الجمعة، 3 أغسطس 2012

الزمان والتاريخ عند اليونان

كان الشاعر "هيزيود" يرى ان الكون كله تحكمه عملية اضمحلال متوالية بدء من عصر ذهبي كانت الالهة هي التي تحكم فيه والناس يعيشون في سلام ووئام يتبعه عصر فضي ثم عصر برونزي واخيراً عصر حديدي يضطر فيه الناس للعيش بعرق جبينهم ويعانون مصيرهم، وكلمة "الزمن" باليونانية "كارونوس"(*) هي اسم الاله الذي التهم اطفاله، واوديب عند "سوفوكليس" كان يعبر عن ذلك بقوله:-
"الزمن يدمر كل شي
لا احد بمأمن من الموت سوى الالهه
الارض تفنى.. كل شي الى زوال
حتى الثقة بين الناس تذوى، ويحل محلها عدم الثقة
الاصدقاء ينقلبون على الاصدقاء
والمدن على المدن
مع الزمن.. كل شي يتغير البهجة الى مرارة
حتى البغضاء تتحول الى حب"([2])
هذا الوعي بالطبيعة العابرة للحياة الانسانية والتغير والتبدل المستمر الذي يسري على الكون كله كان قد تخلل الثقافة اليونانية والرومانية كلها. وربما كان الفليسوف اليوناني هيراقليطس خير من عبر عن ذلك في شذراته.
"كل شي يتغير لا شي يسكن
في التغير، تجد الاشياء راحتها
الزمن هو طفل يحرك لعبه في يده والقوة الملكية هي قوة طفل
الحرب هو ابو الاشياء جميعا"ً([3])
لكن النظرة الاغريقية الرومانية للزمن والتاريخ كانت تنطوي على اقتناع راسخ بان الاحداث لا تقع اعتباطاً وانما طبقاً لدورة متكررة من الميلاد والحياة والاضمحلال. ان هذه النظرية الدورية للكون كله هي النظرة الفلسفية التي سيطرت على الروح اليونانية، التي لم تول عناية خاصة للتاريخ بقدر اهتمامها بالطبيعة والوجود. والصيرورة الطبيعية ويرجع بيري سبب ذلك الى ان تاريخهم المدون لا يرجع الى ماضٍ بعيد، وليس هناك على مداه سلسلة مؤثرة من الاكتشافات الجديدة، او الانجازات العلمية، الموحية بازدياد غير محدود للمعرفة او السيادة المتعاظمة على قوة الطبيعة. ففي المدة التي انشغلت فيها خيرة عقولهم بمشكلات الكون، ربما حسن الناس بناء السفن، او ابتكروا براهين رياضية جديدة، بيد ان علمهم لم يفعل الا القليل، او لم يفعل شيئاً، في سبيل تحويل ظروف الحياة الانسانية، او فتح أي افق يفضي الى المستقبل. لم يكن عند الاغريق من الحقائق القوية ما يكفي ليناقضوا بها ذلك الاجلال العميق للعصور القديمة الذي يبدو طبيعياً للبشر([4])."فليس لليونان ذكريات عن الماضي السحيق"([5])
كانت النظرة الفلسفية الكلية للعالم ومن ثم للتاريخ عند اليونان تنطلق من نظرية التعاقب الدوري للميلاد والحياة والموت، وهي لا تختلف عن نظرة الشرقيين للكون.
وكتاب "الاعمال والايام" لهزيود القرن الثامن ق.م، يحتوي على فكرة تعاقب العصور في خمسة ادوار كما اشرنا انفا غير اننا نود ان نتتبع فكرة التعاقب الدوري للعالم على صعيد الفكر الفلسفي اايوناني الذي بدات مسيرته الاولى بالفيلسوف الايوني طاليس 625-546 ق.م الذي اعتقد "بأن الماء هو اصل الاشياء وان كل الاشياء تنبثق وتعيش ثم تعود الى الماء". وربما كان انكسيماندريس نحو 620-546 ق.م اكثر وضوحا في القول "بالابيرون الذي يتحرك حركة دائرية في ثلاث دوائر متعاقبة من حركتي الاتصال والانفصال، وقانون العدالة السرمدي". "ان نظرية ادوار العالم شائعة على نطاق واسع في بلاد اليونان بحيث يمكن ان توصف بانها النظرية الارثوذكسية للزمن الكوني عند الاغريق ثم انتقلت منهم الى الرومان، وبحسب راي بعض اتباع فيثاغورس فان كل دور يعيد مجرى الاحداث السابق بادق التفاصيل ومنها جاءت فكرة تناسخ الارواح، ذلك ان الروح خالدة وهي عبارة عن عدد ونغم وانسجام تظهر وتزدهر وتختفي في الاجساد الحية، في عود ابدي.
ولعل الفيلسوف هيرقليطس حوالي 450-475 ق.م كان اعمق من عبر عن حقيقة الحركة والتغير المستمر في الكون والحياة ان "اللوغوس" Loges هو النار الابدية التي تعد رمز التغير المستمر وهي مبدأ الحركة والصيرورة في هذا الكون, "كل شي يتغير لا شي ثابت"، والتسليم بضرورة هذا التغير في الشؤون الانسانية هو الذي اورث الاغريق حساسية خاصة تجاه التاريخ، كمايقول كولنجودد في كتابه "فكرة التاريخ"([6]). وعلى كل حال لم يكن فلاسفة اليونان الاوائل يتحدثون عن التاريخ والحضارة حينما اعتقدوا بالتعاقب الدوري للكون، بل كان فكرهم الفلسفي في تفسير الكون قد استطاع ان ينتقل من الاسطورة الى التأمل العقلي إذ اعتقدوا: ان الكون كله قابل للفهم,  وافترضوا وجود نظام واحد وراء الفوضى البادية في الظواهر, لم يجعلوا من الاسطورة مثلهم الاعلى في البحث عن اصل الكون بل راحوا يفسرون الطبيعة بالطبيعة, وهم بذلك قد ارسوا مشروعية التأمل الفلسفي في مشكلات الطبيعة والمجتمع والفكر(*).
ان النظرة العامة للفلاسفة الاغريق مؤداها انهم كانوا يعيشون في مرحلة من الانحطاط والانحلال اللذين لا مفر منهما لان ذلك كانت تقتضيه طبيعة الكون والفساد, وهذا ما عرضه افلاطون في كتابه "الجمهورية" في اسطورة الكهف حيث يصارع فيلسوفه قوى الجهل والاعتقاد وهو يرتقى من "كهف الاوهام الضبابية" الى "مملكة الافكار الصافية"([7])
وتروي محاوارات الطيماوس واكريتس لافلاطون، تاريخ نشأة البشر بارتباطه بتاريخ الكون، لكنه تاريخ اسطورة تداني الحقيقة، تفسر لنا بقدر ما يسمح للضعف البشري، اسمى ما بلغ اليه الانسان من حقائق في هذا المجال(**).
ان افلاطون في الطيماوس يسعى الى تفسير شخصي للكون تفسيراً متكاملاً موحداً يفيد من جميع معطيات العلم. اذ يقدم وصفاً للدولة المثلى الذي كان يحلم بها فبضرب من الخيال المضاعف يشرع يروي لنا ما كان ممكنا ان يكون تاريخ دولته المثالية، "لو كان كل شي قد جرى في العالم كما يقتضيه العقل، انه شبه اعتراف شجي بالعجز بعد خيبات كثيرة، فمن لم يقدر العمل ان يرضيه، يضطر في النهاية ان يكتفي بالحلم"([8]).
ان نظريات "افلاطون" ليست الا أمثلة واضحة على النزعة المميزة لفلاسفة الاغريق الى اضفاء الكمال على الاشياء الثابتة بكونها تمتلك قيمة اعلى مما يتغير، وهذا اثر في كل تأملاتهم الاجتماعية، اذ امنوا بالمثل الاعلى للنظام المطلق في المجتمع وبان أي انحراف عنه، في حالة اقامته لا بد من ان يكون انحرافاً نحو الأسوأ.
ويعد ارسطو 384-322 ق.م اعمق عقل علمي وفلسفي ظهر في اليونان ورغم انه عد التاريخ ادنى اهمية من الشعر، لان التاريخ مجموعة من الحقائق التجريبية لا اكثر ولا اقل في حين ان الشعر ينتهي من هذا الحقائق الى قضية كلية. الا ان نظريته في العلل الاربع يمكن تطبيقها على التاريخ وكل ظواهر الحياة الاخرى.
والزمان عند ارسطو هو مقياس الحركة ومن ثم فليس هو الذي يتحرك ويقول: "الزمان نفسه نفكر فيه على انه دائرة، وليس للزمان بداية ولا نهاية، لان الزمان يرتد الى الان، والان نهاية زمن مضى، وبداية زمن مستقبل، فقبله زمان وبعده زمان"([9]).
هذه النظرية الارسطية للزمان هي التي عرضها القديس "اوغسطين" في كتابه "الاعترافات"(*). وربما تكون الفلسفات المعاصرة عند نيشته وشبجلر وبرجسون قد استلهمت هذا المعنى للزمان في ابنيته النظرية. لقد كان ارسطو أعمق نفاذاً الى جوهر العملية التاريخية عامةً في كتابه "السياسة", ويرى ولترتسيس "ان ارسطو نفذ بعمق اكبر الى فلسفة التطور، بل ان نظرية ارسطو في التطور ما تزال هي الارقى والاوضح ذلك لانه لا معنى للحديث عن التطور والتقدم والارقى والادنى الا في اطار العلاقة الغاية([10]).
ان كل ما كان بعد ان لم يكن في عالم الفعل والانفعال داخل تاريخ التعمير والبناء فانه لا يكون الا كائنا تشكيلا من كائن بفعل فاعل منه او من غيره على غرار تصميم نحو غاية او مثال ولا التشكيل يبلغ مرتبة التصميم، ولا التصميم يبلغ مرتبة المثال الا في التشكيل الطبيعي الغريزي الفطري. اما في التاريخ فلا احد يبلغ الكمال والمثال، ذلك لانه لا نهائي وغير محدود وبظل دوما وابداً مدعاة الحلم والتمني والرجاء والمثال.
ربما كان هذا هو خلاصة نظرية ارسطو في التطور، انها السعي المستمر والشوق الدائم لبلوغ مرتبة المحرك الذي لا يتحرك، السعي نحو الجمال والعدالة والخير والكمال.
وكل تاريخ الانسان منذ هابيل وقابيل هو صراعاً دائماً ازلياً نحو مثال القوة والكمال والتفوق على الطبيعة وعلى الذات وقد كان ارسطو يمتلك وعياً تاريخياً حينما تحدث عن الاصل التاريخي للدولة وتطورها من الاسرة الى الجماعة والمدنية والدولة([11]). كما انه اول من اكد تاريخية الانسان بعده حيواناً سياسياً بالفطرة، هذه المسلمة التي انطلق منها ابن خلدون في رؤيته العقلانية للتاريخ.
ويرى بعض الباحثين ان الفيلسوف اكسينوفان 570-480 ق.م كان يمتلك وعياً تاريخياً حينما انتقد هوميروس وهزيود لانهم نسبوا الى الالهة ما كان من شان البشر، واكد ان الناس هم الذين يصنعون الهتهم فيصورهم كل حسب حاله([12]).
بقى ان نشير الى ان الاحداث والحروب والانهيار التي تعرضت لها الحضارة اليونانية منذ عام 431 ق.م كانت هي الدافع الذي حرك قلق هيرودوت 495-425 ق.م الذي يعد اول من استخدم مصطلح التاريخ، ليتخذ التاريخ موضوعاً للمعرفة، وذلك بهدف "انقاذ تاريخ الجنس البشري من النسيان، تم اثبات ان الاعمال الرائعة التي اضطلع بها الهيلنيون والشرقيون سوف تتمتع بما هي اهل له من شهرة خاصة تلك التي ادت الى صدام فيما بعد([13]).
على هذا الدرب سار المؤرخون ثوكوديدس الاثنتي 460-395 ق.م في كتابه "تاريخ الحرب البلوبونيزية". وبولوبيوس الميجالي 201-120 ق.م "تاريخ العالم" وديودورس الاجريوفي 90-20 ق.م وديونوسيوس الهاليكارناسي في "تاريخ روما القديم".
رغم اننا نعي ان مسألة التاريخ من حيث هو رواية للاحداث لا يدخل في نطاق اختصاصنا هنا، ان ما دفعنا لا يراد اسماء عدد من المؤرخين اليونان انفاً هو تاكيد مسألة اساس هي ان التفكير بالتاريخ لا يبدا الا حينما تتعين اعمال الانسان وتتراكم الاحداث والوقائع الاجتماعية الذي يمكن تدوينها. كما يقول ارنولد توينبي: "ان الاقلية التي يحدثها وسطها الاجتماعي عن التاريخ، لا يكون تعرضها لاشعاع من الوسط الاجتماعي التاريخي، كافيا في حد ذاته والالهام المؤرخ وتكوينه، لا مناص من ان تقوم نزعه حب الاستطلاع بتعزيز القابلية لاستيعاب التاريخ. اذ دون هذا التطلع المثير الخلاق تبقى اعظم ما نعرف من هياكل التاريخ تأثيراً في النفس، خرساء لا تحدث اثراً، لان العيون التي تنظر اليها لا ترى فيها شيئا([14]).
ان ما شهدته الحضارة اليونانية من ازدهار وصراع وتفكك وانحلال قد جعل المؤرخ ثاكيديدس يرى في الصراع سر تحول اليونان من البربرية الفظة الى الدولة المدنية. لكن ذلك الصراع الحتمي بين الشخصية الانسانية والقدر المجهول هو الذي لا مهرب منه إذ لا بد من ان يعود في النهاية الى الظلام البدائي "الكووس" لكي يبدأ من جديد، وهكذا الى ان يجيء ذات يوم، شخص يتمتع ما يكفي من الفضيلة بعون الالهه فيتمكن من ايقاف دورة القدر الحمقاء ويعكس اتجاهها وسيستعيد العصر الذهبي المفقود(*).
ان المحن والكوارث هي التي تحفز الفكر لكتابة التاريخ وتأمله وهنا يعد ثيوسيديديس متجاوزاً لهيرودوت الذي انصرف اهتمامه لوصف الحوادث نفسها، على ان الاول بحث عن القوانين التي تنظم هذه الحوادث([16]), وهو بذلك كان قد اقترب دون ان يكون واعياً، الى ضفاف الفكر التاريخي.
ولم تكن النظرة الابيقورية والرواقية للتاريخ والحضارة الاصداء باهتاً للفلسفة اليونانية.. الهيلنية, اذ تبنت الرواقية "نظرية الادوار" فهذا ماركوس ارويليوس 121-180 م في كتابه (التأملات) يفكر كيف تتوارى اشياء اليوم بسرعة تحت اشياء الأمس في هذه الحياة، مثلما تغطي طبقة الرمال المتحركة طبقة أخرى([17]).
 ان النزعة الفلسفية التي سادت العصر الهلنستي في النظر الى التاريخ والانسان والحضارة، وعند مختلف المذاهب: الميجاريون والكليبون والرواقية والابيقورية، هي النزعة السلبية، إذ سادت نغمة الخلاص من هذا العالم، انهم لم يعودوا يسألون كيف يمكن للناس ان يخلقوا دولة فاضلة وانما اخذوا يسألون: كيف يمكن للناس ان يكونوا ذوى فضيلة في عالم الرذيلة والمبدا الرواقي الشهير: عش وفق الطبيعة(*).
وهكذا يرى "ابيقور342-270 ق.م" ان اللذة وحدها هي الغاية في ذاتها وليس هناك حياة مستقبلية، فكل شي يعود الى الذرات الاولى التي تتناثر عند الموت، والانسان وقد تحرر من الخوف من الموت والخوف من الالهه ليس امامه من واجب سوى ان يعيش سعيداً بقدرما يعيش حياته القصيرة على الارض, "كن غير أبه بالطيبات التي التي قد تاتيك بها الايام تجد نفسك قد تحررت من الخوف"([19])
من كل ما تقدم نستخلص ان الفكرة التي هيمنت على المزاج الفلسفي اليوناني هي فكرة الاضمحلال وارتبط هذا الشعور او الموقف بفكرة القدر، ولم تكن مأساة اوديب الشهيرة الا نموذجاً صارخاً على هيمنة القدرية الصارمة "ان المويرا" ربة القدر كانت قد حددت لاوديب حياته واحداثها قبل ان يولد ولم تجد حيلة ابواه في التخلص منه وهو رضيع دون ضربة القدر اللازمة.
وهذا ما عبر عنه بيري في قوله: "لو اردنا ان نذكر فكرة واحدة سيطرت على الفكر الاغريقي منذ هوميروس حتى الرواقيين، فانها قد تكون فكرة القدر، التي كانت تعني نظاماً ثابتاً في الكون، ولكنه كحقيقه ينبغي ان يخضع لها الناس.. اما فكرة التاريخ تقدم فلم يكن من السهل ان توحى تجربتهم التاريخية المحدودة بها، ومن ناحية أخرى أوحت بديهيات فكرهم وارتباطهم بالتغير، ونظريات القدر والانحطاط، والادوار برؤية تشاؤمية للعالم والزمان والحياة كانت النقيض لرؤية التقدم والتطور الحديثة"([20]).
ربما كان سبب هذه النظر الدورية الاسطورية للتاريخ الكوني عند اليونان، تعود الى ما اصاب اليونان من كوارث طبيعية، وفيضانات متكررة، جاء في محاورة طيماوس
"صولن، ياصولن انتم الهليين تلبثون دوماً اطفالاً.. انتم جميعكم فتيان بارواحكم، اذ لا تحفظون فيها تراثاً قديماً مستمداً من نقل او تقليد عتيق، ولا علماً مغبراً مع تراخي الزمان.. وسبب ما دهمت البشر من كوارث متعددة.. ومن قديم الزمان يسجل هذا كله عندنا ويحفظ في الهياكل، واما عندكم فكل مرة تكاد تنتظم فيها شؤون الادب والشؤون الاخرى كلها التي تحتاج اليها الدول، اذا يفيض السماء يدهمها، ويذهب بها وكانه وباء يتفشى في سنين معهودة "أي نظرية طوفان دوري". فيترك منكم الاميين والجهلة، بحيث تصبحون بمثابة احداث ابتدءوا عهداً جديداً، لا تعرفون شيئاً من كل ما كان في غابر، الازمان لدينا او لديكم. وفعلا ما كنت تسلسله الان من انساب، يا صولن، في استعراضك احداث بلادكم لا تختلف الا قليلاً عن خرافات الصبية، فانتم اولا تذكرون طوفاناً واحداً غطى وجه الارض، مع ان فيضانات كثيرة قد حدثت قبله. ثم لا تعلمون ان ابهى وخير امة اخرجت للناس ظهرت عندكم وفي بلادكم... وقد فاتكم هذا الامر، لان المتعاقبين من تلك الامة خلال اجيال واجيال قد تلفوا وهم لا ينطقون بلغة الكتابة"([21]).
من هذا النص نستنتج بعد التحليل، الخلاصة التالية:
اولاً: ان الثقافة اليونانية لم تكن تحوى فلسفة متسقه للتاريخ والحضارة. والانسان عامتاً
ثانياً: ظلت التأملات الفلسفية حول التاريخ والانسان والقيم، مشوبة بالاساطير والخرافات.
ثالثاً: كانت النظرية الدورية للكون والفساد، والكوارث الطبيعية، ترسيخاً للشعور بالعجز والايمان بقوة القدر كما تروي اسطورة اوديب.
رابعاً: رغم اهتمام الفلسفة اليونانية بالطبيعة ومشكلاتها الا ان الكثير من المحاولات الجدية قد بذلت للنفاذ الى جوهر العملية التاريخية وتحديد قواها المحركة. وهذا ما فعلته الحركة السفسطائية، التي اعلنت "الانسان مقياس كل شي" وتأثر بها سقراط 470-399م حينما اعلن في محاورة ايدروس) "بان رجال المدنية هم الذين يعلموني" أي انه انصرف من بحث الطبيعة والكون الى بحث الانسان وعالمه التاريخي، وكانت صرخته "بان على الانسان ان يعرف نفسه، بداية وعي عميق بفلسفة التاريخ.
خامساً: يمكن القول ان ثمة شذرات واضاءات باتجاه الفهم الفلسفي للتاريخ عند افلاطون وارسطو وبعض الرواقيين وابرزهم "سنيكا4-65 ق.م". الذي كشف عن بصيرة نافذة حينما وقف على الطرف النقيض من موقف تلميذه ماركوس اوريليوس، حيث ذهب سينكا الى تأكيد حتمية تقدم المعرفة الانسانية في المستقبل بقوله:-"هنا الكثير من الناس اليوم يجهلون سبب خسوف القمر، ولم يوضح هذا السبب في اوساطنا الا مؤخراً ولسوف ياتي اليوم الذي يفسر فيه الزمن والاجتهاد الانساني مسائل مبهمة الان... ذات يوم سيعجب من سياتي بعدنا من جهلنا لاسباب واضحة جداً لهم... في الزمن القادم سيعرف الناس الكثير مما نجهله نحن. وهناك الكثير من الاكتشافات المدخرة للازمان القادمة، حين تكون ذكرانا قد ذبلت في اذهان الناس، نحن نتصور اننا ارشدنا الى اسرار الطبيعة، في حين أننا لا نزال واقفين عند عتبة معبدها"([22]).
حتى وان لم يكن "سنيكا" يعي فكرة التقدم وما يمكن ان تقدمه المعرفة من تحسن للعالم، فيكفيه انه قد تصور في ذلك العصر القديم، ما يمكن ان تفتحه العلوم الطبيعية للانسان من مناطق سماوية تمكنه وهو على حد قوله "وسط النجوم" ان يضحك على الارض وثرواتها(1). ولقد ادرك هذا الفيلسوف، انه لا نهاية للمعرفة الانسانية ولا نهاية للثقافة الا بنهاية العلم والادب والفن... وهذا مستحيل الا اذا مات الحلم والمثال والتمني والرجاء، والالما غدا الضحك وسط النجوم، الذي كان حلماً بعيد المنال في زمن سنيكا واقعاً فعلاً وصار الانسان ينظر الى الارض من القمر بسيادة وبماجلان صار الانسان اكبر من الارض. وبكوبرنيكوس وغاليلو صار الانسان اكبر من الشمس... ولا نهاية لصراع الانسان ازاء الطبيعة وازاء نفسه ولا نهاية لتاويل ابن عربي وهو يقتض نجوم السماء كما لا نهاية لتحقيق رؤياه([23])



(*) وبعض التصورات والرموز الدالة على الزمن ذات صدى يمكن ان يكون اقرب الى فهم مجرد للزمان، مثلا ان كارونوس، وهو الزمان، يبتلع ابناءه وهو في بعض الروايات ثعبان، له ثلاثة رؤوس او فروع او وجوه فربما في هذا تصور رمزي لتغير الزمان، ولاقسامه، الماضي، والحاضر والمستقبل.. وكلمة "ثعبان" تدل على التغيير، والمكر، والانسياب. حسام الالوسي، الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم، ص44، ويرى ديورنت "ان الناس قاسوا الزمن بدورات القمر قبل قياسه بالاعوام بزمن طويل" نشأة الحضارة، مصدر سابق ص136.
(([2] علي سامي النشار, هيراقليطس فيلسوف التغيير وأثره في الفكر الفلسفي, دار المعارف, دار الشرق الاوسط, الاسكندرية, ط1, 1969, ص50, ينظر ايضاً آرثر هيرمان، فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي، ص49.
([3]) ديمقريطس, فيلسوف الذرة، ترجمة علي عبد المعطي، مراجعة دكتور علي سامي النشار، ص349-350.
([4]) ج. ب. بيري، فكرة التقدم، ص38.
([5]) افلاطون، الطمياوس واكريتيس، ترجمة الاب فؤاد جرجي بربارة، تحقيق وتقديم البيردﻴﭭو، وزارة الثقافة، دمشق 1986 ص191.
(([6]علي سامي النشار, هيراقليطس فيلسوف التغيير وأثره في الفكر الفلسفي, ص51, ينظر ايضاً كولنجود، فكرة التاريخ، محمد بكير خليل، مراجعة محمد عبد الواحد خلاف، لجنة التاليف والترجمة القاهرة ط2 1961 ص63.
(*) تعد نظرية ديمقريطس 460-340 ق.م الذرية من نواح عدة ، الانجاز الافضل للفلسفة اليونانية وكانت ستفضي الى تأسيس نظرية فلسفية للتقدم، لو ان النظرة التاريخية للاغربق كانت ارحب ومزاجهم كان مختلفاً، إذ قال ديمقريطس بالدوران الكوني السريع، وخلق العوالم وتعددها ونموها، في مراحل مختلفة ومتدرجة، حتى تصل الى الكمال ثم تتدهور وهكذا. ان هذه الفكرة تحتوي على جرثومة النظرية التطورية عن النمو والتدهور فالعالم كالتركيب العضوي الحي، يستمر على النمو بقدر ما يستطيع ان ياخذ فيه وبقدر تمثله للمادة الذرية الدخيلة، وحينما يصل نهائيا الى مدة معينة تزيد فيها فقدانه للمادة على كسبها، يحل فيه التدهور والانحلال النهائي، انظر ديمقريطس فيلسوف الذرة, ايضاً هنري فرنكفورت, ما قبل الفلسفة, ترجمة جبرا إبراهيم جبرا, بيروت 1960, ص290.
[7])) أفلاطون، الجمهورية، ترجمة حنا خباز، دار العلم، بيروت، 1985، ص170
(**)  كتب: تونيبي "لقد استهوى تفسير التاريخ البشري باستخدام المصطلحات الدورية"، افلاطون بشكل ظاهر في الطيماوس, ج1, ص422.
([8]) افلاطون: الطيماوس، ص13.
([9]) ينظر:عبد الرحمن بدوي, الزمان الوجودي, مكتبة النهضة المصرية, القاهرة, ط1, 1955, ص47-150.
 (*) يسأل القديس اوغسطين 354-430م: ما هو الزمن؟ ويجيب : اني اعرفه حق المعرفة اذا لم يسالني احد اما اذا اردت شرحه لمن يسالني وجدتني يعترني التلوكي والجهل. ويضيف: لا الماضي موجود ولا المستقبل موجود وجوداً حقيقياً انما الموجود هو الحاضر وحده، وما الحاضر الا لحظة، ويستحيل قياس الزمن الا وهو في طريقه الى الزوال ومع ذلك، فالزمن الماضي، والزمن المستقبل حقيقيان، فالظاهر اننا في هذا الامر حيال متناقضات، والطريق الوحيد للخروج من التناقض هي القول ان الماضي والمستقبل لا يكونان في الفكر الا الحاضر، فالماضي يتوحد بالذاكرة، والمستقبل يتوحد بالتوقع، والذاكرة والتوقع كلاهما حقيقيتان دائمتان في الحاضر ثمة ازمان ثلاثة: حاضر الاشياء الماضية الذاكرة، وحاضر الاشياء الحاضرة الرؤية والبصيرة وحاضر الاشياء المستقبلية، التوقع، حسام الالوسي، الزمان، ص140. ايضاً أحمد محمد الشحاذ, لغة الزمن ودلولاتها في التراث العربي, دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد, ط1. 2001, ص27.
([10]) ولتر ستيس، تاريخ الفلسفة اليونانية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للنشر، القاهرة، ط1 1941 ص252.
([11]) ارسطو, السياسة, ترجمة تحمد لطفي السيد, الهيئة المصرية للكتاب, القاهرة, 1969, ص50.
[12])) رسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الاول، الفلسفة القديم، ترجمة زكي نجيب محمو، القاهرة ط2، 1967 ص87
([13]) مصطفى العبادي، الفكر التأريخي عند اليونان، مجلة عالم الفكر، العدد(1)، المجلد العشرين، ابريل يونيو 1989،  ص75.
(([14] توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ج4- ص234.
(*) في العالم الكلاسيكي سيكون "اوغسطين قيصر 63-14 م" هو ذلك الرجل. والعصر الذهبي المستعاد هو "روما" الإمبراطورية، ولقد استخدم فيرجيل 70-19 ق.م كبير شعراء الرومان وصاحب ملحمة الإلياذة في قصيدته نشيد الرعاة عام ق40 م للاحتفال بانتصار "اوغسطين في اكتيوم" على مارك انطونيو وكليوباترة:
النظرية الدورية، لزخرفة انشودة التفاؤل حينما انشد يقول:"عصرنا هو عصر التتويج الذي جاء في النبوءة من الزمن.. تولد وتبدأ دورة جديدة وعظيمة تمتد قروناً العدل يعود للارض، العصر الذهبي يعود ومن السماء يهبط معه اول مواليده ستتوقف القلوب الحديد والارض ترثها القلوب الذهب هكذا تكلمت الاقدار في توافق نغمي مع المصير الذي لا يهتز". ينظر: آرثر هيرمان، فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي، ص51 ويورد ارنولد توينبي- نص للشاعر شيللى في الترنيمة الجديدة من قصيدة "هيلاس"
"يبدأ عصر العالم العظيم من جديد تعود الايام الذهبية". ان الارض كالحية تجدد نفسها. تغدو حشائش شتائها باردة. تتبسم السماء، وتتلالا العقائد والامبراطورت. مثل حطام حلم منحل. ان العالم قد حل الماضي ليته يموت او يستريح في نهاية المطاف".  ينظر: توينبي، مختصر دراسة التاريخ، ج1 ص424.   
([16]) كولنجوود، فكرة التاريخ، ص75.
([17]) بيري, فكرة التقدم, ص42.
(*) يقول ديورنت "ان الامم تولد رواقية وتموت ابيقورية، يقوم الدين الى جانب مهدها "كما يقول المثل، وتصحبها الفلسفة الى قبرها، قصة الحضارة، ص225. ولعل الإمبراطور الروماني "انطونينوس ماركوس اوريليوس 121-180م" قد عبر عن نظرية الدور والانحلال باسلوبه الراقي بقوله في التأملات: "تطوف النفوس العاقلة حول العالم وعبر الفراغ المحدق بنا، وتديم النظر في الزمن غير المحدود، وتتأمل دمار الكون وولادته الثانية في كل دور وتفكر في اخلافنا الذين لن يروا شيئاً جديداً، واسلافنا الذين لم يروا اعظم ما راينا، ان الانسان في الاربعين بلغ عقله غايته، يمكن ان يقال انه راى كل ما مضى وما ينتظر، ان العالم متشاكل الى حد بعيد". بيري، فكرة التقدم، ص42، وهذا ما يذكرنا بما قاله الخليفة الراشدي سيدنا علي بن ابي طالب( كرم الله وجهه) في وصيته لولده الامام الحسن (عليه السلام) "اني ان لم اكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في اعمالهم، وفكرت في اخبارهم، وسرت في اثارهم او سبرت أثارهم، حتى عدت كاحدهم، بل كاني بما انتهى الي من امورهم قد عمرت مع اولهم الى اخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل امر نخيلة، وتوخيت منه جميلة".سيدنا علي بن ابي طالب (كرم الله وجهه)، نهج البلاغة، شرح صبحي الصالح، قسم الكلمات، الكلمة 31.
([19]) يورمسن, الموسوعة الفلسفية المختصرة, ترجمة فؤاد كامل وآخرون, مكتبة الانجلوا الصرية القاهرة, 1963, ص15.
[20])) بيري، فكرة التقدم, ص75, ايضاً عبد السلام نور الدين, العقل والحضارة, دار سومر للدراسات والنشر, نيقوسيا-قبرص, ط2, 1992, ص96,71.
([21]) افلاطون الطيماوس, ص193-194.
(([22] ج. ب. بيري، فكرة التقدم، ص43, ايضاً تونبي مختصر دراسة التاريخ, ج2, ص271, ص276.
([23]) مدني صالح، في مهب عواصف التاريخ، ص21.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق