الاثنين، 6 أغسطس 2012

التجريح والتعديل وترجيح المطابقة في الخبر المخرج الخلدوني لكتابة التاريخ
يرى إبن خلدون أن للتاريخ وجهين يتميز كل واحد عن الآخر فالخبر الظاهر هو الوجه الأول خارجي الشكل يمثل الحدث والخبر التاريخي، عام من حيث دلالته وتعريفي من حيث مراده الخبري، أما الوجه الثاني فيتمثل في العملية التاريخية برمتها حيث يصبح البحث في الأسباب والمقدمات والنتائج لقراءة الخبر جد هامة لفهم مسير الحوادث وملابساتها الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، لذلك فالتاريخ علم عقلي، أصيل في الحكمة عريق، لا يمكن أن يختزل في نظر إبن خلدون في عملية نقلية تقليدية خبرية تتحكم في علم التاريخ دون اللجوء إلى النقد والتمحيص، لذا فصاحب المقدمة يرى أنه لا يمكن كتابة التاريخ بدون اللجوء إلى نقد الأخبار وتمحيصها، فابن خلدون في كتابته للمقدمة كان يهدف إلى نقد التقليد الذي وقع فيه المؤرخون قبله، بمعنى أن المؤرخ كان يريد النظر في الخبر لتعريف جيده وزيفه ورفض كل خبر تاريخي لا تسنده قوانين العمران. فهو يقول في هذا الباب "البصيرة تنقد الصحيح إذا تملق" وأيضا "والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون" وكذلك يقول "ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار
يورد صاحب المقدمة مسألة التمحيص في الخبر التاريخي للتخلص من كل عيب قد يشوبه لسبب ما، ويعني بالتمحيص التمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب في الأخبار عن طريق مطابقتها للواقع، وهنا يدخل عنصر التعليل وهو معرفة كيفية حدوث الوقائع وأسبابها الظاهرة والباطنة، ولتصبح عملية التمحيص والتعليل فعلية لا بد حسب الفكر الخلدوني الإهتمام بعملية التأكد من صدق الرواة ونزاهتهم والتفكير في درجة امكان حدوث الوقائع المروية، وهنا يعود إبن خلدون إلى الإستعانة بمنهج التجريح والتعديل الذي يستعمله علماء التفسير والحديث في اثبات صدق الرواة وعدالتهم، وإلى علم العمران لمعرفة درجة امكان حدوث الوقائع المروية، ومن خلال هذا المنهج يمكن التمييز في الخبر بين الصادق والمحرف
فالتاريخ عند إبن خلدون ليس من العلوم النقلية ما دام لم يعتمد على منهج واحد يهدف إلى مراجعة صحة الرواة لقبول الخبر، ولتبرير هذا الإنتقال التقليدي المتعارف عليه، يرى أن الكلام مقسم إلى خبر وإنشاء، فالإنشاء كالأمر والنهي والدعاء والاستفهام وغيره يقاس من خلال التأكد من ثقة الرواة فيما ينقلونه باستعمال طريقة علماء الدين المعروفة بمنهج التعديل والتجريح، ولكن هذا المنهج يصبح مبتورا إذا استعمل منفردا في الخبر، فالرجوع إلى التجريح والتعديل يأخذ الدرجة الثانية ليتمم العلم بأن "ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع"، وإذا كانت عملية تصديق الخبر أو تكذيبه مستحيلة، فيجب في نظر إبن خلدون الرجوع إلى قانون المطابقة الذي يحتم الرجوع إلى نظرية الإجتماع البشري. في المنهجية الخلدونية لكتابة التاريخ يأخذ ويحتل قانون المطابقة المبني على علم العمران الدرجة الأولى والمنفذ الهام لكتابة التاريخ، ويكون في ذلك مرفوقا بنقد السند كمرحلة تكميلية بعد أن يكون الخبر قد شرع بواسطة قانون المطابقة، لذا فإبن خلدون يجعل التاريخ شاهدا على نفسه، فهو ليس مجرد حوادث عارضة تتعاقب في الزمان دون الخضوع لعوامل معينة ومحددة، بل هناك قوانين تنظم هذا التعاقب وتوجه مجرياته. فإذا كانت الحوادث الطبيعية تجري وفق قوانين معينة ونخضعها للسؤال والدرس، فكذلك بالنسبة للوقائع التاريخية التي تحمل في أحشائها الوقائع الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية، وذلك لأن "كل حادث من الحوادث ذاتا كان أو فعلا لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفي ما يعرض له من أحوال" فذات الحدث لا تكتمل إلا بما تتعرض له من خارجها على إعتبار أن تطور التاريخ له علاقة جماعية وبيئية، ويقول إبن خلدون في هذا الصدد: "اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الإجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال"، سير التاريخ وإنتقالاته البطيئة والسريعة المفاجئة تخضع للأسس العامة لعلم العمران الذي وضعه مؤلف المقدمة لتصحيح الشكل والمضمون في الخبر التاريخي، وقد أورد هذه الأسس في ستة فصول حسب أهميتها ودرجة تأثيرها وهي كالتالي
الفصل الأول "في طبيعة العمران البشري على الجملة" ومعنى ذلك تأثير البيئة على البشر وتعداد ظروف التأثير ودرجاته، فهو مبحث أنتولوجي وأنتربولوجي بالمعنى الواسع
الفصل الثاني "في العمران البدوي" ومعنى ذلك الحضارات التقليدية ريفية وقروية وصحراوية المعتمدة غالبا على إقتصاد الزراعة والرعي، أي الارتباط بالأرض كوسيلة معيشية ومجال مستقل ورأسمال مملوك فرديا أو جماعيا
الفصل الثالث "في الدول والخلافة والملك" ومعنى ذلك المؤسسات السياسية والإدارية التي تتحكم في مجال معين وتنظم الحياة الإجتماعية به حسب دعوتها الدينية السياسية وغلبة عصبيتها ومضمون برنامجها السياسي وطبيعة وصولها إلى الغلبة ومدى إستكمال شروط مشروعيتها
الفصل الرابع " في العمران الحضاري والبلدان والأمصار" ومعنى ذلك الحضارة النابعة من المدينة والتي وصلت إلى مرحلة النضج والإزدهار معتمدة على مجالها القروي وأنشطتها الإقتصادية الداخلية
الفصل الخامس "في الصنائع والمعاش والكسب" ومعنى ذلك مجمل القطاع الإقتصادي بنية ونشاطا في مختلف المجالات
الفصل السادس " في العلوم واكتسابها وتعلمها" ومعنى ذلك الثقافة بمعناها الواسع، أي ما تفرزه الحضارات وازدهار العمران
كل هذه المباحث تدور حول محور أساسي في الفكر الخلدوني وهو العصبية والدعوة قمة الإجتماع السياسي وأحد ركائز البناء النظري الخلدوني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق