شهد
النصف الأول من القرن التاسع الميلادي تنامي وتصاعد التهديد البشكنسي ضد الأندلس.
كان هؤلاء البشكنس يقيمون في الأراضي التي تتبع في أغلبها مملكة نبرَّة الواقعة
شمالي وادي نهر إبرو، وكانوا عبارة عن قبائل عديدة لا نعرف عنها إلا القليل، استولت
كل واحدة منها على إقطاعية محدَّدة، إما تابعة لمملكة الفرنجة وإما تابعة لمملكة
أشتوريس، ولم يستطع الملوك الأشتوريسيون أن يضموا كامل الإقطاعيات البشكنسية إلى
أراضي مملكتهم على الرغم من الغزوات العديدة التي شنوها عليها، وذلك لتفاني البشكنس
في الدفاع عن استقلالهم.
اتخذ
البشكنس مدينة بنبلونة عاصمة لهم ومقراً لإقامة الأمير البشكنسي، وتهيأت للأسرة
البشكنسية ظروف مؤاتية تمثلت بالموقف الذي اتخذ أقوى الولاة المسلمين في الثغر
الأعلى ألا وهو موسى بن موسى بن قسي. والمعروف أن هذه الأسرة تتمتَّع بتأثير سياسي
قوي في الأقاليم الواقعة بين جبال البرينيه ووادي نهر إبرو. وكان المولَّدون، الذين
يشكلون معظم أفراد هذه الأسرة، على علاقات قديمة ومصاهرة مع زعماء البشكنس، كما كان
الضعف يشوب إسلامهم.
بدأ
موسى يكشف عن نياته بالاستقلال عن قرطبة في عام (228 هـ/ 842 م)، بتأثير أخيه لأمه
إينيغو إينيغيز، وكان يقيم آنذاك في تطيلة كحاكم لها، وقد غضب لتأنيب أحد القادة
المسلمين له حول دوره في إحدى الصوائف التي قادها عبيد الله ابن عبد الله البلنسي،
فقرَّر الانفصال من الحكومة المركزية، وأخذ يرسل قواته لغزو الأراضي التابعة لعبد
الرحمن الثاني.
كان
من الطبيعي أن يردَّ عبد الرحمن الثاني على هذا التصرف، فعزل موسى عن مدينة تطلية،
وأسند حكمها إلى عامر بن كليب، وأرسل عدة حملات عسكرية لمحاربته، فاضطر إلى طلب
الصلح، فاشترط الأمير الأموي أن يغادر تطلية إلى أية جهة يشاء. وما كادت القوات
الحكومية تنصرف عنه حتى نكث عهده، وسانده غرسية بن ونقة، أمير بنبلونة، فتصدَّى له
القائد الحارث بن بزيغ، إلا أنه انهزم أمامه ووقع في الأسر، عندئذٍ قرَّر عبد
الرحمن الثاني أن يقتص بنفسه من هذا الثائر، فقاد حملتين من أجل ذلك في (رجب 228
هـ/ نيسان 843 م) وفي (شعبان/ أيار)، وفتح صخرة قيس في نواحي بنبلونة، وتغلَّب على
المقاومة التي أبداها الحليفان موسى وغرسية اللذان جُرحا أثناء القتال وفرَّا من
ساحة المعركة وجنحا إلى الصلح، فصالح الأول على:
ـ
أن يغادر تطلية ويتولى حكم مدينة أرنيدو بدلاً منها.
ـ
أن يُطلق سراح الحارث بن بزيغ ومن معه من الأسرى.
وصالح
الثاني على:
ـ
أن يبقى حاكماً على بنبلونة مقابل دفع جزية سنوية مقدارها سبعمائة دينار.
ـ
أن يُسلَّم جميع من بقي عنده من سبي المسلمين وأسراهم.
ويبدو
أن الضربة المؤلمة التي تلقَّاها الحليفان لم تكن رادعة، فنقضا صلحهما في عام (229
هـ/ 844 م)، الأمر الذي دفع عبد الرحمن الثاني الخروج بنفسه لتأديبهما، واصطحب معه
ابنه محمد، فتوقف في سرقسطة، وأمر ابنه ووزيره محمد بن يحيى بمواصلة الزحف نحو
تطيلة، فحاصراها وضيَّقا على سكانها، وأتلفا زرعها، حتى أذعن موسى وصالحهما، ثم
تقدما نحو بنبلونة وانتصرا على جيش من البشكنس وقتلا منه جمعاً غفيراً، من بينهم
غرسية نفسه.
كان
من المتوقع أن تكون هذه آخر الحملات التي تسيِّرها حكومة قرطبة ضد الثائر موسى بن
موسى، ولكن الأمر لم يكن كذلك، إذ عاد هذا إلى رفع لواء الثورة في أعوام (230 و 232
و 235 هــ/ 845 و 846 و 849 و 850 م)، وكان عبد الرحمن الثاني يخضعه في كل مرة ثم
ينقض صلحه، واستمر موسى على هذا النهج حتى وفاة عبد الرحمن الثاني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق