الجمعة، 10 أغسطس 2012

رسالة أبي جعفر بن عطية في الاستعطاف

 
      مرت معنا بعض رسائل أبي جعفر بن عطية الرسمية التي عبر فيها باقتدار عن إرادة الموحدين وسياستهم. وفي هذا الإدراج نريد أن نسلط الأضواء على قصة نكبة هذا الكاتب على يد الخليفة عبد المومن. وهذه القصة  تشبه في بعض تفاصيلها قصة نكبة الشاعر ابن عمار على يد صديقه وولي نعمته المعتمد بن عباد. وكان ابن عباد قد أظهر تحولا وقساوة في القلب بعدما أوغر صدره عليه حساده ومناوئوه، ولم تستطع أشعار التوسل الرقيقة التي بعث له بها من سجنه أن تعطف قلبه أو تطفئ نار غيظه على صديق عمره وتوأم روحه فبادر إلى قتله.
 
     وأبو جعفر هو ذو الوزارتين أحمد بن جعفر بن عطية القضاعي من أهل مراكش، وأصله القديم من طرطوشة، ثم دانية بالأندلس. وكان قد كتب أول مرة عن علي يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، وعن ابنيه تاشفين وإسحاق، إلى أن استخلصه لنفسه عبد المومن بن علي عندما آل حكم الموحدين إليه، في قصة مشهورة، وأسند إليه وزارته، فنهض بأعبائها على أحسن وجه وحسنت سيرته وشاع فضله بين الناس إلى أن وجد حساده السبيل إلى التدبير عليه والسعي به، فأوغروا صدر الخليفة عليه فاستوزر عبد السلام بن محمد الكومي الذي سعى في التماس عوراته، والتشنيع عليه، وقيل في تفسير تغير أمر عبد المومن عليه أنه أفشى له سرا.
 وحدثت كل تلك الوشايات والدسائس أثناء غيابه بالأندلس، فلما تناهى إلى علمه خبر تلك السعايات قلق وعجل الانصراف إلى مراكش، فحُجب عند قدومه ثم سِيق إلى المسجد حاسِر العمامة، وأخذت الشهادات في حقه من الناس على طبقاتهم كل بما اقتضاه هواه، وأمر بسجنه مع أخيه عقيل عطية.
    
     وتوجه في إثر ذلك عبد المومن إلى زيارة تربة المهدي بن تومرت في (تينمل)، على ما جرت به عادة الموحدين، واستصحبهما معه مكبلين ثم قتلهما في الطريق عند عودته إلى مراكش، سنة 553 هجرية، وقيل غير ذلك.
 
وهذا مقتطف قصير وصلنا من رسالته الاستعطافية مع شعره في التوسل، ومن الملاحظ أنه أكثر في كلامه من التورية:
 
 
 تالله لو أحاطت بي خطيئةٌ، ولم تنفك نفسي عن الخيرات بطيئةً، حتى سخِرت بمن في الوجود، وأنِفت لآدم من السجود، وقُلت إن الله لم يوح إلى الفلك إلى نوح، وبَرَيْتُ لقرار ثمود نَبْلاً، وَأَبْرَمْتُ لِحَطَب نار الخليل حبْلاً، وحططت عن يونس شجرة اليقطين، وأوقدتُ مع هامان على الطين، وقبضت قبضةً من الطير من أثر الرسول فنبذتها، وافتريت على العذراء البتول فقذفتُها، وكتبت صحيفة القطيعة بدار النُّدوة، وظاهرت الأحزاب بالقُصوى من العدوة، وذممت كل قُرشي، وأكرمت لأجل وحشى كل حَبشي، وقلت إن بيعة السقيفة لا توجب لإمام خليفة، وشحذت شفْرة غلام المغيرة بن شعبة، واعتقلت من حصار الدار وقتل أشمطها بشعبة، وغادرت الوجه من الهامة خضيباً، وناولت من قرع سِن الخمسين قضيباً، ثم أتيت حضرة المَعصوم لائذاً، وبقبر الإمام المهدي عائذاً لقد آن لمقالتي أن تُسمع، وأن تُغفر لي هذه الخطيئات أجمع:
                   فعفوا أميرَ المؤمنين فمنْ لنـــا 
                           بحمل قلوبٍ هدَّها الخفقــــــــــــــــان
وكتب مع ابن صغير له آخرة:
                  عطفا علينا أمير المؤمنين فقــد 
                            بان العزاءُ لفرط البثِّ والحـَــــــــــزَن
                  قد أغْرقَتْنا ذنوبٌ كلها لُجَـــــــجٌ     
                           وعَطفة منكم أنْجى من السفــــــــــــن
                  وصادفتنا سِهامٌ كلها غَــــــرَضٌ    
                            لها ورحْمَتُكم أوقى من الجُنَــــــــــــــن
                 هيهات للخطْب أن تسطو حوادثُه 
                           بمن أجازته رُحْماكم من المِحـــــــــــن
                 من جاء عندكم يسعى على ثِقة    
                            بنصره لم يخَفْ بطشا من الزمـــــــــن
                 فالثوب يطْهُر بعد الغَسْل من دَرَنٍ  
                            والطَّرف ينهض بعد الركض من وسَن
                 أنتم بذلتم حياة الخلقِ كلهــــــــــم
 من دون من عليهم ولا ثمـــــــــــــــــن  
                ونحن مِن بعض من أحييت مكارمكم
                   تلك الحياتين من نفس ومن بـــــــــدن  
                وصِبية كفِراخ الوُرْق من صِغــــــــر  
                            لم يألفوا النَّوح في فَرْع ولا فنَــــــــن
                قد أوجدَتهم أيادٍ منك سابغــــــــــــة
                 والكل لولاك لم يُوجد ولم يكُــــــــــــن     
 
فوقع عبد المؤمن على هذه القصيدة ” الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين “.
ومما كتب به من السجن:
               أنوح على نفسي أم أنتظرُ الصفحا
                         فقد آن أن تُنسى الذنوب وأن تُمحى
               فها أنا في الليل من السخط حائِــــــــر
                         ولا أهتدي حتى أرى للرِّضى صُبحا
وامتحن عبد المؤمن الشعراء بهجو ابن عطية، فلما أسمعوه ما قالوا، أعرض عنهم، وقال:
 ذهب ابن عطية وذهب الأدب معه.
 
هامش:
راجع قصة أبي جعفر بن عطية في نفح الطيب ج5/ 184، وفي الإحاطة ج1/ 262، وفي إعتاب الكتاب، ص 225، وفي المعجب وغيره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق