تاريخ المجتمعات الاسلامية - ايرا لابيدس
مقال عن الكتاب :
تاريخ المجتمعات الإسلامية
رضوان السيد
المصدر
استمعت إلى أيرا لابيدس Ira M. Lapidus للمرة الأولى في احتفالية ألفية القاهرة عام 1969م. كنت وقتها طالبا بالأزهر في السنة الثالثة، بكلية أصول الدين. وقد عقدت إحدى جلسات المؤتمر بقاعة الإمام محمد عبده، وألقى الشاب الأميركي لابيدس محاضرة عن المذاهب الفقهية في الدولة المملوكية. وما عرفت كتابه العظيم «تاريخ المجتمعات الإسلامية» إلا في التسعينات من القرن الماضي عندما ذهبت للعمل أستاذا زائرا بجامعة هارفارد. وكنت مخيرا في إرشاد الطلاب إلى أحد ثلاثة نصوص: كتاب لابيدس هذا، وكتاب مارشال هودجسون «تجربة الإسلام.. الوعي والتاريخ في حضارة عالمية»، وكتاب هاملتون غب «دراسات في حضارة الإسلام». وكنت أعرف كتابي غب وهودجسون، وما كنت أعرف كتاب لابيدس، فأقبلت على قراءته بشغف، إلى كتابه الآخر الصغير «المدن الإسلامية في العصور الوسطى المتأخرة» (وهو في الأصل أطروحته للدكتوراه). ورغم إعجابي الشديد بالكتاب الكبير آنذاك، فقد نصحت الطلاب بالعودة إلى كتاب هودجسون الذي أذهلني، وأصدرت عنه فيما بعد عددين بمجلة «الاجتهاد» الفصلية التي كنت أصدرها (حتى عام 2004) مع الأستاذ الفضل شلق. ثم نسيت تلك الحقبة كلها في عقد الضياع والمعاناة لأمتنا ومجتمعاتنا (2000 - 2010). ولذلك فقد سررت سرورا بالغا عندما زف إلى الصديق نبيل إيراني، صاحب «دار الكتاب العربي»، خبر ترجمة الكتاب بكامله إلى العربية، من جانب المترجم الممتاز الأستاذ فاضل جتكر، والذي كنت قد عرفت له عشرات الترجمات لكتب بالغة الأهمية في السنوات العشر الأخيرة.
عرف عن الأستاذ لابيدس خلال عمله العلمي، الاهتمام بالحياة الحضرية والمدنية الإسلامية. وهو بخلاف الأساتذة الأميركيين الآخرين ذوي التوجه الأنجلوسكسوني، مهتم بسوسيولوجيا المجتمعات، وليس الدول والإمبراطوريات، شأن الفرنسيين. ولذلك فإن كتابه هذا لا يتضمن نظريات بالغة الشسوع والاتساع، بل إن الواقع أن فصول الكتاب الأولى عن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وظهور الإسلام والفتوحات والدولة الأموية، لا تظهر إبداعا من نوع خاص، بل إنه اعتمد فيها على المختصين من أمثال عرفان شهيد (فيما يتعلق بالجزيرة قبل الإسلام)، ومونتغومري وات (عن حياة النبي ونشوء الأمة والدولة)، وفلهاوزن (في عهود الراشدين والأمويين). وقد أفاد بالطبع من الدراسات الحديثة في اقتصاديات وإدارة الدولة في القرنين السابع والثامن للميلاد. ميزة هذا القسم من الكتاب السلاسة والإجمال، بحيث يأخذ القارئ العارف بعض الشيء انطباعا جيدا عن قرني الإسلام الأولين. ثم تبدأ الجدة، وتبدأ النظرات الخاصة مع التأريخ للعباسيين، فتتبدى قوة لابيدس في الحديث عن الحياة الحضرية وظهور المدن، وبخاصة بغداد. فلابيدس مذهول بالمدن الكبرى، وبالتنظيمات الإدارية والمالية والسياسية في الدول الكبرى أيضا. وهو يعرف علم الكلام معرفة متوسطة، بيد أنها كافية لقول بعض الجديد في نشوء المعتزلة وأهل السنة. لكنه يعرف الفقه والمدارس الفقهية معرفة دقيقة ومتميزة بدت في كل أجزاء الكتاب. لكن هذا وذاك من العلوم الدينية والأجنبية، يظلان في المرتبة الثانية من اهتمامه. أما المرتبة الأولى فهي محفوظة للتأملات في بناء المدن والدساكر، والإدارة والحياة الاقتصادية والاجتماعية. وبهذا المعنى يفهم الرجل التاريخ الثقافي، الذي هو في الواقع سوسيولوجيا ثقافية في مديات متطاولة، تشبه أعمال مدرسة الحوليات الفرنسية مطبقة في مجال الحضارة والثقافة في عالم الإسلام. بيد أن اهتمامه بالشأن السوسيولوجي، والذي تابعه طوال حياته العلمية، قاده للعناية في دراساته بالتصوف والبيئات التي ظهر فيها، ثم كيف تطور إلى طرق. والطرق هي التي تهمه، لكنه في أزمنة ما قبل الطرق وجد نفسه منجذبا إلى نموذج أبي حامد الغزالي الذي خصه بفصل ماتع. ولأن الشعوب والإثنيات تعني له أكثر مما تعني الدول، فقد انصرف بعد العباسيين للاهتمام بالسلاجقة والمغول والتتار، أصولهم وتنظيماتهم الاجتماعية، وطرائقهم في إقامة الإمبراطوريات. وبالطبع؛ فإن العثمانيين وقعوا في مركز اهتمامه بسبب الدور التاريخي الكبير الذي لعبوه حتى مطلع القرن العشرين. فقد ركز على نشوئهم وأصولهم الإثنية، ومنزلتهم داخل الشعوب التركية، ثم أفاض في الحديث عن مدنهم وإدارتهم وجيوشهم وعلاقتهم بأوروبا والأجزاء التي استولوا عليها منها، وكيف تشكلت في ظلهم إنسانية جديدة. وبحسب خطة الكتاب، فقد كان عليه أن يستعرض تاريخ الدول الإسلامية في الأندلس. ورغم وجود الحواضر الرائعة في تلك البلاد، وظهور ذلك المجتمع الممتزج من المسلمين والمسيحيين واليهود؛ فإن تحركات الشعوب الآسيوية الكبرى، وخاصة الإيرانيين والأتراك، ظلت موضوع عنايته الأكبر. ثم إن الرجل ملتزم بحسب الكتاب بالتأريخ لعالم الإسلام، ولذلك فقد اعتنى كثيرا بآسيا الوسطى التي خرجت منها الشعوب التركية، فأقامت الإمبراطوريات في كل مكان، ومن ضمن ذلك إيران والهند. ومن هذا المنزع مضى إلى المحيط الهندي وشرق آسيا، ثم ألقى نظرة على الإسلام الأفريقي تكوينا وانتشارا، سواء من خلال الحركات الجهادية أو الأخرى الصوفية، وقبل ذلك وبعده حركات التجار وتنقلاتهم.
وقد خصص الجزء الثاني من الكتاب للحقب الحديثة بين القرنين الثامن عشر وإلى سبعينات القرن العشرين. وهذا القسم من الكتاب مساو من حيث الحجم للقسم الأول، لكنه في مجموعه خلاصات استعراضية لا تقول الكثير عن اصطدام الغرب الأوروبي الاستعماري والآخر الإمبريالي بعالم الإسلام، وتنقصها الدقة أحيانا في فهم الحركات الإسلامية الحديثة النهضوية والإحيائية.
يهتم لابيدس كثيرا في القسم الحديث من كتابه بكل من تركيا ومصر وإيران، والتي واجهت اختبارات الاستعمار والحداثة، في أزمنة متقاربة. لكنه وهو يكتب هذه الخلاصات عن ظواهر الحداثة وتحدياتها في هذه الأقطار الكبرى، يظل على وعي قوي بما سبق أن ذكره في القسم الأول من كتابه عن هذه الأقطار والشعوب. ولذا لا تشكل الحداثة في اعتباره قطيعة مع السابق، وإنما يعتبر الأمور ويعرضها في شكل تطورات تستوعب السابق، وتتعاطى مع اللاحق بعقلية مقاربة. ولذلك فإنه - مثل سائر تلامذة غب القدامى - غير معجب بالظواهر الحديثة في ديار الإسلام، ويفضل عليها تلك التقليدية العريقة، التي لا تستدعي الحسرة على أي حال لأنها لن تعود، وإن ظن الإحيائيون الإسلاميون أنهم قادرون على ذلك. وفي هذا الصدد، وبعد عرض تجربة البلدان الإسلامية الثلاثة الكبرى، يأتي إلى الشرق الأوسط، وهو يعني به المشرق العربي. وفي الشرق الأوسط يتحدث عن الظواهر الثلاث: العروبة والأنظمة العسكرية والإسلام. ثم يمضي من هناك إلى الجزيرة العربية، وإلى شمال أفريقيا. بينما ينصب الجزء الأكبر من القسم الثاني هذا على عرض التطورات التي مر بها الإسلام في إندونيسيا، وفي الهند إلى ظهور باكستان، والمشكلات المتفاقمة في أفغانستان، واستتباب الاستيلاء الروسي على آسيا الوسطى، كما يمضي في الجزء المتبقي من القسم الثاني هذا إلى عرض التطورات المستجدة والهائلة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي. ثم يتحدث من بعد عن مصائر الإسلام في الأنحاء الأفريقية، والمسلمين في ديار الهجرة بأوروبا والأميركتين. ولأنه شاء أن يكون كتابه مكتملا أو شاملا؛ فإنه عقد فصلا لصحوة الإسلام أو حركات الصحوة الإسلامية من مصر والسعودية إلى باكستان والهند وأفغانستان. وهو فصل مخيب بعض الشيء فيه بعض الميلودراما، واقتناع عميق بأن المشرق لم يتغير منذ خمسة آلاف سنة، أو ينبغي ألا يتغير أو أن هذا التغيير البادي والمتوتر هو سطحي وقشرة زائلة، وقد أتت به نقائص الحداثة.
انتهى أيرا لابيدس من تأليف كتابه عام 1980. وقد ظهر في طبعته الأولى عام 1988 باعتباره ذيلا على «تاريخ كمبردج للإسلام». لكنه بسبب من سلاسته وشموله أفضل من «تاريخ كمبردج» ذاته. ومنهجه - كما سبق - هو منهج السوسيولوجيا التاريخية ومدرسة الحوليات. وهو يغص بقدر هائل من المعلومات. وقد أورد في ختامه ببليوغرافيا واسعة ونافعة أو لا تزال كذلك رغم قدمها؛ إذ هو في الطبعة الثانية للكتاب عام 2002 لم يضف إليها شيئا. ما عاد التأليف الموسوعي مألوفا بين المستشرين. وهذا كتاب مهم من آثار المرحلة الماضية، لا يزال في قسمه القديم والوسيط شديد التوهج والإمتاع.
(*) أيرا لابيدس: تاريخ المجتمعات الإسلامية 1 - 2. ترجمة فاضل جتكر. «دار الكتاب العربي» بيروت 2011 – ص 1516 هو غاص بالنظرات الدقيقة واللافتة في النشوء والاستتباب الاجتماعي الإسلامي. إنه تاريخ للحياة المدنية الإسلامية سكانا وشعوبا وعمائر وجغرافيا بشرية ومصائر اقتصادية.
_____________________________________________
روابط التحميل
المجلد الاول (توجد 16 صفحة فارغة من الاصل المطبعي ، لذلك جرى التنبيه)
المجلد الثاني
******
روابط تحميل مباشرة على موقع ارشيف
تحية للجميع ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق