الاثنين، 13 أغسطس 2012

الخيال الخلاق.. لجميع أفراد العائلة!

تصوّف ابن عربي : كتاب جديد قديم


 
















 صدرت ترجمة كتاب "هنري كوربان": ((الخيال الخلاق في تصوّف ابن عربي)) وهو يجمع السيرة الذاتية للشيخ الأكبر مع تحليل للأفكار الصوفية وتقاطعها مع التشيّع وموقعهما من الإسلام الرسميّ، ثمّ موقع الباطنية من هذا كله، والمقارنة مع ما يوازيها من باطنية في المسيحية بقلم مستشرق معروف قادر على الموازنة كأوروبي وكباحث ضليع في الإسلام. ويجعل المؤلّف من اللقاء الذي تمّ بين الشيخ محيي الدين في شبابه وبين الفيلسوف ابن رشد محورا رمزيا للدراسة وليس محطة في سيرة المتصوف الكبير وهذه لفتة ذكية من كوربان الذي يعود ليؤكد حضور ابن عربي جنازة ابن رشد قبل رحيله عن الأندلس مع ما تحمله الواقعة من دلالة : نقل جثمان ابن رشد من المغرب إلى الأندلس ورحيل ابن عربي عن الأندلس إلى المشرق العربي، بما يرمز إلى بداية انحسار الفلسفة العقلانية التي سادت المغرب وبداية انتشار الفلسفة اللاعقلانية في المشرق. هذا كله في الصفحات الأولى التي تحمل عنوان : مقدّمة تقع بين الصفحة (17) والصفحة (116) وتنقسم إلى ثلاثة أقسام، يسبقها تمهيد بقلم المؤلف عنوانه : ( تصدير ) لكيلا يقال (مقدمة) طالما أن الفصل الذي يليها يحمل اسم مقدّمة والتي كما سبق القول تقع في مائة صفحة تماما، وسوف نرى دلالة هذه الإجراءات الشكلية. وها أنا أكتب عن الكتاب ولكن بروح مختلفة تماما عن الروح أحسست بها أثناء قراءة المقدمة.

في البداية أحسست بأنني سأقوم بإعادة قراءة الكتاب بعد الانتهاء منه رغم بعض الأخطاء المطبعية، ولكن بعد الخروج من المقدمة وهي بمثابة فصل في الحقيقة، يبدأ القسم الأول وسرعان ما أخذت أرزح تحت شعور ملحّ بأنّ هناك حاجة لإعادة كتابة الكتاب لا إعادة قراءته. ويبدأ -منذ القسم الأول مع خوض المؤلف في الموضوع الصوفيّ وشرح مقولات الصوفية ومصطلحاتهم- خلل ليس ناجما عن أخطاء مطبعية أو خطأ بالترجمة، بل بسبب تكرار بعض الجمل تكرارا غير قابل للتصديق، ومن الطبيعي أن يصبر القارئ إلى مدى بضعة صفحات، أما أن يستمرّ التكرار طوال ما تبقّى من الكتاب فهذا أكثر من أن يكون قابلا للاحتمال، وفي هذه الحالة يكون المؤلف هو المسؤول. فكيف يمكن أن يقع مؤلف كبير مثل هنري كوربان بهذا الخطأ الباعث على الضجر بل الضرر بموضوع البحث؟ فبالإضافة إلى العمق الفلسفي تتمثل عناصر الصوفية بـ(الإشارة) و(التلميح) و(الذوق) بينما يقوم المؤلف بشرح المقولة ثم يشرح الشرح نفسه ثم يعود للمقولة ليثبتها حرفيا كل مرة.

 بالعودة إلى مقدّمة المترجم وجدنا مقدّمة جميلة تتحدّث عن ترجمة مفقودة قام بها الكاتب المصري المعروف (فؤاد كامل) قدمها إلى دار نشر مصرية ثم توفّي الكاتب.. وبعد ذلك ضاعت الترجمة داخل دار النشر، وعندما سئل رئيس الدار عنها بعد سنوات لم يكن يعرف عنها شيئا ويعقّب المترجم (فريد الزاهي) بأنه تساءل بطريقة (خورخي لويس بورخيس) : "ربما كانت الترجمة هذه قاتلة.. فهل قدّر لي أن أترجم كتابا ربما كانت لعبته أن يترجم باستمرار؟ إنّ هذه الحكاية أشبه بحكاية الأرواح والمنازل المسكونة. فقد قمت بترجمة كتاب مسكون بترجمة مفقودة ومن ثم فأنا أشبه بشخص مزدوج لا في اللسان والثقافة، ولكن أيضا في الشخصية. مترجم يحمل في تضاعيفه آثارا لترجمة كانت محتملة، ومن ثم كانت قابلة لأن تكون أصلا ترجميا لها" (ص9). ولكي نضرب مثلا عن التكرار فإنّ المؤلف ما إن يذكر مقولة: "من عرف نفسه فقد عرف ربّه" حتى يبدو عاجزا عن شرحها دون الرجوع إليها حرفيا بينما يكون القارىء جاهزا للتبحر فيما وراءها، لكن المؤلف يعود للقول : " فإن من عرف نفسه فقد عرف ربّه"!.. وفي الصفحات التالية يفاجأ القارىء بالجملة نفسها، وهكذا كلّ المقولات الصوفية. كما لو أنّ سبب وقوع المؤلف بالتكرار ناجم عن لعنة افتراضية مثل (لعنة الفراعنة) بسبب اقترابه أكثر مما يجب من (سرّ الباطنية) فيصبح الشخص ملزما بقول الشيء ثم قوله مرة أخرى بشكل لاإرادي؟

يقع الكتاب في أربعمائة صفحة تقريبا من القطع المتوسط، وتتميّز المائة صفحة الأولى بالعمق والوضوح بحيث يحوز القارىء دافعا للغوص في الكتاب مكتسبا الثقة بالمؤلف والمترجم بدلالة المعالجة القيمة في المقدمة التي أظن أنها دراسة مستقلة كتبت بأسلوب لا علاقة له بالأسلوب الذي كتب به الكتاب وتسميتها بـ(مقدمة) هي تسمية تعسّفية، ولا أعرف حقّا سبب هذا الخلل في كتاب كان يمكن أن يكون فائق الأهمية من حيث موضوع بحثه. إنه خلل كبير بحيث يتساءل المرء هل يمكن أن يكون السبب ناجما عن كون الكتاب في أصله مسودات لم يرجع المؤلف إلى تنقيحها ومراجعتها وحذف الزوائد والشروح منها إلا في حدود المائة الصفحة الأولى بينما تركت الثلاثمائة صفحة الأخرى على حالها؟ أم هل أن الكتاب هو في حقيقته عدة دراسات منفصلة تدور حول موضوع واحد لكنها متفاوتة المستوى وقد تم دمجها معا في كتاب؟ ولماذا لم ينوّه المترجم أو دار النشر بأي تنويه أو تنبيه في تصدير الكتاب طالما أنه لا ذنب لهما به؟ إن أيّ واحد من الاحتمالات يستحقّ تنويها من المترجم أو دار النشر.. ولا بدّ أن يكون السبب عائدا إلى واحد منها. إن الانطباع الذي يخرج به القارىء من الكتاب هو للأسف انطباع رديء جدا، بحيث يمكن أن يكون العنوان نظرا للشرح المسهب والمملّ هو : "دليل المبتدئين إلى الخيال الخلاق.." أو عنوان آخر : (الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي لجميع أفراد العائلة..). وحتى في هذه الحالة فإن افتقار المبتدئين للمعرفة العميقة لا يعني تحليهم بالصبر أكثر من غيرهم بل أقلّ.. .

من الطبيعي أن نعود إلى تصدير المؤلف لمعرفة سبب تفاوت المستوى ووجدنا إشارات لكنها غير واضحة، فالتصدير كتب قي عام 1975 والكتاب كما يقول المؤلف صدر عام1958 ولكن غير واضح فيما إذا كان ما سمي بالمقدمة قد كتب في عام كتابة التصدير أم عام كتابة الكتاب؟ أما مقدمة المترجم فهي لا تتطرق إلى هذه التساؤلات. ولا بد من التذكير بأنّ (المقدمة) جديرة بأن تنشر في كتاب مستقلّ، أما ما تبقى فإننا نتساءل على طريقة المترجم : ماذا لو كان قدر الكتاب أن يكتب باستمرار ؟ وحينها سيكون هو الكتاب الذي حلم (بورخيس) به..


الكتاب: الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي
المؤلف: هنري كوربان.
المترجم: فريد الزاهي.
الناشر: دار الجمل 2008

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق