الاثنين، 6 أغسطس 2012

 جزاير الخالدات
ويقال لها أيضاً جزاير السعادات وانها في البحر المحيط في أقصى المغرب كان بها مقام جمع من الحكماء بنوا عليها ابتداء طول العمارات قال أبو الريحان الخوارزمي‏:‏ هي ست جزاير واغلة في البحر المحيط قريبات من مائتي فرسخ وإنما سميت بجزاير السعادات لأن غياطها أصناف الفواكه والطيب من غير غرس وعمارة وأرضها تحمل الزرع مكان العشب وأصناف الرياحين العطرة بدل الشوك‏.‏
قالوا‏:‏ في كل جزيرة صنم طوله مائة ذراع كالمنار ليهتدى بها وقيل‏:‏ إنما عملوا ذلك ليعلم أن ليس بعد ذلك مذهب فلا يتوسط البحر المحيط والله أعلم بذلك‏.‏
غدامس
مدينة بالمغرب في جنوبيه ضاربة في بلاد السودان يجلب منها الجلود الغدامسية وهي من أجود الدباغ لا شيء فوقها في الجودة كأنها ثياب الخز في النعومة‏.‏
بها عين قديمة يفيض الماء منها ويقسمها أهل البلد قسمة معلومة فإن أخذ أحد زائداً غاض ماؤها وأهل المدينة لا يمكنون أحداً يأخذ زائداً خوفاً من النقصان‏.‏
وأهلها بربر مسلمون قاع برية بين عمان وحضرموت من العجائب أن التاجر يمر بها إلى عمان بسلعته ليبيعها فيسمع في تلك البرية‏:‏ فلان بن فلان معه سلعة تساوي كذا ديناراً أو درهماً‏!‏ فيدخل عمان لم يزد على ذلك شيء أصلاً والله الموفق‏.‏
قلعة الشرف قلعة حصينة باليمن قرب زبيد لا يمكن استخلاصها قهراً لأنها بين جبال لا يوصل إليها إلا في مضيق لا يسمع إلا رجلاً واحداً مسيرة يوم وبعض يوم ودونه غياض أوى إليه علي بن المهدي الحميري المستولي على زبيد سنة خمسين وخمسمائة‏.‏
كاكدم
مدينة بأقصى المغرب جنوبي البحر متاخمة لبلاد السودان منها صناع أسلحة‏.‏
منها الرماح والدرق اللمطية من جلد حيوان يقال له اللمط لا يوجد إلا هناك وهو شبه الظباء أبيض اللون إلا أنه أعظم خلقاً يدبغ جلده في بلادهم باللبن وقشر بيض النعام سنة كاملة لا يعمل فيه الحديد أصلاً إن ضرب بالسيوف نسبت عنه وإن أصابه خدش أو بتر يبل بالماء ويمسح باليد فيزول عنه يتخذ منه الدرق والجواشن قيمة كل واحد منها ثلاثون ديناراً وحكى الفقيه علي الجنحاني‏:‏ انه مر بقرب كاكدم بل عال والناس يقولون من صعد هذا التل اختطفه الجن وعنده مدينة النحاس التي اشتهر ذكرها وسيأتي ذكرها في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏
كله بلدة بأرض الهند في منتصف الطريق بين عمان والصين موقعها في المعمورة في وسط خط الاستواء إذا كان منتصف النهار لا يبقى لشيء من الأشخاص ظل البتة‏.‏
بها منابت الخيزران منها يحمل إلى سائر البلاد‏.‏
. كوار
ناحية من بلاد السودان جنوبي فزان بها عين الفرس قيل‏:‏ إن عقبة ابن عامر ذهب إلى كوار غازياً فنزل ببعض منازلها فأصابهم عطش حتى أشرفوا على الهلاك فقام عقبة وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فجعل فرس عقبة يبحث في الأرض حتى كشف عن صفاة فانفجر منها الماء وجعل الفرس يمصه فرأى عقبة ذلك فنادى في الناس أن احتفروا فحفروا وشربوا فسمي ذلك الماء ماء الفرس وافتتح كوار وقبض على ملكها ومن عليه وفرض عليه مالاً‏.‏
. زويلة
مدينة بإفريقية غير مسورة في أول حدود السودان ولأهلها خاصية عجيبة في معرفة آثار القدم ليس لغيرهم تلك الخاصية حتى يعرفون أثر قدم الغريب والبلدي والرجل والمرأة واللص والعبد الآبق والأمة والذي يتولى احتراس المدينة يعمد إلى دابة يشد عليها حزمة من جرائد النخل بحيث ينال سعفه الأرض ثم يدور به حول المدينة فإذا أصبح ركب ودار حول المدينة فإن رأى أثراً خارجاً تبعه حتى أدركه أينما توجه‏.‏
وقد بنى عبد الله المهدي جد خلفاء مصر إلى جانب زويلة مدينة أخرى سماها المهدية بينهما غلوة سهم‏.‏
كان يسكن هو وأهله بالمهدية وأسكن العامة في زويلة وكانت دكاكينهم وأموالهم بالمهدية وبزويلة مساكنهم فكانوا يدخلون بالنهار زويلة للمعيشة ويخرجون بالليل إلى أهاليهم فقيل للمهدي‏:‏ إن رعيتك في هذا في عناء‏!‏ فقال‏:‏ لكن أنا في راحة لأني بالليل أفرق بينهم وبين أموالهم وبالنهار أفرق بينهم وبين أهاليهم فآمن غائلتهم بالليل والنهار‏!‏ السند ناحية بين الهند وكرمان وسجستان قالوا‏:‏ السند والهند كانا أخوين من ولد توقير بن يقطن بن حام بن نوح عليه السلام‏.‏بها بيت الذهب قال مسعر بن مهلهل‏:‏ مشيت إلى بيت الذهب المشهور بها فإذا هو من ذهب في صحراء يكون أربعة فراسخ لا يقع عليها الثلج ويثلج ما حولها وفي هذا البيت ترصد الكواكب وهو بيت تعظمه الهند والمجوس وهذه الصحراء تعرف بصحراء زردشت نبي المجوس ويقول أهل تلك الناحية‏:‏ متى يخرج منه إنسان يطلب دولة لم يغلب ولا يهزم له عسكر حيث أراد‏.‏
وحكي أن الإسكندر لما فتح تلك البلاد ودخل هذا البيت أعجبه فكتب إلى أرسطاطاليس وأطنب في وصف قبة هذا البيت فأجابه أرسطو‏:‏ إني رأيتك تتعجب من قبة عملها الآدميون وتدع التعجب من هذه القبة المرفوعة فوقك وما زينت به من الكواكب وأنوال الليل والنهار‏!‏ وسأل عثمان بن عفان عبد الله بن عامر عن السند فقال‏:‏ ماؤها وشل وتمرها دقل ولصها بطل‏!‏ إن قل الجيش بها ضاعوا وإن كثروا جاعوا‏!‏ فترك عثمان غزوها‏.‏
وبها نهر مهران وهو نهر عرضه كعرض دجلة أو أكثر يقبل من المشرق آخذاً إلى الجنوب متوجهاً نحو المغرب ويقع في بحر فارس أسفل السند قال الاصطخري‏:‏ نهر مهران يخرج من ظهر جبل يخرج منه بعض أنهار جيحون ثم يظهر بناحية ملتان على حد سمندور ثم على المنصورة ثم يقع في البحر شرقي الديبل وهو نهر كبير عذب جداً وان فيه تماسيح كما في نيل مصر وقيل‏:‏ إن تماسيح نهر السند أصغر حجماً وأقل فساداً‏.‏
وجري نهر السند كجري نهر النيل يرتفع على وجه الأرض ثم ينصب فيزرع عليه كما يزرع بأرض مصر على النيل‏.‏
فاس
مدينة كبيرة مشهورة في بلاد بربر على بر المغرب بين ثنيتين عظيمتين والعمارة قد تصاعدت حتى بلغت مستواها وقد تفجرت كلها عيوناً تسيل إلى قرارة إلى نهر منبسط إلى الأرض ينساب إلى مروج خضر وعليها داخل المدينة تمائة رحىً ولها قهندز في أرفع موضع منها ويسقيها نهر يسمى المفروش‏.‏
قال أبو عبيد البكرى‏:‏ فاس منقسمة قسمين وهي مدينتان مسورتان يقال لإحداهما عدوة القروبيين وللأخرى عدوة الأندلسيين وفي كل دار جدول ماء وعلى بابها رحىً وبستان وهي من أكثر بلاد المغرب ثماراً وخيراً وأكثر بلاد المغرب يهوداً منها يختلفون إلى سائر الآفاق بها تفاح حلو يعرف بالاطرابلسي حسن الطعم جداً يصلح بعدوة الأندلسيين ولا يصلح بعدوة القروبيين وسميذ عدوة الأندلسيين أطيب من سميذ عدوة القروبيين ورجال الأندلسيين أشجع من رجال القروبيين ونساؤهم أجمل ورجال القروبيين أحمد من رجال الأندلسيين قال إبراهيم الأصيلي‏:‏ دخلت فاساً وبي شوقٌ إلى فاس والجبن يأخذ بالعينين والرّاس فلست أدخل فاساً ما حييت ولو أعطيت فاساً وما فيها من النّاس بلاد بأرض الهند يجلب منها الكافور القيصوري وهو أحسن أنواعه‏.‏
وذكروا أن الكافور يكثر في سنة فيها رعود وبروق ورجف وزلازل وان قل ذلك كان نقصاً في وجوده‏.‏
.مراكش
مدينة من أعظم مدن بلاد المغرب واليوم سرير ملك بني عبد المؤمن وهي في البر الأعظم بينها وبين البحر عشرة أيام في وسط بلاد البربر‏.‏
وإنها كثيرة الجنان والبساتين ويخرق خارجا الخلجان والسواقي ويأتيها الارزاق من الأقطار والبوادي مع ما فيها من جني الأشجار والكروم التي يتحدث بطيبها في الآفاق‏.‏
والمدينة ذات قصور ومبان محكمة‏.‏
بها بستان عبد المؤمن بن علي أبي الخلفاء وهو بستان طوله ثلاثة فراسخ وكان ماؤه من الآبار فجلب إليها ماء من أعماق تسير تسقي بساتين لها‏.‏
وحكى أبو الربيع سليمان الملتاني ان دورة مراكش أربعون ميلاً‏.‏ينسب إليها الشيخ الصالح سني بن عبد الله المراكشي وكان شيخاً مستجاب الدعوة ذكر أن القطر حبس عنهم في ولاية يعقوب بن يوسف فقال‏:‏ ادع الله تعالى ان يسقينا‏.‏
فقال الشيخ‏:‏ ابعث إلي خمسين ألف دينار حتى أدعو الله تعالى أن يسقيكم في أي وقت شئتم‏!‏ فبعث إليه ذلك ففرقها على المحاويج ودعا فجاءهم غيث مدرار أياماً فقالوا له‏:‏ كفينا ادع الله أن يقطعه‏!‏ فقال‏:‏ ابعث إلي خمسين ألف دينار حتى أدعو الله أن يقطعه‏.‏
ففعل ذلك ففرق المال على المحاويج ودعا الله تعالى فقطعه‏.‏
.أجر
قرية في إفريقية بقرب القيروان لها حصن وقنطرة عجيبة في موضع زعر كثيرة الحجارة من عجائبها ان الريح العاصف دائمة الهبوب بها وأرضها مأسدة الأسود بها كثيرة فلا تخلو من الريح العاصف والأسد القاصف‏.‏
إفريقية
مدينة كبيرة كثيرة الخيرات طيبة التربة وافرة المزارع والأشجار والنخل والزيتون وكانت افريقية قديماً بلاداً كثيرة والآن صحارى مسافة أربعين يوماً بأرض المغرب‏.‏
بها برابر وهم مزاتة ولواتة وهوارة وغيرهم‏.‏
وماء أكثر بلادها من الصهاريج‏.‏
وبها معادن الفضة والحديد والنحاس والرصاص والكحل والرخام‏.‏
ومن عجائبها بحيرة بنزرت حدثني الفقيه أبو الربيع سليمان الملتاني‏:‏ انه يظهر في كل شهر من السنة فيها نوع من السمك يخالف النوع الذي كان قبله فإذا انتهت السنة يستأنف الدور فيرجع النوع الأول وهكذا كل سنة‏.‏
وكذلك نهر شلف فإنه في كل سنة في زمان الورد يظهر فيه صنف من السمك يسمى الشهبوق وهو سمك طوله ذراع ولحمه طيب إلا أنه كثير الشوك ويبقى شهرين‏.‏
ويكثر صيدها في هذا الوقت ويرخص ثمنها ثم ينقطع إلى القابل فلا يوجد في النهر شيء منها إلى السنة القابلة أوان الورد‏.‏
وذكر أبو الحسن علي الجزري في تاريخه‏:‏ انه نشأت بافريقية في شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وأربعمائة سحابة شديدة الرعد والبرق فأمطرت حجارة كثيرة وأهلكت كل من أصابته‏.‏
أفيق قرية من قرى مصر‏.‏
ذكر بعض الصالحين انه رأى في نومه ملكاً نزل من السماء وقال له‏:‏ أتريد أن تغفر ذنوبك قال الرجل‏:‏ منيتي ذلك‏!‏ فقال‏:‏ قل مثل ما يقوله مؤذن افيق‏.‏
قال‏:‏ فذهبت إلى افيق فرأيت المؤذن لما فرغ من الأذان قال‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير‏.‏
بها أشهد مع الشاهدين وأحملها مع الجاحدين وأعدها ليوم الدين‏.‏
وأشهد أن الرسول كما أرسل والكتاب كما أنزل والقضاء كما قدر وان الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور على ذلك أحيا وأموت وأبعث إن شاء الله تعالى‏.‏
أنصنا مدينة قديمة على شرقي النيل بأرض مصر قال ابن الفقيه‏:‏ أهل هذه المدينة مسخوا حجراً‏!‏ فيها رجال ونساء مسخوا حجراً على أعمالهم‏:‏ فالرجل نائم مع زوجته والقصاب يقطع لحمه والمرأة تخمر عجينها والصبي في المهد والرغفان في التنور كلها انقلبت حجراً صلداً‏.‏
وبأنصنا شجر اللبخ وهو عود ينشر لألواح السفينة ربما أرعف ناشره فيكون له قيمة وإذا شد لوح بلوح وترك في الماء سنة صار لوحاً واحداً فإذا اتخذ منها سفينة وبقي في الماء مدة صار كأن السفينة قطعة واحدة فلعل عزتها من هذه الجهة ولشجرته ثمرة تشبه البلح في لونه وشكله وطعمه‏.‏
.بلرم
مدينة بجزيرة صقلية في بحر المغرب قال ابن حوقل الموصلي‏:‏ بها هيكل عظيم سمعت أن أرسطاطاليس فيه في شيء من الخشب معلق والنصارى تعظم قبره وتستسقي به لاعتقاد اليونانيين به قال‏:‏ ورأيت فيها من المساجد أكثر ما رأيت في شيء من البلاد حتى رأيت على مقدار غلوة هم أكثر من عشرة مساجد ورأيت بعضها تجاه بعض‏.‏
فسألت عن ذلك فقالوا‏:‏ القوم لانتفاخ أدمغتهم لا يرضى أحدهم أن يصلي في مسجد غيره ويكون له مسجد لا يصلي فيه غيره‏.‏
. بنزرت
مدينة بافريقية على ساحل البحر يشقها نهر كبير كثير السمك لها قلاع حصينة يأوي إليها أهل النواحي إذا خرج الروم غزاة وبها رباطات للصالحين وانفردت بنزرت ببحيرة تخرج من البحر الكبير إلى مستقر تجاهها يخرج منها في كل شهر صنف من السمك لا يشبه الصنف الذي كان في الشهر الماضي إلى تمام السنة ثم يعود الدور إلى الأول والسلطان مضنه باثني بيت لحم قرية على فرسخين من بيت المقدس كان بها مولد عيسى عليه السلام‏.‏
وبها كنيسة فيها قطعة من النخل زعموا أنها النخلة التي أكلت منها مريم لما قيل لها‏:‏ وهزي إليك بجذع النخلة‏.‏
بها الماء الذي يقال له المعبودية وهو ماء ينبدي من حجر وإنه عظيم القدر عند النصارى‏.‏
بيت المقدس هي المدينة المشهورة التي كانت محل الأنبياء وقبلة الشرايط ومهبط الوحي‏.‏
بناها داود وفرغ منها سليمان عليه السلام وعن أبي بن كعب‏:‏ ان الله تعالى أوحى إلى داود‏:‏ ابن لي بيتاً‏.‏
فقال‏:‏ يا رب أين قال‏:‏ حيث ترى الملك شاهراً سيفه‏!‏ فرأى داود ملكاً على الصخرة بيده سيف فبنى هناك ولما فرغ سليمان من بنائها أوحى الله تعالى إليه‏:‏ سلني أعطك‏!‏ فقال‏:‏ يا رب أسألك أن تغفر لي ذنبي‏!‏ فقال‏:‏ لك ذلك‏!‏ قال‏:‏ وأسألك أن تغفر لمن جاء هذا البيت يريد الصلاة فيه وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولد‏!‏ فقال‏:‏ لك ذلك‏!‏ قال‏:‏ وأسألك لمن جاءه فقيراً أن تغنيه‏!‏ قال‏:‏ ولك ذلك‏!‏ قال‏:‏ وأسألك إن جاءه سقيماً أن تشفيه‏!‏ قال‏:‏ ولك ذلك‏.‏وعن ابن عباس‏:‏ البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء وما فيه موضع شبر إلا وصلى فيه نبي أو قام فيه ملك‏.‏
واتخذ سليمان فيها أشياء عجيبة‏:‏ منها قبة وهي قبة كانت فيها سلسلة معلقة ينالها المحق ولا ينالها المبطل حتى اضمحلت بالحيلة المعروفة ومنها أنه بنى فيها بيتاً وأحكمه وصقله فإذا دخله الورع والفاجر كان خيال الورع في الحائط أبيض وخيال الفاجر أسود‏.‏
ومنها أنه نصب في زاوية عصا آبنوس من زعم صادقاً أنه من أولاد الأنبياء ومسها لم يضره وإن لم يكن من أولاد الأنبياء إذا مسها احترقت يده‏.‏
ثم ضرب الدهر ضربانه واستولت عليها الجبابرة وخربوها فاجتاز بها عزير عليه السلام فرآها خاوية على عروشها فقال‏:‏ أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه وقد عمرها ملك من ملوك الفرس اسمه كوشك فصارت أعمر مما كانت وأكثر أهلاً والتي عليها الآن أرضها وضياعها جبال شاهقة وليس بقربها أرض وطئة وزروعها على أطراف الجبال بالفؤوس لأن الدواب لا عمل لها هناك‏.‏
وأما نفس المدينة ففي فضاء في وسط ذلك وأرضها كلها حجر وفيها عمارات كثيرة حسنة وشرب أهلها من ماء المطر‏.‏
ليس فيها دار إلا وفيها صهريج‏.‏
مياهها تجتمع من الدروب ودروبها حجرية ليست كثيرة الدنس لكن مياهها رديئة‏.‏
وفيها ثلاث برك‏:‏ بركة بني إسرائيل وبركة سليمان وبركة عياض‏.‏
قال محمد بن أحمد البشاري المقدسي وله كتاب في أخبار بلدان الإسلام‏:‏ إنها متوسطة الحر والبرد وقلما يقع بها ثلج ولا ترى أحسن من بنيانها ولا أنظف ولا أنزه من مساجدها‏!‏ قد جمع الله فيها فواكه الغور والسهل والجبل والأشياء المتضادة‏:‏ كالأترج واللوز والرطب والجوز والتين والموز إلا أن بها عيوباً منها ما ذكر في التوراة‏:‏ انها طست ذهب مملوء عقارب ثم لا يرى أقذر من حماماتها ولا أثقل مونة منها‏!‏ وهي مع ذلك قليلة العلماء كثيرة النصارى وفيهم جفاء على الرحبة والفنادق والضرائب ثقال على ما يباع فيها وليس لمظلوم ناصر وليس بها أمكن من الماء والأذان‏.‏
بها المسجد الأقصى الذي شرفه الله تعالى وعظمه وقال‏:‏ إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله‏.‏
وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا‏.‏
وهو في طرف الشرق من المدينة أساسه من عمل داود عليه السلام‏.‏
طول كل حجر عشرة أذرع وفي قبلته حجر أبيض عليه مكتوب‏:‏ محمد رسول الله خلقة لم يكتبه أحد‏.‏
وصحن المسجد طويل عريض طوله أكثر من عرضه وهو في غاية الحسن والإحكام مبني على أعمدة الرخام الملونة والفسيفساء الذي ليس في شيء من البلاد أحسن منه‏.‏
وفي صحن المسجد مصطبة كبيرة في ارتفاع خمسة أذرع يصعد إليه من عدة مواضع بالدرج وفي وسط هذه المصطبة قبة عظيمة مثمنة على أعمدة رخام مسقفة برصاص منمقة من داخل وخارج بالفسيفساء مطبقة بالرخام الملون‏.‏
وفي وسطها الصخرة التي تزار وعلى طرفها أثر قدم النبي عليه السلام وتحتها مغارة ينزل إليها بعدة درج يصلى فيها‏.‏
ولهذه القبة أربعة أبواب وفي شرقيها خارج القبة قبة أخرى على أعمدة حسنة يقولون‏:‏ انها قبة السلسلة‏.‏
وقبة المعراج أيضاً على المصطبة وكذلك قبة النبي عليه السلام‏.‏
كل ذلك على أعمدة مطبقة أعلاها بالرصاص وذكر أن طول قبة الصخرة كان اثني عشر ميلاً في السماء وكان على رأسها ياقوتة حمراء كان في ضوئها تغزل نساء أهل بلقاء‏.‏
وبها مربط البراق الذي ركبه النبي عليه السلام تحت ركن المسجد‏.‏
وبها محراب مريم عليها السلام الذي كانت الملائكة تأتيها فيه بفاكهة الشتاء في الصيف وبفاكهة الصيف في الشتاء‏.‏
وبها محراب زكرياء عليه السلام الذي بشرته الملائكة بيحيى‏.‏
عليه السلام وهو قائم يصلي وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فصكه فرجع إلى ربه وقال‏:‏ أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت‏!‏ فقال‏:‏ ارجع إليه وقل له حتى يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعر سنة‏.‏
قال‏:‏ أي رب‏!‏ ثم ماذا قال‏:‏ ثم الموت‏!‏ فسأل الله تعالى أن يقبره من الأرض المقدسة رمية حجر فلو كنت ثمة لأريتكم قبره إلى جنب الطريق تحت الكثيب الأحمر‏.‏
أما المسجد فطوله سبعمائة ذراع وأربعة وثمانون ذراعاً وعرضه أربعمائة وخمسة وخمسون ذراعاً وعدة ما فيه من العمد ستمائة وأربعة وثمانون وداخل الصخرة ثلاثون عموداً وقبة الصخرة ملبسة بصفائح الرصاص عليها ثلاثة آلاف صفيحة واثنتان وتسعون ومن فوق ذلك الصفائح النحاس مطلية بالذهب وفي سقوف المسجد أربعة آلاف خشبة وعلى السقوف خمسة وأربعون ألف صفيحة رصاص‏.‏
حجر الصخرة ثلاثة وثلاثون ذراعاً في سبعة وعشرين والمغارة التي تحت الصخرة تسع تسعاً وستين نفساً‏.‏
ويسرج في المسجد ألف وخمسمائة قنديل ويسرج في الصخرة أربعمائة وأربعة وستون قنديلاً‏.‏
وكانت وظيفته كل شهر مائة قسط زيتاً وفي كل سنة ثمانمائة ألف ذراع حصيراً وكان له من الخدم مائتان وثلاثون مملوكاً أقامهم عبد الملك بن مروان من خمس وبها قمامة وهي كنيسة عظيمة للنصارى في وسط البلد لا ينضبط صفتها حسناً وعمارة وتنميقاً وكثرة مال‏.‏
في موضع منها قنديل يزعمون أن نوراً من السماء ينزل في يوم معلوم ويشعله وهذا أمر مشهور عندهم‏.‏
حكي أن بعض أصحاب السلطان ذهب إليها ذلك اليوم وقال‏:‏ إني أريد أن أشاهد نزول هذا النور فقال له القس‏:‏ إن مثل هذه الأمور لا تخفى على أمثالك‏!‏ لا تبطل ناموسنا فإنا نشبه على أصحابنا لتمشية أمرنا فتجاوز عنه‏!‏ وبها عين سلوان يتبرك بها الناس قال ابن البشار‏:‏ سلوان محلة في ربض بيت المقدس تحتها عين غزيرة تسقي جناناً كثيرة وقفها عثمان بن عفان على ضعفاء بيت المقدس‏.‏
قالوا‏:‏ إن ماءها يفيد السلو إذا شربه الحزين ولهذا قال رؤبة‏:‏ لو أشرب السلوان ما سلوت‏.‏
بلاد بربر بلاد واسعة من برقة إلى آخر بلاد المغرب والبحر المحيط‏.‏
سكانها أمة عظيمة يقال إنهم من بقية قوم جالوت لما قتل هرب قومه إلى المغرب فحصلوا في جبالها وهم أحفى خلق الله وأكثرهم بطشاً وأسرعهم إلى الفتنة وأطوعهم لداعية الضلالة‏!‏ ولهم أحوال عجيبة واصطلاحات غريبة سول لهم الشيطان الغوايات وزين لهم أنواع الضلالات‏.‏عن أنس بن مالك قال‏:‏ جئت إلى رسول الله عليه السلام ومعي وصيف فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أنس ما جنس هذا الغلام قلت‏:‏ بربري يا رسول الله‏!‏ فقال‏:‏ بعه ولو بدينار ‏!‏ قلت‏:‏ ولم يا رسول الله قال‏:‏ إنهم أمة بعث الله إليهم رسولاً فذبحوه وطبخوه وأكلوا لحمه وبعثوا مرقه إلى نسائهم‏!‏ قال الله تعالى‏:‏ لا اتخذت منكم نبياً ولا بعثت إليكم رسولاً‏.‏
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ولأن أتصدق بعلاقة سوطي في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق رقبة بربرية‏!‏ ولكثرة ما تخالف حالاتهم وعاداتهم سائر الناس قال بعض المغاربة‏:‏ رأيت آدم في نومي فقلت له‏:‏ أبا البريّة إنّ النّاس قد حكموا أنّ البرابر نسلٌ منك قال‏:‏ أنا‏!‏ حوّاءٌ طالقةٌ إن صحّ ما زعموا ومن عاداتهم العجيبة ما حكى ابن حوقل الموصلي التاجر وقد طاف بلادهم‏:‏ إن أكثر البربر يضيفون المارة ويكرمون الضيف ويطعمون الطعام ولا يمنعون أولادهم الذكور من طالب التبديل لو طلب هذا المعنى ممن هو أكبرهم قدراً وأكثرهم حمية وشجاعة لم يمتنع عليه‏.‏
وقد شاهدهم أبو عبد الله الشعبي على ذلك حتى بلغ بهم أشد مبلغ فما تركوه‏.‏
ومن العجب أنهم يرون ذلك كرماً والامتناع عنه لؤماً ونقصاً ونسأل الله السلامة‏!‏ وحكي أيضاً أن أحدهم إذا أحب امرأة وأراد التزوج بها ولم يكن كفؤاً لها عمد إلى بقرة حامل من بقر أبيها ويقطع من ذنبها شيئاً من الشعر ويهرب فإذا أخبر الراعي أهل المرأة بذلك خرجوا في طلبه فإن وجدوه قتلوه وان لم يظفروا به يمضي هو على وجهه فإن وجد أحداً قطع ذكره وأتى القوم به قبل أن تلد البقرة ظفر بالجارية وزوجوها منه ولا يمكنهم الامتناع البتة وإن ولدت البقرة ولم يأت بالذكر المقطوع بطل عمله ولم يمكنه الرجوع إليهم وإن رجع قتلوه وترى في تلك البلاد كثيراً من المجبوبين يكون جبهم بهذا السبب فإذا حصلوا في بلاد المغرب التمسوا القرآن والزهد‏.‏
.تاهرت
اسم مدينتين مقابلتين بأقصى المغرب يقال لإحداهما تاهرت القديم وللأخرى الحديث وهما كثيرتا الأشجار وافرتا الثمار‏.‏
سفرجلهما يفوق سفرجل الآفاق طعماً وحسناً وبهما كثرة الأمطار والانداء والضباب وشدة البرد قلما ترى الشمس بها‏.‏
وذكر أن اعرابياً دخلها وتأذى من شدة بردها فخرج منها إلى أرض السودان فأتى عليه يوم شديد الحر فنظر إلى الشمس راكدة على قمم رؤوسهم فقال مشيراً إلى الشمس‏:‏ والله لئن عززت في هذا المكان لطالما رأيتك ذليلة بتاهرت‏!‏ وأهلها موصوفون بالحمق حكي انه رفع إلى قاضيهم جناية فما وجدها في كتاب الله فجمع الفقهاء والمشايخ فقالوا بأجمعهم‏:‏ الرأي للقاضي‏!‏ فقال القاضي‏:‏ اني أرى أن أضرب المصحف بعضه ببعض ثم أفتحه فما خرج عملنا به‏.‏
فقالوا‏:‏ وفقت افعل‏!‏ ففعل ذلك فخرج‏:‏ سنسمه على الخرطوم فجدع أنفه‏.‏مدينة بأرض الشام قديمة أبنيتها من أعجب الأبنية موضوعة على العمد الرخام‏.‏
زعموا أنها مما بنته الجن لسليمان عليه السلام قال النابغة الذبياني‏:‏ إلاّ سليمان قد قال الإله له‏:‏ قم بالبريّة فاحددها عن الفند وخيّس الجنّ إني قد أمرتهم يبنون تدمر بالصّفّاح والعمد حكى إسماعيل بن محمد بن خالد التستري قال‏:‏ كنت مع مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية حين هدم حائط تدمر فأفضى الهدم إلى خرق عظيم فكشفوا عنه صخرة فإذا بيت مجصص كأن اليد قد رفعت عنه وإذا سرير عليه امرأة مستلقية على ظهرها عليها سبعون حلة ولها غدائر مشدودة بخلخالها قال‏:‏ فكانت قدمها ذراعاً من غير أصابع وفي بعض غدائرها صفيحة ذهب فيها مكتوب‏:‏ باسمك اللهم‏!‏ أنا تدمر بنت حسان أدخل الله الذل على من يدخل علي‏!‏ فأمر مروان بالخرق فأعيد كما كان ولم يأخذ شيئاً من حليها‏!‏ قال‏:‏ فوالله ما مكثنا بعد ذلك إلا أياماً حتى أقبل عبد الله بن علي وحارب مروان وفرق جيوشه وأزال الملك عن بني أمية‏.‏
وبها تصاوير كثيرة منها صورة جاريتين من حجارة نمق الصانع في تصويرهما مر بهما أوس بن ثعلبة فقال‏:‏ قيامكما على غير الحشايا على حبلٍ أصمّ من الرّخام فكم قد مرّ من عدد اللّيالي لعصركما وعام بعد عام وإنّكما على مرّ اللّيالي لأبقى من فروع ابني شمام فسمع هذه الأبيات يزيد بن معاوية فقال‏:‏ لله در أهل العراق‏!‏ هاتان الصورتان فيكم أهل الشام لم يذكرهما أحد منكم فمر بهما هذا العراقي وقال ما قال‏!‏ تستر مدينة مشهورة قصبة الاهواز الماء يدور حولها‏.‏
بها الشاذروان الذي بناه شابور‏.‏
وهو من أعجب البناء وأحكمها امتداده يقرب من ميل حتى يرد الماء إلى تستر وهي صنعة عجيبة مبنية بالحجارة المحكمة وأعمدة الحديد ملاط الرصاص‏.‏
وإنما رجع الماء إلى تستر بسبب هذا الشاذروان وإلا لامتنع لأنه على نشز من الأرض‏.‏
وإنها مدينة آهلة كثيرة الخيرات وافرة الغلات وغزا بعض الأكاسرة الروم وحمل الأسارى إلى تستر وأسكنهم فيها فظهرت فيها صنائع الروم وبقيت في أهلها إلى زماننا هذا‏.‏
يجلب منها أنواع الديباج والحرير والخز والستور والبسط والفرش‏.‏وحكي أن أبا موسى الأشعري لما فتح تستر وجد بها ميتاً في آبزون من نحاس معه دراهم من احتاج إلى تلك الدراهم أخذها فإذا قضى حاجته ردها فإن حبسها مرض‏.‏
فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر بن الخطاب فكتب في جوابه‏:‏ ان ذلك دانيال النبي‏!‏ أخرجه وغسله وكفنه وصل عليه وادفنه‏.‏
وينسب إليها سهل بن عبد الله التستري صاحب الكرامات الظاهرة من جملتها إذا مس مريضاً عافاه الله وقد سمع من كثير من أهل تستر أن في منزل سهل بيتاً يسمى بيت السباع كانت السباع تأتيه وهو يضيفها فيه حكى سهل ابتداء أمره قال‏:‏ قال لي خالي محمد بن سوار‏:‏ ألا تذكر الله الذي خلقك قلت‏:‏ كيف أذكره فقال‏:‏ قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك‏:‏ الله معي‏!‏ الله ناظر إلي‏!‏ الله شاهدي‏!‏ قلت ذلك ثلاث ليال ثم أعلمته‏.‏
قال‏:‏ قل ذلك كل ليلة سبع مرات فقلت ذلك ثم أعلمته‏.‏
فقال‏:‏ قل كل ليلة إحدى عشرة مرة فقلت ذلك ثم أعلمته فوقع في قلبي حلاوة‏.‏
فلما كان بعد سنة قال لي خالي‏:‏ احفظ ما علمتك ودم عليه حتى تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة‏!‏ فبقيت على ذلك سنين فوجدت لها حلاوة في سري ثم قال لي يوماً‏:‏ يا سهل من كان الله معه وناظراً إليه وشاهده لا يعصي‏!‏ إياك والمعصية‏!‏ قال‏:‏ كنت أشتري بدرهم شعيراً فيخبز لي منها أفطر كل سحر على قدر أوقية منها بغير ملح ولا ادام فيكفيني الدرهم سنة ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال وأفطر ليلة ثم خمساً ثم سبعاً ثم خمساً وعشرين‏.‏
بقيت على ذلك عشرين سنة‏.‏
توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين‏.‏
وحكى الأستاذ أبو علي الدقاق‏:‏ أن يعقوب بن ليث الصفار مرض مرضاً شديداً عجز الأطباء عن معالجته فقيل له‏:‏ إن في ولايتك رجلاً يدعو الله تعالى للمرضى فيشفون فلو دعا الله لك ترجو العافية‏.‏
فطلب سهلاً وسأله أن يدعو له فقال له سهل‏:‏ أنى يستجاب دعائي لك وعلى بابك مظلومون‏!‏ فأمر برفع الظلامات وإخراج المحبسين فقال سهل‏:‏ يا رب كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة‏!‏ ومسح بطنه بيده فعافاه الله فعرض على سهل مالاً كثيراً فأبى أن يأخذ منه شيئاً فقالوا له لما خرج‏:‏ لو قبلت وفرقت على الفقراء‏!‏ فقال له‏:‏ انظر إلى الأرض‏.‏
فنظر فرأى كل مكان وضع قدمه عليه صار ترابه دنانير‏.‏
فقال‏:‏ من أعطاه الله هذا أي حاجة له إلى مال يعقوب وقال‏:‏ دخلت يوم الجمعة على سهل بن عبد الله فرأيت في بيته حية فتوقفت فقال لي‏:‏ ادخل لا يتم إيمان أحد ويتهم شيئاً على وجه الأرض‏.‏
فدخلت فقال لي‏:‏ هل لك في صلاة الجمعة قلت‏:‏ بيننا وبين الجامع مسيرة يوم‏.‏
فأخذ بيدي فما كان إلا قليلاً حتى كنا في الجامع فصلينا تلمسان قرية قديمة بالمغرب‏.‏
ذكروا أن القرية التي ذكرها الله تعالى في قصة الخضر وموسى‏:‏ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه‏.‏
قيل‏:‏ إنه كان جداراً عالياً عريضاً مائلاً فمسحه الخضر عليه السلام بيده فاستقام‏.‏
وحدثني بعض المغاربة أنه رأى بتلمسان مسجداً يقال له مسجد الجدار يقصده الناس للزيارة‏.‏
.تنس
مدينة بافريقية حصينة ولها قهندز صعب المرتقى ينفرد بها العمال لحصانتها خوفاً من الرعية هواؤها وبي وماؤها ردي وماؤهم من واد يدور حول المدينة وإليه مذهب مياه حشوشهم وشربهم منه والحمى لا تفارق أهلها في أكثر الأوقات‏.‏
وبها ذئب كثير يأكل أهلها وبرغوث كثير وهم في عذاب من الذئب والبراغيث قال بعض من دخلها وفارقها‏:‏
لا سقى الله بلدةً كنت فيها‏!‏** البراغيث كلّهم أكلوني‏!‏
إن صعدت السّطوح لم يتركوني **وأراهم على الدّرج يسبقوني
.تونس
مدينة بأرض المغرب كبيرة على ساحل البحر قصبة بلاد افريقية‏.‏
اصلح بلادها هواء وأطيبها ماء وأكثرها خيراً‏!‏ وبها من الثمار والفواكه ما لا يوجد في غيرها من بلاد المغرب حسناً وطعماً‏:‏ فمن ذلك لوز عجيب يفرك باليد وأكثرها في كل لوزة حبتان‏.‏
وبها الرمان الذي لا عجم له مع صدق الحلاوة والأترج الذكي الرائحة البديع المنظر والتين الحازمي الأسود الكبير الرقيق القشر الكثير العسل لا يكاد يوجد فيه بزر والسفرجل الكبير جداً العطر الرائحة والعناب الكبير كل حبة منه على حجم جوزة والبصل العلوري على حجم الأترج مستطيل صادق الحلاوة‏.‏
وبها أنواع من السمك عجيبة لا ترى في غيرها يرى في كل شهر نوع من السمك خالفاً لما كان قبله فيملح ويبقى سنين صحيح الجرم طيب الطعم‏.‏
ومنها نوع يقال له البقونس يقولون‏:‏ لولا البقونس لم تخالف أهل تونس‏.‏
وأهلها موصوفون باللؤم ودناة النفس والبخل الشديد والشغب والخروج على الولاة قال بعض‏:‏ لعمرك ما ألفيت تونس كاسمها ** ولكنّني ألفيتها وهي توحش
وبين تونس والقيروان ثلاثة أيام بينهما موضع يقال له محقة بها أمر عجيب وهو أنه إذا كان أوان الزيتون قصدته الزرازير وقد حمل كل طائر معه زيتونتين في مخلبيه يلقيهما هناك ويحصل من ذلك غلة قالوا‏:‏ تبلغ سبعين ألف درهم‏!‏ التيه هو الموضع الذي ضل فيه موسى عليه السلام مع بني إسرائيل بين ايلة ومصر وبحر القلزم وجبال السراة أربعون فرسخاً في أربعين فرسخاً لما امتنعوا من دخول الأرض المقدسة حبسهم الله تعالى في هذا التيه أربعين سنة كانوا يسيرون في طول نهارهم فإذا انتهى النهار نزلوا بالموضع الذي رحلوا عنه وكان مأكولهم المن والسلوى ومشروبهم من ماء الحجر الذي كان مع موسى عليه السلام ينفجر منه اثنتا عشرة عيناً على عدد الأسباط كل سبط يأخذ منه ساقية ويبعث الله تعالى سحابة تظلهم بالنهار وعموداً من النور يستضيئون به بالليل‏.‏
هذا نعمة الله تعالى عليهم وهم عصاة مسخوطون فسبحان من عمت رحمته البر والفاجر‏!‏ قيل‏:‏ لما خرج بنو إسرائيل من مصر عازمين الأرض المقدسة كانوا ستمائة ألف وما كان فيهم من عمره فوق الستين ولا دون العشرين فمات كلهم في أربعين سنة‏.‏
ولم يخرج ممن دخل مع موسى إلا يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وهما الرجلان اللذان كانا يقولان‏:‏ ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون فدخل يوشع عليه السلام بعقبهم وفتح أرض الشام‏.‏
جالطة
جزيرة على مرسى طبرقة من أرض افريقية طولها ثمانية أميال وعرضها خمسة أميال‏.‏
بها ثلاث أعين عذبة الماء وبها مزارع وآثار قديمة‏.‏
وبها من الايل ما لا يحصى‏.‏
حدثني الفقيه سليمان الملتاني أن بها عنزاً كثيرة إنسية توحشت إذا قصدها قاصد أهوت نفسها من جبال شاهقة ووقفت على قوائمها بخلاف الايل فإنها تقف على قرونها‏.‏
.الرقادة
بلدة طيبة بافريقية بقرب القيروان كثيرة البساتين ليس بافريقية أعدل هواء ولا أطيب نسيماً منها ولا أصح تربة‏!‏ حتى إن من دخلها لم يزل مستبشراً من غير أن يعلم لذلك سبباً‏.‏
وحكي أن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب مرض وشرد عنه النوم فعالجه إسحق المتطبب الذي نسب إليه الاطريفل الاسحقي فأمره بالتردد‏.‏
فلما وصل إلى هذا الموضع نام فسماه رقادة واتخذ به دوراً وقصوراً فصارت من أحسن بلاد الله‏.‏
وكان يمنع بيع النبيذ بالقيروان ولا يمنع بالرقادة فقال طرفاء القيروان‏:‏ يا سيّد النّاس وابن سيّدهم ومن إليه الرّقاب منقاده ما حرّم الشّرب في مدينتنا وهو حلالٌ بأرض رقّاده زكندر مدينة بالمغرب من بلاد بربر بينها وبين مراكش ست مراحل حدثني الفقيه علي بن عبد الله المغربي الجنحاني أنها مدينة كبيرة مسورة كثيرة الخيرات والثمرات أهلها برابر مسلمون بها معادن الفضة عامة كل من أراد يعالجها‏.‏
وهي غيران تحت الأرض فيها خلق كثير يعملون أبداً‏.‏
ومن عادة أهل المدينة أن من جنى جناية أو وجب عليه حق فدخل شيئاً من تلك الغيران سقط عنه الطلب حتى يخرج منها‏.‏
وفيها أسواق ومساكن فلعل الخائف يعمل فيها مدة وينفق ولا يخرج حتى يسهل الله أمره‏.‏
وذكر أنهم إذا نزلوا عشرين ذراعاً نزل الماء فالسلطان ينصب عليها الدواليب ويسقي ماؤها ليظهر الطين فيخرجه الفلعة إلى ظاهر الأرض ويغسلونها‏.‏
وإنما يفعل ذلك ليأخذ خمس النيل وماؤها يسقي ثلاث دفعات لأن من وجه الأرض إلى الماء عشرين ذراعاً فينصب دولاباً في الغار على وجه الماء فيستقي ويصب في حوض كبير وينصب على ذلك الحوض دولاباً آخر فيستقي ويصب في حوض آخر ثم ينصب إلى ذلك الحوض دولاباً ثالثاً فيستقي ويجري على وجه الأرض إلى المزارع والبساتين‏.‏
وذكروا أن هذه المعاملة لا تصح إلا من صاحب مال كثير له آلاف يقعد على باب الغار ويكري الصناع والعملة فيخرجون الطين ويغسلونه بين يديه حتى إذا تم العمل أخرج خمس السلطان وسلم الباقي له فربما يكون أصغر مما أنفق وربما يكون دونه على قدر جد الرجل‏.‏
سابور مدينة بأرض فارس بناها سابور بن أردشير من دخلها لم يزل يشم روائح طيبة حتى يخرج منها لكثرة رياحينها وأزهارها وكثرة أشجارها‏.‏
قال البشاري‏:‏ مدينة سابور نزهة جداً بها ثمار الجروم والصرود من النخل والزيتون والاترج والجوز واللوز والعنب وقصب السكر‏.‏
وأنهارها جارية وثمارها دانية‏.‏
وقراها مشتبكة يمشي السائر أياماً تحت ظل الأشجار كصغد ينسب إليها أبو عبد الله السابوري‏.‏
كان من أولياء الله تعالى قال الأستاذ أبو علي الدقاق‏:‏ إن أبا عبد الله كان صياداً فإذا نزلنا به أطعمنا من لم الصيد ثم ترك ذلك‏.‏
فسألناه عن سببه فقال‏:‏ كنت أنصب شبكتي على عين ماء فالظباء كانت تأتي لتشرب فتتعلق بالشبكة‏.‏
فنصبتها في بعض الأيام فإذا أنا بظبية معها غزلان ثلاثة في انتصاف النهار عند شدة الحر فقصدت الماء لتشرب فلما رأت الشبكة نفرت عنها وذهبت وقد غلبها وغزلانها العطش ثم عادت ودنت من الماء فلما رأت الشبكة جعلت تنظر إليها وترفع رأسها نحو السماء حتى فعلت ذلك مراراً‏.‏
فما كان إلا قليل حتى ظهرت سحابة سترت الآفاق وأمطرت مطراً سالت منه المياه في الصحراء‏.‏
فلما شاهدت تلك الحالة تركت الاصطياد‏.‏
سبتة
بلدة مشهورة من قواعد بلاد المغرب على ساحل البحر في بر البربر‏.‏
وهي ضاربة في البحر داخلة فيه‏.‏
قال أبو حامد الأندلسي‏:‏ عندها الصخرة التي وصل إليها موسى وفتاه يوشع عليه السلام فنسيا الحوت المشوي وكانا قد أكلا نصفه فأحيا الله تعالى النصف الآخر فاتخذ سبيله في البحر عجباً‏.‏
وله نسل إلى الآن في ذلك الموضع وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر وأحد جانبيها صحيح والجانب الآخر شوك وعظام وغشاء رقيق على أحشائها‏.‏
وعينها واحدة ورأسها نصف رأس فمن رآها من هذا الجانب استقذرها ويحسب أنها مأكولة ميتة والناس يتبركون بها ويهدونها إلى المحتشمين واليهود يقددونها ويحملونها إلى البلاد البعيدة للهدايا‏.‏
.سنون
قرية بأرض كرمان قال صاحب تحفة الغرائب‏:‏ بها حصار في وسطها لا ترى الفأر فيه أبداً ولو حملت إليها ماتت إذا أصابت أرضها‏!‏ سوبلا بلجة بأرض البربر قرب مراكش‏.‏
أهلها من شرار البربر وبربر من شرار الناس‏.‏
ذكر أن أبا يعقوب بن يوسف ملك المغرب اجتاز بها فخرج مشايخها إليه للتلقي والخدمة فلما رآهم قال‏:‏ من أنتم قالوا‏:‏ مشايخ سوبلا‏!‏ فقال‏:‏ لا حاجة إلى اليمين إنا نعرفكم‏!‏ فتعجب الناس من سرعة جوابه كأنهم قالوا‏:‏ نحن مشايخ سوء بالله واللفظان واحد في كلام المغاربة‏.‏
سيراف مدينة شريفة طيبة البقعة كثيرة البساتين والعيون تأتيها من الجبال واسعة البقعة والدور‏.‏
ينسب إليها أبو الحسن السيرافي شارح كتاب سيبويه عشرين مجلداً كان فريد عصره‏.‏
سيرجان قصبة بلاد كرمان بلدة طيبة كثيرة العلم حسنة الرسم ذات بساتين ومياه كثيرة أبهى من شيراز وأوسع وبينهما ثلاث مراحل يقال لهما القصران‏.‏
ماؤها عذب وهواؤها صحيح وأديمها فسيح‏.‏
بها دور عضد الدولة لم يوجد مثلها في شيء من البلاد‏.‏
وقد ش بها عمرو وطاهر ابنا الليث بن طاهر الصفار السجستاني قناتين‏.‏
ماؤها يدور في البلد ويدخل دورهم‏.‏
بها الفانيد وقصب السكر وبها نخل كثير ولهم سنة حسنة وهي أنهم لا يرفعون من تمورهم شيئاً أسقطته الريح ويتركونها للضعفاء فربما كثرت الرياح في بعض الأوقات فيحصل للفقراء أكثر مما يحصل للملاك‏.‏
والكمون يحمل منها إلى الآفاق‏.‏
.صقلية
جزيرة عظيمة من جزائر أهل المغرب مقابلة لافريقية‏.‏
وهي مثلثة الشكل بين كل زاوية والأخرى مسيرة سبعة أيام‏.‏
وهي حصينة كثيرة البلدان والقرى كثيرة المواشي جداً من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والحيوانات الوحشية‏.‏
ومن فضلها أن ليس بها عاد بناب أو برثن أو إبرة وبها معدن الذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد وكذلك معدن الشب والكحل والزاج ومعدن النوشاذر ومعدن الزئبق‏.‏
وبها المياه والأشجار والمزارع وأنواع الفواكه على اختلاف أنواعها لا تنقطع شتاء ولا صيفاً‏.‏
وأرضها تنبت الزعفران‏.‏
وكانت قليلة العمارة خاملة الذكر إلى أن فتح المسلمون بلاد افريقية فهرب أهل افريقية إليها وعمروها حتى فتحت في أيام بني الأغلب في ولاية المأمون فبقيت في يد المسلمين مدة ثم ظهر عليها الكفار وهي الآن في أيديهم‏.‏
وبهذه الجزيرة جبال شامخة وعيون غزيرة وأنهار جارية ونزهة عجيبة وقال ابن حمديس وهو يشتاق إليها‏:‏ ذكرت صقلّيّة والهوى يهيّج للنّفس تذكارها فإن كنت أخرجت من جنةٍ فإني أحدّث أخبارها ذكر أن دورها مسيرة ستة عشر يوماً وقطرها مسيرة خمسة أيام وهي مملوءة من الخيرات والمياه والأشجار والمزارع والفواكه‏.‏
بها جبل يقال له قصر يانه وهو من عجائب الدنيا‏.‏
على هذا الجبل مدينة عظيمة شامخة وحولها مزارع وبساتين كثيرة وهي شاهقة في الهواء وكل ذلك يحويه باب المدينة لا طريق إليها إلا بذلك الباب والأنهار تنفجر من أعلاها‏.‏
وبها جبل النار ذكر أبو علي الحسن بن يحيى أنه جبل مطل على البحر دورته ثلاثة أيام بقرب طبرمين فيه أشجار كثيرة وأكثرها البندق والصنوبر والارزن وفيه أصناف الثمار وفي أعلاه منافس النار يخرج منه النار والدخان وربما سالت النار منه إلى جهة تحرق كل ما مرت به وتجعل الأرض مثل خبث الحديد لا تنبت شيئاً ولا تمر الدابة بها ويسميه الناس الاخباث‏.‏
وفي أعلى هذا الجبل السحاب والثلوج والأمطار دائمة لا تكاد تقلع عنه في صيف ولا شتاء والثلج لا يفارق أعلاه في الصيف‏.‏
وأما في الشتاء فيعم الثلج أوله وآخره‏.‏
وزعمت الروم أن كثيراً من الحكماء يرحلون إلى جزيرة صقلية للنظر إلى عجائب هذا الجبل واجتماع النار والثلج فيه فترى بالليل نار عظيمة تشعل على قلته وبالنهار دخان عظيم لا يستطيع أحد الدنو إليها فإن اقتبس منها طفئت إذا فارقت موضعها‏.‏
وبها البركان العظيم قال أحمد بن عمر العذري‏:‏ ليس في الدنيا بركان أشنع منه منظراً ولا أعجب مخبراً‏!‏ فإذا هبت الريح سمع له دوي عظيم كالرعد القاصف ويقطع من هذا وقال أيضاً‏:‏ بها آبار ثلاث يخرج منها من أول الربيع إلى آخره زيت النفط فينزل في هذه الآبار على درج ويتقنع النازل ويسد منخره فإن تنفس في أسفلها هلك من ساعته يغترف ماءها ويجعله في اجانات فما كان نفطاً علا فيجمع ويجعل في القوارير‏.‏
صور مدينة مشهورة على طرف بحر الشام استدار حائطها على مبناها استدارة عجيبة بها قنطرة من عجائب الدنيا وهي من أحد الطرفين إلى الآخر على قوس واحد‏.‏
ليس في جميع البلاد قنطرة أعظم منها‏.‏
ومثلها قنطرة طليطلة بالأندلس إلا أنها دون قنطرة صور في العظم ينسب إليها الدنانير الصورية التي يتعامل عليها أهل الشام والعراق‏.‏
.مليانة
مدينة كبيرة بالمغرب من أعمال بجاية مستندة إلى جبل زكار وهي كثيرة الخيرات وافرة الغلات مشهورة بالحسن والطيب وكثرة الأشجار وتدفق المياه‏.‏
حدثني الفقيه أبو الربيع سليمان الملتاني أن جبل زكار مطل على المدينة وطول الجبل أكثر من فرسخ ومياه المدينة تتدفق من سفحه وهذا الجبل لا يزال أخضر صيفاً وشتاء وأعلى الجبل مسطح يزرع وبقرب المدينة حمامات لا يوقد عليها ولا يستقى ماؤها بنيت على عين حارة عذبة الماء يستحم بها من شاء‏.‏
الأشبونة
مدينة بالأندلس بقرب باجة طيبة‏.‏
بها أنواع الثمرات وضروب صيد البر والبحر‏.‏
وهي على ضفة البحر تضرب أمواج البحر حائط سورها قال أحمد ابن عمر العذري وهو صاحب الممالك والمسالك الأندلسية‏:‏ على أحد أبواب الأشبونة المعروف بباب الجمة جمة قريبة من البحر يجري بماء حار وماء بارد فإذا فار البحر واراها‏.‏
وقال أيضاً‏:‏ بقرب الأشبونة غار عظيم تدخل أمواج البحر فيه وعلى فم الغار جبل عال فإذا ترادفت أمواج البحر في الغار ترى الجبل يتحرك بتحرك الموج فمن نظر إليه رآه مرة يرتفع ومرة ينخفض‏.‏
وبقربها جبل يوجد فيه حجر البرادي وهو حجر يضيء بالليل كالمصباح‏.‏
قال‏:‏ أخبر من صعد هذا الجبل ليلاً قال كان هذا الحجر فيه يضيء كالمصباح‏.‏
قال‏:‏ وهذا الجبل معدن الجزع‏.
.اشبيلية
مدينة بالأندلس بقرب لبة كبيرة‏.‏
تباينت بلاد الأندلس بكل فضيلة وامتازت عنها بكل مزية من طيب الهواء وعذوبة الماء وصحة التربة والزرع والضرع وكثرة الثمرات من كل نوع وصيد البر والبحر بها زيتون أخضر يبقى مدة لا يتغير به حال ولا يعروه اختلال وقد أخذ في الأرض طولاً وعرضاً فراسخ في فراسخ ويبقى زيته بعذوبته أعواماً‏.‏
وكذلك بها عسل كثير جداً وتين يابس‏.‏
ينسب إليها الشيخ الفاضل محمد بن العربي الملقب بمحيي الدين‏.‏
رأيته بدمشق سنة ثلاثين وستمائة‏.‏
وكان شيخاً فاضلاً أديباً حكيماً شاعراً عارفاً زاهداً‏.‏
سمعت أنه يكتب كراريس فيها أشياء عجيبة‏.‏
سمعت أنه كتب كتاباً في خواص قوارع القرآن‏.‏ومن حكاياته العجيبة ما حكى انه كان بمدينة اشبيلية نخلة في بعض طرقاتها فمالت إلى نحو الطريق حتى سدت الطريق على المارين فتحدث الناس في قطعها حتى عزموا أن يقطعوها من الغد قال‏:‏ فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في نومي عند النخلة وهي تشكو إليه وتقول‏:‏ يا رسول الله ان القوم يريدون قطعي لأني منعتهم المرور‏!‏ فمسح رسول الله عليه السلام بيده المباركة النخلة فاستقامت فلما أصبحت ذهبت إلى النخلة فوجدتها مستقيمة فذكرت أمرها للناس فتعجبوا منها واتخذوها مزاراً متبركاً به‏!‏ أفرنجة بلدة عظيمة ومملكة عريضة في بلاد النصارى بردها شديد جداً وهواؤها غليظ لفرط البرد‏.‏
وإنها كثيرة الخيرات والفواكه والغلات غزيرة الأنهار كثيرة الثمار ذات زرع وضرع وشجر وعسل صيودها كثيرة الانواع‏.‏
بها معادن الفضة وتضرب بها سيوف قطاعة جداً وسيوف افرنجة أمضى من سيوف الهند‏.‏
وأهلها نصارى‏.‏
ولهم ملك ذو بأس وعدد كثير وقوة ملك له مدينتان أو ثلاث على ساحل البحر من هذا الجانب في وسط بلاد الإسلام وهو يحميها من ذلك الجانب كلما بعث المسلمون إليها من يفتحها يبعث هو من ذلك الجانب من يحميها‏.‏
وعساكره ذوو بأس شديد لا يرون الفرار أصلاً عند اللقاء ويرون الموت دون ذلك‏.‏
لا ترى أقذر منهم وهم أهل غدر ودناءة أخلاق لا يتنظفون ولا يغتسلون في العام إلا مرة أو مرتين بالماء البارد ولا يغسلون ثيابهم منذ لبسوها إلى أن تتقطع‏.‏
ويحلقون لحاهم وإنما تنبت بعد الحلق خشنة مستكرهة‏.‏
سئل واحد عن حلق اللحى فقال‏:‏ الشعر فضلة أنتم تزيلونها عن سوءاتكم فكيف نتركها نحن على وجوهنا أفسوس مدينة مشهورة بأرض الروم وهي مدينة دقيانوس الجبار الذي هرب منه أصحاب الكهف وبين الكهف والمدينة مقدار فرسخين والكهف مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس فيه رجال موتى لم يتغيروا وعددهم سبعة‏:‏ ستة منهم نيام على ظهورهم وواحد منهم في آخر الكهف مضطجع على يمينه وظهره إلى جدار الكهف وعند أرجلهم كلب ميت لم يسقط من أعضائه شيء وهو باسط ذراعيه بالوصيد كافتراش السباع وعلى الكهف مسجد يستجاب فيه الدعاء يقصده الناس وأهل المدينة يرون بالليل على الكهف نوراً عظيماً ويعرفون أن ذلك وكان من بداية أمرهم ما حكى وهب بن منبه أن سليمان بن داود عليه السلام لما قبض ارتد ملك الروم إلى عبادة الأصنام ودقيانوس أحد قواده رجع أيضاً معه ومن خالفه عذبه بالقتل والحرق والصلب‏.‏
فاتفق أن بعض الفتيان من أولاد البطارقة خرجوا ذات يوم لينظروا إلى المعذبين من الموحدين فقدر الله هدايتهم وفتح أبصارهم فكانوا يرون الرجل الموحد إذا قتل هبطت إليه الملائكة من السماء وعرجوا بروحه فآمنوا ومكثوا على ذلك حتى ظهر أمر إسلامهم‏.‏
فأرسل الملك إلى آبائهم وعتب عليهم بسبب إسلام أولادهم فقالوا‏:‏ أيها الملك نحن تبرأنا منهم شأنك وشأنهم‏!‏ فأحضرهم الملك وقال لهم‏:‏ لكم المهل ثلاثة أيام وإني شاخص في هذه الأيام من البلد فإن وجدتكم في اليوم الرابع عند رجوعي مخالفين لطاعتي عذبتكم عذاب من خالفني فلما كان اليوم الثالث اجتمع الفتية وقالوا‏:‏ إنما يومنا هذا هو وليلته وعزموا على الهرب في تلك الليلة فلما جنهم الليل حمل كل واحد شيئاً من مال أبيه وخرجوا من المدينة يمشون فمروا براعي غنم لبعض آبائهم فعرفهم فقال‏:‏ ما شأنكم يا سادتي فأظهروا أمرهم للراعي ودعوه إلى التوحيد فأجابهم فأخذوه معهم‏.‏
وتبع الراعي كلبه فساروا ليلتهم وأصبحوا على باب كهف دخلوا فيه وقالوا للراعي‏:‏ خذ شيئاً من الورق وانطلق إلى المدينة واشتر لنا طعاماً فإن القوم لا علم لهم بخروجك معنا‏.‏
فأخذ الدراهم ومضى نحو المدينة وتبعه كلبه وكان على باب المدينة صنم لا يدخل أحد المدينة إلا بدأ بالسجود لذلك الصنم قبل دخوله فبقي الراعي متفكراً في السجود للصنم فألهم الله الكلب ان عدا بين يديه حتى دخل المدينة وجعل الراعي يعدو خلفه ويقول‏:‏ خذوه خذوه‏!‏ حتى جاوز الصنم ولم يسجد‏.‏
فلما انتهى إلى السوق واشترى بعض حوائجه سمع قائلاً يقول‏:‏ ان راعي فلان أيضاً تبعهم‏.‏
فلما سمع ذلك فزع وترك استتمام ما أراد شراءه وخرج من المدينة مبادراً حتى وافى أصحابه فأخبرهم بما كان من أمره‏.‏
فأكلوا طعامهم وأخذوا مضاجعهم فضرب الله على آذانهم‏.‏
فلما رجع الملك أخبروه بهربهم فخرج يقفو آثارهم حتى انتهى إلى باب الكهف ووقف على أمرهم فقال‏:‏ يكفيهم من العذاب أن ماتوا جوعاً‏!‏ فأهلك الله دقيانوس وأنزل على باب الكهف صخرة وبعث إلى أهل ذلك العصر ثلاثة عشر نبياً فدعوا الناس إلى التوحيد فأجابهم إلى ذلك خلق كثير وكان الملك الذي أحيا الله الفتية في أيامه موحداً‏.‏
فلما كانت السنة التي أراد الله فيها احياء الفتية انطلق رجل من أهل المدينة وأقام بذلك المكان يرعى غنمه فأراد أن يتخذ لغنمه حظيرة فأمر أعوانه بتنحية الصخرة التي كانت على باب الكهف فعند ذلك قام الفتية كمن يبيت ليلة صافية الألوان نقية الثياب ورأوا كلبهم باسطاً ذراعيه بالوصيد وكان ذلك بعد ثلاثمائة سنة بحساب الروم وزيادة تسع بحساب العرب لأن حساب الروم شمسية وحساب العرب قمرية يتفاوت في كل مائة سنة ثلاث سنين‏.‏
وكان انتباههم آخر النهار ودخولهم أول النهار فقال بعضهم لبعض‏:‏ كم لبثتم قالوا‏:‏ لبثنا يوماً أو بعض يوم‏!‏ لأنهم رأوا الشمس غير غاربة فقالوا بعض يوم فلما نظروا إلى طول شعورهم وأظافيرهم قالوا‏:‏ ربكم اعلم بما لبثتم‏.‏
فقالوا للراعي‏:‏ إنك أتيت البارحة بطعام قليل لم يكفنا فخذ شيئاً من هذا الورق وانطلق إلى المدينة واشتر لنا طعاماً‏!‏ فانطلق خائفاً حتى أتى باب المدينة وقد أزيل عنه الصنم ثم دخل المدينة وجعل يتصفح وجوه الناس فما كان يعرف أحداً‏.‏
فانتهى إلى سوق الطعام ودفع إليه الورق فرده عليه وقال‏:‏ هذا عتيق لا يروح اليوم‏!‏ فناوله ما كان معه وقال‏:‏ خذ حاجتك منها‏.‏
فلما رأى صاحب الطعام ذلك همس إلى جاره وقال‏:‏ احسب ان هذا قد وجد كنزاً‏!‏ فلما رآهما يتهامسان ظن أنهما عرفاه فترك الدراهم وولى هارباً فصاح به الناس أن خذوه فإنه وجد كنزاً فأخذوه وانطلقوا به إلى الملك فأخبروا الملك بأمره والدراهم فتركه الملك حتى سكنت روعته ثم قال‏:‏ ما شأنك يا فتى أخبرني بأمرك ولا بأس عليك‏!‏ فقال الفتى‏:‏ ما اسم هذه المدينة قالوا‏:‏ افسوس‏.‏
قال‏:‏ وما فعل دقيانوس قالوا‏:‏ أهلكه الله منذ ثلاثمائة سنة‏!‏ فأخبرهم بقصته وقصة أصحابه‏.‏
فقال الملك‏:‏ أرى في عقل هذا الرجل نقصاناً قال الراعي‏:‏ إن أردت تحقيق ما أقول انطلق معي إلى أصحابي لتراهم في الكهف‏!‏ فركب الملك وعامة أهل المدينة فقال الراعي‏:‏ إن أصحابي إذا سمعوا جلبة الناس خافوا فأذن لي أيها الملك حتى أتقدم وأبشرهم‏.‏
فأذن له فتقدم حتى انتهى إلى باب الكهف فدخل عليهم وأخبرهم بهلاك دقيانوس وظهور الإسلام وأن القوم في ولاية ملك صالح وها هو قد أقبل إليكم ومعه عامة أهل المدينة‏.‏
فلما سمعوا ذلك كبروا وحمدوا الله ووافاهم الملك وأهل المدينة‏.‏
والملك سلم عليهم وسألهم عن حالهم وعانقهم‏.‏
وعامة الناس سلموا عليهم فبادروا بذكر قصتهم حتى إذا فرغوا من ذلك خروا موتى‏.‏
فبنوا على الكهف مسجداً واتخذوا ذلك اليوم عيداً وانهم على حالهم إلى زماننا هذا‏.‏
أفلوغونيا مدينة كبيرة من نواحي أرمينية أهلها نصارى‏.‏
من خواصها إسراع الجذام إلى أهلها لأن أكثر أكلهم الكرنب والغدد فيهم طبع وفيهم خدمة للضيف وقرى وحسن الطاعة لرهبانهم والرهابين يلعبون بعقولهم حكي انه إذا مرض أحدهم أحضر الراهب ودفع مالاً إليه ليستغفر له ويحضر القس وانه يبسط كساء ويعترف المريض بذنب ذنب مما عمله والقس قاعد يضم كفيه كلما فرغ المذنب ينفض كفيه في الكساء إلى أن فرغ من تمام ذنوبه‏.‏
وبعد فراغه يضم القس أطراف الكساء ويخرج بها وينفض في الصحراء فيظنون أن الذنوب قد انمحت بالصدقة ودعاء القس‏.‏
وحكي أن فيهم من إذا تزوج ببكر يريد أن يفترعها الراهب لتكون مباركة على زوجها ببركة الراهب‏.‏
. إلبيرة
مدينة بالأندلس بقرب قرطبة من أكرم المدن وأطيبها شديدة الشبه بغوطة دمشق في غزارة الأنهار والتفاف الأشجار وكثرة الثمار‏.‏
في ساحلها شجر الموز ويحسن بها نبت قصب السكر وبها معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والصفر ومعدن التوتيا ومقطع الرخام وتحمل هذه الأشياء منها إلى سائر بلاد الأندلس‏.‏
وحكى أحمد بن عمر العذري‏:‏ من أعمال البيرة موضع يسمى لوشة فيه غار يصعد إليه أربعة أذرع ثم ينزل في غار نحو قامتين يرى أربعة رجال موتى لا يعرف الناس حالهم ألفوهم كذلك قديماً والملوك يتبركون بهم ويبعثون إليهم الأكفان ولا ريب أنهم من الصلحاء لأن بقاءهم على حالهم مدة طويلة بخلاف سائر الموتى لا يكون إلا لأمر قال العذري‏:‏ حدثني من دخل عليهم وكشف عن وجه أحدهم فرأى دراعة على وجهه وقال‏:‏ نقرت بإصبعي على بطنه فصوت كالجلد اليابس‏.‏
. ألش
مدينة بالأندلس بقرب تدمير من خواصها أن النخل لا ينجح بجميع بلاد الأندلس إلا بها‏.‏
ويوجد بها زبيب ليس في جميع البلاد مثله يحمل منها إلى سائر بلاد الأندلس‏.‏
وبها صناع البسط الفاخرة وليس مثلهم في شيء من بلاد الأندلس‏.‏
الأندلس جزيرة كبيرة بالمغرب فيها عامر وغامر‏.‏
طولها دون الشهر في عرض نيف وعشرين مرحلة ودورها أكثر من ثلاثة أشهر‏.‏
ليس فيها ما يتصل بالبر إلا مسيرة يومين والحاجز بين بلاد الأندلس وافرنجة جبل‏.‏قال أحمد بن عمر العذري صاحب المسالك والممالك الأندلسية‏:‏ إن الأندلس وقعت متوسطة بين الأرض كما هي متوسطة بين الأقاليم فبعضها في الإقليم الرابع وبعضها في الإقليم الخامس‏.‏
وبها مدن كثيرة وقرى وأنهار وأشجار وبها الرخص والسعة‏.‏
وبها معادن الذهب والفضة والرصاص والحديد في كل ناحية ومعدن الزئبق والكبريت الأحمر والأصفر والزنجفر الجيد والتوتيا والشبوب على أجناسها والكحل المشبه بالأصفهاني‏.‏
وبها من الأحجار الياقوت والبلور والجزع واللازورد والمغناطيس والشادنج والحجر الذي يقطع الدم والحجر اليهودي والمرقشيثا وحجر الطلق‏.‏
وبها أصناف الرياحين حتى سنبل الطيب والقسط والاشقاقل وبها الانبرباريس والعود‏.‏
حكى العذري أن بعض الولاة ولى ناحية بشرة فشم رائحة العود فوجدوا من دار رجل ضعيف ووجدوا عنده عوداً كثيراً يتقد به فرأوه فإذا هو ذكي من عود الهند فسئل عن موضع احتطابه فحملهم إلى جبل من جبال وفر فحفروا وأخرجوا بقيته واشتهر بين الناس‏.‏
وأهل الأندلس زهاد وعباد والغالب عليهم علم الحديث ويقع في بلاد الأندلس من الخدم والجواري المثمنات على غير صناعة بل على حسنهم بألف دينار‏.‏
ولأهلها إتقان في جميع ما يصنعونه إلا أن الغالب عليهم سوء الخلق‏.‏ومن عجائب الدنيا أمران‏:‏ أحدهما المملكة الإسلامية بالأندلس مع إحاطة الفرنج من جميع الجوانب والبحر بينهما وبين المدد من المسلمين والآخر المملكة النصرانية بساحل الشام مع إحاطة المسلمين من جميع الجوانب والبحر بينهما وبين المدد من الإفرنج‏.‏
قال العذري في وصف الأندلس‏:‏ إنها شامية في طيبها وهوائها يمانية في اعتدالها واستوائها هندية في أفاويهها وذكائها اهوازية في عظم اجتنائها صنفية في جواهرها عدنية في سواحلها‏.‏
بها آثار عجيبة وخواص غريبة تذكر في مواضعها‏.‏
وبها البحر الأسود الذي يقال له بحر الظلمات محيط بغربي الأندلس وشماليه وفي آخر الأندلس مجمع البحرين الذي ذكره الله في القرآن‏.‏
وعرض مجمع البحرين ثلاثة فراسخ وطوله خمسة وعشرون فرسخاً وفيه يظهر المد والجزر في كل يوم وليلة مدان وجزران وذلك ان البحر الأسود عند طلوع الشمس يعلو ويفيض في مجمع البحرين ويدخل في بحر الروم وهو قبلى الأندلس وشرقيها ولونها أخضر ولون البحر أسود كالحبر‏.‏
وإذا أخذته في الإناء لا ترى فيه السواد فلا يزال البحر الأسود يصب في البحر الأخضر إلى الزوال فإذا زالت الشمس عاد الأمر معكوساً فيصب البحر الأخضر في البحر الأسود إلى مغيب الشمس ثم يعلو البحر الأسود ويفيض في البحر الأخضر إلى نصف الليل ثم ينعكس الأمر فيعلو البحر الأخضر ويصب في البحر الأسود إلى طلوع الشمس وهكذا على التواتر ذلك تقدير العزيز العليم وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏ ملك على قاموس البحر إذا وضع رجله فيه فاض وإذا رفعها غاض‏.‏
وبها جبل فيه غار لا يرى أحد فيه النار وإذا أخذت فتيلة مدهونة وشدت على رأس خشبة طويلة وأدخلت الغار اشتعلت الفتيلة وتخرج مشتعلة‏.‏
وبها جبل بقرب الجبل الذي سبق ذكره ترى على قلته النار مشتعلة بالليل وبالنهار يصعد منه دخان عظيم‏.‏
وبها جبل عليه عينان بينهما مقدار شبرين ينبع من إحداهما ماء حار ومن الأخرى ماء بارد‏.‏
ذكرهما صاحب تحفة الغرائب وقال‏:‏ أما الحارث فلو رميت فيه اللحم ينطبخ وأما البارد فيصعب شربه لغاية برودته‏.‏
وبها جبل شلير لا يفارقه الثلج صيفاً ولا شتاء وهو يرى من اكثر بلاد الأندلس لارتفاعه وشموخه وفيه أصناف الفواكه من التفاح والعنب والتوت والجوز والبندق وغير ذلك والبرد به شديد جداً قال بعض المغاربة وقد اجتاز بشلير فوجد ألم البرد‏:‏ يحلّ لنا ترك الصّلاة بأرضكم وشرب الحميّا وهي شيءٌ محرّم إذا هبّت الرّيح الشّمال بأرضكم فطوبى لعبدٍ في اللّظى يتنعّم أقول ولا ألحى على ما أقوله كما قال قبلي شاعرٌ متقدّم‏:‏ فإن كنت يوماً في جهنّم مدخلي ففي مثل ذاك اليوم طاب جهنّم‏!‏ وبها جبل الكحل‏.‏
إنه بقرب مدينة بسطة قالوا‏:‏ إذا كان أول الشهر أخذ الكحل يخرج من نفس الجبل وهو كحل أسود لا يزال كذلك إلى نصف الشهر فإذا زاد على النصف نقص الكحل ولا يزال الذي خرج يرجع إلى تمام الشهر‏.‏
وبها نهر ابره قال أحمد بن عمر العذري صاحب المسالك والممالك الأندلسية‏:‏ مخرج هذا النهر من عين يقال لها فونت ايبرهي ومصبه في البحر الشامي بناحية طرطوشة وامتداده مائتا ميل وعشرة أميال يوجد فيه صنف من السمك عجيب يقال له الترحته لا يوجد في غيره البنة وهو سمك أبيض ليس له إلا شوكة واحدة كل ذلك عن العذري صاحب الممالك والمسالك الأندلسية‏.‏
وبها نهر أنه‏.‏
مخرجه من موضع يعرف بفج العروس ثم يغيض بحيث لا يبقى له أثر على وجه الأرض ويحرج بقرية من قرى قلعة رباح يقال لها أنه ثم يغيض ويجري تحت الأرض ثم يبدو هكذا مراراً في مواضع شتى إلى أن يغيض بين ماردة وبطليوس ثم يبدو وينصب في البحر أنقرة مدينة مشهورة بأرض الروم تقول العجم انكورية غزاها الرشيد وفتحها قال بسيل الترجمان‏:‏ كنت مع الرشيد لما فتحها‏.‏
رأيت على باب الحصن كتابة باليونانية فجعلت أنقلها والرشيد ينظر إلي فإذا هي‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم الملك الحق المبين‏.‏
يا ابن آدم غافص الفرصة عند إمكانها وكل الأمور إلى واليها ولا يحملنك إفراط السرور على ما تم ولا تحملن على نفسك هم يوم لم يأتك فإنه إن لم يأت من أجلك يأت الله برزقك فيه ولا تكن أسوة للمغرورين في جمع المال فكم قد رأينا من جمع لبعل حليلته على أن يعتبر المرء على نفسه توفير الخوان غيرة‏.‏
وحكي أن في زمن المعتصم تعدوا على رجل من أهل العراق بأرض أنقرة ينادي يا معتصماه‏!‏ فقالوا‏:‏ اصبر حتى يأتي المعتصم على الابلق ينصرك‏!‏ فوصل هذا القول إلى المعتصم فأمر بشري كل فرس أبلق في مملكته وذهب إلى الروم ونهب أنقرة وكان على باب مدينتها مصراعان من الحديد مفرطا الطول والعرض حملهما إلى بغداد وهما الآن على باب العامة باب من أبواب حرم الخلافة‏.‏مدينة عجيبة على ضفة بحر الخزر مبنية بالصخور وهي مستطيلة يصيب ماء البحر حائطها‏.‏
طولها مقدار ثلثي فرسخ وعرضها غلوة سهم عليها أبواب من الحديد ولها أبراج كثيرة على كل برج مسجد للمجاورين والمشتغلين بالعلوم الدينية وعلى السور حراس تحرس من العدو‏.‏
بناها أنوشروان كسرى الخير وهي أحد الثغور العظيمة لأنها كثيرة الأعداء من الذين حفوا بها من أمم شتى وإلى جانب المدينة جبل أرعن يعرف بالذنب يجمع على قلته كل سنة حطب كثيرة ليشعلوا فيه النار إذا احتاجوا إلى إنذار أهل اران وآذربيجان وأرمينية بمجيء العدو‏.‏
وكانت الأكاسرة شديدة الاهتمام بهذا المكان لعظم خطره وشدة خوفه‏.‏
وحكى أبو العباس الطوسي أن الخزر كانت تعبر على ملك فارس حتى وصلوا إلى همذان والموصل‏.‏
فلما ملك أنوشروان بعث إلى ملك الخزر وخطب إليه ابنته على أني زوجه ابنته ويتفرغا لأعدائهما‏.‏
فأجابه إلى ذلك فعمد أنوشروان إلى جارية من جواريه نفيسة فوجه بها إلى ملك الخزر على أنها ابنته وحمل معها ما يحمل مع بنات الملوك‏.‏
وأهدى خاقان ملك الخزر إلى أنوشروان ابنته فلما وصلت إليه كتب إلى خاقان‏:‏ لو التقينا أوجبنا المودة بيننا‏!‏ فأجابه إلى ذلك فالتقيا وأقاما أياماً‏.‏
وأنوشروان أمر قائداً من قواده يختار ثلاثمائة رجل من أشداء فلما أصبح بعث خاقان إلى أنوشروان أن أتيت عسكري البارحة‏.‏
فبعث إليه أنوشروان انه لم يأت من قبلنا فابحث وانظر‏.‏
ففعل ولم يقف على شيء ثم أمهله أياماً وعاد لمثلها حتى فعل ثلاث مرات وفي كلها يعتذر فدعا خاقان قائداً من قواده وأمره بمثل ما أمر به أنوشروان‏.‏
فلما فعل أرسل أنوشروان‏:‏ ما هذا استبيح عسكري الليلة‏!‏ فأرسل إليه خاقان يقول‏:‏ ما أسرع ما ضجرت‏!‏ فقد عمل مثل هذا بعسكري ثلاث مرات وإنما فعل بك مرة واحدة‏.‏
فبعث إليه أنوشروان يقول‏:‏ إن هذا عمل قوم يريدون إفساد ما بيننا‏!‏ وعندي رأي ان قبلته وهو أن تدعني أبني بيني وبينك حائطاً وأجعل عليه أبواباً فلا يدخل بلادك إلا من تريد ولا يدخل بلادي إلا من أريد‏.‏
فأجابه إلى ذلك وانصرف خاقان إلى مملكته‏.‏
وأقام أنوشروان وشرع في بناء حائط من الصخر والرصاص وجعل عرضه ثلاثمائة ذراع وعلاه حتى ألحقه برؤوس الجبال ثم قاده في البحر‏.‏
فيقال‏:‏ انه نفخ في الزقاق وبنى عليها حتى استقرت على الأرض ثم رفع البناء حتى استوى مع الذي على الأرض في عرضه وارتفاعه فجعل أحد طرفيه في البحر وأحكمه وقد مده سبعة فراسخ إلى موضع أشب وهو جبل وعر لا يتهيأ سلوكه وبنى بالحجارة المهندمة نقل أصغرها خمسون رجلاً وأحكمها بالرصاص والمسامير وجعل في هذه السبعة فراسخ سبعة مسالك على كل مسلك مدينة ورتب فيها قوماً من مقاتلة الفرس على كل مدينة مائة رجل يحرسونها بعد أن كان محتاجاً إلى مائة ألف رجل‏.‏
ثم نصب سريره على القيد الذي صنعه على البحر وسجد شكراً لله على ما تم على يده وكفاه شر الترك وهجومهم واستلقى على ظهره وقال‏:‏ الآن استرحت‏.‏
ومدينة باب الأبواب من تلك المدن‏.‏
والعجم يسمونه دربند‏.‏
وبها صور مطلسمة لدفع الترك وكانت عساكر الترك لا تزال تأتي من تلك الجهة وتنهب بلاد إيران فلما بنى أنوشروان ذلك السد وطلسمه لم يذكر أن دخل الترك من تلك الجهة بلاد إيران منها صورة أسدين على حائط باب الجهاد فوق أسطوانتين من حجر وأسفل منهما حجران على كل حجر تمثال لبوءتين وبقرب الباب صورة رجل بين رجليه صورة ثعلب في فمه عنقود عنب لعله لدفع الثعلب عن أعنابهم‏!‏ وإلى جانب المدينة صهريج له درجات ينزل بها إلى الصهريج إذا قل ماؤه وعلى جنبي الدرجة صورتا أسدين من حجارة يقولون‏:‏ إنهما طلسم اتخذ للسور ما دام باقياً لا يصيب المدينة من الترك آفة‏.‏
وخارج المدينة تل عليه مسجد في محرابه سيف يقولون‏:‏ إنه سيف مسلمة ابن عبد الملك بن مروان‏.‏
يزوره الناس لا يزار إلا في ثياب بيض فمن قصده في ثياب مصبوغة جاءت الأمطار والرياح وكاد يهلك ما حول التل‏.‏
وعليه حفاظ يمنعون من يذهب إليه بالثياب المصبوغة‏.‏
وبقرب هذا التل عين يخرج الناس إليها كل ليلة جمعة فيرون في بعض ناشئة الليل في تلك العين ضياء ونوراً حتى يتبين لهم الحصى والحجر ويسمون تلك العين الثواب‏.‏
آثار البلاد وأخبار العباد زكريا بن محمد بن محمود القزويني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق