الجمعة، 10 أغسطس 2012

رسالة أبي عبد الله بن عياش في الفتح والبشرى بالنصر، عقب انتصار الموحدين في معركة الأرك سنة 591 هج

         
         أدب الرسائل والكتابة الفنية على عهد الدولة الموحدية:
 
تقديم:
 
    كانت الكتابة الفنية من أهم خطط الدولة الموحدية بالمغرب الأقصى، وأجلى مظاهرها الحضارية، والأكثر قدرة على استيعاب مشروعها الحضاري المتميز.
 
   وقد حرص الموحدون على استنفار أمهر كتاب العدوتين: المغربية والأندلسية للاضطلاع بمهمة التعبير عن ذلك المشروع المهم في تاريخ المغرب، كما حرصوا على الاحتفاظ لفن الكتابة والإنشاء بمستواه العالي الرفيع، مضمونا وأداء، كما تدل على ذلك هذه النصوص التي سنعمل على عرضها تباعا، في هذه الزاوية المخصصة لأدب الرسائل والكتابة الفنية على عهد الدولة الموحدية، سواء في جانبها الرسمي المتعلق بحياة الدولة، أو في جانبها الخاص المتعلق بحياة الكتاب الرسميين التابعين لأجهزة الدولة، أو بحياة غيرهم من الكتاب البسطاء العاديين: 
       
       أ ــ الرسائل والكتابات الرسمية:

           1)  رسائل الفتح  والبشرى بالنصر:
  
   وهي أهم أنواع الرسائل الرسمية، وتأتي دوما في طليعتها، كما ذكر القلقشندي في موسوعته الضخمة( صبح الأعشى في صناعة الإنشا ) لعظم شأنها، في التعبير عن هيبة الدولة.
  وتتميز رسائل الفتوح بإسهابها في وصف المعارك، وبتفننها وإحكام صنعتها، ووفائها في التعبير عن حاجات الدولة المختلفة في الحرب والسلم وعند المحن والفتن، وكل ما يتبع ذلك من مستلزمات آداب الخدمة الديوانية الرسمية  المختلفة، في  تقديم المشورة، وفي التدبير والتسيير، وفي حفظ  ألقاب ونعوت ومراسيم الدولة، والتنويه بشعاراتها السياسية والدينية والمذهبية والفكرية،  كما في هذا النموذج الأول: 
          
ــ رسالة أبي عبد الله محمد بن عبد العزيز بن عيَّاش عن يعقوب المنصور، ضمن ”مجموع رسائل موحدية”  لبروفنصال، الرسالة رقم: 35

    من أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين ــ أيدهم الله بنصره، وأمدهم بمعونته ــ إلى الطلبة والموحدين والأشياخ والكافة بفاس وعملها ــ أدام الله كرامتهم بتقواه، ويسرهم من العمل والشكر لما يتقبله ويرضاه ــ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
    والحمد لله الفتاح العليم، المنزه بسلطان العقل عن التثليث والتجسيم، حمدا يكون إلى العوارف سعيرا، الواحد الذي استحال عليه جواز العدد، واتخاذ الصاحبة والولد، فتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، القاذف بالحق على المُبطِّلين، وبالصدق على المُكذبين، ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا، مثيب من توجه إليه وتوكل عليه فتحا قريبا ومغانم كثيرة وكان ربك قديرا، ومنجده من السبع الطباق، بمن يغني عن السُّمر العوالي والبِيض الرقاق. وكفى بملائكة السماء ظهيرا؛ والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه المرسل شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، مطلع الآيات الكُبر، على مراقب السمع والبصر، فطوبى لمن كان سميعا بصيرا، والمجاهد بجيش القرآن ، من دعاهم إلى السجود للرحمان، فقالوا: ( أنسجد لما تأمرنا ) وزادهم نفورا، كاسر الصلب والأصنام، ومعجز فرسان المنطق ورؤساء الكلام، حيث لم تَعدم البلاغةُ لسانا ولا الرمح مُديرا؛ وعلى آله وصحبه الذين اتبعوه قولا وفعلا ، فكان حكُمهم فاصلا، وسيفُهم قاصلا، ولواؤهم منشورا؛ والرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، معيد الحق وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، والمنشر بنور هدايته، وظهور رايته، قلوبا سكنت من الجهل قبل القبور قبورا، والمحيي بخاصَّي صفحِه وبيانه نفوسا قابلةًَ والمهلك بحادَّي سيفه وسنانه قوما بورا؛ وعن صاحبه وخليفته سيدنا الإمام أمير المؤمنين الذي اختاره الله سجيرا، وللمؤمنين أميرا، متلقي راية الإمامة في مغرب الشمس والله قد أعد له في مشرقها منبرا وسريرا، والكاشف ما دجا من الفتن المُدْلَهِمَّة، والخطوب المُصِمَّة، وقد أمسى جنح ليله ذابلا وأصبح شرها مستطيرا؛ وعن سيدنا الإمام أمير المؤمنين بن سيدنا الإمام أمير المؤمنين متقبل آثاره، وباسط أنواره، يقْرُوها أثرا أثرا ويبسطها نورا نورا، والمُعطى من الكمال، وشرَف الخِلال، ما يرد الذهن كليلا ويصرف الطَِّرب حسيرا، والمُعان بالنصر الذي لم يزل النهار مواكبا والليل سميرا.
 
   وإنا كتبناه إليكم ــ وألسن الأقلام، تعجز عن حقيقة الإعلام، لعلمها بأن إلينا في صنع الله العظيم سبحانه سبحا طويلا، وأن لسان هذه الحال الشريفة أقوم قيلا وأكبر تفصيلا ــ من حضرة إشبيلية ــ حرسها الله ــ والذي نوصيكم به تقوى الله تعالى، والعمل بطاعته، والاستعانة به، والتوكل عليه، وأن تعلموا أن الجيوش وإن كثرت جنودها، وانتشرت ذات اليمين وذات الشمال بنُودها، فلا ثقة إلا بالواحد الذي يغْلب، والكتائب الباغية كثيرة الأعداد، والاستظهار إلا بسيفه الذي يضرب، والسيوف في مضاجع الأغماد، وإلا فما يؤثر الخميس العرمرم إذا لم يكن السَّعد من نَفَره، وما تغني شجر القنى إذا لم يكن العون من شرفه والفتح من ثمره، وما تفيد عيونه الزرق إذا كان صنع الله محجوبا عن بصره؛ وكلا ولا حول ولا قوة إلا بمن بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، ولا نيل ولا نُجعة إلا من وعده، لا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون؛ والحمد لله عودا بعد بدءٍ على المواهب التي يتلاحق مُوَحَّدُها ومُثَنَّاها، والعطايا التي أنبأت بها الغيوب فلو تنكرت لعرفت بسيماها.
 
    وإلى ذلكم ــ أوزعكم الله شكر النعمة ــ فإن الله سبحانه لما كسر طاغية الروم الكسرة التي أعزت الحنيفية، وأذلت النصرانية، وفتح من معاقله الأَشِبَة ما فتح، ومنح عباده من أنفاله وأسلابه ما منح، أجفل ــ لعنه الله ــ إلى قشتالة ــ فتحها الله ــ إجفال الظَّلِيم، وقد أبقى منه سيف الله ما يُبقي الصباح من الصَّريم، والرياحُ من الهشيم.
 
 وفَصَل الموحدون وشُكْرُ الله ملءُ حقائبهم، وصُنْعه الكريمُ حسْبُ رغائبهم، وشرعةُ العود متمَأََرُ قناهم وقواضِبهم، لا بتمَنِِّ للقاء العدو، ولا بتصويب إلى مَهْواة الكبر والعلو، بل بمجرد الافتقار إلى الواحد الذي ينصر من ينصره، ويزيد الإحسانَ من يشكره، ومحض الثقة بقوله تعالى وهو أصدق القائلين: ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ).
 
    ولم يزل الكافر يرغب في السلم رغبة مَنْخُوب الفؤاد، وموتور الأمل، مقطوع السبب، وتكررت مخاطباته فَرُدت بالخواتم على أدراجها، مُشْعِرةً بأن استخارة الواحد القهار على غزوه بِسبيلٍِ ألجامُها على الله وأسْراجها، وما يُصنع بالرغبات المذْحُولة والحِبال الرَّمَائم، وصنع الله الذي عود عباده مقرون بنواصي العزائم، وجانب الظفر الذي منَّ به سبحانه أشد وأوثق، ونَسبُ القتال في شرف الإسلام وأهله أكرمُ وأعرق.
  
    وعند ذلك تحرك الموحدون على ما جاءت به السنة الحنيفية من الإعداد والإرهاب، عالمين بأن لا عِدة ولا عُدة ولا قول ولا صول إلا بما يفيض عليهم من خزائن رحمة ربهم العزيز الوهاب، عائذين بالله من الإعجاب أن يركبوا له طِرَفا جامحا، ويمدُّوا إليه طَرْفا طامحا، ويوطئوا عقبه نافلاً ورامحا، بل هم القوم يستنجزون ما جاء به الوعد، وينتظرون ما عوَّد الإقبالُ المُتعارف والسعد، ويُسَلِّمون في كل مكان وزمان لمن كان له الأمر من قبل ومن بعد؛

    فأول ما مررنا به حصن (منت انتش) وهو حصن يتَلّفَّع بالعَنان، ويقتضُّ الطائرَ بالسِّنان، ويقذف الشجاعة في روع الجبان الهِدان، على طود قد سافر في الجو مُقتربا، ولم يرض بالجبال أكفاء ولا بالبسيطة مُنْتَسَبا؛ فقبل الخلوص إليه من العروج ، والنزول عليه من السروج، فتحه الله فتحا تفاءل له التوحيد فيما يُؤمله، وقال أهله: اللهم اجعله مفتاح كل باب نستقبله.

    ثم عمدنا إلى (ترجالّه) قاعدة الثغر الشمالي تُرضعُه بدَرِّها، وتدربه على شرها، مدينة لم يخافوا عليها للحوادث ظفرا ولا نابا، ولا توهموا أن سيغلقون لها في وجه مُنازل بابا؛ فعندما سمعوا بالمرور عليهم نادى فيهم منادي الجلاء في ساعة القتل والسِّبا، فاتَّبعهم من سرعان الجيوش من قتل مُقاتلَهم وسبى حريمَهم ولم ينج منهم إلا من تخطاه جناح السيف أو دخل في خِفارة الليل.

    واقتدى بهم في الفرار أهل (شنتقروس) وهي القلعة الحسيبةُ في الامتناع، المَجْلُوَّةُ على مِنَصَّة اليَفاع، أول حصن بالجهة أهينت فيه شعائر الله واتخذ فيه المسيح وأمه إلهين من دون الله، منه تفتحت أبوابها، وتوزعت أسلابها، واستبيح بالغدر حِماها، ورماها الكفر إلى أجل مُسمى بالداهية التي رماها. فشحنت ثلاثتُها خيلا ورجلا، وأتِرَع لها الحرمُ غَرَبا من النظر الكريم وسجْلا، ونقل إليها من أهلها كل من كان يُستسقي لعهدها هطَّالا من الدِّيم ويرى وجدان كل شيء بعدها كالعَدَم. وكان يجاورها من معاقل الكفرة ما لم يُلحق في المنعة بغايتها، ولا نَصب في الحرب راية مثل رايتها؛ فاقتُدح فيها زند الاستخارة، على الهدم والعمارة؛ فأخذها الرجَفَانُ أخذا وبيلا، وصُيرت للفور بإذن الله كثيبا مهيلا.

    ثم أجزنا وادي (تاجو) وهو سورُ الأرض التي كان بالآذان عهدُها، وزلزل بالناقوس غورُها ونجدُها، بعد أن قيل للموحدين على شاطئيه الإسلامي: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، وعليكم بتجديد النيات، واستنزال نصر الله تعالى على هذه الرايات. فبايعوا بيعة سَرت بها في دين الله المشرفيةُ والقنى، واستنت بها خيل الكلمة الإسلامية في شرف المُنى.

    ثم سِرنا متغلغلين في أرض الروم إلى مدينة (إبلتانسية) وكانت مدينة تهالك في إنشائها بُرهة من السنين، ونقلَ إليها من أهل الشمال كلُّ من تلقى راية الحرب باليمين، وحدَّث بها نفسَه بآمال سبق إليه الفسادُ قبل الكِيان، وانعدامُ الخبر قبل العيان؛ وإذا بأهلها قد غزاهم من الرعب جيش طارق، وسيف بارق؛ فودعوها وداع من يحسبُ كل صيحة عليه، ويظن البلاقِع والبراقِع جيشا ناهدا إليه، واغتر بقصَبتها من كان يدبر حربها، ويشد بزعمه دْربها، وهم جملة كبيرة من الروم فيهم زعماء مشهورون ما منهم إلا من كان ذا راية منشورة، وكتيبة مستورة، وفتكة في المسلمين مذكورة؛ فاستولى الموحدون على المدينة يدمرونها تدميرا، ويُتَبرون ما علا منها تتبيرا، ويزيحون أهلها تتبيبا وتحسيرا؛ وغلبت القصبة على الكفرة فلاذوا ببرج أصيل المَنَعة، محكم الصنعة، عريض الحافات، باسق الشرفات؛ فأرسل الله عليهم سحابا دلوحا من النبال، وقذفا بصم كالجبال، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال؛ فلم يلبثوا إلا ليلة وقد نزلوا على حكم الأسر، باضطرار منهم وباختيار من القهر والقسر، وبدلهم الله بالجبن والخوَر من تصميمهم وإقدامهم، وصُيرت السيوف التي كانت في أيديهم أغلالا في أعناقهم وقيودا في أقدامهم؛ ولَفقْدهم على الكافر أشدُّ من ذهاب البلاد، فإنهم كانوا عنده أهل الآراء المسموعة والسيوف الحداد.

    ثم عطفت الأعنة على أعمال (طلبيرة) فأوسع الله أرضها اعتسافا، وأقواتها انتسافا، وعمائرها خرابا، يقول عنده الكافر: ياليتني كنت ترابا، ثم جئنا ظاهرها وكانت جنتهم التي يتفيئون ظلالها، ويعتمدون استقلالها، يفرحون بما أوتوا منها، ولا يعرفون لبأس الله حقيقة ولا كنها؛ فاستؤصلت أشجارها الملتفة أصلا وفرعا، وأفنيت حدائقها الأنيقة قضبا وقطعا، وتلاقت عليها عوامل الحديد، ببأسه الشديد، إرغاما لأنف الكفرة، وجدعا. فلما صفرت من الخير، وصارت أوحش من جوف العير، وذبُل روضها الخَضِل، وخرق حجابها المنسدل، وقالت للكفار بلسان الحال: ودعوا في جناتي آمالكم، واندبوا في عرصاتي أحوالكم، فوض عنها الموحدون في رحال ثقيلة، ورجال طويلة، يمرون على البلاد مر السيل بالليل لا يبقي ولا يذر، إلا ما لم يمر بالخاطر ولا وقع عليه البصر، ينزلون على الزرع وقد شابت بها نواصي الوهاد والنجاد، فلم يرحلوا عنها إلا وقد عاد بياضها إلى السواد، ويعمدون إلى القرى الظاهرة، والمدائن الباهرة، فيجدونها بالأقوات راجحة الميزان، كثيرة الحسان، خاوية على عروشها، من قطانها وجيوشها، قد أسلموها لكلمة الإسلام، وفارقوها قبل صهيل الخيل وخفق الأعلام، وطرّحوا يريدون أقاصي الروم على غير طريق، فتخطفهم الطير أو تهوي بهم الريح في مكان سحيق، فمنهم طريد خوف، وحصيد سيف، ومنهم من أصابته الرماح كسبا، وأخذته الصفاح  ولكن يُسر غصبا، فإذا نزل بساحتها نزلت بعقرتها أم الخطوب السود، وامحى أثر نجمها وشجرها من ديوان الوجود، هدما خبيرا، وحريقا مستطيرا، وقطعا استأصل معمورا ومغمورا؛ والله يقدم إلى ما يعمل الكافر من عمل فيجعله هبا منثورا.

    ولم يُعهد لعمارة هذه المدائن المذكورة، لما عرض لعمارة ما فتح الله في صدر الحركة المنصورة؛ فإن تلك وبلاد الإسلام كانت مترائية النارين، مدانية الدارين، يتعارف بينهما أهل الملتين، بالاسم والعين، فقصد بعمارتها طي بساط الكافرين ونشر خطة المؤمنين ومشي الناس في مناكب الأرض وأطرافها آمنين وادعين؛ ولم يُلحح في بلاد الروم إلا طلبا للكافر عينه، فيستوفي منه سيف الله بقية دينه؛ ولو كره المفر، وجره رسنُ الاغترار كما جر، لورد من أمر الله بحول الله ما أحاط به علما، وانطبع في نفسه الخبيثة المردودة نقشا ورقما، ولكن تدكر فتوارى في (قشتالة) بالجبال، ولف فيها رأسه حياء من الكفر والضلال، وخلى البلاد والسيف يحكم فيها كيف يشاء، ويبدع الإعدام والتدمير لا الإيجاب ولا الإنشاء، وجهده العض على يديه وكذلك يفعل الظالم، ويروم الاعتصام وكيف يُعصم ولي الشيطان والله هو العاصم؛ فكل ما عرض لحزب الله في طريقه، ألحق بحزب الشيطان الذي أهلكه الله بالأمس وفريقه.

    فلما صارت البلاد كأن لم تغن، والمعاقلُ كأن لم تُبن، وعلم أن من حِيل بينهم وبين المواطن والأموال والأقوات، أحياءٌ ولكن في عداد الأموات، صوبنا على (طليطلة) قاعدة الصُّفر، وأمِّ بلاد الكفر، وجئناها من جهات أبواب (قشتالة) وهي الجهات التي كانوا يأمنون من أفقها، ولا يسدون بابا يفضي إلى طريقها؛ فأخذهم العذاب وهم لا يشعرون، وعرفوا التخاذل من حيث كانوا يبصرون، واستقبلتهم العبر أفواجا أفواجا، وجاءتهم النذر تأويبا وإدلاجا، إلى أن نزلنا بظاهرها الشمالي ولُمَّّ بجيوش الإسلام لم تُوقَعْ بصرا على حدودها، ولا جُرَّت صَيْدَةٌ في صعيدها؛ فرُدَّ ما كان يليها منه نفنفا، وقاعا صفصفا، بين هدم يَستأصلُ الشأْفة، وحريق يلتهم الجّهْلة، وقطع ينْحِت الأثَلَة، ويحصد الشوكة.
 ثم تظاهر الموحدون ثاني يوم فيما أعطاهم الله تعالى من قوة العدد والعديد، وفاضوا على أعطافها في بحور الخيل وأمواج الحديد، كل قبيلة في شعارها الموسوم، وعلى مدرجها المرسوم، كأنهم من البحر لج موجه متراكب، وأسحاب خريف زعزعته الخبائب، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، وللكفر وأهله الخسران المبين، والعذاب المهين؛ فبرزوا عليها تبريزا ثوب إن شاء الله لبقعتها بالرضوان، وقرب الأوان، والانتصاف من الكفر الذي نجسها بين أخواتها، وعطلها من الإيمان الذي هو حلى أتْرابها ولِداتها، ونادى في المشركين بتقويض الرحال، ورمي الأقصى فالأقصى من أسياف البحار وجزائر الشمال، وأفصح لهم ذلك اليوم بأن لله طالب مدركها وهو الحق الذي قامت به السماوات والأرضون، والمنهاج المبين والدين القيم الذي هم عنه معرضون.
   
    ثم أجزنا وادي (تاجو) إلى جنابها الإسلامي، وهو منشأ دوحها المائس الأعطاف، وحدائقها الغلب ذات الألفاف، وجناتها المعرشات وغير المعرشات، وفوائدها التي هي عندهم من كمال الدين وقوام الحياة؛ وفيه المنية التي كانت جنة الكافر ومأواه، وحظه من أولاه وأخراه، فكر على الجميع المؤمنون كرة، فكان انْجِعَافه بإذن الله مرة؛ فلم يكن بين رويتها في حلى الحسن والابتهاج، وتضاؤلها في شعر مسودة كالليل الداج، إلا بقدر ما غير الله نعمها بالبوس، وبدلها من الأمن والحفظ بالخوف والجوع وهو شر لبوس. وهذا القطر كان عندهم مركز اللواء، وكرسي الاستواء، والحرم الذي يُنفر طيرُه، ولا يبيدُ خيرُه، فالحمد لله الذي أباده، ويسر جهاده؛ فلا بُلغة حال، ولا مُسحة جمال، ولا أمل يتعلق الكفرُ بذيله، ونيام ولو غرارا في ليله؛ وأعرض عن قتالها، وقتال ما تعلق به الكفرة من بعض أعمالها، وإن كان ذلك بالإضافة إلى ما استغرقه الدمار، وأتى عليه البوار، قليل الحساب، ضعيف الجزء في الانتساب، ترفيها للموحدين وإجماما، مع العلم بأن الله سبحانه قد أعطاهم جرأة على كل عظيمة في ذاته وإقداما؛ ولو أشير عليهم في قتالها بلحظة، أو أُكِّدت لهم بلفظة، لما تعذرت عليهم بحول الله أقفالُها، ولا غربت عن أيديهم أنفالُها. ولكن أراد الله أن يجمع لهم في هذه الغزاة الكريمة بين الفتوح الجليلة، والغنائم الجزيلة، والجهاد المبرور، والانقلاب بالعدد الموفور، وترك سيف السطوة في العدو يضرب يمينا وشمالا، ويتراءى يقظة وخيالا، ويبث سرايا الجوع، والرعب المانع من الهجوع، ويخرج عنها الأضعف فالأضعف، حتى يرجع المليء عديما، والمخدوم خديما، وهناك توجد إن شاء الله بفتحه الأبواب، ميسرة الأسباب، في غير سيف يسل، ولا دم لمؤمن بفضل الله يطل.

    وخلال هذه المحاولات الكريمة كان صاحب (ليون)، وهو ابن عم هذا الكافر المغرور، قد استجار من أمر الله بذِمَّة، وتوسل إلى المسالمة بخدمة، وألقى الله بينهما حربا، استدعت منها طعنا وضربا؛ فشغل بالرغبات، أفواه المخاطبات، عسى أن يُبعث إلى أرضه بجيش من المسلمين يغزون عدوهم وعدوه من جانبه، ويدخلون إلى سرارة أرضه من بابه، وهو باب ما أقدم عهد المسلمين ببابَتَيْهِ، وبإرسال الأعنة في جنْبَتَيْهِ؛ فسبحان المُغرب، لكل شأو مَغرب، والمنعم على أهل هذا الزمان، بما كان إلى الاستحالة قبلُ أقرب منه إلى الإمكان؛ فبُعث إلى أرضه جيشٌ من المسلمين هالته شجاعتُهم، وبهتته إِنابتُهم لله وطاعتُهم، وألهته عن كل شيء قدرتُهم بالله على العدو واستطاعتُهم؛ فحكموا على بلاد الكافر بحكم الكلمة العليا، ونالوا فيها ما شاءوا من دين ودنيا، وتنوعت في عدو الله الرزايا، وأخذت عليه المكارهُ الأنقابَ والثنايا، وصار لا يستطيع دفعا، ولا يملك لمن اتبعه ضُرا ولا نَفعا؛ ولو يعلم الكافرون أن الكَرَّة عليهم تجوسُ الخِلالَ، وتهلك الحي الحِلال، وتمحَقُ الكفرة محْق الوَبَأ، وتذرو ما جمع وغرس بين مهب الدَّبور ومهب الصبا، لاعتاضوا من الإقليم الخامس والسادس بمنقطع التُّرب، ولم يقنعوا من السابع إلا بمُسامتة القطب.

    ولما كتب العمل الصالح، وحصل المتجر الرابح، واشتمل الغزو على فتوح كثيرة، وأيام على الكافرين عسيرة، وتُركت البلادُ عُرضة لأول طليعةٍ إن شاء الله تُطِل، وراية بحول الله تُظل، فريسةً بين يدي سيف الخوف والجوع، والأمل المقطوع، وهو سيف الله الذي يدرك ما طلب، ويُجهز كلما ضرب، أخذ الموحدون في القُفول على ميعاد، من أعمال مستغيثة بكلمة الإسلام وبلاد. وياله من قفول ما أعز أناءَه، وأصدق أنباءَه، وأكرم حلَّه ورحيله، ومُعرَّسه ومَقِيله.
 
    وعرض في صدر الإياب معقل دار( الغارة)، على مرحلة من (طليطلة)، وكان بابُها الذي لا يُنام إلا على سده، وظلُّها الذي لا يُسكن إلا في مطارح مدِّه، والقلعة المسماة (ببطربونة)، وكانت ركاب الكفار إلى الضَّرر، وموقدَ نارهم المتطايرةِ الشرر، وفيها جملة كبيرة من مُحاربة الكافرين، وشُجعانهم (الإفريريين)، بقية سيف الله المسلول ، ونسالة جيش الصليب المفلول، وكلهم قد عقدوا على الموت حُباهم، ووثقوا حيث لا ثقة بقلوبهم وأسنتهم وظُباهم. فلما سلقتهم ألسنةُ القتال، وكشفَ لهم الغطاءُ عن خيال الضلال، رضوا من الانتصار بالإسار، ومن فائت الربح بحاصل الخَسار؛ فنزلوا مسرعين، ولبوا داعي الِرِّق مُهطعين، وحشروا في زمرة أهل دينهم السابقين إلى القيد، المستضعفين ما جاءوا به قبلهم من الكيد. وعُمَّّّ المعقلان برجال من المؤمنين يقيمون فرض الجهاد، ويهجرون فيه النوم للسهاد، ويرون الوقوف كل حين على (طليطلة) وظيفة دينية، وعزة دُنياوية. وطال ما كانت حجرا على النوائب، سلا على الجيوش الكثيفة والكتائب؛ وهاهي اليوم ــ وخيل الله تسرح في شعابها آمنة، ورماح المجاهدين تندق في أبوابها طاعنة ــ أسيرة الركب، وقعيدة الخطب، ضعيفة الحَيْل، ونفيٌّ من أرجل الخيل، ليس على جادتها إلى بحر المجاز صليبٌ ينصب، ولا ناقوس يُضرب، لا إهلال لغير الله، ولا نداء إلا بذكر الله حتى ينجز الله وعده في سنامها، ويفيض نور الملة المحمدية على ظلامها، بحوله وقوته.

    فاشكروا الله على نصره الذي يفرح به المؤمنون، ورَوْحِه الذي يأيسُ منه القوم الكافرون، واعلموا أن الله لم يرض لقوم بالكفر إلا ليجعلهم أحاديث ويمزقهم كل ممزق ويفتح عليهم بابا ذا عذاب شديد، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا، ويستقر في نفوسكم أن الأقلام لا تفي بالإيضاح، ولا تستقل بالإفصاح، ولو ركِبت من الإحسان كل سنَن، وجاءت من البلاغة بطريقة أهل كل زمن، فصنع الله أكبر، وآتيه أشهر، وفَعْلُه سبحانه أيسر خبرا، وأبقى على ميسم الأيام أثرا.
 
 وقد حضر هذه الغزاة الكريمة رجال من أعيانكم ممن حركه السعد، ولم يقعد به البعد؛ فلتؤخذ منهم الأخبار على نسقها، والأحاديث من طُرقها، زيادة في البيان، واستنامة إلى مشافهة أهل العيان.

    اللهم أوزع شكرك هذه الأمة على الزمان، الذي استدار بالفتوح المتناسقة تناسُق الجُمان، والرعبِ الذي ينوب في أعدائهم مناب الخميس الأرجوان، ضاربا بغير سيف طاعنا بغير سنان؛ إنك على كل شيء قدير، وإنك نعم المولى ونعم النصير. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

     كتب في التاسع من شهر رمضان المعظم سنة ثنتين وتسعين وخمسمائة.
 
هامش: النص مقتبس عن ( مجموع رسائل موحدية )، ليفي بروفنصال، معهد العلوم العربية، الرباط، 1941

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق