تاريخ التاريخ 1
خالد غاوش
لما
كان الانسان كائناً زمنياً، فان التفكير في التاريخ جزء من انشغالاته، وكل نظرة في
التاريخ تظهر موقف الانسان من الزمان فالانسان هو الكائن الزماني الوحيد، لانه
مفطور على حاستي الذاكرة والتوقع، اذ انه ينظم حياته داخل شبكة نسيجها الماضي
والحاضر والمستقبل، هذا الحس الزماني يرجع الى الحضارات البدائية، قال الشاعر (جون
دن) "الكائنات ذوات الطبيعة الادنى اسيرة الحاضر اما الانسان فكائن
مستقبلي". فقد توصل انسان نياندرتال (نحو 50.0000) سنة ق. م الى دفن موتاه
"وهو ما لا يفعله حيوان اخر([1]). انه
يفكر في نوع من الوجود المتصل لهؤلاء الراحلين, ان الخوف من الموت ورغبة الانسان
في الخلود تعد من اقوى الدوافع التي حفزت الانسان منذ اقدم العصور الى التفكير في
الزمان على انه تغير مستمر، ومن ثم جعله يبحث عن معنى المصير الذي ينتظر الانسان
بعد الحياة(**). تاريخ التاريخ
والانسان
فضلا عن جميع ما يصدق عليه من التعريفات كائن تسويغي اعتباطي واعتباطي تسويغي.
يعتبط الاراء والقواعد والانظمة والقوانين اعتباطا يوافق منافعه ويطابق أهواءه حسب
ما يحميه ويؤمنه ويسوغه ويقويه ويجعل امر التصديق بصحتها والأيمان بها والدفاع
عنها فرضا واجبا مقدسا. في العصور القديمة من صيرورة العملية التاريخية كانت خبرات
الانسان العملية المباشرة مع البيئة التي كان يعيش وسطها، خبرات بسيطة وردود افعال
حسية بدائية, فالخبرة اليومية بالولادة والحياة والموت، لا سيما سر الموت ورهبته،
دفعته الى الاعتقاد في عالم سحري ملئ بالارواح وطقوس الموتى، كان الانسان مدمجاً
بالطبيعة وكانت الاسطورة هي الافق الممكن للتفكير والمعرفة والحياة, "فالاسطورة
كانت النظام الفكري المتكامل الذي استوعب قلق الانسان الوجودي، وتوقه الابدي للكشف
عن الالغاز والغوامض والمشكلات التي يطرحها محيطه"([2]).
ان
جسد الانسان الحاس بالمحسوسات هو الوسط الحي الوحيد الذي يجعله على اتصال بالعالم،
للحكم على الظواهر والاحداث وتفسيرها. ولم تكن الظواهر والاحداث التي كانت تسيطر
على حياة الانسان البدائي الا احداث الطبيعة، المطر والجفاف والحر والبرد
والفيضانات والبراكين والاوبئة والكوارث الاخرى.
إذّاك
لم يكن الناس اصحاب عقلية تاريخية لان الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه، لا يحدثهم
عن التاريخ ولكنه يحدثهم عن الطبيعة، وهذا ما تنبأ عنه اعيادهم الاحتفالية
الموسمية.
فاعيادهم
كانت اياما لم يسجلها التاريخ، بل هي ايام السنة الزراعية التي تتعاقب في كل عام([3]).
وهذا يصدق على ما قاله المؤرخ الانجليزي (ادوار كار) "يبدأ التاريخ حين يبدا
الناس في التفكير بانقضاء الزمن ليس بمعايير السياقات الطبيعية- دورة الفصول، وآماد
الحياة البشرية، وانما بوصفه سلسلة من الاحداث المحددة التي ينخرط الناس فيها
ويؤثرون فيها بصورة واعية". او كما عبر ايكهارات "التاريخ هو انقطاع مع
الطبيعة يحدث استيقاظ الوعي"([4]).
وهذا
ما يراه "اريك فروم" في كتابه "الخوف من الحرية" بقوله: (بدا
التاريخ الاجتماعي للانسان ببزوغه من حالة التوحد مع العالم الطبيعي الى وعيه
بنفسه كذاتية منفصلة عن الطبيعة والناس المحيطين به)([5]).
وهذا
لا يعني ان الشعوب القديمة هي شعوب بلا تاريخ كما يحلو لبعض الباحثين الذين يصنفون
تاريخ البشرية الى شعوب تاريخية وشعوب بلا تاريخ، وهذا ما اشار اليه ليفي شتراوس،
في كتابه (الفكر البري) إذ اوضح "ان الفكر البري لا يخلو من أشكال المعرفة
التاريخية التي تجد فيه جذورها، كما ان فكرنا منطقي فالفكر المتوحش منطقي ايضا
ويبدو ان مدار المعرفة البشرية برمتها مدار منغلق على ذاته"([6]).
نحن
نميز بين التاريخ من حيث هو مجمل رد فعل الانسان ومجمل تطوره وتكيفه التاريخ من
حيث هو نشاط الانسان الساعي لحل مشكلاته وتحقيق اهدافه العملية، ووعي الانسان لهذا
النشاط عامة، فالعقل ظهر قبل الوعي، فالانسان القديم كان يصنع التاريخ ولكنه لم
يكن يستطيع الانفصال عن هذا الذي يصنعه، كان الانسان مستغرقاً استغراقاً كلياً في
تاريخه الطبيعي والاجتماعي، وعلى حد تعبير "بتر مونز". "فان
التاريخ كان مدمجاً بالاسطورة، لان رؤية ما حدت فعلاً لا يعرف الابأيراد وصف
تعبيري لما حدث، فيصبح المؤرخ على نحو ما واضع اساطير طوعاً او كرها"([7]).
ولقد
زخرت الذاكرة البشرية بزخم واسع من الاساطير، كاسطورة جلجامش، واسطورة الخلق والتكوين
والطوفان ويعد هذا الضرب من التدوين التاريخي شبيه التاريخ الذي لا يسجل ما حدث
فعلاً بل ما حسه الناس واحبه او اعتقدوا في اوقات مختلفة بانه قد حدث ويرى علي
حسين الجابري "ان الاسلاف قبل خمسة الاف سنة قد تمكنوا من دخول مرحلة العصور
التاريخية حينما اكتشفوا الكتابة والتدوين التاريخي، متجاوزين اثار الكوارث
والمصاعب الطبيعة ومقدمتها الطوفان حتى بدا لنا كان المعنى الباكر للتاريخ هو
الشاهد المدون"([8]).
لكن
تفسير وتعليل الاحداث ظل مشوبا بالخيال السحري والتامل الاسطوري(*). ولقد ظل التاريخ والزمن في الفكر
القديم يلفح بالاسطورة وكان الزمان لدى القدماء هو ما يحدث عندما تنضج الثمار او
تكبر الماشية" ففي المجتمعات القبلية التي كانت معنية في المقام الاول
بالصراع من اجل الظفر برزقها من الطبيعة كان الميزان والايقاع والمقياس لحياتها
ميزاناً انسانياً، وتحدد معاني الزمان اساساً حسب حاجات الانسان الحيوية ويرى شبنجلر
ان كلمة "الزمان لا معنى لها عند الرجل الفطري، فهو يحيا دون ان يكون في حاجة
الى ادراك الزمان، لان كل ادراك انما ينشأ عن الشعور بالحاجة الى المعارضة، بين شي
بشي، ومثل هذا الشعور لا مجال لوجوده عند الفطري، لانه لا يزال يتصور الوجود على
انه تاريخ ولم يتصوره بعد بعده طبيعة. ولكن ليس معنى هذا ان الفطري ليس له زمان،
كلا، انه له زمان ولكن ليس لديه شعور بهذا الزمان(**).
وهكذا
فان أكثر المجتمعات القديمة لم تكن لديها أية فكرة ولو غامضة عن الزمن تاريخاً، بل
ولم يكن لديها أي مقتضى لاستخدام نوع الزمن المقسم على "ساعات بالصورة
المطلقة الموحدة المطردة" الذي تاخذ به حضارتنا مأخذ التسليم البديهي, وخلاصة
القول ان الزمان كما تصورته معظم مجتمعات العالم يتصف بخاصيتين:
أ- انه كان مقياسا لتعاقب المواسم الزراعية، وأماد
الحياة (الميلاد والحياة والموت) استناداً الى المعيار الانساني، ومن ثم كان شعبياً
شخصياً ذاتياً.
ب- الزمان بوصفه تجربة متميزة في جوهره بالتواتر
والتكرار فهو ينطوي على ادوار متعاقبة للاحداث الميلاد والموت والنمو والانحلال
بحيث يعكس دورات الشمس والقمر والفصول والوقت المناسب لاداء الاشياء ياتي مرة تلو
الاخرى في مدد منتظمة.
لقد
تبلورت هذه الخبرات في الاساطير والديانات القديمة في تصور دوري للتاريخ الكوني بأنه
محكوم بثلاث حلقات هي "الميلاد والحياة والموت" وهذا ما عبرت عنه ملحمة
"اله الطاعون" ايرا(*)
بكونها أقدم نص "في فلسفة التاريخ" فالتاريخ عنده يتجسد في نهضه تتبعها
مرحلة أنحطاط وسقوط حضاري واضطراب في المعايير والتحلل اجتماعي وغزو اجنبي تليها
مرحلة نهوض جديدة وتسقط فيها عوامل التخلف، وتعود الحياة في دورة جديدة"([9]).
ويشير
البان ويدجيري الى ما تضمنته التأملات الصينية عن الزمان والتاريخ في مفهومي اليان
واليانج، الحركة والسكون([10]).
(*) ان
الاحساس بالزمن والخوف من الموت قد جعل من الكتابة اعظم وسيلة لحفظ الاثار
الخالدة، وقل ان يجد الانسان في تاريخ الشرائع كلها الفاظاً ارق واجمل من الفاظ
ملك بابل العظيم حمورابي.."فليات أي انسان مظلوم له قضية امام صورتي أنا ملك
العدالة، وليقرأ النقش الذي على اثري، ليلق باله الى كلماتي الخطيرة،! ولعل اثري
هذا يكون هادياً له في قضيته"، ويختم شاعر مملكة مصر الوسطى (بتاح حوتب) حوالي
2800ق.م. تعاليمه بهذه العبارة الدالة على احساس عميق بالمستقبل، "لن يمحي من
هذه البلاد الى ابد الدهر لفظ من الفاظ المدونة هنا، ولكنها ستتخذ نماذج وسيتحدث
عنها الامراء احسن الحديث"، ول ديورانت قصة الحضارة ص151.
(**) لم
تكن ملحمة جلجامش الا تمثيلا لذلك الصراع الازلي بين الموت ورغبة الانسان في
الخلود، "الانسان الضعيف المغلوب المقهور في محاولته اليأسة التشبت بالوجود
مدفوعاً بغزيرة حب الحياة والحفاظ على البقاء. "ما الذي حملك على هذا السفر
البعيد؟: أجاب جلجامش: جئت لاسال عن(لغز الحياة والموت)... وعلام تهيم على وجهك في
الصحارى؟؟ انه "انكيدو" صاحبي وخلي الذي احببته حبا جما لقد انتهى الى
ما يصير اليه البشر جميعا فافزعني الموت حتى همت على وجهي في الصحارى...أيكون في
وسعي الا ارى الموت الذي اخشاه وارهبه؟ فاجابت صاحبة الحانة: "الى اين تسعى
يا جلجامش" ان الحياة "يقصد الابدية" التي تبغي لن تجد حينما خلقت
الالهة العظام البشر قدرت الموت على البشرية واستأثرت هي بالحياة. طه باقر/ملحمة
جلجامش ص112-116-117-120. ينظر: ايضاً برستد, انتصار الحضارة, ترجمة احمد فخري,
مكتبة الاتجلوا المصرية, 1962, ص71.
(*) ويعد "انست كاسير" الاسطورة
"التاريخ الاولي" ومن رايه ان الانسان لما بدا يبحث عن اصل الاشياء
عندئذ وجد اصلاً اسطورياً ولم يجد اصلا تاريخياً، كما وجد فيها "المحاولات
الاولى لتبين الترتيب الزمني للاشياء والاحداث وافاد من ذلك انه "ليس للزمن
الاسطوري سياق محدد وانما هو زمن ازلي" وبهذا المعنى قال ديورانت "ان
تقسيم الايام الى ماض وحاضر ومستقبل عمل من صنع المؤرخين، اما الزمن فلا يعرف هذا
التقسيم"، قصة الحضارة ، ينظر، هاشم يحيى الملاح، دراسات في فلسفة التاريخ
ص49-72.
(**) هذا ما اوضحه على نحو دقيق الاستاذ د.
حسام الالوسي، في كتابه، "الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم"
المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط1 1980م اذ اوضح "ان الفكر
الميتولوجي" لا يعرف الزمان كبقاء متساوق او كتعاقب لحظات متماثلة الكيفية،
فالانسان الاول لم يعرف فكرة الزمن التي تستخدمها الرياضيات والفيرياء، كما لم
يعرف فكرة الزمن التي تشكل اطار التاريخ لنا. انه لم يستخلص فكرة مجردة عن الزمن
من تجربته للزمن"، ايضا هنري فرانكفورت، ما قبل الفلسفة، ص33.
(*)
ان "العراقيين القدامى انفسهم حديثي العهد بالحضارة او المدنية وانهم كانوا
ورثاء ماضي بعيد مجيد تخيلوا على انه عهد ذهبي, كان السلام والوئام يسودان العالم
فلا خوف ولا حزن ولا بغض وكان الخير والوفاق يعمان البشر ويمجدون الالهة والحياة
بأن واحد". ينظر طه باقر, ملحمة كلكامش, ص12, ايضاً حسام الدين الالوسيمن
الميثلوجيا والفلسفة, الكويت, ط1, 1973, ص20,50.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق