الاثنين، 6 أغسطس 2012

إبن خلدون والنقد التاريخي
لا شك أن النقد الذي أنجزه إبن خلدون للمفهوم التقليدي لعلم التاريخ مستوحى من مرحلة خاصة كان العالم الإسلامي يمربها على جميع الأصعدة السياسية والإقتصادية والثقافية والعسكرية، فالتجربة السياسية والعلمية لإبن خلدون أنتجت ما يمكن أن نسميه بتدارك المغالط وإنحباس التجديد على المستوى التاريخي، فالتسليم بما جاء به الأوائل كان القاعدة المسلم بها، حتى أن تجاوز هذا الحاجز ثقافيا ونفسيا أصبح من المستحيل إنجازه في ظل وجود مقاومة من مراكز القرار السياسي المركزية، لما عرف عن التاريخ وخدمته للسلط المركزية الإسلامية. لقد عرف صاحب االمقدمة التاريخ بقوله: {إعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الإقتداء لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا} فالتعريف الذي قدمه إبن خلدون يبقى في جوهره مرتبطا بالمصلحة الدينية والدنيوية مع تركيزه على مسألة الإستفادة والعبرة، ويمكن أن نرى في هذا التعريف تحديد من المؤرخ لمرجعية ثقافية وتربوية وسياسية يمكن الرجوع إليها، ولكن التاريخ المعمول به نصا ومنهجا منذ أن دونه مؤرخو الإسلام الأوائل مثل الطبري والبخاري وإبن إسحاق وغيرهم، بقي مجمدا ولم يتغير رغم: {أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص ولأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عباده}، فالحاجة إذن كانت في إعادة كتابة وتدوين التاريخ بشكل جديد يعتمد على تفسير الأحداث بدون أن نسلم بإمامة الأوائل، لقد أقر إبن خلدون وأشاد بكبار المؤرخين الذين أعطوا للتاريخ مكانته اللائقة به في المنظومة العلمية والفكرية الإسلامية، ولكنه إبتعد عن قدسية الإمامة في هذا العلم، لكونها سببا في وقوع كثير من الأخطاء نتيجة التسليم بما نقلوه، فقد كانت عملية التأريخ تتم على أساس روايات تلقاها هؤلاء العلماء بطريقة شفوية، واستقرت في تواريخهم بدون تمحيص ولا نقد لطبيعة الحدث وإسناده، لقد كان إسم هؤلاء المؤرخين ضمانة كافية على صحتها وانتقالها من جيل إلى جيل دون بحث وتدقيق، وعلى هذه الشاكلة إستقر التقليد وجمد البحث والتجديد
لقد كان التقليد عملية شائعة سلكها المؤرخون الأوائل، وقد أشار إبن خلدون إلى ذلك بقوله:{ومن هذا الباب أيضا ما يسلكه المؤرخون عن ذكر الدول ونسق ملوكها، ويذكر إسمه ونسبه وأباه وأمه ونسائه ولقبه وخاتمه وقاضيه وحاجبه ووزيره، كل ذلك تقليد لمؤرخي الدولتين من غير تفطن لمقاصدهم، والمؤرخون لذلك العهد كانوا يضعون تواريخهم لأهل الدولة، وأبناؤها متشوقون إلى سير أسلافهم ومعرفة أحوالهم ليقتفوا آثارهم...}. نلاحظ من خلال هذا النص أن عملية التأريخ كانت مرتبطة بتصور يعتمد على كتابة تاريخ الدول، اعتمادا على تسلسل نظام الحكم وتوارثه بين الأسرة الحاكمة. النظام المركزي كان هو صاحب التاريخ وفاعله على مختلف الأصعدة في البناء الفكري التقليدي للمؤرخين الأوائل. المحور الأساسي كان ينبني على السلطان وشخصه وكل ما يتعلق به، فكان إذن محور التجربة السياسية والإجتماعية التي مر منها مجال من مجالات العالم الإسلامي، ثم يأتي بعده محور السياسية وعناصر السلطة المركزية وقد تمحورت حول التشكيلة السلطانية الخليفية التنفيذية المتمثلة في الحاجب والوزير وصاحب الشرطة وقادة الجيش وغيرهم. ولم ينسى المؤرخون الأوائل الجناح الثاني في التشكيلة السلطانية وهم من يعرفون بأهل الحل والعقد، فالقضاة والفقهاء، والعلماء يمثلون الجناح الثاني في السلطة لما لهم من دور في شرعنة الألقاب والقرارات السياسية والإقتصادية والقانونية. إن تواريخ الأوائل كانت موجهة لخدمة الدولة القائمة، فكان ما قد نسميه إحتواء علم التاريخ لخدمة المؤسسة الحاكمة. فبالإضافة إلى عقدة الخدمة كان الحدث والخبر يذكر بدون تمحيص أو تدقيق في مصدره حتى أن إبن جرير الطبري برر نفسه من الخبر الكاذب أو المزور بقوله:{فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتى من بعض ناقليه إلينا، وإنا انما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا}. لم يكن إبن خلدون من الرافضين لما أنتجه المؤرخون الأوائل، بل كانت كتبهم مصادره في المقدمة والعبر، فهو يتحدث عن أخطاء ومغالط وقع فيها الأوائل، ومن بينهم مؤرخه المفضل المسعودي صاحب مروج الذهب الذي ألفه في القرن العاشر الميلادي. لقد جعل إبن خلدون المسعودي إماما للمؤرخين لإبداعه في أمرين: الأول رؤيته الواسعة إلى التاريخ التي أخرجت هذا المؤرخ من دائرة الأخبار المروية في سير الرجال ووجهاء القوم إلى تتبع أحوال الشعوب والأمم مما سمح له بتناول الحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والعقائدية. والأمر الثاني يتثمل في تفرقته بين الشعوب الإسلامية في المشرق ما بين عرب وعجم للوقوف على خصوصية كل جناح على حدى
التأليف التاريخي في الإسلام قبل إبن خلدون مر بمراحل متعددة لكل منها خصائص إمتازت بها عن غيرها مع ما نلمسه من تدرج دون إنقطاع إلى عصر إبن خلدون. ففي المرحلة الأولى بلغ التأليف التاريخي أوجه على يد كبار المؤرخين أمثال الطبري والمسعودي. تعتبر هذه المرحلة بالنسبة للمؤرخين مصدرا تاريخيا مهما لما تميزت به من خصائص الجمع والدقة والعالمية، فيمكن لنا حصر هذه الخصائص في ما يلي
الإجتهاد ونقصد بها الإجتهاد في جمع الأخبار واستقصائها من مصادرها المختلفة
الإلتزام ونقصد بذلك حرص المؤرخون الأوائل على التزام الأمانة والصدق والمرجعية في تآليفهم
العالمية ونقصد بها العمومية بحيث أن تواريخهم لم تكن تتقيد بعصر أو شعب أو جيل أو إقليم، بل تؤرخ لرسالة الإسلام ومختلف المجالات الجغرافية التي وصل إليها، مع الحديث عن الهوامش الغير إسلامية، وهذا لا يعني أننا نقر بوجود نظرية المركز والمحيط في التأريخ الإسلامي الأول، بل كان الفكر السائد هو الوحدة العقائدية والدينية بشكلها الواقعي أو النصي . المرحلة الثانية جاءت لتعبر عن حالة خاصة، فظهر ما يسمى بالتواريخ الإقليمية نظرا لانقسام العالم الإسلامي إلى دول وإمارات مستقلة، فقيل أن هذه الخاصية والميزة جاءت لتلبي تطورا حصل على المستوى السياسي العام، وإن كنا نسلم بهذا فإن هناك تراكما كان دائما فاعلا في الفكر الثقافي والسياسي وهو خدهة المثقف للسلطة السياسية ومشاركته كأحد أقطاب الإدارة السياسية المركزية، لذا نجد المؤرخ الوزير والمؤرخ السفير والمؤرخ القاضي والمؤرخ المستشار إلى غير ذلك من الوظائف التي خدم فيها أهل العلم، فعندما إنقسم العالم الإسلامي كان حتميا أن يؤرخ المؤرخ للسلطة التي يسكن في مجالها ويعمل في إدارتها. المرحلة الثالثة وهي مرحلة التقليد والسير على منوال المرحلتين السابقتين دون تجديد في هذا العلم. المرحلة الرابعة وهي التي عاصرها إبن خلدون وفيها أصيب التأليف التاريخي بظاهرة المختصرات وأصابه ما أصاب العلوم والفنون الإسلامية وأصبح تلخيص كتب المتقدمين في مختصرات ومنضومات هي السائدة. لقد وقف إبن خلدون عند هذه المراحل ليكتشف أسباب المغالط ويفتح باب الإجتهاد من أجل أسلوب جديد لكتابة التاريخ وهو ما سنتناوله في مقال لاحق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق