الجمعة، 10 أغسطس 2012

رسالة الخليفة المأمون الموحدي التي خرجت عن نهج الموحدين وعقائدهم

 
    لم يستطع أحفاد المنصور أن يحافظوا على مجد أجدادهم الموحدين الأُوَل، وعلى وحدة صفهم في حمأة الرغبات الذاتية المفرطة، وحب الاستئثار، وضعف التجربة، وضيق النظر.
 
    وعندما آلت نتيجة الشقاق والصراع بين عبد الله إدريس المأمون ويحيى المعتصم لصالح الأول، في مراكش في حوادث سنة 626 هجرية، قرر الانتقام من شيوخ الموحدين الذين نكثوا عهود بيعته، وانحازوا إلى صفوف أعدائه، وخاصة من قبائل (تينمل) و( هنتاتة)، ولكلتيهما ثقل روحي وتأثير معنوي كبير في كامل تاريخ الدولة الموحدية، كما هو معروف.
 
    ولم يكتف المأمون باستدراج أولئك الشيوخ وقتلهم واستئصال شأفتهم وتتبع بقايا أتباعهم في القبائل، بل ذهب أبعد من ذلك فقرر أن يمحو أي أثر لهم؛ ماديا: بالقتل والإبادة، ومعنويا: بتحطيم سلطتهم الروحية والمعنوية الكبيرة التي مارسوها طيلة حكم الموحدين، عندما قرر إلغاء كافة الرسوم  المهدوية وجميع الشعارات الموحدية.
   
   وهكذا قام بإلغاء اسم زعيم الموحدين الروحي المهدي بن تومرت من الخطبة، وقد مر معنا في الرسائل السابقة كيف أن الترضية عن المهدي، والإقرار بعصمته قد أصبحت فريضة لازمة على جميع الكتاب، في صدر رسائلهم أيضا.
 
    فكان من الطبيعي أن يتنكر لكل الأفكار الموحدية السابقة بخصوص عصمة ومهدوية ابن تومرت. وهذا ما أعلنه، في صراحة ووضوح، وألزم الناس التابعين له به في رسالة فريدة من إنشائه، في السنة المشار إليها سابقا.
 
   كما لم يفته في هذه الرسالة أن ينبه إلى أن المنصور، الذي عُِرف عهده بالازدهار والإشعاع  وببعض النكبات الفكرية كتلك التي حصلت لابن رشد، كان قد عزم على هذا الأمر أيضا، ولكن الأجل لم يمهله، أو الظروف لم تساعده. غير أن المأمون لم يجد أي غضاضة في إعلان ذلك وتطبيقه وإلزام كافة رعاياه به، وإن جاء ذلك بعد فوات الأوان، وفي النزع الأخير من حياة الدولة الموحدية، إذ لم تقم لها بعد ذلك التاريخ قائمة، مع بروز المرينيين على مسرح الأحداث.
 
   وتلك الرسالة الغريبة التى خرجت عن مهيع الرسائل الموحدية الرسمية تذكرنا في التاريخ الحديث ب ( البروترويسكا الروسية التي تنكرت للمبادئ اللينينية الشيوعية ) في بعض الأسباب والنتائج، مع قياس الفارق طبعا.
  
   وهي لقصرها قد تخرج عن نمط الرسائل السابقة الطويلة، لتأخذ شكل بعض المناشير السياسية العامة قصد الترويج وتعميم الخطاب،  بعيدا عن أساليب الإطناب والحشو والتفخيم والتنميق وتشقيق ضروب الكلام، كما مر معنا في الرسائل السابقة.
 
وإليكم نص الرسالة:
 
     من عبد الله إدريس أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين ،
إلى الطلبة والأشراف والأعيان والكافة، ومن معهم من المؤمنين والمسلمين أوزعهم شُكر أنعمه، ولا أعدمهم طلاقة أوجهِ الأيام الِوسام.
 
    وإنا كتبناه إليكم ـ كتب الله لكم عملا مُنقادا، وسعدا وقَّادا، وخاطرا سليما، لا يزال على الطاعة مُقيما، من حضرة مراكش ـ كلأها الله تعالى ـ وللحق لسان ساطع، وحسام قاطع، وقضاء لا يرد، وباب لا يسد، وظِلالٌ على الآفاق تمحو النفاق وبعد: فالذي نوصيكم به تقوى الله العظيم، والاستعانة به، والتوكل عليه.
 
   ولتعلموا أنا نبذنا الباطل وأظهرنا الحق، وأن لا مهدي إلا عيسى بن مريم، روح الله، وما سمي: مهديا إلا لأنه تكلم في المهد. فتلك بدعة قد أزلناها، والله يعيننا على هذه القلادة التي تقلَّدناها.
 
   وقد أزلنا لفظ العصمة عمن لا تثبت له عصمة، فلذلك أزلنا عنه رسمه، فيمحى ويسقط ولا يثبت.
 
وقد كان سيدنا المنصور ـ رضي الله عنه ـ هم أن يصدع بما به الآن صدعنا، وأن يرقع للأمة الخرق الذي رقعنا، فلم يُساعده لذلك أملُه، ولا أجَّله إليه أجلُه، فقدم على رأيه بصدق نية وخالص طِوَّية.
 
    وإذا كانت العصمة لا تثبت عند العلماء للصحابة، فما الظنُّ بمن لم يدِر بأي يدٍ يأخذ كتابَه.
 
   أُفٍّ لهم قد ضََُّلوا وأَضَلُّوا، ولذلك َولُّوا وذُلُّوا، ما تكون لهم الحجة على تلك المَحَجَّة؟!.
 
اللهم اشهد أنا قد تبرأنا منهم تبرؤ أهل الجنة من أهل النار، ونعوذ بك ياجبارُ من فِعْلِهم الّرَّثِيثِ، ولأَمِرهم الخبيث.
 
إنهم في المعتقد من الكفار، وإنا نقول فيهم كما قال نبيك عليه السلام ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا).
 
        والسلام على من اتبع الهدى واستقام.
هامش: الرسالة توجد في كتاب (الحلل الموشية)، وفي كتاب ( البيان المغرب) مع بعض الاختلاف راعيناه عند إدراجها هنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق