الجمعة، 3 أغسطس 2012

اتجاهات فلسفة التاريخ المعاصرة

فلسفة التاريخ النقدية
وإذا كانت فلسفات التاريخ التأملية التقليدية، الهيجلية والماركسية والحيوية قد هدفت لا إلى تفسير التاريخ بل إلى تسويغ تصور ضيق أحادي الجانب لمعنى التاريخ ورفعه إلى مصاف المطلق بغرض السيطرة على دفة قيادة التاريخ وتوجيه حركته الكلية صوب تحقيق الغايات الإيديولوجية القومية أو الطبقية أو العنصرية، فإن هناك فلسفات تاريخ أخرى شهدها القرن العشرون لم تتحول إلى عقائد إيديولوجية وحركات سياسية مثلما تحولت الماركسية والحيوية على أيدي أنصارهما إلى توابيت العهد الجديد. ومن الفلاسفة الذين حاولوا تأمل التاريخ والحضارة في القرن العشرين أضافةً إلى ما سبق ذكره يمكن الإشارة إلى الأمريكي (بروكس آدامز) في كتابه (قانون الحضارة والاضمحلال) 1893، والإنجليزي هـ. ج. ولز 1866-1947م وكتاب (معالم تاريخ الإنسانية) وكتاب (جرانت) (زوال الجنس العظيم، 1916)([1]), وكتاب الفيلسوف الوجودي الألماني كارل ياسبرز 1883-1956 (أصل التاريخ وغايته). ويمكن عد كتاب جان بول سارتر 1905-1980م (نقد العقل الجدلي) 1960 رؤية فلسفية للتاريخ من وجهة نظر وجودية ماركسية، وقد تنوعت الكتابات الفلسفية في التاريخ والحضارة، فمنذ بداية القرن العشرين، أخذت قطاعات واسعة من المجتمع الأوربي تفقد الثقة بقدرة الحضارة الغربية على تجديد نفسها، فمنذ ذلك الحين توالت الكتابات المتشائمة عن الحضارة ومستقبلها، مثل كتاب فرويد (عسر الحضارة) وكتاب آرنست كاسير (المدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية) كتابات مدرسة فرانكفورت حول الإنسان والحضارة، وكولن ويلسون (سقوط الحضارة) وروجية جارودي (حوار الحضارات) إلى (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) لفوكوياما، و(صدام الحضارات) لهنتجتون، و(حضارة الموجة الثالثة) لتوفلر، وغير ذلك من الآراء الفلسفية الكثيرة التي لا يتسع المجال لذكرها.
وقد تطورت فلسفة التاريخ النقدية في اتجاهين مختلفين، الاتجاه الوضعي التجريبي والاتجاه المثالي التاريخي([2]). وهما امتداد للنزعة الطبيعية والنزعة التاريخية منذ القرن السابع عشر وعصر التنوير، إذ حاول أنصار النزعة الطبيعية أمثال فيكو وفولتير وكوندرسية، تطبيق مناهج العلوم الطبيعية في حقل الدراسات التاريخية، وأصبحت هذه النزعة تنشد أن يصبح التاريخ علماً بالمعنى الفيزيقي للعلم من حيث المنهج والموضوع والأحكام:
1.       منهج تجريبي استقرائي. وإن كان غير مباشر في حالة التاريخ، كما هو غير مباشر في علم الفلك.
2.       حشد مادة تاريخية فيها حصيلة هائلة من المعطيات الجزئية والتفصيلات التاريخية.
3.       حصر وتحديد الوقائع المراد دراستها زماناً ومكاناً حتى يستطيع الباحث أن يستوفيها بالدراسة.
4.       الوصول إلى أحكام كلية تمكن من الإفادة منها في الحاضر والمستقبل([3]).
لقد كان هدف أنصار النزعة الطبيعية كما هو واضح فك الاشتباك بين مناهج اللاهوت والفلسفة ومناهج العلم الإنساني، وكما انحسرت الفلسفة من حقل الدراسات العلمية الطبيعية لابد لها من أن تنحسر من حقل الدراسات الإنسانية، وقد كان عالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت 1798-1857م أول من طرد الفلسفة من آخر معاقلها حينما نادى بتأسيس (فيزياء اجتماعية) تدرس المجتمع والإنسان والتاريخ في حركته وسكونه بالاستناد إلى المنهج الوضعي الاستقرائي، إذ اعتقد أن التقدم البشري قد سار في مراحل ثلاث: اللاهوتية والفلسفية، والعلمية، والمرحلة الأخيرة تقدم الأساس الصلب لوحدة جميع العلوم الفلكية والفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والفيزيولوجية والسوسيولوجية([4]).
وتهدف الفلسفة الوضعية إلى إحداث إصلاحات جوهرية في تعزيز قدرة الإنسان وتمكينه من السيطرة على الظواهر الاجتماعية بإشاعة الروح العلمية في جميع مناحي الحياة الإنسانية وإخضاع ظواهر التاريخ للبحث العلمي الموضوعي بعيداً عن الأهواء والآراء المتصارعة وبعيداً عن المنطق والخرافات والأساطير التي تسوغ ولا تفسر ولا تحل المشكلات ولا يكون التفوق على ألذات إلا بمعرفة قوانين سلوك الإنسان المعرفة التي لا تكون إلا بازدهار الحضارة سياسة وأخلاق وتشريع، وإذا ما عرف الإنسان الأسباب الوضعية الموضوعية التطورية التاريخية سقطت آلهة وخرجت التماثيل من المعابد ودخلت المتاحف، ليبدأ عصر (الديانة الإنسانية)([5]) الوضعية الجديدة، التي تجعل من الإنسان منطلقاً وغاية لكل فكر وسلوك. لقد مارست هذه النزعة الوضعية أثراً كبيراً على المؤرخين وفلاسفة التاريخ في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين أمثال المؤرخ الألماني رانكة (1795-1886م)، الذي أعلن (ميلاد التاريخ العلمي) واشتهر بقوله (التاريخ هو معرفة ما حدث بالضبط)([6]). وقد عبر المؤرخ الإنجليزي (هنري توماس باكل) في كتابه (تاريخ الحضارة الإنجليزية) (1867)عن رغبته في "أن يحقق للتاريخ شيئاً يساوي ما حققه الباحثون في العلوم الطبيعية"([7]). وذهب كارل همبل إلى أن التاريخ يمكن أن يستوعب فردية وقائعه بدرجة لا تقل ولا تزيد على الطبيعة والكيمياء، وأن المؤرخ يستطيع أن يفسر اغتيال القيصر تماماً كما يفسر الجيولوجي زلزالاً، إذ يبين أن الحادثة لم تقع مصادفة وإنما على وفق ظروف وأسباب محددة. فمنطق التفسير واحد في جوهره في كل من التاريخ والعلوم الطبيعية، وليست النبوءة في التاريخ تكهنية ولكنها تنبوء علمي قائم على افتراض قوانين عامة لا غنى للمؤرخ عنها"([8]).
وقد كانت هذه هي رغبة الكثير من المؤرخين الإنجليز أمثال ج. زوفي 1821-1892 الذي تحدث في (الجمعية التاريخية الملكية) بلندن عن ضرورة إخضاع (جميع ظواهر التاريخ بواسطة منهج علمي دقيق لقوانين العلية (السببية) وذلك باستبعاد الصدفة والقدرية وحرية الاختيار، إذ أوضح "أن أهم ما يجب على المؤرخ أداؤه أن يظهر بصورة مقنعة أن الحقائق لم يكن في الإمكان حدوثها بطريقة خلاف التي حدثت بها، وأنه لو أن الأسباب نفسها عملت عملها، لأدت دون مناص إلى إحداث النتائج نفسه للمرة الثانية"([9]) ويذهب الإنجليزي بيري 1861-1927 إلى أن التاريخ قد عانى كونه جزءاً من الأدب بينما التاريخ علم لا أكثر ولا أقل، وأن وقائعه يمكن أن تدرس موضوعياً كوقائع الجيولوجيا والفلك، أي أن تدرس على أنها (أشياء) خارج ألذات إذ لا يتسنى قيام علم على أساس ذاتي، وأن الوقائع التاريخية يمكن أن تجمع وتفسر كما هو الحال في أي علم([10]).
وقد انتقد فيلسوف العلم المعاصر كارل بوير 1902-1994م في كتابيه (عقم المذهب التاريخي) و(أسطورة الإطار) انتقد الفلسفات الكلية التأملية التي تدعي بأنها اكتشفت قوانين التاريخ الشاملة، ذلك لأنها تقوم على فرضيات غائية ومفاهيم مجردة لا يمكن التحقق من صدقها أو كذبها بالمنهج العلمي الاستقرائي([11])، ودعا بوير إلى تطبيق منهجية العلوم الطبيعية في الدراسات الاجتماعية والتاريخ، وهو بذلك من أنصار الوضعانية في التاريخيات حسب عبد الله العروي وقد وجدت الوضعية في الولايات المتحدة الأمريكية أرضاً خصبة لانتشارها، ذلك لما يمتاز به المجتمع الأمريكي من نزعة حسابية كمية([12]) وهذا ما عبر عنه فيلسوف التاريخ الأمريكي (هنري آدامز) في بحثه بعنوان (نزعة التاريخ) 1894 بقوله "لابد من ترسيخ الطريقة التي ينبغي على المجتمع الإنساني سلوكها بتأكيد حسابي" وقال أيضاً "سوف يشترك علم النفس والفسيولوجيا والتاريخ لإثبات أن للإنسان تطوراً ثابتاً وضرورياً مثل تطور الشجرة" ويعلق آرثر هيرمان أن دراسة التقدم في الاعتقاد الأمريكي كانت تتطلب حسابات كمية بأسلوب كونت، وقد اعترف آدامز بأن كونت هو الكاتب الذي أثر في تفكيره الخاص([13]). وفي هذا السياق يقول آلبان ويدجوري أن ج. ب. آدامز (1851-1925م) كان يرى أن "التاريخ لا يختلف عن العلوم الطبيعية وأن (الحقائق الموضوعية التي يتولى المؤرخ معالجتها، هي الأعمال الماضية التي قام بها الجنس البشري يحدد حدوثها قوى تعمل على وفق قوانين ثابتة، وتماثل في صفاتها وطرق عملها القوى التي تعمل في فلك العلوم الطبيعية والفيزيائية"([14]). وقد وصف المؤرخ الأمريكي ف. ج. تيجارت 1870-1946 هذه الطريقة الوضعية في دراسة التاريخ بـ (التاريخ الجديد) إذ كان يقول "لكي نفهم تاريخ حضارة ما علينا بدراسة تجربتها السياسية والاقتصادية والثقافية وكل ما يتصل بها من حقائق تاريخية، وذلك باستخدام المنهج العلمي الاستقرائي"([15]).
وفي فرنسا ذات التراث الوضعي اتخذت فلسفة التاريخ النقدية الوضعية مسارات أكثر راديكالية وجذرية عند الفلاسفة البنيويين أمثال كلود ليفي شتراوس 1905-1981م وميشيل فوكو 1928-1984م وبول فيين إذ جرى دمج المنهج البنيوي بالوضعية في الدراسات الإنسانية، وقد ذهب ليفي شتراوس إلى القول "أن التاريخ ليس إلا بحثاً مكملاً للأنثروبولوجيا، فالأول يظهر مراوحة المجتمعات في الزمن والثاني في المكان"([16]).
ويكشف شتراوس عن الطبيعة المتناقضة للمعرفة التاريخية ذلك لأن الواقعة التاريخية تطوي تقابلاً مزدوجاً، فهي ما قد حصل في الماضي، والسؤال هو أين قد حصل هذا الشيء؟ فإن المؤرخ هو الذي يكون المعطى بفعل التجريد، فلابد للمؤرخ (صانع التاريخ) من أن يختار، يفصل ويقص كي لا يواجه تاريخاً كلياً هو أشبه بالسديم، وهو بذلك يغض الطرف عن عدد لا حصر له من الأحداث الفردية والوقائع الجزئية الصغيرة، وينتهي شتراوس إلى إنكار الطبيعية الموضوعية للتاريخ، فالتاريخ ليس أبداً التاريخ لذاته بل التاريخ بالنسبة ألي أو لنا، أو لك أو لهم. فتاريخ الثورة الفرنسية لا يكون كما نعلم في معنى واحد عند اليعقوبي والأرستقراطي والجبلي على السواء([17]). هذا معناه أن كل مؤرخ يكتب التاريخ ويصنعه بما تمليه عليه اهتماماته وموقفه وموقعه في المجتمع الذي يعيش فيه.
ويدحض شتراوس وهم وحدة التاريخ وصيرورته المتصلة فما معنى أن يبدأ التاريخ الذي يرمز بتحقيبه من عشرة أو مئة ألف عام ثم يستأنف سلم الألوف، من الألف الثالث أو الرابع ثم أخيراً على صورة تاريخ قديم (تحشر) أحداثه بحسب مزاج المؤرخ في صفحات عدة ([18]), ويخلص شتراوس في حديثه عن مأزق الوعي التاريخي إلى تأكيد أن الوعي التاريخي قد يفضي إلى تدمير التاريخ، فالتاريخ لا وجود له بالمعنى الشامل للكلمة، هنالك تواريخ جزئية فقط.
وقد بلغت أزمة المعرفة التاريخية مع ميشيل فوكو أبعادها القصوى، إذ يعلن أن الكائن البشري لم يعد له تاريخ أو بالاحرى، فإنه يجد نفسه منذ أن يتكلم ويعمل ويعيش قد أصبح متداخلاً في نسيج وجوده الخاص مع أكثر من تاريخ، لا هي تابعة له ولا متجانسة معه([19]),إن البنوية ترفض وحدة التاريخ واضطراده باسم البنية، فالإنسان منذ أقدم العصور يجد نفسه محكوماً ببنيات ثابتة([20]) متكررة لا فكاك منها، مثل بنية القرابة، وبنية اللغة وبنية السلطة، وأن تكون جزءاً من التاريخ، عند فوكو يعني أن تكون واقعاً في فخ (محدودية) مصطنعة، إنها محدودية التقليد والتراث الذي سبق وأن أدركها كل من أفلاطون والغزالي وبيكون وهيوم وديكارت، وفي معظم كتاباته (الكلمات والأشياء) و(حفريات المعرفة) و(الرقابة والمعاقبة) و(تاريخ العيادة) و(تولد الذات) سعى فوكو إلى تفكيك([21]) تلك البنى الهائلة في المجتمع البرجوازي الغربي وجميع قيمها "علاقات الأسرة بالأطفال المتمركزة حول فكرة سلطة الأبوية، علاقات الذنب – العقاب المتمركزة حول فكرة العدالة المباشرة، علاقات الجنون – الفوضى المتمركزة حول فكرة النظام الاجتماعي والأخلاقي. كل ذلك من صنع القوة الجامحة لعقل المجتمع الغربي الذي يقوم بالتصنيف والتمييز والعزل"([22]), هكذا يصبح التاريخ عند فوكو وهماً يكبل الإنسان ويحيل بينه وبين تحقيق حياته التي لا تحتكم في طبيعتها للعقل المفترض، عقل الحضارة الغربية التي يجب تفكيكه. هذا ويذهب المفكر الفرنسي بول فيين إلى القول: "نحن بأجمعنا كنا وضيعين واسميين وتعدديين وأعداء للكلمات الاصطلاحية، أما هو فأول من حقق ذلك على أكمل وجه (يقصد فوكو) أنه أول مؤرخ وضعي بالكامل"([23]), وخلاصة ثورة فوكو في منهج المعرفة الإنسانية يمكن إجمالها في:
1.   إنكار التسلسل الخطي في التاريخ، ومن ثم نفي وحدة التاريخ وغايته وقوانينه.
2.   رفض فلسفة التاريخ، وعلمية المعرفية التاريخية.
3. إنكار وجود التاريخ الكلي أو الشامل، والحديث عن تواريخ أو ممارسات أو علاقات قوى تتصارع في سبيل إرادة القوة والمعرفة([24]).
وقد عرض بول فيين تصوره الوضعي الفوكوي للمعرفة التاريخية في كتابه (أزمة المعرفة التاريخية) وخلاصة ما قاله:
1.     أن فكرة التاريخ (بالحرف الكبير) هي حد أقصى لا يمكن بلوغه.
2.     إن التاريخ العلمي هو أمر مستحيل بسبب الشروط القهرية للمعرفة.
3.     ليس التاريخ إلا رواية للأحداث على لسان المؤرخ لا على لسان الشخصيات نفسها في أثناء الفعل.
4.     التاريخ هو مجمل أو كل يفتقر إلى الاستمرارية والوحدة.
5.     تتحدد وظيفة التاريخ وهدفه في جعل الأحداث قابلة للفهم.
6.  العلوم الإنسانية الأنثروبولوجيا والسيوسولوجيا والسياسة والاقتصاد والإدارة وعلم النفس وعلوم اللغة أخذت تحل محل التاريخ([25]).
هكذا نلاحظ أن فلسفة التاريخ النقدية قد اهتمت بالبحث في طبيعة المعرفة التاريخية ومناهج البحث التاريخي، وعلاقة التاريخ بالعلم والفلسفة، وكيفية الوصول إلى الحقيقة التاريخية وغير ذلك من الأسئلة ذات الطبيعة المنهجية، وهي بذلك تعد الشق (المنهجي)([26]) من فلسفة التاريخ، أو أبستمولوجيا التاريخ. وكانت المشكلة التي واجهتها فلسفة التاريخ النقدية، هي كيف يمكن تطبيق منهج العلوم الطبيعية على التاريخ؟
وتأتي اعتراضات الاتجاه التأملي في فلسفة التاريخ النقدية ضد الاتجاه الوضعي في جملة من النقاط أهمها:
1.     إن التاريخ يتعامل مع الاستثنائي في حين يتعامل العلم مع العمومي.
2.     التاريخ لا يعلم أي درس، بل يتحدث (عما لن يراه أحد مرتين أبداً).
3.     التاريخ غير قادر على التنبؤ.
4.     التاريخ ذاتي ضرورة، لأن الإنسان يقوم بملاحظة نفسه.
5.     التاريخ على نقيض العلم، يعالج قضايا الدين والأخلاق([27]).

الاتجاه التأملي المثالي
أبرز من مثّل هذا الاتجاه في فلسفة التاريخ النقدية المعاصرة بندتو كروتشة 1866-1952، والإنجليزي كولنجوود 1889-1943م، وولش وإدوارد كار 1892-1970 وريمون آرون وغيرهم. وهو امتداد للنزعة النسبية عند علماء الاجتماع الألمان مثال جورج زيمل 1958 1918، وفلهم دلتاي 1833-1911، وماكس ڤيبر([28]), ينطلق أنصار هذا الاتجاه النقدي التأملي من الفصل التام بين العلوم الطبيعية والعلوم التاريخية ورفض الفلسفة الميتافيزيقة والعلموية الكلية. ويرى الإيطالي كروتشة أن فلسفات التاريخ التقليدية المثالية "والمادية ذات طابع أسطوري غيبي لأنها تهدف إلى الكشف عن خطة في العالم"([29]). في حين يعتقد كروتشة بأنه "لا مجال للتنبؤ في التاريخ لأن المعرفة التاريخية تتعلق بما هو جزئي مقيد بحدود الزمان والمكان. وإذا كان أعظم القواد – وليكن نابليون مثلاً – لم يستطع أن يحدد مصير معركة ما منذ بدايتها فكيف يمكن للمؤرخ أن يحدد مستقبل الإنسانية؟"([30]).
والفرق بين العلم والتاريخ هو الفرق بين الممكن والواقع، بين الكلي والجزئي، بين المنهج الاستقرائي والمنهج الحدسي, ويوحد كروتشة بين الفلسفة والتاريخ، فالفلسفة هي التاريخ ذاته والتاريخ هو الفلسفة، وهنا نلاحظ أثر هيجل في كروتشة الذي لم ينكره. وخلاصة رأي كروتشة يتمثل في (التاريخية المطلقة) كما عرضه في كتاب (الفلسفة بوصفها تاريخية مطلقة) 1939([31]), والفيلسوف ليس لديه طريقة أخرى لمعرفة الإنسان إلا بإدراكه الإنسان من خلال الواقعة التاريخية، وهذه المعرفة هي في الوقت نفسه نشاط فكري لأنها تستلزم قدرة الفيلسوف على الحدس والاستنباط. وبهذا المعنى تتضح فكرة كروتشة (ليس الفلسفة إلا مناهج للتاريخ) والمعرفة التاريخية هي توافق النظرية والممارسة الفكرية والعملية([32]), والتاريخ معرفة ذاتية لذهن حي، فليس موضوع التاريخ هو الماضي ولكنه الماضي الذي نملك عليه دليلاً تاريخياً والذي يصبح بعد ذلك حياً في ذهن مؤرخ يعيش في الحاضر، وهكذا يصبح التاريخ حدساً وليس مجرد فكر. حدساً يحيا فيه الماضي في المؤرخ الحاضر، ويبلغ من ذاته درجة الوعي لا مجرد المعرفة الباردة الظاهرة، وأن التاريخ الذي يقف عند مجرد الوصف أو السرد جسم بلا روح، فإن نفخ فيه المؤرخ من روحه فقد بعث الحياة في الماضي الميت، ومن ثم فإن: (كل التاريخ تاريخ معاصر)([33]).
ومن هذه الخلاصة الفلسفية ينطلق كولنجوود في كتابه (فكرة التاريخ) الذي خلص فيه إلى "إن فلسفة التاريخ لا تهتم بأي من الماضي في ذاته، أو بتفكير المؤرخ حول الماضي ذاته وإنما بالأمرين معاً في علاقتهما الجدلية إن الماضي الذي يقوم المؤرخ بدراسته هو ليس الماضي الميت ولكنه بمعنى ما، ماضٍ لا يزال يعيش في الحاضر"([34])، بيد أن ما جرى فعلاً في الماضي هو فعل ميت، أي لا يعني لدى للمؤرخ شيئاً ما لم يفهم الفكرة التي خلفه. ومن هنا فإن التاريخ بكامله هو تاريخ الفكر والتاريخ هو إعادة تمثل الفكر في ذهن المؤرخ. وبهذا المعنى يقول البروفسور أوكشوت الذي يتفق مع كولنجوود (التاريخ هو تجربة المؤرخ، إنه ليس من صنع أحد باستثناء المؤرخ، وكتابة التاريخ هي الطريقة الوحيدة لصنعه ([35]), وقد وجدت هذه النزعة الحدسية في النظر إلى التاريخ التي تلح على أهمية ألذات مقابل الموضوع، المؤرخ مقابل الحقائق والوقائع التاريخية، وجدت صدى عند الفيلسوف الوجودي المعاصر كارل يسبرز 1883-1969 الذي يرى أن التاريخ حدث وشعور بالحدث، وهو وحدة ألذات والموضوع، الكلي والفردي، الباطن والظاهر، الماضي والحاضر. إنه صيرورة دائمة لحياة الإنسان([36]), وقد بلغت أزمة التاريخ والمعرفة التاريخية أوجها في منتصف القرن العشرين عند عدد من المؤرخين أمثال الإنجليزي جفري باراكلاف، من جامعة أوكسفورد الذي كتب تحت تأثير الإحساس بالأزمة يقول: "إننا مهاجمون بإحساس من عدم الثقة بسبب شعورنا بأننا نقف على عتبة عصر جديد لا تزودنا فيه تجاربنا السابقة بدليل أمين لسلوك دروبه، وإن أحدى نتائج هذا الموقف الجديد هو أن هذا التاريخ ذاته يفقد، إن لم يكن قد فقد سلطانه". هذا وقد كانت قطاعات واسعة من الفئة المثقفة الأوروأمريكية قد فقدت الثقة بقيمة التاريخ والمعرفة التاريخية، وهذا ما أفصح عنه المؤرخ البريطاني ج. هـ. بلومب في كتابه (حيرة المؤرخ) عام 1964 بقوله "... أن ليس للتاريخ معنى أو فاعلية أو رجاء، لقد اندثرت فكرة الرقي المطلقة بين المشتغلين بالتاريخ، وأن 90% منهم يرون أن العمل الذي يمارسونه لا معنى له على الإطلاق"([37]). وقد بلغ هذا الموقف المتشائم من لا جدوى التاريخ عند المؤرخ الأمريكي (دافيد رونالد) من جامعة هارفارد حد الرفض للتاريخ في مقال يحمل الاستفزاز والتحدي 1977 بعنوان (تاريخنا بلا أهمية) أكد فيه عدم فائدة التاريخ الحاضر والمستقبل، وأعلن: "إن التاريخ يظهر مقدار ضعفنا وأننا لا نتعلم من أخطاء الماضي، وما أقل تأثيرنا فيما ينزل بنا من أحداث وما أشد عجزنا في قبضة قوى طبيعية أساسية هي التي تشكل الوجود الإنساني"([38]).
وقد حاول المؤرخ الأمريكي شارلس أوستن بيرد 1874-1948م أن يفسر ما دعاه المؤرخ الأمريكي (هوسي) بـ (أزمة التاريخ) عام 1932، بقوله "أن جوهر الأزمة في الفكر التاريخي ينبع من فقدان اليقين اللاهوتي، والعلم الذي انتزع يوماً ما اليقين اللاهوتي عاجز أن يقدم لنا وصفة أو نظاماً مماثلاً للسياسة القومية وللسلوك، فنحن محرومون من أي تفسير أو دليل واضح بين، إننا محرومون من اليقين الذي اعتقدنا يوماً ما أن العلم سييسره لنا، ومحرومون من الأمل في أن تكشف لنا طبيعة الأشياء عن اليقين، وبات لزاماً على البشر أن يسلموا بقابلياتهم للخطأ ويرتضوا العالم مكاناً للمحاولة والخطأ"([39]). وقد تمخضت أزمة التاريخ والمعرفة التاريخية عن إعلان ثورة منهجية جديدة تعيد النظر بالتاريخ ومناهجه التقليدية وتدعو إلى تأسيس (مدرسة التاريخ الجديدة) بتحويل اهتمام المؤرخين من عرض الموضوعات وسرد الأحداث ووصف الوقائع إلى معالجة المشكلات التي كانت وقفاً على العلماء الاجتماعيين والاقتصاديين والأنثروبولوجيين وبدلاً من دراسة التاريخ السياسي والتاريخ الاجتماعي والتاريخ الاقتصادي والتاريخ الحضاري.. الخ أخذ المؤرخون يبحثون في الماضي ذاته والمشكلات والقضايا التي تدرسها العلوم الاجتماعية والإنسانية،  أي دراسة الاقتصاد التاريخي والدين التاريخي، والاجتماع التاريخي والعلم التاريخي، وكانت النتيجة كما يرى (تيودور هيمرر) "أن شهد البحث التاريخي أكبر ثورة عرفها منذ بدايته قبل أكثر من خمسة وعشرين قرناً مضت"([40]).
وإذا كانت وظيفة التاريخ في الماضي كما حددها أبو التاريخ هيرودت هي تسجيل الأحداث المهمة في حياة الشعوب كي لا تضيع في النسيان، فإن مثل تلك الوظيفة لم يعد لها وجود اليوم في زمن الثورة المعلوماتية، زمن الصحافة اليومية والتصوير والسينما والراديو والتلفزيون والفيديو، والحاسبات والإنترنت، وازدهار الكتابة. كل تلك الوسائل والأدوات حررت التاريخ من وظيفته القديمة في تسجيل وتدوين الأحداث، وجعلته يبحث في وظيفة جديدة تتمثل في بحث المشكلات وتفسيرها بالاستناد إلى مناهج العلوم بالتعاون مع العلوم الإنسانية كافة. وفي هذا السياق يمكن أن نرى في فيلسوف العلم المعاصر المجري إمري لاكاتوش 1922-1974م مثالاً واضحاً على المعنى الجديد للتاريخ، إذ حاول هذا الفيلسوف أن يفسر العلم من خلال النظر إلى تاريخه مشدداً على ضرورة الربط بين فلسفة العلم وتاريخ العلم، وأن فلسفة علم دون تاريخ علم خواء، وتاريخ علم دون فلسفة علم عماء([41]), هكذا اكتسبت أزمة التاريخ في القرن العشرين بعدين أساسين: البعد الأول أزمة التاريخ الواقعي الحضاري, البعد الثاني أزمة المعرفة التاريخية.


([1]) آرثر هيرمان، فكرة الاضمحلال، ص230.
([2]) وولش، مدخل لفلسفة التاريخ، ص17.
([3]) أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، ص18.
([4]) هنري إيكن، عصر الإيديولوجيا، ص159.
([5]) توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ج4، ص .
([6]) شاكر مصطفى , التاريخ هل هو علم؟ مجلة عالم الفكر الكويتية، المجلد الخامس، العدد الأول، إبريل – يونيو، 1974، ص188.
([7]) المصدر نفسه، ص188.
([8]) أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، ص26-27.
([9]) آلبان. ج ويدجري، التاريخ وكيف يفسرونه، ص219.
([10]) كولنجوود، فكرة التاريخ، ص267-269.
([11]) كارل بوير، بؤس الإيديولوجيا، ترجمة عبد الحميد صبرة، دار الساقي، بيروت، ط1، 1992، ص45.
([12]) عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، ص379.
([13]) آرثر هيرمان، فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي، ص200.
([14]) آلبان ويدجوي، ص219.
([15]) حسين مؤنس, التاريخ والمؤرخون, ص106.
([16]) شتراوس، الفكر البري، ترجمة نظير جاهل، المؤسسة الجامعية، بيروت، 1987، ط2، ص307.
([17]) شتراوس، المصدر نفسه، ص309.
([18]) بول فيين، أزمة المعرفة التاريخية، ص37.
([19]) آرثر هيرمان، فكرة الاضمحلال، ص422.
([20]) روجية جارودي، البنيوية فلسفة موت الإنسان، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط3، 1985م، ص50.
([21]) جيل دلوز، المعرفة والسلطة مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1987، ص64.
([22]) ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة مطاع الصفدي وآخرون، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط1، دون تاريخ، ص210.
([23]) بول فيين، أزمة المعرفة التاريخية، ص309.
([24]) جيل دلوز، المعرفة والسلطة، ص150.
([25]) بول فيين، أزمة المعرفة التاريخية، ص35.
([26]) أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ.
([27]) إدوارد كار، ما هو التاريخ؟ ص68.
([28]) ريمون آرون، فلسفة التاريخ النقدية, ص227.
([29]) غايتان بيكون، آفاق الفكر المعاصر، ص365.
([30]) أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، ص34.
([31]) عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، ص308.
([32]) غاتيان بيكون، المصدر نفسه، ص360.
([33]) أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، ص35.
([34]) كولنجوود، فكرة التاريخ، ص32.
([35]) إدوارد كار، ما هو التاريخ، ص13.
([36]) عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، وكالة المطبوعات، الكويت، ط1، 1975، ص313.
([37]) تيدور, س. هيمور, تأملات حول التاريخ والمؤرخين, عرض وتحليل مصطفى العبادي, مجلة عالم الفكر، المجلد العشرون، العدد 1، يونيو، 1989، ص260.
([38]) المصدر نفسه، ص262.
([39]) دافيد مارسيل، فلسفة التقدم، ص178.
([40]) تيودر. س هيمور, المصدر نفسه, ص265.
([41])السيد نفادي, اتجاهات جديدة في فلسفة العلم, مجلة عالم الفكر الكويتية، مجلد 25، العدد الأول، يوليو – سبتمبر 1996،ص 91.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق