الجمعة، 10 أغسطس 2012

رسالة ابن عَميرة المخزومي الأندلسي في الوصف التسجيل

 
أ - رسائل الوصف التسجيلي ( الوثائقي ):
 
     كانت الرحلة مصدر علم وأدب غزيرين، وفي الكتب الخاصة بالرحلات المعروفة؛ كرحلة ابن جبير والعبدري وابن بطوطة وغيرها نماذج مفيدة وممتعة لهذا الوصف التسجيلي، تفي بحاجة المؤرخ المستخبر والأديب المتذوق.
 
    ويمكن أن نضيف إلى كتب الرحلات الكبيرة المعروفة رسائل الكتاب الخاصة القصيرة المجهولة المتعلقة برحلاتهم وزياراتهم وبمشاهداتهم ومعاناتهم خلال  حركاتهم وتنقلاتهم عبر الأمكنة والأزمنة المختلفة.
 
    وكان كتاب الأندلس أكثر من تناول موضوع رحلاتهم وتنقلاتهم الشخصية بالتسجيل والتوثيق، نتيجة لاضطراب موجة الحياة العامة في الأندلس التي كانت تقذف بهم تارة إلى العدوة المغربية القريبة، وتارة إلى البلاد المشرقية البعيدة، وتارة أخرى إلى داخل ممالك الأندلس النصرانية، وخاصة بعد أن قويت حركة الجلاء التي أعقبت سقوط دولة الموحدين بالأندلس، كما مر معنا في الإدراج السابق، عند حديثنا عن الكاتب ابن الأبار.
 
    وقد كتب أبو المطرف بن عَميرة الأندلسي صديق ابن الأبار ورفيقه في درب الكتابة والأدب والكفاح رسائل كثيرة من هذا النوع سجل فيها مذكراته وانطباعاته عن أحوال سفره ومعاناته في الرحلة بين كثير من جهات العدوتين.
 وهذا سجل ملخص عن سيرته وحياته التي توزعت بين الأندلس والمغرب وتونس:
 
     هو أحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن أحمد بن عَميرة(1) المخزومي، ولد في جزيرة شُقْر الأندلسية الموصوفة عند المؤرخين والجغرافيين بجمالها وحسن منظرها، سنة 582 هجرية، وبها نشأ وفيها أهله الذين كان يعود إليهم بين الفينة والأخرى كلما انتهى من تجواله، وسكن بلنسية زمنا بحكم دراسته ووظيفته، كما تنقل بين كثير من المدن الأندلسية الأخرى بحثا عن العلم والمجد والحظوة. فقد كتب عن أبي عبد الله بن حفص في بلنسية ، وعن واليها السيد أبي زيد كصديقه ابن الأبار، كما كتب عن ابن هود في مرسية، وتقلد منصب القضاء بشاطبة.
 
     وعندما ساءت الأوضاع بالأندلس، وبدأت حركة الجلاء توجه إلى المغرب سنة 637 هجرية، فكتب عن الخليفة الموحدي الرشيد بمراكش قبيل انقراض دولة الموحدين نهائيا، وتقلد منصب القضاء في بعض المدن المغربية كهيلانة والرباط وسلا ومكناسة، وبقي في بلاد المغرب إلى سنة 646 هجرية.
 
     وبعد هذه السنة انتقل إلى بلاد إفريقية ( تونس) حيث بلاط الحفصيين، وبقي فيها إلى أن وافته المنية سنة 658 هجرية. وفي أثناء ذلك تقلد منصب القضاء كعادته في بعض الجهات الحفصية إلى جانب مناصب سياسة أخرى؛ فقد كانت صلته ببلاط الحفصيين وطيدة ومتمكنة، وربما يرجع ذلك إلى خبرته ودبلوماسيته، وحسن مداخلته للناس خاصتهم وعامتهم بخلاف صديقه ابن الأبار الذي سجل عليه بعض من ترجموا له أنه كان ضيق الخلق، وصريحا وعنيفا في لومه وانتقاده، مما أثار حفيظة الحفصيين عليه، كما اتضح من خلال كلام ابن خلدون عنه، وقد سقناه في الإدراج السابق.
   
    وابن عَميرة هذا أحد كتاب الرسائل الإخوانية المبرزين، فله رسائل كثيرة في موضوع الإخوانيات، مما يدل من جهة، على كثرة إخوانه وأصدقائه، ومن جهة ثانية، على حرصه وعمله الدؤوب من أجل تمكين وتوطيد علاقاته بهم،  وذلك بمخاطبة ودهم والتشوق إلى لقائهم ومواساتهم عند الجزع، والحرص على نفعهم، والسعي في مصالحهم عند الشدائد لدى أصحاب الأمر والنهي من الرؤساء والأمراء والوزراء والأعيان، وربما عرضنا لبعض خدماته الإخوانية والإنسانية العظيمة، بشيء من التفصيل في إدراجات لاحقة.
    
      وهذا الآن، مقتطف من رسالة كتبها ابن عَميرة إلى صديقه أبي عبد الله بن الجنان، يصف فيها أهوال رحلته إلى (ألمرية) بالأندلس، وكيف ضل الطريق، وفقد المركوب وأحدَ مرافقيه وكان يدعى سحيم، بسبب هبوب رياح قوية من جهة البحر، أثارت زوابع رملية كثيفة غطت الفضاء وحجبت الرؤية وملأت العيون والأسبلة (اللحى)، ثم كيف احتمى مع رفاقه ببعض الأبنية الواهية العفنة، حتى تهدأ العاصفة.
  
   وقد لا يخفى على القارئ الكريم تعقد صنعة الكتابة عند أبي المطرف بن عَميرة، وخاصة فيما يخص صناعة التجنيس التي تقوم على مبدأ التماثل الخطي والصوتي بين الكلمات كما في قوله: ( ونادينا وقد ند من يسمع المنادي ) حيث حرف الدال والنون هما نقطة الارتكاز في هذا المثال، وفي قوله أيضا: ( ووجدنا من تغير الهواء وجد آل عذرة بالهوى) حيث الارتكاز هنا على حروف الواو والجيم والدال والهاء والواو والألف.
      والتجنيس من أهم الصناعات اللفظية التي سادت في عصر ابن عَميرة والتي يسعى الكاتب من خلالها إلى تحقيق قيم التناسب والجمال في كتابته. وواضح تأثر ابن عَميرة بمدرسة العماد الأصفهاني كاتب صلاح الدين الأيوبي المشهور توفي سنة 597هجرية، وهو أحد رموز صناعة التجنيس في تاريخ الكتابة، وقد بالغ فيها أيما مبالغة حتى عيب عليه ذلك، والتزمها في سائر مكاتباته ومصنافته العديدة في مجال التاريخ والتراجم.
 
     أما تضمين الإشارات المختلفة، وهو ما يعرف الآن ب( التناص) فكان القصد منه أن يعرض الكاتب بضاعته المعرفية في موضعها الصحيح وسياقها المناسب، مما قد يدل على سعة معرفته واطلاعه، وقد ألم ابن عَميرة بصناعة التضمين في قوله: ( وخشينا أن تكون قارظية)، وقد أشار هنا بكلمة قارظية) إلى المثل العربي الموجود في كتب الأمثال الذي يقول: (حتى يؤوب القارظ)، وهذا المثل يضرب في الذي يذهب ولا يعود. وأصله أن رجلا من قبيلة عنزة خرج يطلب القرظ: وهو ورق السلم يدبغ به، فلم يعد، فضرب به المثل.
 
     والتضمين من الصناعات المعنوية التي تتطلب من القارئ حسن الاطلاع والتوسع حتى يتمكن من أدراك حقيقة وأبعاد المعاني الكامنة وراء تلك الإشارات والتضمينات.
 
       مقتطف من رسالة ابن عميرة في الوصف التسجيلي:
 
     ولا تسأل عن يوم كابدته، ورفيق ناكدني وناكدته، والسفر فيه الحلو والكريه، والرفقاء منهم الحليم والسفيه، ضللنا ولا هادي، ونادينا وقد ند من يسمع المنادي، حتى خفناها قضية، وخشينا أن تكون قارظية، وبعد العشاء الطويل اهتدينا إلى السبيل، وسرنا وقد قوي الطوى، ووهنت القوى، ووجدنا من تغير الهواء وجد آل عذرة بالهوى.
 
   ومن شديد ما لقينا ريح عاتية، عادية عادية، هبت من الجهة البحرية، وعصفت على القرب من ألمرية، فأثارت رمالا، أرتنا أهوالا، وملأت منا عيونا وسبالا، فيالساعة أضاعت المكتوبة، ودلهت الحجرين: العقل والركوبة، وهناك ضاع منا سحيم، وحال دونه عجاج وغيم، وملنا بعد الشقة المتناهية إلى بعض المباني الواهية، فبتنا ندافع بكنه البرد، ونستنشق من خسائس حشه النسرين فالورد، ونباهي بخرابه إيوان كسرى أو يزدجرد.
 
هامش: (1) عَميرة بفتح العين، هكذا ضبط اسمه لدى أكثر من ترجموا له، عند القدماء، وعند المحدثين أيضا، كما عند الدكتور محمد بن شريفة مضبوطا، في عنوان كتابه الذي خصصه لهذا الكاتب بفتح العين، تحت عنوان: ( أبو المطرف أحمد بن عَميرة المخزومي، حياته وآثاره) وعمل الدكتور بن شريفة هذا هو في الأصل أطروحة جامعية لنيل دبلوم الدراسات العليا، من جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1964م. وكانت أول أطروحة جامعية عليا تناقش بالمغرب. 
وعلى هذه الدراسة القيمة اعتمدنا في سياقات هذا الإدراج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق