الجمعة، 10 أغسطس 2012

رسالة ابن الأبار في الشفاعة لفك أسر أسير (8)

 
     لرسائل الشفاعة والتوصية بالإخوان قيمة إنسانية كبيرة في أدب الرسائل تقربها من كتاب ( الفرج بعد الشدة) للتنوخي، وخاصة عند اضطراب أحوال الناس، ونشوب الفتن، ووثوب الطامعين المتربصين على الحكم، وما يتبع ذلك من أهوال وإرجاف، كما حصل في العهد الأخير من حكم الموحدين الذي تميز بالضعف والفوضى وتناثر أشلاء إمبراطوريتهم العظيمة، حيث تمكن نصارى الأندلس من استرجاع كثير من المدن الأندلسية وإجلاء المسلمين عنها، في اتجاه بعض الدول الناشئة التي استأثرت بالحكم في شمال إفريقيا، كبني مرين في المغرب الأقصى أو المغرب، وبني عبد الواد في المغرب الأوسط أو الجزائر، وسلالة الحفصيين بالمغرب الأدنى أو تونس.
 
وفي تلك اللحظات العصيبة جرد الكتاب أقلامهم، وصرفوا بلاغتهم لخدمة إخوانهم ومواطنيهم الذين تقاذفتهم أمواج الحياة السياسية المضطربة لتخليصهم من محنهم وفك أسرهم وطلب الشفاعة لهم عند ذوي الأمر من الأمراء والرؤساء، كما في هذه الرسالة القصيرة التي سندرجها بعد قليل، وهي من إنشاء الحافظ الكاتب أبي عبد الله  بن الأبار القضاعي الأندلسي.
 
     وهذه بعض تفاصيل حياته الأخيرة في بلاط الحفصيين بتونس حيث امتحن في نهاية حياته مرة أخرى بعد محنة الجلاء عن الأندلس، وحيث نكب كما نكب أبو جعفر بن عطية من قبله:
 
     فقد ذكر ابن خلدون عنه أنه ( من مشيخة أهل بلنسية، وكان علامة في الحديث ولسان العرب، وبليغاً في الترسيل والشعر. كتب عن السيد أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن ببلنسية. ثم عن ابنه السيد أبي زيد. ثم دخل معه دار الحرب حين نزع إلى دين النصرانية، ورجع عنه قبل أن يأخذ به. ثم كتب عن ابن مردنيش. ولما دلف الطاغية إلى بلنسية ونازلها بعث زيان بوفد بلنسية وبيعتهم إلى الأمير أبي زكريا، وكان فيهم ابن الأبار هذا الحافظ، فحضر مجلس السلطان وأنشد قصيدته على روي السين يستصرخه.)
وهذه القصيدة التي أوما إليها ابن خلدون من غرر القصائد العربية في النجدة والاستصراخ، ويوجد نصها كاملا في كتاب ( أزهار الرياض) ومطلعها:
 
أدرك بخيلِك خيلِ الله أندلُسا
                إن السبيل إلى منجاتها درســــا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست
                فلم يزل منك عز النصر مُلتمسا
وحاشِ مما تُعانيه حشاشتُهـــــــــــــا
                فطالما ذاقت البلوى صباح مسا
ياللجزيرة أضحى أهلُها جـــــــــــزرا
                للحادثات وأمسى جَدها تعِســــا
 
       ثم ذكر ابن خلدون أن السلطان الحفصي بادر بإغاثتهم وشحن الأساطيل بالمدد إليهم من المال والأقوات والكسي فوجدهم في هوة الحصار، إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية. ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه فنزل منه بخير مكان، ورشحه لكتب علامته في صدور رسائله ومكتوباته، فكتبها مدة.
 
      ثم إن السلطان أراد صرفها لأبي العباس الغساني لما كان يحسن كتابتها بالخط المشرقي، وكان آثر عنده من الخط المغربي فسخط ابن الأبار أنفة من إيثار غيره عليه، وافتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه، وأن يبقى مكان العلامة منه لواضعها فجاهر بالرد ووضعها استبداداً وأنفة، وعوتب على ذلك فاستشاط غضباً ورمى بالقلم وأنشد متمثلاً:
 
واطلُب العز في لظى وذَرِ الذل 
                     ولو كان في جِنان الخلـــــود
 
     فنمى ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته، ثم استعتب السلطان بتأليفٍ رفعه إليه عدَّ فيه من عوتب من الكتاب، واعتب. وسماه (إعتاب الكتاب). واستشفع فيه بابنه المستنصر فغفر السلطان له وأقال عثرته، وأعاده إلى الكتابة. ولما هلك الأمير أبو زكريا رفعه المستنصر إلى حضور مجلسه مع الطبقة الذين كانوا يحضرونه من أهل الأندلس وأهل تونس، وكان في ابن الأبار أنفة وأبو وضيق خلق، فكان يزري على المستنصر في مباحثه ويستقصره في مداركه، فخشن له صدره مع ما كان يسخط به السلطان من تفضيل الأندلس وولايتها عليه.
وكانت لابن أبي الحسين فيه سعاية لحقد قديم، سببه أن ابن الأبار لما قدم في الأسطول من بلنسية نزل ببنزرت، وخاطب ابن أبي الحسن بغرض رسالته، ووصف أباه في عنوان مكتوبه بالمرحوم. ونبه على ذلك فاستضحك وقال: إن أباً لا تعرف حياته من موته لأب خامل. ونميت إلى ابن أبي الحسين فأسرها في نفسه، ونصب له إلى أن حمل السلطان على إشخاصه من بجاية. ثم رضي عنه واستقدمه ورجعه إلى مكانه من المجلس. وعاد هو إلى مساءة السلطان بنزعاته إلى أن جرى في بعض الأيام ذكر مولد الواثق وساءل عنه السلطان فاستبهم فعدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة وطالعها، فاتهم بتوقع المكروه للدولة والتربص بها كما كان أعداؤه يشنعون عليه، لما كان ينظر في النجوم فتقبض عليه. وبعث السلطان إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع، وألقى أثناءها فيما زعموا رقعة بأبيات أولها:
 
طغى بتونس خَلْفٌ     سمَّوْه ظُلما خليفهْ
 
فاستشاط لها السلطان وأمر بامتحانه ثم بقتله قعصاً بالرماح وسط محرم من سنة ثمان وخمسين( يقصد سنة 658 هجرية)، ثم أحرق شلوه وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه.
 
 
      وهذا مقتطف من رسالة ابن الأبار في الشفاعة؛ وكان قد كتبها قبل الجلاء عن الأندلس إلى رئيس (شاطبة) الأندلسية أبي الحسين بن عيس في فك أسير، وتتميز بقصرها وبلاغتها، وتعقد صنعتها، وخاصة صناعة التجنيس.
 
      ولعل القارئ الكريم يلاحظ أن هذه الرسالة قد جردت من الاسم الحقيقي للشخص موضوع الشفاعة، وهذا يبدو أنه تصرف من النساخ في هذه الرسالة وفي غيرها من الرسائل الرسمية والخاصة التي كانت كثيرا ما تجرد من الإشارات التوثيقية التي تهم أسماء الأشخاص والأماكن والتواريخ، لأنهم كانوا معنيين أكثر بالجوانب الأدبية والفنية التي تحفل بها تلك الرسائل مما يحرم الدارس والمحقق من معرفة الحقيقة الكاملة التي أحاطت بتلك الرسائل:
 
 
    كتبته إلى سيدي ، حرس الله شرفَه العِبَادي، وكلأ كَنَفه السِّيادي، ولا مزيد على ما عندي من الإعظام لِرفيع جانِبه، والقيام بكبير واجِبه؛ والله يحفظ شرفَ بيته العتيق، وحديثَ قديمه الفائت بطيبِه المسكَ الفتيتَ الفتيقَ، ومؤدِّيه فلان أدام الله حِفظه وعِصمته، وأتم عليه إحسانه ونِعمته، والمذكورُ يمُتُّ إليكم بقديم الإخلاص، ويرغبُ أن يُنْظَم لديكم في أهل الاختصاص.
 
   وقد بلغكم ما نابَه من غِير الدهر ونُوبه، وكيف نَشب في حِبالة الأسر الذي أتى على نَشبه؛ وعِلْمُكُم بنباهة بيته أغنى من التنبيه، وفضلكُم كفيل بتسيب الإحسان إليه، وقد وثق بسعيكم الكريم في جبر كسْره، وأمَّلَ سيادتَكم للتهمُّم بأمره، والتَّصريف فيما يَصرف عليه بعض ما بُذل في خلاصه من أسره.
 
   ومثلكُم اصْطَنع أمثاله، وآثر فيما يليقُ بنباهةِ استعماله، والله يُعلي شأنكم، ويحرسُ مكانكم ، والسلام.
 
هامش: النص مقتبس عن أزهار الرياض: ج3/ ص 219

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق