأهم المدن والمناطق الحساسة. خاصة إذا كانت مسألة حماية الحدود من الأخطار المحدقة بالدولة مرتبطة باحتلال تلك الدولة لمنطقة إستراتيجية واقتصادية كبيرة، إذ أن وظيفة السلطان حينها كانت تتمثل في إيجاد الوسائل الضرورية لضمان أمن شعبه واستقرار بلده. فطبيعي أن المنظومات المرجعية المتحكمة في الفكر العسكري الدفاعي المغربي لم تخرج عن تلك القاعدة المتعارف عليها في المشرق ضمن فصول عدة، منها ما يعرف بالآداب السلطانية، فهل اعتماد التراث المعروف بالآداب السلطانية من قبل سلاطين وملوك المغرب في تحديد علاقتهم بأوجه التسيير في المجال الدفاعي كان حاضرا؟ وهل رأى سلاطين المغرب في نهجهم لسياسة عسكرية دفاعية، النظر من زاوية واحدة وهي الدفاع فقط عن المغرب كبلد مستقل؟ أم كانت هناك تصورات أبعد من ذلك وهو الحفاظ على الترابط بين وجود المغرب كمجال جغرافي والدين الإسلامي كمعتقد رسمي ؟ وهي تساؤلات مشروعة وضعها الكثير من الباحثين، ولم يجدوا لها أجوبة مقنعة.
لقد تطور المجال الدفاعي المغربي منذ مرحلة ما قبل الإسلام، وانتشرت التحصينات على مجموع ترابه. حيث أثبتت الأبحاث الأركيولوجية وجود أحزمة دفاعية خصوصا خلال الوجود الروماني إذ عمد الأباطرة الرومان إلى إنشاء شبكة من المواقع العسكرية وأبراج المراقبة قصد التحكم في النقط الإستراتيجية، خاصة في ليكسوس وتامودا وشالة ووليلي، وباناسا وتاموسيدا والأمثلة كثيرة حول هذا الجانب من تاريخ المغرب.
إن نظرية التطور في المعالم العسكرية، تجد تفسيرها في تنوع الأساليب التي يتم تبنيها في التخطيطات المعمارية المدنية. فكانت هذه المعالم العسكرية تستجيب لمتطلبات المرحلة التاريخية وتتساوق مع الأهداف الدفاعية المتوخاة من بنائها. وتفيد دراسة الآثار المتبقية من العصر الروماني في التعرف بشكل دقيق على نظام الحكم الذي استخدمه الرومان بالمغرب، من خلال المباني الإدارية والمراكز العسكرية، إذ كان الاهتمام بالتحصين مهما، حيث عملوا على بناء مدن وإحاطتها بأسوار ضخمة وأبراج دفاعية تقيهم هجمات السكان المغاربة.
كما أن دخول الإسلام إلى شمال إفريقيا عموما والمغرب والأندلس بشكل خاص هيأ أرضية خصبة لتطور المعمار العسكري المغربي، بفعل التأثيرات المشرقية والمسيحية، بما فيها من فن قوطي ورومانسيكي المتأثر بالمعالم والأشكال الهندسية الشرقية[17]. فضلا عن التأثيرات الأندلسية في إطار عملية التفاعل مع ما كان سائدا في هذه المنطقة من شمال إفريقيا، كالأشكال النجمية وغيرها من العناصر المرتبطة بالمعمار بشكل عام، والمعمار المرتبط بالتحصينات بشكل خاص.
فالتطور الذي عرفه مجال التحصينات واختيار مواقع بنائها اختلف بحسب المراحل التاريخية ومدى حاجة المغرب للدفاع عن وحدته. إذ بنظرة تأملية في هذه التحصينات يمكن الاطلاع على ذلك التطور الذي حصل لها لجميع مكوناتها. ويمكن لمس ذلك من خلال تطور وسائل ومواد البناء سواء من الطابية[18](التراب المدكوك والخليط بين الجير والحصى وأحيانا قطع الخزف)، أو الطوب[19] أو من الحجر المنحوت أو طريقة ترتيب الحجارة أو غيرها، أو في شكل تصميمها. إذ تكون في الغالب رباعية الأضلاع أو غـير منتظمة، وتسهل عملية الانسحاب أو تلقي المعلومات والتموين. وقد تطور الشكل الهندسي للبنايات العسكرية بالمغرب منذ عهد الأدارسة حيث انتشرت مراكز خاصة لحراسة الثغور وتسوير المدن، خصوصا مدينة فاس والبصرة، وإنشاء القلاع كقلعة حجر النسر وجراوة وتاميدلت وغيرها من المواقع الإستراتيجية.
أما المرابطون فقد شيدوا العديد من التحصينات للدفاع عن إمبراطوريتهم بالارتكاز على تنظيم عسكري محكم[20]، باعتبار أن : أساس الدولة هو التنظيم العسكري السليم[21] فلقد كانت خطتهم العسكرية تعتمد وضع شبكة من الحصون لحراسة محاور الطرق الإستراتيجية ومراقبة القبائل، وتدعيم سيطرتهم عليها والحد من تحركاتها، فقد شيدوا سلسلة من الحصون والقلاع. وحرصوا على : تثبيت سيادتهم في المغرب الأقصى وإخضاع القبائل المغربية المغلوبة لتستكين لحكمهم... فأكثروا القلاع والحصون حول جبال الأطلس لإخضاع المصامدة والسيطرة عليهم[22]. كما قاموا ببناء مجموعة من الحصون في مختلف المناطق القبلية التي أخضعوها وخاصة في المواقع التي تمكن من المراقبة المستمرة للقبائل مثل الجبال والهضاب والأماكن المنعزلة، ويتجلى ذلك على الخصوص من خلال الأماكن التي تم اختيارها لبناء هذه الحصون والقلاع مثل تادلا وأزرو وهسكورة وتازغدرا... والتي تعتبر كلها مناطق جبلية[23].
فلقد كانت هذه الحصون عبارة عن قلاع عسكرية: تتألف من جدران سميكة غليظة تنهض سامقة في الجو تتخللها أبراج على هيئة نصف دائرة وتحيط بها الخنادق الواسعة[24]، أما مسألة تسييرها فكانت توكل إلى قائد عسكري يكون مسؤولا عن حامية من الجنود تسهر على مواجهة تحركات القبائل وحماية المدن من خطرها.
وخير مثال على ذلك قصبة النصراني وحصن أمركو الذي شيد على علو مرتفع لحراسة سفوح الجبال والممرات الإستراتيجية، ويعتبر من أروع ما خلفه المرابطون في مجال التحصينات العسكرية، إذ يشرف على وادي ورغة جنوب قلعة بني تاودا وقلعة تاسفيوت. وتتخلله أبراج دائرية مبنية بالأحجار وسور سميك ومحاط بخنادق دفاعية. وتاسغيموت استعمل في بنائه الحجارة العادية والطابية، حيث روعي في هذا الاختيار الموقع والمجال الطوبوغرافي أساسا. ولم يكتف المرابطون بالتحصينات الجبلية فقط، بل تم تحصين المدن وتسويرها: كمدينة مكناس، وتلمسان وأسوار وهران. ويبدو النموذج المرابطي واضحا في مدينة مراكش. التي شكلت العاصمة السياسية للبلاد طيلة عملية التوحيد السياسي، حيث ارتكز بناؤها على دواعي أمنية وعسكرية بالأساس. ويستشف من خلال رواية ابن خلدون حول بناء هذه المدينة إذ يقول : اختط يوسف مدينة مراكش ونزلها بالخيام وأدار سورها على مسجد وقصبة صغيرة لاختزان أمواله وسلاحه. كمل تشيدها وأسوارها علي ابنه من بعد ست وعشرين وخمسمائة. وجعل يوسف مدينة مراكش لنزله لعسكره والتمرس بقبائل المصامدة المصيفة بمواطنهم بها في جبل درن، فلم يكن في قبائل المغرب أشد منهم ولا أكثر منهم جمعا...[25]
كما عمدوا إلى بناء سلسلة من المراكز الدفاعية بالجنوب انطلاقا من سوس إلى شرق مدينة فاس، وتم تدعيم هذه التحصينات بأبراج دائرية وأسوار مضلعة، كقلعة زاكورة التي تم تزويدها بحاميات عسكرية، فضلا عن دعمها بمرافق حيوية كسكنى القائد ومخازن المؤن والأسلحة، وحصن تاسنولت بقبيلة ماسة في إقليم تزنيت.
وعليه فإن المرابطين كانوا يستحضرون في سياستهم الدفاعية منطق الموقع باعتمادهم على استغلال المجال المنبسط وخلق مدينة عسكرية محصنة بمكونات أساسية لصد جميع أشكال الاختراق. لقد كانت مدينة مراكش نموذجا لتطبيق مفهوم علاقة المدينة بالحرب، وقد ذكر أبو بكر الصنهاجي المعروف بالبيدق أن المرابطين شيدوا حوالي 23 حصنا[26].
أما الموحدون فقد اتسعت عنايتهم بالتحصينات، إذ أصبحت القصبة تعني كل مدينة محصنة بأسوار وأبراج، كما غدت القصبة تحتوي على مرافق اجتماعية؛ من مساجد وحمامات ومخازن للتموين، وسجن، وسوق، ومساكن للعسكر، وقصر السلطان، ومقر قائد الجيش، وبساتين.
لقد حافظ الموحدون على نفس السياسة الدفاعية التي اعتمدها أسلافهم المرابطون، ويظهر ذلك جليا في ترميم وبناء عدد من التحصينات، كان أهمها تينمال التي اختارها المهدي بن تومرت، منطلقا لدعوته وتجييش أتباعه، واعتبرت حصنا منيعا بشهادة صاحب الحلل الموشية، إذ يقول فيها: وأن المهدي توجه إلى تينمال، لما رأى من منعتها، وحصانة موضعها... وأدار على المدينة سورا أحاط بها من كل جانب، وبنى على رأس الجبل سورا، وأفرد في قمته حصنا يكتشف على ما وراء الجبل، ولا يعلم مدينة أحصن من تينمال، لا يدخلها الفارس إلا من شرقها، أو من غربها[27]، وقد اعتمد في بناء الحصون على رجل من أهل الأندلس يدعى الفلكي الأندلسي، حيث ذكر صاحب الحلل أنه : أول من صنع له حصونا، ضبط بها أنقاب جبل درن، الذي يتوقع بسببها الخوف من نزولهم إلى البسائط، فمنعهم من الهبوط عليها[28]، كما عمد خلفه عبد المومن على نهج سياسة دفاعية عبرت عن حس إستراتيجي ووعي دفاعي، فتم بناء حصن بجبل طارق، وجعله قاعدة أمامية للدفاع عن بلاد المغرب، وتشييد رباط تازة عام 529 هـ، ليخصص كقلعة عسكرية مهمة، ورباط تيط المعروف حاليا بمولاي عبد الله بالقرب من الجديدة[29]، يضاف إلى ذلك العديد من الأسوار والأبواب خاصة في مدينة الرباط (باب الوداية، باب الأحد، باب الرواح، باب العلو باب الزعير...) أو في مدينة مراكش (باب أكناو)، حيث شيد السلطان المنصور الموحدي القصبة وجهزها بأبراج ضخمة. وتميزت أسوارها بالارتفاع والصلابة ومتانة سمكها. كما تنوعت الخيارات في تصاميم البناء واستيعاب بعض العناصر المأخوذة من حضارات أخرى، خاصة تلك التي سادت بالأندلس[30].
الواضح أن الموحدين قد حققوا ثورة معمارية مست الجانب الدفاعي، إذ اعتبرت أرقى ما وصل إليه المغاربة خلال تلك الحقبة، فقد أثبتت مختلف الدراسات الأركيولوجية أن المهندسين المغاربة، أو ذوي أصول أجنبية، وخاصة منهم الأندلسيين تجاوزوا المعضلات الهندسية بوضع مخططات ورسوم وزخاريف تدل على مستوى عال من المعرفة بالعلوم الرياضية والهندسية[31]، وشكلت تلك المنشآت الدفاعية بالتالي حزاما أمنيا ضد أي تدخل خارجي، وبذلك لجأ الموحدون إلى تحديد تقنيات التصميمات كما هو الأمر في الأبراج ذات التصميم المتعدد الزوايا وسيادة الحصون ذات التصميم الرباعي أو شبه مستطيل وذات الأبواب الملتوية وتعميم استخدام الطين الممزوج بالقش[32]، وبذلك يظل القرن السادس الهجري/الحادي عشر الميلادي، قرن البناء والتشييد بالحجارة، إذ عرف المعمار العسكري بالهياكل الضخمة والبنايات الفخمة، فكان لتوزيع المنشآت العسكرية عبر مجال جغرافي واختيار استراتيجي دوره في تحقيق ما وصلت إليه هذه الإمبراطورية من قوة عسكرية.
لقد شكلت مسألة التحصينات خلال العهد المريني نقطة بارزة في سياسيتهم الدفاعية، إذ إنها لم تتغير عن العهد السابق، فانتشرت على طول البلاد وتم ترميم العديد من المنشآت العسكرية، وتشييد أخرى، فاهتموا ببناء قلاع ساحلية لمواجهة القرصنة الأوربية، حيث شيدوا أربعة حصون شاهقة بسبتة، وشبكة من القلاع الممتدة من أسفي إلى مدينة الجزائر، وحصنوا جبل طارق، وبنوا قصبة تطوان، وقلعة دبدو وغيرها[33].
وتعتبر قصبة شالة مثالا حيا في مجال التحصين واختيار المجال والموضع الجغرافي بإطلالتها على وادي أبي رقراق، وهو ما جعلها تؤمن الأراضي الفلاحية المجاورة للوادي. وتميزت القصبة بإحاطتها بالأسوار ذات أبراج بلغ عددها اثنان وعشرون برجا للمراقبة موزعة على طول الأسوار، وقد شيدت لأغراض دفاعية محضة، حيث اتخذت الأسوار شكلا مخمس الأضلاع غير منتظم، وتتميز بالارتفاع وبباب ضخم كسيت واجهته من الداخل والخارج بالحجارة المنحوتة.
مثال آخر بمدينة سلا التي أحاطها المرينيون بأسوار خاصة في الواجهة الغربية في عهد يعقوب بن عبد الحق، وبأبواب ضخمة على الطراز الموحدي كباب المريسة[34] وباب دار الصنعة[35]. كما أن مدينة فاس لم تغب عن السياسة الدفاعية التي نهجها المرينيون، إذ أحيطت بسلسلة من الأسوار، ويعتبر السور الداخلي، الذي بني على عهد السلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق مؤسس الدولة المرينية، نموذجا لذلك[36]. كما أسسوا عدة مراكز ونقط حربية أخرى؛ كحاميات عسكرية على طول الساحل المغربي، يغادرها الجنود ويعودون إليها بعد تنفيذ مهماتهم العسكرية.
لقد مثلت مدينة سبتة خلال المرحلة المرينية نموذجا في مجال التحصين، فقد أنشأ بها السلطان أبي الحسن المريني أربعة حصون شاهقة سواء في اليابسة أو البحر، مثل برج الماء. كما شيد شبكة من القلاع الدفاعية على طول الشواطئ المغربية من الرباط إلى أسفي، ثم من سبتة إلى مدينة الجزائر. وكانت هذه التحصينات عبارة عن قلاع يعلوها برج للإشارة يرابط به الجنود الذين يقومون بالدفاع عن السواحل المهددة بالخطر، كما أنه في حالة حدوث هجوم كان الحراس يقومون بإيقاظ النار في أعلى المعقل للإعلام بالخطر المحدق من أسفي إلى مدينة الجزائر على طول مسافة تزيد عن الألف كيلومتر. وفي حالة تهديد أحد الشواطئ المغربية فإن المسؤول عن البرج يقوم بالنفخ في بوق النفير حتى ينبه إلى ظهور خطر.
على العموم فإن المتتبع لتطور التحصينات العسكرية وخصوصياتها المعمارية خلال المرحلة الوسيطية يستشف أنها ظلت وفية لاختيارات دفاعية تنسجم وطبيعة التطور العسكري، وحافظت على مميزاتها ومكوناتها الأساسية واختياراتها الجغرافية. حيث كان هدف المهندس المعماري المغربي على عهد الدولة المرينية يتوخى ضمان متانة الهيكل ومزيدا من الزخرفة والتنسيق بين جميع مكونات المعلمة[37]. واختيار أماكن تكون قريبة من المواد المستعملة في البناء؛ مما أفرز ازدهارا في الحضارة وتقدما في مجال العمران؛ الذي بدأ يتبلور فيه ازدواج نمطين متقاربين، الأول طابع مغربي أصيل والآخر أندلسي في قالب جديد سمي بالفن الإسلامي الموريسكي الذي سينتشر خلال المراحل اللاحقة وسينحصر في رقعة جغرافية صغيرة ومتفرقة، أطلق عليهم المدن الموريسكية، كتطوان[38] أو بعض الأحياء الموريسكية المتواجدة ببعض المدن المغربية كفاس مكناس وآسفي. ويشير بعض الدارسين إلى أن الخصوصيات التقنية والفنية للمعمار المبني بالتراب الموريسكي بمدينة الرباط تكمن في أنه استعمل فيه التراب، وضعفت جودة الطابية وانعدم الانسجام بين المواد الأخرى إذ تم استعمالها في غير محلها أو بطريقة عشوائية كالحجر المنحوت والآجر والأحجار المتوسطة والصغيرة. وشقف الخزف. وفيما يتعلق بالخصوصيات الهندسية فإن العمارة العسكرية الموريسكية المبنية بالتراب يطبعها الارتجال، وأن الأبراج مربعة الشكل وملتصقة بالسور[39] أو نصف دائرية كبرج سيدي مخلوف وهو جزء من السور الأندلسي ويعتبر قمة في بناء الأبراج في تلك المرحلة[40].
إلا أن هذه الأحكام يمكن تجاوزها إذا ما اعتبرنا المرحلة التاريخية الدقيقة التي أنشئت فيها والتي لم تعط الأولوية لتشييد التحصينات بقدر ما كان الاهتمام بالجهاد البحري أو ما اصطلح على تسميته بالقرصنة البحرية[41]. وبالرغم من ذلك فإن تلك المعالم لازالت ماثلة إلى اليوم تقاوم من أجل البقاء، لتشهد على مرحلة من مراحل تطور الفكر الدفاعي الذي عرفه المغرب.
فما هي التغيرات التي ستطرأ على المنشآت العسكرية والاختيارات الإستراتيجية في المرحلة الحديثة؟
لعل ما يميز المرحلة الحديثة هو ظهور السلاح الناري، مما فرض تقنيات جديدة في أساليب المجال الدفاعي بجميع مكوناته وتجلياته، حيث إن الهندسة العسكرية وتحديد مجال التحصينات كانت ولابد أن تتلاءم وطبيعة الأسلحة الجديدة[42]. وقد حظيت التصاميم بدراسة إستراتيجية الهجوم والحصار، وتقدير مدى مقاومة تلك التحصينات لضربات المدافع وطرق الاختراق، وهو ما دفع المهندسين العسكريين والبنائين إلى استلهام النموذج الأوربي، وخاصة النموذج الإسباني والإيطالي، وذلك بالاعتماد على تقنيات حفر الخنادق وتقوية سجف السرير بالأحجار والدبش.
وعليه فإن العهد السعدي تميز بالمنشآت العسكرية وانتشارها في جميع ربوع البلاد من أجل ضمان الأمن وتميزت بظهور فن جديد في مجال التحصينات بما يسمى بالهندسة الباستيونية[43]. وقد امتدت هذه التحصينات من الساحل الأطلسي حتى أقصى الحدود الشرقية لتافيلالت ومنها إلى تغازى حيث تنتشر منشآت عسكرية مثل قصبة أزرو بسوس، وقصبة أنس قرب درن وقصبة وارزازات ودادس ومزكيطا وتنزولين ولكتاوا بالإضافة إلى قصبتين بإقليم التوات بهدف حماية طرق التجارة الصحراوية، الذاهبة أو القادمة من السودان، حيث توجد حاميات بها قائد يمثل السلطان، وهو ما يدل على حضور تحديد جغرافي دفاعي في توزيع المنشآت العسكرية خلال هذه المرحلة حتى في أقصى الجنوب المغربي وتخوم الصحراء[44].
فيما يتعلق بالمناطق الشمالية فقد أنشأ السعديون عدة معسكرات وحصون منها : تحصينات فاس: البرج الشمالي الذي بني على شكل مربع، ينتهي عند زواياه الأربعة بأبراج مثلثة الشكل، مما جعله يطل بمدافعه الضخمة على كل الجهات من فوق أسوار قصيرة الارتفاع سميكة عند القاعدة[45]. والبرج الجنوبي: وهما من الإتقان بحيث لا يعرف قدرهما إلا من وقف عليهما حسب الإفراني في نزهة الحادي أو فيما كتبه الفشتالي في مناهل الصفا بقوله: أدار بها من الأبراج الضخمة... حصونا شامخة، تفننت في سبيل التحصين أوضاعها، يحرس بعضها بعضا، وتكاثر عدد أنقاضها الفاخرة ، وبرج اللقلاق وبرج الفتح بالعرائش، الباستيون بتازة، الذي روعي في بناءه شروط استعمال الأسلحة النارية، خصوصا المدفعية، حيث شكل هذا الحصن ركيزة أساسية في الدفاع عن المدينة، إذ أن موقعه الاستراتيجي خول إمكانية التحكم في كل أطراف المدينة وكل الجهة الشرقية والجنوبية، كما تم تشييد تحصينات بدبدو وبادس والقصر الكبير، وعدة حصون للحاميات العسكرية. كما تم ترميم حصن أصيلا، يضاف إلى ذلك القصبات والتحصينات التي بنيت على طول السواحل المغربية ومن أهمها باديس ومليلية[46].
وعليه، فالاهتمام السعدي بهذه المناطق يرجع إلى حساسيتها العسكرية، حيث تمثل واجهة المغرب المطلة على العالم المسيحي وعلى أتراك الجزائر في الشرق. فتقويتها من الناحية التحصينية والعسكرية يعد وسيلة حمائية ضرورية لردع أي هجوم أو غزو خارجي محتمل. وهو أمر يدل على تخصيص الثغور بحزام دفاعي محكم يتلاءم مع طبيعة المجال الساحلي[47]. لقد شكل التحصين عند السعديين خصوصا لمدينة فاس هاجسا دائما، مما جعل سلاطين الدولة يعملون، وبشكل دوري، على ترميم جميع المنشآت العسكرية والدفاعية وتطعيمها بالقوات اللازمة، خاصة من الجيش الناري. وتدل مختلف المعالم العسكرية للمدينة والتي لازالت ماثلة إلى اليوم، على حسن تدبير المجال التحصيني، بأن كانت المدينة تتوفر على برجين متكاملي العناصر الهندسية، فضلا عن عدد من الأبراج المطوقة بحزام سميك من الجدران القادرة على التصدي لضربات المدفعية في حالة وقوعها[48]. كما أن مجال التحصين هذا كان ماثلا في المنطقة المتقدمة من الواجهة الشرقية، وبالضبط مدينة تازة التي ظلت العين المتتبعة لمختلف تحركات كل عنصر تركي يمكن أن يهدد أمن العاصمة السعدية. كما هو الحال بالنسبة للثغور المحادية للساحل الأطلسي (العرائش، القصر الصغير)[49 ].
لقد نجح السعديون في سياستهم الدفاعية إلى أبعد حد، إذ ضمن المغرب بفضلها بعده عن السيطرة العثمانية على عكس بقية الدول المجاورة، وهو الهاجس الذي جعل سلاطين هذه الدولة يولون اهتماما بالغا بالمنطقة الشرقية، حيث استغلوا الموقع الاستراتيجي لبعض المدن كتاوريرت التي بناها المرينيون؛ وتم ترميمها وتدعيمها بحامية عسكرية دعما للمجهود الدفاعي الذي طبقوه لحماية العاصمة من كل هجوم محتمل من قبل الأتراك العثمانيين المستقرين بالجزائر
لقد كانت مسألة التحصينات والدفاع عن الدولة حاضرة بقوة على عهد الدولة العلوية الشريفة[50]؛ فقد خصص السلطان مولاي الرشيد ألف مثقال لبناء القصبة الجديدة بفاس، وألف دينار لبناء قصبة الخميس وبناء قصبة شراردة عام 1670، في حين عمد السلطان مولاي إسماعيل الذي سخر نفسه لتشييد وتجديد العديد من القصبات في مواقع دفاعية تغطي مجال نفوذه[51]، إلى نهج سياسة عسكرية، رغم أن المغرب قد عرف في عهد الأسر السابقة نظام الحصون والقصبات التي كان دورها مقتصرا في الدفاع عن حدود البلاد الخارجية وعن رد هجمات القبائل، بل إن هذا السلطان قد سن نظاما جديدا في مجال الدفاع والتحصينات وتقسيم المغرب إلى ثلاثة مقاطعات عسكرية وهي : تافيلالت ومراكش وفاس[52]. وتميز بخصائص منها : الخاصية الأمنية المتمثلة في استخدام القلاع لمراقبة القبائل، الخاصية الضبطية المتمثلة في تأمين الطرق التجارية وضمان سلامة المسافرين، والخاصية الجبائية لاستحصال الضرائب من القبائل[53]. ولضمان استقرار القبائل، خاصة تلك المتمردة باستمرار، لجأ السلطان إلى بناء مجموعة من القلاع العسكرية[54]، كلفت بمراقبة هذه القبائل، وغالبا ما بنيت هذه القلاع أثناء حركاته إلى المناطق الجبلية كمنطقة الأطلس المتوسط أو المنطقة الشرقية.
وفي وصف لهذه القصبات والقلاع العسكرية أكد الناصري في الاستقصا :
دخلت سنة ست وتسعين وألف فيها خرج السلطان غازيا بلاد ملوية، وجعل طريقه على مدينة صفرو، ففرت قبائل البربر إلى رؤوس الجبال وهم آيت موسى وشغروسن وأيوب وعلاهم وقادم وحيون، فأمر السلطان ببناء قلعة باعليل وأخرى على وادي كيكو من أسفله، وأخرى على وادي سورة على وادي تشواكت، ثم خرج السلطان بملوية ففرت القبائل المذكورة إلى جبل العياشي وتفرقوا في شعابه، فأمر ببناء قلعة بدار الطمع، وقلعة بتايبوست، وقلعة بني مطير، وقلعة بواطواط وقلعة بالقصابي، وأقام على نهر ملوية يبث السرايا ويشن الغارات على البربر قريبا من سنة، والعمل مستمر في بناء القلاع إلى أن أكملت أسوارها، وأنزل رحمه الله بكل قلعة أربعمائة من خيل العبيد بعيالهم [55].
كما أشار الناصري كذلك إلى القلاع التي شيدها بالأطلس المتوسط حيث قال : دخلت سنة خمس وتسعين وألف، خرج السلطان في العساكر إلى جبال فزاز لحرب صنهاجة من البربر الذين هنالك، فلما سمعوا بخروج السلطان انهزموا إلى ملوية، فدخل السلطان بلادهم واختط قلعة بعين اللوح بسفح جبلهم ثم نزل بعين أصرو فأمر ببناء قلعة هنالك بسفح جبل أيضا، ثم تبع آثارهم إلى أن دخلوا جبل العياشي وتربص رحمه الله بملوية إلى أن دخل الشتاء، وكان قصده بذلك التربص إتمام سور القلعتين، ولما عزم الرجوع أنزل بقلعة أصرو ألف فارس وبقلعة عين اللوح خمسمائة فارس فأخذوا بمخنقهم واستراح الناس من عيثهم ببسيط سائس [56].
وفي نفس السياق أشار هنري طيراس[57] إلى أن مدينة مكناس[58] بنيت لتقوم بوظائف دفاعية، حيث كانت عبارة عن قلعة كبرى ومخزنا للأسلحة وقاعدة لانطلاق الحركات السلطانية ضد الأطلس المتوسط ومنطقة لحماية الطريق الذاهبة من تادلا إلى مراكش وجنوب المغرب.
جانب آخر عمل السلطان مولاي إسماعيل على سنه في مجال التحصينات، هو اهتمامه بتوفير الشروط المادية لضمان سير نظامها، إذ كان من بين الوظائف التي تم تكليف القلعة بها هو تحصيل الضرائب، أي تقريب الإدارة الجبائية من القبائل وضبط عملية الجباية المحلية واستغلال جزء من هذه الضرائب لتموين القلاع: وقد أشار الناصري إلى ذلك بقوله : عين [السلطان مولاي إسماعيل] لكل قبيلة تلك البلاد قلعتها التي تدفع بها زكواتها وأعشارها لمؤونة العبيد وعلف خيولهم...[59]
وفي حالة ضعف السلطة المركزية كان ينعكس ذلك على القلعة، حيث إن الضرائب التي تقوم بجبايتها انعدمت بعد وفاة السلطان مولاي إسماعيل وأشار أكنسوس في مؤلفه الجيش العرمرم أنه : لما مات المولى إسماعيل انقطع عن عسكر القلع المدد الذي كان به قوامهم ولم يلتفت إليهم أحد من أولاد الملوك من بعد، ولا وصلهم بإعانة فخرجوا إلى التمعش على أولادهم وأنفسهم بالقبائل التي هم فيها وامتدت أيدي النهب للقلع التي تركوها فأخذوا أبوابها وسقوفها ولم يبق إلا الجدران...[60]
ويحيل المؤرخون على 79 قصبة، وهي عبارة عن أحزمـةدفـاعية[61]، ومراكز مراقـبة في مواجهة القبائل، كقصبة تادلا بالأطلس، وقصبة حميدوش بالضفة اليمنى لتانسيفت أو قصبات لإسكان قبائل الكيش مثل قصبة كناوة بمدينة سلا وقصبة مكناس... أما السلطان سيدي محمد بن عبد الله فقد اهتم بدوره ببناء العديد من التحصينات فضلا عن بناء مدينة الصويرة وتحصينها، والتي كانت شبيهة بالمراكز المحصنة التي سبق أن أسسها الإسبانيون والبرتغاليون، وسموها بريزيديوس(Presidios)، وهي حصون ومواقع تجارية تتولى حراستها حاميات عسكرية، ويتم إغلاق أبواب المدينة ليلا[62]، كما قام بتشييد العديد من السقالات بالرباط وسلا وأبراج وسقالة الدار البيضاء فضلا عن تجديد الأسوار بجل المدن المغربية، خاصة بمدينة تطوان[63]. وأنشأ السلطان مولاي عبد الرحمان أشبار الرباط وسلا وقصبة الصخيرات وقصبة بوزنيقة[64]. وهي في مجملها منشآت خضعت لاعتبارات مجالية جمعت ما بين الارتفاع، والمناعة والقرب من المورد التموينية للجيش.
لقد تميزت المرحلة التاريخية الممتدة زمنيا من سنة1844 إلى سنة1912 ، تاريخ فرض الحماية، بكونها مرحلة مهمة في التاريخ العسكري المغربي، فخلالها بدل سلاطين المغرب جهودا كبيرة لإصلاح القطاع العسكري وكل ما يتصل به، وإرسال طلبة مغاربة إلى أوربا للأخذ بأساليب العلم والاستفادة من التجارب في المجال الدفاعي[65]. وقد شكلت تلك البعثات نواة للهندسة المعمارية الحربية، كما تم توقيع مجموعة من الاتفاقيات بين المغرب ودول أوربية (فرنسا، إنجلترا، إيطاليا، ألمانيا،...) من أجل اقتناء الأسلحة للتقوية وتدعيم تحصينات الثغور[66]، وذلك بتحصين المراسي المغربية بإعادة بناء وإصلاح الأبراج ومدها بالأسلحة وإصدار أوامر صارمة من أجل الاهتمام بها لكونها الواجهة الأولى للاحتكاك مع الأجنبي[67]. لعل تفقد السلاطين العلويين للثغور، والأمر بإحصاء ما فيها من مدافع وتزويدها بالجنود والعتاد، ليدل على العناية الخاصة التي أولوها لهذا الجانب. وقد تميزت المرحلة بتشييد العديد من التحصينات على طول السواحل المغربية حيث نهج السلطان مولاي الحسن الهندسة الحديثة في التصميم المعماري واختيار مواضعها في كل من مدينتي طنجة[68] وفاس، وأبراج وسور الحسني بتزنيت[69]،كما تم تشييد البرج الكبير المعروف ببرج هرفي بالرباط من قبل المهندس الألماني روتنبورغ
الأخ أ مين السلام عليك ورحمة الله وبركاته حقيقة اطلعت على مقالاتك وهي كلها تعبر عن عمق تفكير واطلاع.وان سمحت أنا طالب في سلك الماستر وأريد التواصل معك للاستفادة منك جازاك الله خيرا وبريدي هو aladriss@yahoo.fr
ردحذفوشكراجزيلا أرجو الرد
المرجو نشر لائحة المصادر والمراجع التي أحال عليها المؤلف كي نتمكن من الاضطلاع عليها
ردحذفشكرا جزيلا ولكن سيكون الامر اجمل اذا ذيل المقال بالاحالات حتى تكتمل الاستفادة.
ردحذف