الاثنين، 6 أغسطس 2012

حول الفترة الوجيزة لكتابة المقدمة الخلدونية : ملاحظات أولية

لقد انعزل إبن خلدون في قلعة بني سلامة لمدة أربعة سنوات تحدوه الرغبة إلى التأليف، حيث انتهى من كتابة مقدمته في خمسة أشهر إلى حدود سنة 779هجرية ، ولاستكمال مشروعه التاريخي إضطر للخروج من المنطقة البدوية المنعزلة إلى منطقة حضرية، توفر له امكانيات الإطلاع على أمهات الكتب التاريخية، ليتسنى له التنقيح والتصحيح لما كان قد أملاه في مرحلة الإنعزال، وبوصوله إلى مدينة تونس سنة 780 هجرية انكب على إتمام كتابه عن أخبار البربر والدولة الأموية والعباسية وما قبل الإسلام، واختياره لتونس لم يكن مبنيا على رابطة أسلافه بالحفصيين بل لكونها منطقة حدودية بين الغرب والشرق الإسلاميين، بحيث يمكنه هذا الموقع الإستراتيجي من تقصي أخبار الشرق والغرب والإطلاع على المؤلفات المشرقية بخاصة. لقد إكتمل مشروع إبن خلدون في خطوطه الكبرى سنة 782 هجرية، إذ سيسافر مع السلطان أبي العباس مما يدل على نهاية انكبابه على التأليف،كما أنه رفع نسخة من عمله للسلطان الحفصي خلال تلك المدة
ومما يسترعي الإنتباه هو محاولة بعض الباحثين تقسيم المشروع الخلدوني ليس فقط من حيث مضمونه بل من حيث تأليفه الى ثلاثة أقسام: المقدمة في قلعة إبن سلامة، والتأريخ للغرب الإسلامي في تونس، والجزء المشرقي في مصر، لقد كان إبن خلدون منذ البداية يفكر في جميع جوانب مؤلفه، وقد كتب خطوطه الكبرى في مرحلة وجوده بالغرب الإسلامي، وهذا لا يعني أنه لم يدخل تعديلات على مضمون الكتاب، وخاصة في الأجزاء المتعلقة بتاريخ الدولتين الأموية والعباسية وفي بعض فصول المقدمة، ولكن هذه الإضافات لا ترقى إلى مستوى الإنحراف عن التصور العام الذي وضعه في الغرب الإسلامي بصورة نهائية، حسب ما يصرح به في كتابه التعريف إذا لقد أتمم إبن خلدون كتابة مؤلفه في الغرب الإسلامي، في مرحلة كان قد وصل فيها إلى نهاية تجربة علمية وسياسية مغاربية هامة، سمحت له بالإطلاع على الكثير من تاريخ البلاد
لقد إقتنع إبن خلدون بضرورة التفرغ للتأليف منذ وقت مبكر، وتظهر رغبته منذ سنوات قبل الإنعزال في قلعة بني سلامة: "فبعثته إلى السلطان أبي حمو كالنب عني في الوظيفة، متفاديا عن تجثم أهوالها، بما كنت نزعت عن غوايتي الرتب، وطال علي إغفال العلم"، وانطلاقا من هذه المرحلة لم يصبح إبن خلدون يتهافت وراء المناصب العليا ولا يخوض العمل السياسي عن قناعة تامة، بل فرض عليه في أكثر الظروف. كما أن إبن خلدون لم يكن حديث العهد بالتأليف بل سبق له أن ألف المحصل في أصول الدين سنة 752 هجرية، الذي لخص فيه محصل الإمام الرازي فخر الدين بن الخطيب ورسالة في المنطق، والحساب كما لخص بعض أعمال أرسطو، وشرح لرجز في أصول الفقه، بالإضافة إلى أنه اختار العزلة في قلعة بني سلامة ثم الانكباب في تونس على التأليف مما يوضح أن هناك تفرغا للتأليف دون سواه
إن العمل التاريخي الذي قدمه إبن خلدون لم يكن فجائيا أو إلهاما، أو حدس باطني كما ذهب إلى ذلك ساطع الحصري، بل هو حصيلة تجربة اختمرت لمدة طويلة في ذهن إبن خلدون، واستحضرها عندما أتيحت له الفرصة لذلك، معتمدا على ثلاثة عوامل تعتبر من مقومات التأليف: تجربته السياسية وتكوينه العلمي وتمرسه على الكتابة في مرحلة مبكرة بالإضافة إلى اخياره حياة الإعتزال، فقد كانت هذه العوامل من وراء قصر مدة التأليف بالنسبة للمقدمة التي ألحق بها كتاب التاريخ العام الذي سماه "العبر وديوان المبتدإ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر". بالإضافة إلى كتاب التعريف الذي تناول فيه حياته الثقافية والسياسية إلى حدود سنة 806 هجرية ويعتبر هذا الكتاب من أروع كتب السيرة الذاتية الذي جعله إبن خلدون عمل تكميلي لمشروعه التاريخي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق