القبَـلية التقليدية والقبَـلية البديلة في "تأمل العالم"
لو
تحدثنا عن كاتب كتاب اليوم باعتباره أحد الباحثين الاجتماعيين لكن في ذلك
إعادة له في زمرة أراد أن يخرج منها، فهو باحث سيسيولوجي من نوع مختلف، إنه
سيسيولوجي خارج على السيسيولوجية التقليدية. باحث لا يخضع للأطر التقليدية
لعلم الاجتماع، ولا ينظر للظواهر الاجتماعية "نظرة تاريخية" سكونية، وأعني
بالنظرة التاريخية السكونية أن الكاتب في الظاهرة الاجتماعية يكتب فيها
بعد ظهورها وتبلورها وتكونها، ثم يشرع في استخدام أدواته "العلمية" القارة
والثابتة لتحليل الظاهرة ورؤيتها وتقديمها للقارئ؛ ما يعني تفويت الفرصة عن
رؤية الكثير مما يحمله الواقع الإنساني اليومي ومتغيراته المتلاحقة. أما
مافيزولي فإنه يعيش في الحاضر واليومي وليس في التاريخي، يتأمل في المتغير
والذي في سبيله للتكوّن وليس إلى المتكون والناجز في الظاهرة الاجتماعية،
ويُدخل النصوص الأدبية ولغة الحياة اليومية والرمز والأحلام والمعتقدات
والصور والمجاز في نصوصه السيسيولوجية التي تعبر عن تنوع من نوع جديد، تنوع
دراسات ما بعد الحداثة في علم الاجتماع المعاصر.ينتمي مافيزولي إلى فترة المراجعة ما بعد الحداثية للثقافة الأوروبية، وخاصة في فرنسا، وعايش المنهج البنيوي وتحليلاته الاجتماعية عند: جاك دريدا وميشيل فوكو وجيل دولوز، إضافة لما قدمه بيير بورديو من بناء تحليلي متماسك للعديد من الظواهر الاجتماعية التي أثرت الدراسات السيسيولوجية في عصرنا الحاضر، لكن مافيزولي اتسم برؤية غير تقليدية لعلم الاجتماع، حيث أدخل اليومي والمعاش والحاضر والمتخيل والرمز في الدراسات السيسيولوجية ليعيد النظر في تلك المنظومة العلمية التقليدية لعلم الاجتماع، ويكتب نصوصاً غير خاضعة للاشتراطات التقليدية لتصبح أقرب إلى الواقع الاجتماعي الفعلي، مع احتياجها إلى نباهة القارئ في "تأمل العالم" من حوله، بالتماثل مع الكاتب.
أريد أن أناقش الإشكالية المحورية في الكتاب، إنها الإشكالية التي عبّر عنها المترجم والتي تخص مجتمعاتنا العربية، وبالتالي تُــعد محور اهتمام القارئ العربي. يقول د. فريد الزاهي مترجم الكتاب: "هكذا يجد القارئ العربي نفسه أمام نصوص أقرب إليه من نصوص أوجست كونت التربيعية والسوسيولوجية التقليدية، نصوص تُعلي من شأن ما يشكل لحمة المجتمعات العربية والتقليدية من أواصر وعلاقات جمعية". صــــ 9
وما سبق يحتاج إلى مناقشة مهمة نعيد من خلالها الاعتبار إلى الدراسة من ناحية، وإلى طريقة فهم مسارات الفكر البشري من ناحية أخرى. حيث إن النظرة "الإسقاطية" التي رأى بها المترجم نصوص مافيزولي جعلته يُعلي من شأن "العلاقات القبلية العربية"، مستشهداً بأن ميشيل مافيزولي يتحدث عن مجتمعات "المثال الجمعي"، متحدثاً عن مافيزولي ذاته باعتباره هو الذي يُعلي من شأن هذه العلاقات!! رغم أن كتابات مافيزولي (ويتناغم معه آلان تورين في ذلك عند الحديث عن "براديغما" جديدة لفهم عالم اليوم) يتحدث عن "جماعية" من نوع مختلف تماماً، يتحدث عن "قبلية بديلة" عن تلك القبلية التي نعرفها في مجتمعاتنا، وعن القبلية التي عرفتها أوروبا ما قبل الحداثة. إنها "جماعية" أتت كرد فعل على تاريخ طويل من "الفردانية" الأوروبية، التي تكونت عبر قرون من الحداثة (رد فعل بطيء يستولد الظاهرة الضد وليس رد فعل سريع مباشر)، ثم ما أصاب هذه الفردانية من تحلل، مع تغير نوعي في مجمل علاقات الارتباط الاجتماعي، ودور الدولة في حياة الأفراد وغيرها من المتغيرات لقوى العمل واختلافات درجات التنظيمات الاجتماعية بما يتناسب مع عصر مخالف في سماته لعصر الحداثة الأول.
نجد في مجتمعاتنا العربية أنه ما زالت التنظيمات القبلية هي التي تضرب بجذورها في شكل العلاقات الفردية، وتكوين المخيلة الجمعية، وإقامة الأطر السياسية، وتكوين الهوية الفردية، مع بعض الاختراقات الناتجة عن حداثة منقولة من مجتمعات أخرى، وبعض التباينات بين مجتمع عربي ومجتمع آخر. إنها مرحلة ما قبل الحداثة، مرحلة الجماعة مقابل الذات، مرحلة القبيلة ضد الفرد، مرحلة المجتمعات المزدوجة في إقرار القيم الفردية سراً وقمعها علناً. ومن هنا لا يمكننا أن نقول إن "كتابات مافيزولي تعلي من شأن ما يشكل لحمة المجتمعات العربية"، كما قال مترجم الكتاب. فثمة نقلة نوعية بين "جماعية المجتمع العربي" و"جماعية المجتمع الأوروبي" التي يتحدث عنها مافيزولي، وثمة فارق نوعي هائل في أسباب الظاهرة وفي نتائجها. فالمجتمعات الأوروبية بدأت في صنع نموذجها الجماعي المغاير "للجماعية" بمعناها التقليدي، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه جيداً في فهم نصوص مافيزولي خصوصاً، واستيعاب نصوص ما بعد الحداثة عموماً. فجماعيتنا جماعية تقليدية، جماعية ما قبل تكوين الفرد، ما قبل تبلور الذات الفردية، أما "جماعية" المجتمعات الأوروبية الحديثة فإنها جماعية ما بعد الحداثة، جماعية الخروج من الذاتية والكف عن اعتبارها كافية تماماً للحياة الإنسانية. جماعية تتولد عن إرادة فردية ذاتية يختارها الفرد المتبلور والمتكون عبر تاريخ حداثي طويل وتأتي بعد تكوّنها وتبلورها، إنها جماعية تتم باختيار حر من الفرد (تجمعات حزبية، مجموعات اعتقادية، جماعات ضغط، مجموعات تنظيمية أهلية، جماعات رياضية، مجموعات شبكة المعلومات). وهنا ألفت إلى أن مافيزولي نفسه لم يفرق بين مختلف الجماعيات المتبلورة في عصرنا الراهن، ولننظر إلى مثال على ذلك من القائمة التالية، المختارة من كتابات مافيزولي:
1 – العصبيات الدينية.
2 – النهوض العرقي.
3 – المطلبيات اللغوية.
4 - النزعات الحماسية.
5 – الهيجانات الرياضية والموسيقية.
6 - الهيجانات الاستهلاكية.
فلو نظرنا إلى المجموعة من (1-3) لوجدنا أنها منسجمة بشكل صراعي، أي نشأت بشكل طبيعي لعصر المواجهة الذي اصطنعته السياسة الدولية في تحالفات الهيمنة العولمية على مختلف مفاصل التحركات الاجتماعية في المجتمع البشري، وأتت تعبيراً عن "هوية جماعية" مهددة بالانقراض، مع استثناء العصبيات الدينية لما تحتاجه من تحليل مختلف، وبسبب تعقد الظاهرة بتداخلاتها المختلفة. أما المجموعة (4-6) فإنها تمثل انغماساً في "الجماعية البديلة" التي يبحث عنها الفرد في المجتمع الأوروبي، قلتُ إنها جماعية بديلة لأنها نتجت عن ظروف مختلفة للجماعية الأولى، أقصد الجماعية القبلية أو الطبقية التي سبقت مرحلة الحداثة في أوروبا.
نحن أمام كتاب متميز نوعياً في تقديم رؤية اجتماعية ما بعد حداثية يحلل كاتبه الظواهر بشكل منفتح، وبرؤية غير تقليدية، وفي سبيل ذلك نستطيع أن نرى موقعنا (في إطار ثقافتنا العربية) من العالم، ونتسطيع أن نتفهم هويتنا بشكل أكثر عمقاً من خلال قراءة الآخر، لنكتسب المزيد من عمق فهم الذات الاجتماعية وليس بهدف إسقاط رؤيتنا لجروحنا الاجتماعية وأمراضنا الفردية لإيجاد المبررات لها عند الكاتب الغربي!!
من فضلك – عزيزي القارئ – تأمل العالم من خلال هذا الكتاب، لكن لا تنس أن تتأمل الكتاب من خلال العالم الذي تعيش فيه لتكون الفائدة أكبر وأعظم.
من رفع منتدى مكتبة الإسنكدرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق