الجمعة، 10 أغسطس 2012

رسالة الفصول

 وهي رسالة  طويلة جامعة لأنواع من المبادئ والأوامر والنظم الموحدية:
 
     كتبها أبو جعفر بن عطية عن أمير المؤمنين عبد المومن بن علي إلى أهل (بجاية) يوصيهم بإقامة الحدود، وحفظ الشرائع، وإظهار الحق، مؤرخة في الثالث من شهر ربيع الأول سنة 556 هجرية. وتوجد في( مجموع رسائل موحدية )، الرسالة رقم: 23.
 
   ومعروف عن الدولة الموحدية أنها دولة عقيدة بامتياز؛ فقد قامت على مجموعة مبادئ غاية في التنظيم والتعقيد، ولعل هذا ما يبرر كثرة الرسائل التي عملت منذ بداية ظهور أمر الموحدين على شرح مبادئهم وأهدافهم. وتلك الرسائل صدرت، في بعضها، عن زعيمهم الروحي المهدي بن تومرت، كما يدل على ذلك كتاب ( أخبار المهدي ) للبيدق، وكتاب ( أعز ما يطلب ) المنسوب إلى المهدي نفسه، وفي بعضها الآخر عن بعض الخلفاء الموحدين، أوعن كتابهم المقربين الذين استوعبوا حقيقة الدعوة الموحدية عن علم واطلاع، فعملوا على نشرها وإقناع الناس بها، ببلاغتهم الخلابة.
 
    ومن الرسائل الموحدية الغريبة أو الطريفة المتصلة بهذا الموضوع رسالة الخليفة المأمون الموحدي، كتبت في فترة أفول نجم الموحدين سنة 626 هجرية. وفي هذه الرسالة تنكر لروح دعوة المهدي، وخروج تام عن مذهب الموحدين الفكري والعقدي، بل إن هذا الخليفة ذهب أبعد من ذلك عندما ألغى رسوم المهدي الصارمة، وكافة شعائر الموحدين، وربما عرضنا لهذه الرسالة الغريبة لاحقا بشيء من التفصيل، إن شاء الله تعالى.
 
وإليكم الآن نص رسالة أبي جعفر بن عطية المذكورة آنفا، وفيها يشرح جملة من مبادئ الموحدين التنظيمية، ويدعوـ على لسان الخليفة عبد المومن بن علي ـ إلى تطبيقها تطبيقا صارما لا هوادة فيه ولا مراجعة،  وفيها أيضا حث على قراءة العقائد الموحدية وحفظها، وأخذ الناس بعلم التوحيد، ولو باللسان البربري، وفيها أيضا نهي عن كل أنواع المفاسد والملاهي وآلاتها ووسائلها، في صفوف النساء والرجال؛ كشرب المسكرات ومنها مشروب( الروب) الذي كان فاشيا، وإليه ينسب باب ( الروب) المشهور في مراكش، وبعض الانحرافات الفاشية في سلوك الناس كالتلصص والجراية:
 
 
   من أمير المؤمنين ـ أيده الله بنصره، وأمده بمعونته ـ إلى الطلبة الذين ببجاية ـ أدام الله كرامتهم، ووصل صونهم وحمايتهم ـ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
   أما بعد، فإنَّا نحمد الله إليكم الذي لا الله إلا هو، ونشكره على آلائه ونعمه، ونصلي على محمد نبيه ورسوله.
     والحمد لله على ما أمّدَّ به هذه الدعوة العظيمة، والكلمة العلِيَّة الكريمة، من الأضواءِ والأنوار، وقرن بعزائِم أوليائِها من الأخذِ بحَجُز العباد من التهافت في النار، وأحكم بإيمانِهم من معاهد الهُدى التي من استمسك بها فقد فاز بعُقبى الدار، وأبان بهم معالمَ السنة المُستبينة الضوءِ الهاديةِ المنار، التي من سلك جَدَدَه فقد أمِن من العِثار، ووقَّف هممَهم لديه من مراعاة أمور الدين في النائي والدَّاني من الأقطار.
 
    نحمده حمد من اهتدى إلى أنه الموجودُ المُطلق الذي لا يَتقيَّد بالأمكنة والأعصار، الواحدُ الفرد الصمد المنزه عن الشركاء والأنظار، المتعالي عن صفات التخير والانتقال والعَجْز والافتقار، المحيطُ بجميع الموجودات إحاطة لا تحدها حِدَّةُ الأذهان، ولا تلحقُها دقائق الأفكار. لا إله إلا هو لا تدركه الأبصارُ وهو يدرك الأبصار.
 
   ونصلي على محمد نبيه والمُبتعَث من أكرم نِجار، والمؤيد بالمعجزات التي دحضت حُججَ الكفار، وخرقت مُسْتَمِرَّ العادة للعلم أنها فعلُ الواحد القهار، وأتت على وفق الدعوى ليُتبين بها صدقه على الأضرار، وحكمت في كل من لا يؤمنُ بها كل طريد الشََّبى ماضي الغرار، وعلى آله وصحبه السالكين في ذلك السنَن والمُجرين في ذلك المِضمار.
 
    ونواصل الرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، القائم بأمر الله تعالى لما ارتفع العلمُ بقبضِِ العلماءِ الأخيار، وأُعجِب كلَُ ذي رأي برأيه من الصم البكم الَّرغام الأغْمَار، وقامت خطباؤهم بأفانين التضليل وضروب الاغترار، وقلَبوا الحقائق فظهر من التبديل والتغيير ما أخْفَى دينَ الله تعالى الذي تكفلَ له بالإظهار، وانبسط في البسيطة من المناكر ما لا يحتاجُ إلى إطالةٍ في تعديده من الوضوح والاشتهار، فجلَّى بضياء حكمه ما استولى على آفاقها من الظُّلَم المشتدة الاعتِكار، وأبان بمُعجز علمه من العلم بالله تعالى ورسُله وبما جاءت به رسله ما كان في طيِّ الخفاء والاستِتار، وعلَّم طرُق العلمِ بها التعليمَ الذي انتفع به أهلُ التيقن والاستبصار، وضرَح عن موارد الدين ما شمِلها من الشوائب والأكْدار، وأمده بالطائفة المنصورة المفتوح لها بصريح الوحي وصحيح الأخبار، كلُّ دان وشاسع من الأمصار، الوارثين علمَه والعاملين به والمتصرفين له ليبقى أمرُه العظيم على الدوام والاستمرار، إلى قيام الساعة وانقضاء هذه الدار.
 
     فإنا كتبناه إليكم ـ كتب الله لكم كل خير جزيل، وأعانكم على امتثال أوامر التنزيل، وجعلكم جارين على حكم الكتاب والسنة في الدقيق من الأمور والجليل ـ من رباط الفتح ـ عمره الله ـ ، والطائفةُ المنصورة محفوفةٌ من حفظ الله وكلاءته، ومكنوفةٌ من صَوْنه وحِمايته، وممنوحةٌ من إظهاره وإعلائه، ومخصوصةٌ من إرقائه وإسماعه، وممدةٌ من إضاءة زَنْدها وإيرائِه، في تسْنية مرامِها وإسْنائه، بما أنهضنا الله به إلى إحياء معالم السنة وإحكام أمْراسها، وتثبيت أركان الدعوة على وثيق أساسها، وتطهير الأمة من أدرانها وأدناسها، وتعليمها كيف تستضئ بمِشكاة الهداية وتعشو إلى نِبراسها، ليمشوا على السَّنن اللاحب، ويتقيدوا بالشرع المرتَّب الراتب، ويعملوا في أمر دينهم ودنياهم باللازم الواجب، فلا يلبسوا الهدى بالضلال، ولا يشوبون التحقيق بالإبطال، ولا يخلطون العمل بالرفض، ولا ُيبَعضون الإيمان فيقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ليتخذوا بين الرشد والغي سبيلا، وليروموا في الصحيح الثابت تغييرا وتبديلا، إلى أن تخلُص قلوبهم من الرَّين، ويكون عندهم العلم والعمل متلازمين، والباطن والظاهر متطابقين، والقول والفعل متعارضين، ولا متنافيين، والله المعين على إكمال هذا المقصد وإتمامه، والملئ بائتلاف جمع الجهات والأكناف على ما يؤثره من اتصاله وانتظامه.
 
     ولما كان هذا الأمر العظيم إنما جاء في حين الفترة، وشمول الحيرة، وارتفاع العلم، وحلول الجهل، وانبساط الجَوْر، وانقباض العدل، وتملك الهمَج الرَّعاع، واتباع الهوى المُضل والشَّح المطاع، وقام به الإمام المعصوم، المهدي المعلوم ـ رضي الله عنه ـ عندما أزبد بحرُ الضلال وطمَى، واعتلى سلطانُ الكفر واستمَى، وتطاير شُر الأشرار وارتمى، وتفرقت في أنواع الأباطيل الآراءُ، وغيرت معالمَ السنة البدعُ والأهواءُ، والدين أجنبيٌّ غريبٌ، لا مناسِب له ولا قريب، ولا داعِي له ولا مجيب، وقد قنعَ أهلُ الدنيا في معارفِهم بمسوَّد الصحائف، مسطور الزخارف، لإماتةِ المعارف، وتطمينِ العوارف، وجر المطَارف، في صَون التالِد وجلبِ الطارف، فبَصر وعلِم، وثقِف وقوَّم، وأتقنَ وأحكم، ونوَّر ما أظلم، وأظهر ما اسْتَتر وأبْهم، وأنْجد في تعليم العلم واتْهم، ثم أورث علمَه طائفَتَه فبثُّوه في البلاد، وأفاضوا نورَه على العباد، طورا باللين وطورا بالاشتداد، وحالا بالسياسة وحالا بالجهاد، وآونة بالمواعظ الحسنة وآونة بالسيوف الحِداد، إلى أن ألقى الناسُ يد الاستسلام، وأظهروا الإجابة إلى دعامة الإسلام؛ فمن آمن منهم بهذا الأمر العظيم عن علم ويقين، وإخلاص مستبين، فهو يتقيدُ بقيوده، ويقف عند حدوده، ويجري على معروفه ومَعْهوده، ويبدو على ظواهره ما أكنَّه في سرائره، ويلوح على أساريره ما أسرَّه في ضميره، ومن حجَبه عن الإيمان به والإخلاص له حجابٌ، وحصَل في نفسه من الذي جاء به لبْس وارتياب، فهو باق في أحواله على المذهب الذميم، وعاكفٌ في أعماله على الرسم القويم، وطائفٌ بين أطلاله لا يبْرح ولا يريم، ويفتتِن بما كان ألِفه ويهيم، ويزيح في تلك المسارح ما أمكنه ويسيم، فتراه يتخطى الحدودَ ويتعداها، ويهمل الأوامر ولا يرعاها، ويغشى تلك المألوفات ولا يخشاها، ويساعد نفسَه الأمارة بالسوءة ولا ينهاها، ويُغفل مآلها ولا يخاف عقباها. ومن كانت هذه حاله فهو ممن لم يؤمن بالله ولا رسوله ولا بما جاءت به الرسل، ولا بالإمام المهدي الذي قامت عليه البراهينُ واتضحت في أمره السبلُ، بل هو متمادٍ على كفره وتجْسِيمه، غير منتفع بتقويمه، ولا مُستبصر بتعليمه.
 
    وبحكم ما ناطه الله تعالى بنا من أمور عباده، ووسَّده إلينا من نصر دينه وإنجاده، وقلَّدنا إياهُ من الوقوف على حماية باطنه وظاهره في أغوار العالم وأنْجاده، لم نزل نتعاهدُ أحوال الأنام، ونصل تَصَفُّحها على الليالي والأيام، ونقصدُ هذا المقصد بقوة واعتزام، ونأخذ في الكشف عنه بمواظبة والتزام، متبعين في العمل بالعلم أمرَ الإمام المعصوم الذي احتذى فيه حذو جده ـ عليه السلام ـ ، راغبين إليه تعالى في إعظام الأجر وإجزال المثوبةِ على القيام بهذا المقام.
 
    لكن الناس مع مُواظبتهم بالتذكير، وملازمتهم بالتنبيه والتبصير لم يتركوا تلك الأفعالَ التي رسخت في الصدور، والملكاتِ التي استقرت في القلوب، والحالات التي انطوت على إلْفها الضلوع، وأبوا إلا ارتطاما في الغَي وارتباكا، وانكشافا في طواعية الشهوات وانهماكا، وخَلعا لعُذر النهي وانتهاكا، وإجراءً في مَهامه البطالة واستنانا، وتحليقا في جو الغواية وطيرانا، وإغفالا لما أحدق بهم من أمر الله تعالى ونسيانا.
 
   فنهضنا إلى معاهدة التفَقُّد بعزم قُرعت له الظَّنابيبُ، وجُريٍ فيه إلى مد القصِر عن شأوه الجُردِ السراجِيب، وجعلناه تعاهدا عاما في البعد والقرب، ونظرا شاملا ينتظم حاشِيتي الشرق والغرب، لتأخذَ الجهاتُ حقها من الضبط ، وتتزنَ الجنباتُ بميزان العدل والقسط، وتستقيمَ البريةُ على قانون الانتظام والربط، فتكون العهود محفوظةً ، وسطوات الله تعالى بمُخالفي أمره لمُراقَبةٍ ملحوظةً.
 
وأبتدئ بأول مباني الإسلام فاخذوا الناس بعلم التوحيد الذي هو أساسُ الدين ومبناه، وروحه ومعناه، والقاعدة التي لا يثبتُ عمل دون تأصيلها، والرابطة التي لا يُقبل دين دون تحصيلها؛ فلا سبب لمن لم يُمسك بسببه، وقد بني وجوب العلم بالفرائض على وجوب العلم به، وهو إثبات الواحد وبقي ما سواه، بتقييداتٍ في الشريعة لا يكفي معها إطلاقُ اللفظ دون تحقيق معناه؛ وذلك أن يُعلم على وجه حدِّه، ليكون عن علم لا عن ضده، وعن يقين لا عن شك، وعن إخلاص لا عن شرك، وأن يقوله مع العمل ولا يَتَّكل.
 
    ويؤمر الذين يفهمون اللسان الغَربي( يقصد اللسان البربري ) ويتكلمون به أن يقرؤوا التوحيد بذلك اللسان من أوله إلى آخر القول في المعجزات ويحفظوه ويّقُصُّوه، ويُلازموا قراءته ويتعهدوه،
 
   ويؤمرُ طلبة الحضَر ومن في معناهم بقراءة العقائد وحفظها، وتعاهدها على سبيل التفهم والتبين والتنبه والتبصر.
 
   ويلزم العامة ومن في الديار بقراءة العقيدة التي أولها: ( أرشدنا الله وإياك) وحفظها وتفهمها، واشملوا في هذا الإلزام الرجالَ والنساء والأحرار والعبيد وكل من توجه عليه التكليفُ، إذ لا يصح لهم عملٌ ولا يُقبل منهم قول دون معرفة التوحيد؛ فمن لم يعرف المُرسَل لم يصدق بالمُرسِل ولا بالرسالة، ومن حصَل على هذه الحالة فقد تعثَّر في أذيال الضلالة. فإن لم يبادر إلى التخلص منها، والانفصال بالعلم عنها فقد وجب عليه حكمُ الكتاب، ولا عنَت في إراقة دمِه لا محالة.
 
    واخذوا بإقامة الصلاة التي هي الكَتْب الموقوفُ على المؤمنين، والحُكمُ المثبوت على من آمن بهذا الدين، والناهيةُ عن الفحشاء والمنكر على ما ورد في الكتاب المبين، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاةَ فهو مَمحوٌّ من ديوان المؤمنين، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع من الوظائف والقوانين، وتاركُها ميت في عداد الأحياء، لحُشاشة تقضي عند القضاء أمدَ الإمهال والإملاء.
 
   فخذوا من قبلكم بإقامة الصلاة على ما شرعت، وأدائها بحسب ما فُرضت، وخذوا العوام ومن في الديار بحفظ القرآن لتتم صلاتُهم ويَكْمل عملُهم، ومن أضاع الصلاة وأهملها ولم يبادر إلى أداء ما فُرض عليه منها فأجله للحين مُتاح، وقتله بحكم الكتاب والسنة واجب.
 
 وخذوا بإيتاء الزكاة وبالكشف عن مانعيها وتشخيص مُمسِكيها أو النزر اليسير منها؛ فالزكاة حقُّ المال والجهاد واجب على من منعَ منها قدْرَ العقال، فمن ثبت منعُه للزكاة فهو لا حق بمن ثبت تركه للصلاة، فمن منع فريضة واحدة كمن منع الفرائض كلها، ومن منع عِقالا فما فوقه كمن منع الشرع كَّله.
 
وامروا بالنظر في الرُّبوب( نوع من الخمر) وتمييِزها والهجوم على بائعيها ومدمني شربها ومستعمليها، فيراق مُسكرها، ويقطع منكرها، وليعمد إلى من عَمِل المُسكرَ الحرام عامدا، وشَرِبه مُدمنا عليه ومعاهدا ، ولم ترُعه الحدود، ولم تقيده القيودث، ولم يعظه الاعتبارُ، ولم ينفعه الادكارُ، فيُمحى أثره، ويحذفُ خبرُه، فالخمرُ أم الكبائر وجُماع الإثم وكاسفةُ شمس العقل، والبلاغة على كل قبيح من الفعل، والفاتحة كل مُرتِج من أبواب العصيان، وهي رجس من أعمال الشيطان.
 
    وامروا بالكشف عن التلصُّص والجِراية، والتولُّج في مكان الريب والغواية، والاجتماع على سير الجاهلية من الملاهي على فنونها وأنواعها وضروبها واختلاف آلاتها وما يتبعها من المناكر الناشئة عن أصل الجهالة والأفعال المنافية للشريعة الصادرة على أهل( الزراعة ) والضلالة من الرجال المفسدين والغواة المُضلين، ومن النساء المفسدات المتفننات في طرُق الغوايات؛ فاكشفوا عن هذه الأصنافِ وأثِيروهم عم مكانهم، ونقِّبوا عليهم في مَظانهم، فمن شُهد عليه منهم بشهادة صحيحة سالمة من الهوى والظِّنة باستصحابِ حاله، وتماديه على الإحضار في محلِّ باطله ومُحاله، فيُحَكَّمُ كتاب الله ـ جل اسمه ـ فيه.
 
   وليكشف عن الذين يَغرمون الناس ما ليس قِبلَهُم ، ويأكلون بالباطل أموالهم، وعن أهل العناد والتقاعُس والإخلاد والتثبُّط الذين إذا دُعوا إلى الجهاد، ونودوا إلى الصلاح والرشاد صُمُّوا عن النداء، وتلوَّموا في إجابة الدعاء، وألقوا المعاذير المعربةَ عن العناد، والناطقةَ عن الضمائر الممتلئة بسوء الاعتقاد، وعن القبائل الباقية على سير الجاهلية من الهرّج فيما بينهم والقتل والفساد والخبَل والانقياد إلى سلطان الجهل، والخروج عن قانون الحق وضبط الأمر، وعن أهل النفاق والتدليس الناطقين بما لا يعلمون، والقائلين بما لا يفعلون. فإذا تعينوا على التحقيق فليمضِ عليهم حكم الله تعالى الذي أمر به فيهم.
 
   وقد أنفذنا إليكم ـ وفقكم الله مقاصدكم، وعم بالتقوى معاهدكم ـ نسخةَ كتاب كريم، صدر عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم ـ رضي الله عنه ـ مشتملٍ على جوامع الكلم، ومُنطق على رواتِع الحكم، لم يغادر في المعنى الذي تضمنه مُترَدِّما، ولم يوجد متأخرا عن الوقوف دون مقتضاه ولا مُتقدما، ولم يوسع متربصا في البِدار ولا متلوما، فيه الملاذ والمعاد، وعليه الاعتماد والاستنادُ، وإليه المرجع والمفزع.
 
    وأنتم تقفون منه على حكم الله تعالى في القوم الذين ذكرهم ممن لا دين له ولا أمانة ولا عهد ولا ميثاق، المدعين للحق بالأقوال ، مع التمادي على التضييع بالأفعال، وإظهار الاستماع والقبول في الظاهر، واتباع الجهل والهوى في الباطن.
 
   وتعملون ما جعل العمل عليه في أعداء الدين والعلم وما حكم به فيهم، ولا معدِل لنا عن حكم سر البيت المتلو في آيات الله والحكمة، المستخرج الحكم من مِشكاة النبوة ومرآة العظمة الذي انتظم به الأمر على سنَن الهدى، واستقام على نهج التقوى، فمن عانده أو خالفه أو ضادَّه أو كابره أو عصاه أو ناوأه أو جهله وأهمل أمره، فقد حاق به الردى، فالانقياد لما يقضى به واجب والاستمساك بأمره حتْم، والرجوع إليه في أمر الدين والدنيا فَْرْض لآن قضاءه وأمره هو قضاء ربه وأمره وإرادته وحكمه ، وقد حكم ـ رضي الله عنه ـ هذا الحكم فيمن هاجر إليه أول مرة وأتاه عند طَمْوِ البحر واتصل به سلطان الهرج، ونزع إليه عند الابتلاء والمحنة، واضطرام نار الفتنة، لما أنَس منهم النفاقَ وعلم فيهم فساد الباطن، وشهِد منهم مكابدة الدين، والدخول فيها من غير يقين، وفتحَ باب جهادهم ومَحْوِ آثارهم، وجعله أهم وأولى من جهاد الكفرةِ المجسمين.
 
    فكيف بمن أتى بأَخَرة عند استواء شمس الهُدى على الآفاق، وإخفائها خيالات أهل العتو والاستكبار والمُرود على النفاق، ممن جاء مخافة البِيض الرِّقاق، وأتى عند بلوغ النفس إلى التَّراق، وخاف من يوم عصيبٍ يُكشف فيه عن ساق، فحينئذ أصْحب القياد وأذْعن في المَساق، وفيهم ممن ليس عقْده على الصحة والوثاق، ولا أفعاله مرضيةُ المقصد ولا جاريةٌ على الوفاق، فإمضاء هذا الحكم فيهم، بعد تحقق تلك الأوصاف عليهم أدخلُ في باب الوجوب والاستحقاق.
 
    وإن هذا الأمر العظيم، وإن كان أوسعَ الأيامَ عطفا، وأنالَهم ِرفقا ولُطفا، لا يصل من أوجب الدين قطيعتُه، ولا يحفظ من رتب الحق إذالته، ولا يرخي في الطَّول لمن استن في رعْي حِمى السُّنن، ولا يستمر على المهل لمن زاغ عن النهج والسَّنَن.
 
   فتأملوا من اشتمل عليه كتابُ الإمام المعصوم ـ رضي الله عنه ـ الذي هو هدى وتبيانٌ، ونور وبرهان، واهتدوا بهديٍ من الهداية مخصوصة، واعتصموا بحبل من العصمة عليه منقولة منصوصة، فلا مطمع من الهداية إلا منه، ولا وجهَ لأخذ العلم ومعرفة الحقيقة إلا عنه ومن لدُنه.
 
    وها نحن نقصد قصده و(نتحداه)، ونجاهد على إمضاء ما انطوى عليه معناه، وعلى هذا الحكم مضى العمل في المواضع التي نحن بصددٍ منها بعد أن مُيزوا بمثواهم، وعُرف المجرمون بسيماهم، وتبينَ كل منهم بما احتقب، وشُهد عليه بما اقترفَ وبما ارتكب، وقد فضح الله تعالى منهم جماعةً تعينوا بصحيح الأعلام، فأُخذوا بالنواصي والأقدام، وجُرعوا (مصقر) كأس الحمام بشَبَى الذوابِل وجِد الحُسام، وصُيروا عبرة لأولي الاجتراء على ارتكاب المحارم والإقدام.
 
    فامضوا ـ وفقكم الله ـ في أقطاركم على هذا النظام، واحكموا في هذه الأصناف بمثل هذه الأحكام، واحذوا حذو هذه الأفعال في طَحْر القذى عن طِرْف الإسلام؛ فمن تحقق عندكم بترك الصلاة، ومنع الزكاة، وإتيان المُحرمات، والانهمالِ في المحظورات، من المفسدين والمفسدات، واستصحابِ تلك الأحوال المقررات، أو واحدة من الأفعال المشروحة المبينات، من غير أخذٍ لهم بقولٍ ذي هوى وغَرَض، ولا بشهادةٍ يَتعرض فيها من الظِّنة أدنى عرض، فإذا صح التبيين، وصدق التعيينُ فليُؤخذوا بما احْتَقبوا، وليُسألوا بما كسبوا، وليُقابلوا عن فِعالهم مقابلةَ من لا تَصْرِفُه عن الحق الصوارفُ، ولا تعطِفُه عن امتثال أمر الله العواطفُ، بل يَمضي في إمضاء الحق بأشد العزائم ، وليعمل فيه عملَ من لا يتقي في الله لومة لائم، إلى أن يستمرَّ أمرُ الله تعالى على إذلاله، ويبدو مُحيَّا الحق سافرا عن جَمَاله، ويستقيمَ البشَرُ على الجَدَد المَهْيَع، ولا يَعْدِلون عن سُبل الاستقامة على الصراط السوي في المرعى والمشْرع، والمقْصد والمنْزع، بعون الله تعالى.
 
    ولتقدموا طلبةً أمناءَ من قِبلكم يُعلمون الناس قراءة توحيدهم وحفظَه وحفظ أُمِّ القرآن وما تيسر معها من السور، ويأخذوهم بمُداومة ذلك ومُعاهدته وحِفظه، وليكونوا من الذين يُراقبون ويُحافظون، ولا يراعون في حقوق الله تعالى ولا يُداهنون. واحذروا المداهنَة وحَذِّرُوها فإنها صاِرفةٌ عن الحق، مُزيغةٌ عن نهج الصدق.
 
   وليكن جميع ما تأتونه وتدرونه، وتقدمونه في هذا المقصد وتؤخرونه جاريا على حُكم الإمام المعصوم المهدي المعلوم ـ رضي الله عنه ـ مستندا إليه، ففعلُه هو الذي نقتدي به، ونستمسِك بسببه، ونُمضيه على وجهه، ونُجريه على رسمه، فلا نجاة إلا اتباعُه ولا أمَنة إلا في الاستمساك بأقواله وأفعاله ـ أعانكم الله على ما تقصدونه من ذلك وتَتَحرونه، ووفقكم فيما تأتُونه من ذلك وتتولَّونه، فذلك بيده ـ
 
    وليكن في هذه الأصناف القومُ الذين يكْسرون الدعوةَ ولا ينقادون إلى ما يجب عليهم من الحُكم، والقبائلُ التي تُعادي عن نصحٍ لهذا الأمر العظيم، ووقفٍ في استخراج حقوق الله، وأبانَ خبايا أهل التلبيس حتى أنَّهم يَنصِبُون لهم المكايد، وليمض عليهم هذا الحكمُ فهم أعداء الله ورسولِه.
 
   وليكن هذا القصدُ عاما شاملا منتظِما للحاضر والبادي، والنائي والداني، من الذكور والإناث، والأحرار والعبيد، وسائر أصناف الناس لا يختص قوما دون قوم، ولا جهة دون أخرى.
 
 والله تعالى يوفقكم، ويتولى بمنه عونَكم.
 
          وكتب في الثالث من ربيع الأول سنة ست وخمسين وخمسمائة.
 
 
هامش : الكلمات التي وضعت بين قوسين فيها شك من عندي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق