الاثنين، 3 سبتمبر 2012







فوكو: الجنسُ والاعتراف والسلطة


فبمقارنة الجنسانية الغربية بالجنسانية لدى الرومان
أو الهنود أو الصينيين، يقابل الفيلسوف بين ما عندهم من "فنّ إيروسيّ" ars
erotica موجّه نحو البحث عن اللذّة وما لدى الغرب من "علم الجنس" scientia
sexualis الذي يعني أن نقول في شكل اعتراف حقيقة رغباتنا. أن نقول الجنس،
عند الغربيين، لا يعني أن نقول كيف نجد اللذّة، بل الاعتراف برغباتنا. ممّا
يعني أنّ الأهمّية التي نعقدها على قول هذه الحقيقة كانت حاضرة ـ من قبل ـ
في طقس الاعتراف حيث يتوجّب على الخاطئ أن يبوح بشهواته الأشدّ حميمية.
اهتمّ ميشال فوكو بظاهرة رأى أنّها وقف على الغرب، وهي ظاهرة
الاعتراف بالحقيقة حول الميول الجنسية، واعتبر ذلك مندرجا ضمن ثقافة متأصلة
في الغرب، وأنه فيما مجّدت حضارات عديدة الجنس واحتفت بما فيه من لذّة
ومُتع في فنونها وآدابها. فإنّ الغرب كان منذ القديم ميالا إلى استكناه
الجنس لا التباهي بمتعه. وقد اخترنا نصا لفيلسوف فرنسيّ شابّ يُقدّم فيه
نصّا لفوكو حول الاعتراف، أردفناه بنصّ فوكو. والنصّان منشوران بمجلة le
point-hors série numéro avril-mai 2008. صار بوسعنا في نهاية الأمر منذ
حركة”التحرير الجنسيّ” في الستينات والسبعينات أن نصرّح بالحقيقة حول
رغباتنا الأكثر حميميّة.لكنّ ميشال فوكو لم يكن متأكدا أنّ الأمر يتعلّق
بتجاوز فعليّ للسلطة، بل إنّ الأمر عنده أبعد ما يكون عن ذلك، وهذا ما
سيبينه بعدئذ في “تأريخه” للجنسانية : إرادة المعرفة: طقس الاعتراف.

هذا المؤلَّف يسائل الأسباب التي، من ناحية دفعت الأروبيين
إلى التفكير في أنّ الجنس كان عندهم ولأمد طويل مقموعا، ودفعهم من ناحية
أخرى إلى استشعار الحاجة إلى قول الحقيقة حول الجنس واعتبار هذا الواجبَ
تحرّرا. أسئلة لها من القيمة ما يجعل الحقيقة حول الجنس تبدو الأكثر
حميمية، والأشدّ سرّية عن أجسادنا وعن كياننا، والتي نمرّ عبرها إلى
حقيقتنا الشخصيّة، مع كونها تحدّد في آن علاقاتنا الاجتماعية. وخلافا
للأفكار السائدة سعى فوكو في كتابه هذا إلى البرهنة على أنّ “التحرير
الجنسيّ” ينخرط في الحقيقة ضمن تراث الفكر الغربيّ المسيحيّ.وهكذا يحلّل في
النصّ المصاحب فكرة الاعتراف، الأساسية عنده. فبمقارنة الجنسانية الغربية
بالجنسانية لدى الرومان أو الهنود أو الصينيين، يقابل الفيلسوف بين ما
عندهم من “فنّ إيروسيّ” ars erotica موجّه نحو البحث عن اللذّة وما لدى
الغرب من “علم الجنس” scientia sexualis الذي يعني أن نقول في شكل اعتراف
حقيقة رغباتنا. أن نقول الجنس، عند الغربيين، لا يعني أن نقول كيف نجد
اللذّة، بل الاعتراف برغباتنا. ممّا يعني أنّ الأهمّية التي نعقدها على قول
هذه الحقيقة كانت حاضرة ـ من قبل ـ في طقس الاعتراف حيث يتوجّب على الخاطئ
أن يبوح بشهواته الأشدّ حميمية. أليس علمُ النفس التحليليّ وريثَ هذه
الخطاطة؟ أليس لافتا للنظر أنّنا نصل حدّ دفع المال من أجل الاعتراف
برغباتنا بغرض أن نعرف ذواتنا بشكل أفضل؟ وبشكل أعمّ لا مناص من استنتاج
أنّ “الاعتراف”قد تشكّل في صيغة عالية القيمة من صيغ الحقيقة. فإنّنا كما
كتب فوكو”مجتمع معترف بشكل مخصوص” : ففي المدرسة كما في المحكمة، ومع
طبيبنا كما مع أصدقائنا، ومع من نعشق أو مع أنفسنا، فإنّنا نحسّه واجبا أن
نعترف بأفكارنا ورغباتنا.فالاعتراف أسلوبنا في تأكيد حقيقتنا لدى الآخرين
في علاقةِ سلطةٍ ـ تلك التي لا تقف حدودها عند القدرة على القمع ـ ولكن عند
ذاك الفرضِ ـ القديم لكننا لم نفتأ نرضخ إليه ـ والمتمثل في أن نقول
للآخرين عن أنفسنا الحقيقة عن أنفسنا.ومن هنا تكون المفارقة:عندما نبحث
عبر” التحرير الجنسيّ” عن الانعتاق من السلطة القمعيّة التي تُعيق ـ في
زعمناـ أن نقول الجنس وأن نعيشه في حرّية، فإنّنا نؤدّي دور السلطة التي
تواصل ممارسة إرادتها في المعرفة..وهذه السلطة هي التي تدفع الفرد إلى أن
يبني لنفسه حقيقة عن ذاته عبر الاعترافات التي يقوم بها أو التي تشغله، ومن
خلال هذا أيضا تجعله يتشكّل باعتباره “موضوعا بالمعنيين : باعتباره كائنا
مفكّرا، وكذلك باعتباره “رعيّة” للسلطة أي خاضعا لها خضوعا تامّا. لم يعرف
هذا الجزء الأوّل من “تاريخ الجنسانية” نجاحا مماثلا لكتاب الكلمات
والأشياء(1966) أو كتاب المراقبة والعقاب(1975)، لأنّ سياقه المتّسم بالجدل
لم يعدْ قضيّة مطروحة، لكن إذا وضعنا في البال أنّ فوكو يواصل فيه من
زاوية الجنسانية، تحليل العلاقات بين السلطة والمعرفة، بين الفرد وجسده،
فإنّ”إرادة المعرفة” سيُسهم في ترسيخ مفهومه عن “البيوسياسي”في المحاورات
الفلسفية اللاحقة، كما تبيّنه اليوم كتابات الكاتب والفيلسوف الألمانيّ
بيتر سلوترديجك(المولود سنة 1947) فرانسوا غوفان الاعتراف من طقوس إنتاج
الحقيقة لا تمتلك حضارتنا، على الأقلّ في مقاربة أولى، فنّا إيروسيّاars
erotica. وفي المقابل فإنّها الحضارة الوحيدة –دون ريب-التي تمارس علم
الجنسscientia sexualis. أو بالأحرى الحضارة الوحيدة التي طوّرت على مرّ
القرون، بغيةَ قول الحقيقة عن الجنس، سياقاتٍٍ ترضخ في جوهرها إلى شكلٍ من
السلطة-المعرفة متقابلٍ تقابلا تامّا مع فنّ التعاليم السرّية ومع السرّ
الأعظم: ويتعلّق الأمر بالاعتراف.فمنذ القرون الوسطى على الأقلّ، أدرجت
المجتمعات الغربية الاعتراف ضمن الطقوس الأساسية التي يُنتظر منها إنتاج
الحقيقة [..] ومن”الاعتراف” الذي يضمن لشخص ما وضع وهويته وقيمته بفضل شخص
آخر، مررنا إلى “الاعتراف” بما هو اعتراف شخصٍ بأفعاله أو أفكاره. لقد ظلّ
الفرد لفترة طويلة، يُعرّف نفسه عبر جعل الآخرين مرجعا وعبر إظهار علاقته
بالآخر (عائلة، مولى، حامي)؛ ثمّ صار يُعرّفُ بواسطة خطاب الحقيقة الذي كان
قادرا أو مجبرا على إنشائه عن نفسه. لقد انخرط الاعتراف بالحقيقة في قلب
سياقات الفردنة التي وضعتها السلطة.وفي جميع الاحوال فإنّه إلى جانب طقوس
الامتحان، وإلى جانب الضمانات التي تمنحها سلطة التقاليد، وإلى جانب
الشهادات، ولكن أيضا إلى جانب مساراتٍ حاذقة من الملاحظة والبرهنة، أصبح
الاعتراف، في الغرب، إحدى التقنيات ذات القيمة العليا في إنتاج الحقيقة.
لقد تحوّلنا، مذّاك، إلى مجتمع معترف بشكل غريب، ولقد نشر الاعتراف آثاره
على مدى واسع : في العدالة، في الطبّ، في البيداغوجيا، في العلاقات
العائلية، في العلاقات الغراميّة، في اكثر الأشياء اليوميّة عاديّة كما في
الطقوس الأكثر احتفائيّة؛ فهناك من يعترف بجرائمه، أو يعترف بخطاياه، أو
يعترف بأفكاره ورغباته، أو يعترف بماضيه وأحلامه، أو يعترف بطفولته، أو
يعترف بأمراضه وبؤسه، فينصرف بما استطاع من دقّة إلى قول ما يتعسّر إلى حدّ
كبير قوله، فيعترف على الملإ أو في حلقة صغيرة، لوالديه، لمعلّميه،
لطبيبه، إلى من يحبّهم، لنفسه، وكلّ ذلك في إطار من اللذّة والعناء،
اعترافاتٍ مستحيلة على أيّ شخص آخر. يعترف المرء، أو يجد نفسه مُجبرا على
الاعتراف[..] إجباريّة الاعتراف صارت الآن مُلقاة علينا من نقاطٍ مختلفةٍ،
فقد صارت منذ اليوم متمكّنة منّا بحيث لا ننظر إليها باعتبارها أثرَ سلطةٍ
تُفرضُ علينا، بل يبدو لنا على عكس ذلك أنّ الحقيقة، في أعمق أسرار ذواتنا،
لا ” تطلب” إلا أن ترى النور، وأنّها إذا لم تتمكن من ذلك فإنّ عائقا ما
يمنعها، وأنّ عنف السلطة يُثقِلُ عليها، وأنّها في نهاية الأمر لا يُمكن
لها أن تُفصِح إلّا بثمن تحرير ما.

الاعتراف يُحرّر، والسلطة تكمّمُ، فالحقيقةُ لا تنتمي إلى نسق
السلطة لكنّها ذات قرابة أصيلة مع الحرّية، فمِثْلُ عديدِ المحاورِ
التقليديّةِ في الفلسفة على “التاريخ السياسيّ للحقيقة” أن يتغيّر بإظهار
أنّ الحقيقة ليست حرّة بطبيعتها، وأنّ الخطأ مفيد ولكنّ إنتاجه مخترَق
تماما بعلاقات السلطة، وما الاعتراف إلا دليل على ذلك. لا بدّ أن نسقط في
فخّ الدهاء الباطنيّ للاعتراف حتّى نُسندَ للرقابة ومنع التعبير والتفكير
دورا مركزيّا؛لا بدّ أن نتصوّر تقديما مقلوبا للسلطة حتى نصدّق أنّها
تُحدّثنا عن الحرّية كلُّ هذه الأصوات التي، منذ زمن، في حضارتنا، لم تفتأ
تلوكُ الفريضة الرائعة بأنّ علينا أن نصرّح بما نحن عليه، وبما فعلناه، ما
نذكره وما نسيناه، ما نُخفيه وما يَختفي، ما لا نفكّر فيه وما نُفكّر في
ألاّ نُفكّر فيه.إنّه عمل جبّار طوى الغربُ أجيالا كي يُنتجَ ـ فيما كانت
أشكال أخرى من العمل تضمن تراكم الرأسمال ـ تحويلَ البشرِ إلى رعايا، أريد
أن أقول تشكيلهم كـ”مواضيع” بالمعنَيَيْن معا للكلمة(1).

ميشال فوكو، تاريخ الجنسانية : إرادة المعرفة، منشورات غاليمارد ـ 1976

1- لها في اللسان الفرنسيّ معنيان :الموضوع، والرعيّة وواضح تلاعب الكاتب بالكلمة.
(عن “الأوان”)

نسخة معدلة
يوجد في مكتبتي 3 نسخ من هذا الكتاب 

http://www.mediafire.com/download.php?wc055bu306zad4d

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق