الأحد، 11 مارس 2012

شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة - السفر الأول - محمد والصحابة

الباب الأول – الصبغة الإسلامية .. مدخل ..؟
الإجماع منعقد على أن محمداً عبقرية فذة، ويؤمن كاتب هذه السطور إيماناً عميقاً بعد تدقيق وتمحيص بالغين أن جزيرة العرب لم تنجب مثله .
اجتمع لمحمد شرف النسب مع شظف العيس في طفولته وصباه وشبابه وظل كذلك حتى أعجبت به خديجة وسعت للزواج منه (1)
فهو من بني هاشم أعلى ذروة في قريش التي بدورها أرفع القبائل مكانةً، ومع ذلك عمل في صباه راعي غنم في أجياد مكة على قراريط(2) ثم أجيراً تجارياً وممن استأجره خديجة بنت خويلد قبل زواجها منه(3) كما شارك التجارة آخرين منهم رجل يسمى السائب، وسافر في رحلات تجارية مع القوافل إلى الشام وهناك رأى وعاين واطلع على أمور وسّعت آفاقه وفتحت عينيه وعلم مالم يكن يعلم ؛ وكانت مكة مدينة القوافل والتجارة وبها البيت الذي كان يقدسه سائر العرب وإليه يحجون ويعتمرون حتى من بين أهل الكتاب باعتبار أنه إرث إبراهيم الذي تقدسه الأديان السماوية الثلاثة ومن ثم كانت(=مكة) تعج بالمئات من العرب والروم والفرس والحبش والقبط ... واختلط محمد بهؤلاء وعاملهم وعاملوه وجالسهم وجالسوه وسمع منهم عقائدهم ونحلهم فازداد رصيد معرفته بهذه الأمور- وبعد أن تزوج خديجة تفرغ للتأمل والتفكير(4) وازداد توثقه بالمتحنفين من أهل مكة منهم : ورقة بن نوفل ابن عم خديجة وكان ينقل أجزاء من التوراة والإنجيل إلى اللسان العربي(5) وزيد بن عمرو بن نفيل عم عمر بن الخطاب وغيرهما وكانوا موحدين على ملة إبراهيم ولا يشركون مع الله أحداً ولا يعبدون الأوثان وينفرون الناس من عبادتها ويستهزئون بها ولا يأكلون من اللحوم التي تقدم إليها كقرابين وكانوا ينهون عن وأد البنات وشرب الخمر ويغتسلون من الجنابة ... إلخ وكان احتكاكه بهم ذا فائدة لا تقدر وتذكر لنا كتب السير والتواريخ أن محمداً كان يجوس خلال الأسواق التي كانت تعقد على حافة موسم الحج مثل عكاظ وذي المجاز ومِجنّة وغيرها .
وكان يصغي إلى الأشعار والخطب والمواعظ التي كان يلقيها خطباء مفوهون من الرهبان والقساوسة، والشعراء والخطباء ومن أشهرهم : قس بن ساعدة الأيادي وهو من الأحناف ، وقيل أنه كان على دين عيسى بن مريم ، وما استوعبه محمد في هذه السواق من أشعار وخطب ومواعظ ضاعف محصوله الثقافي والمعرفي .
خلاصة الأمر أن محمداً اجتمعت فيه الخبرة العملية من النشأة الصعبة التي جابهته في مستهل حياته وصاحبته حتى اقترانه بخديجة، مع الثقافة العميقة المحصودة من الروافد العديدة ذات الخطر التي ذكرناها . كل ذلك بالإضافة إلى ما أطبقت عليه كتب السير والتواريخ أنه كان يتمتع بشخصية آسرة تبهر كل من يلتقيه وتأخذ بمجامع لبه(6) . هذه العوامل : الخبرة العملية، والثقافة الوسيعة ذات الجذور المتنوعة مع قوة الشخصية أهلت محمداً لأن يهيمن على ( الصحابة) هيمنة كاملة أدهشت معاصريه حتى ممن كان يخاصمه ويناوئه بل يعاديه ويحاربه :
أ‌- ( قال ابن اسحق قال الزهري فكلمه عروة بن مسعود الثقفي /مندوب قريش في المراودات التي سبقت توقيع صلح الحديبية/ بنحو مما كلم به أصحابه وأخبره أنه لم يأت يريد حرباً ، فقام من عند رسول الله – ص – وقد رأى ما يصنع به أصحابه :
لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه ولا يسقط شعره شيء إلا أخذوه ؛ فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم مثل محمد في أصحابه...)(7) هذه شهادة عروة بن مسعود ، سيد ثقيف وزعيمها والذي يفد على الملوك ومن أصحاب الزوجات العشر(8) . ومبادرة الصحابة بالاحتفاظ بشعر محمد وردت في عدد آخر من الأحاديث منها
ب-(النبي-ص- فرق شعره بين أصحابه، قال أنس، لما رمى النبي – ص –ونحر نسكه ، ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه ثم ناوله الشق الأيسر قال: إحلقه فحلقه وأعطاه أبا طلحة فقال: إقسمه بين الناس)(9) ، إذن هو خبر صحيح لم ينفرد به ابن هشام في السيرة بل أكدته كتب الصحاح، وهو يقطع بمكانة محمد لدى صحبه وهي مكانة لم ير التاريخ لها نظيراً وطاعتهم إياه طاعة مطلقة لم يقدمها من قبل ولا من بعد أتباع لمتبوعهم . بل إن واقعة الاحتفاظ بالشعر فيها خبران يبعثان على الحيرة المضاعفة : أحدهما صدر من صحابي أصبح فيما بعد خليفة عرف بالدهاء الشديد والعقلانية(10) حتى إنه استطاع أن يؤسس دولة كانت نواة الإمبراطورية الإسلامية وهو معاوية بن أبي سفيان .
والآخر من صحابي له مواهب عسكرية نادرة حتى قيل إنه لم يهزم لا في (جاهلية!) ولا في إسلام وهو خالد بن الوليد :
جـ- إذ أوصى معاوية أن يوضع نصيبه من شعر محمد في فمه عند موته ، أما خالد فقد وضع في قلنسوته التي كان يخوض بها المعارك شعرات من شعر محمد (11) والخبران غَنيّان عن أي تعليق .
أما الخصم الآخر الذي شهد بأن طاعة صحاب محمد له لم ير لها ضريباً فهو أبو سفيان بن حرب عدوه اللدود ففي فتح مكة (قال أبو سفيان : ما رأيت كاليوم طاعة قوم جمعهم من هنا وههنا ولا فارس الأكارم ولا الروم ذات القرون بأطوع منهم(=الصحابة)له(=لمحمد)(12).
ويروي ابن كثير الخبر قي البداية على النحو التالي :
( ذكر عروة بن الزبير : لما أصبح (=أبو سفيان) صبيحة تلك الليلة(=فتح مكة) ورأى طاعة الصحابة لمحمد ، قال: يا عباس ما يامرهم بشيء إلا فعلوه ! قال: نعم والله لو أمرهم بترك الطعام والشراب لأطاعوه)(13) .
إن شهادتي عروة بن مسعود الثقفي وأبي سفيان بن حرب لا مطعن عليهما ولا مغمز لأنهما في وقت الإدلاء بهما كانا من خصومه الأشداء لا من اتباعه وشيعته ومن ثم فلا مصلحة لهما في إبراز مكانة محمد بل ربما يكون العكس هو الأدنى إلى المنطق .
ومن أدلة ثبوت ارتفاع قدر محمد لدى صحبه أن بعضهم كان يقبل رجليه ويديه:
د- ( عن أم أبان ابنة الوازع عن جدها أن جدها الوازع بن عامر- ر – قال : قدمنا فقيل ذاك رسول الله – ص – فأخذنا بيديه ورجليه نقبلهما)(14) والبعض كان يكتفي بتقبيل يديه :
هـ - ( عن مزيدة العبدي –ر- قال: جاء الأشج –ر – يمشي حتى أخذ بيد النبي- ص – فقبلها ) (15) .
هذه الصورة الناطقة تقطع بذاتها أن محمداً قاد الصحاب قيادة حاكمة ونجح في ذلك نجاحاً مبهراً في أن يدفعهم إلى طاعته طاعة مطلقة يعز نظيرها ولكن محمداً لم يتوصل لذلك فجأة خاصة وأن رجاله كانوا زعماء لقبائلهم وكبراء في قومهم كلمتهم مسموعة وأمرهم مطاع ، مع ماعرف عن عرب ما قبل الإسلام من عناد وشموخ وكبرياء واعتداد مفرط بالنفس واعتزاز بالأنساب وفخر بالآباء والجدود ، وطغيان بسبب الثروة والجاه والسلطان ونفور تام من الخضوع للآخر والانقياد له ، إنما أحرز محمد هذا النجاح الفائق في هذا المضمار نتيجة لخطة مدروسة تم تنفيذها باقتدار عجيب وصبر وسعة صدر وطول بال، ومعرفة مذهلة بأقدار الرجال وطبائعهم ومشاربهم ، ولا ندعي أن الخطوات التي مشاها محمد والتي سنذكرها فيما يلي بالترتيب الذي سنورده ، ليس ذلك بالضرورة بل الأقرب إلى المعقول ، وشواهد الحال تدل على أنه كان يطبق أي شطر منها أو يتحرك أي خطوة في المجال المتعلق بها وفي النطاق الذي تحتمه وفي الميدان الذي تستدعيه مع المراعاة الكاملة لمقتضى الحال ولذلك نراه كثيراً ما كان يردد: خاطبوا الناس على قدر عقولهم ، إذ ما قد يصلح لهذا قد يفسد آخر والعكس صحيح، وما يناسب هذا الظرف قد لا يلائم ظرفاً آخر وإن تشابها في الظاهر .
كما أن الخطة أو الخطوة قد تكون عامة تشمل العُصبة بأكملها وقد تخص مجموعة محددة منها أو فرداً بعينه .... وهكذا .
واختلافها وتنوعها شكّلا عبئاً ثقيلاً على كاهل محمد وأبهظ كاهله وكان كاهله يحمل الكثير ، ولكنه أدى جميعها عامة وخاصة بحنكته نادرة ، ومن هنا كان النجاح هو جزاؤه الأوفى .... ولعله وبعد هذا (المدخل) الموجز قد آن الأوان لنبدأ في سرد مفردات تلك الخطة الباهرة وشرحها .
.. ( من كتاب – شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة –السفر الأول – محمد والصحابة الكاتب ، خليل عبد الكريم – الناشر سينا للنشر – القاهرة
1- ذكرت نفيسة بنت أمية أنه بعد عودة محمد من الشام بتجارة خديجة ، أنها رغبت فيه فأرسلتني دسيساً إليه فعرضت عليه الزواج من ذات المال والجمال والكفاءة فسألني من ؟ فقلت : خديجة ... فأجاب . هذه القصة وردت في كثير من المصادر منها على سبيل المثال : الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني – الجزء السابع- ص 602 – أما ابن هشام فذكر أن خديجة عرضت نفسها مباشرة على محمد ، السيرة النبوية ص 213 الجزء الأول .
2- الروض الأنف للسهيلي- الجزء الأول ص 192 على هامش سيرة ابن هشام وذكر السهيلي أن رعي محمد للغنم ورد مرتين في صحيح البخاري .
3- السيرة النبوية ابن هشام الجزء الأول ص 212.
4- الفترة ما بين الخامسة والعشرين ( عام زواجه من خديجة ) حتى العام الربعين ( فيه أعلن محمد بدء التجربة الإسلامية ) من عمر محمدهذه الفترة تتجاوزها كتب السيرة المحمدية وتسكت ولا تتحدث عنها وفي رأينا أن محمداً قضاها في البحث والدراسة والتقصي والتأمل والعبادة والتحنث.
5-يرى عدد من الباحثين أن محمداً كان يعرف القراءة والكتابة وأن وصفه بالنبي الأمي يعني أنه من غير أهل الكتاب إذ كان يطلق عليهم الأميين ، وبعض الدارسين يذهب إلى أنه على أسوأ الفروض أنه كان يعرف القراءة ويتساءلون كيف يعرف أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية القراءة والكتابة ويجهلها محمد وهو من فرع (رهط) أرقى منهم !!!! وكانوا يعتبرون معرفة القراءة والكتابة من مقومات الكمال لدى الرجل ؟؟؟
6 – يسمي الفرنجة مثل هذه الشخصية بـ ( الشخصية الكارزمية ).
7 - ابن هشام السيرة النبوية – الجزء الرابع ص 27.
8 – الزواج بعشر زوجات كان من أبرز الدلة على السؤدد والزعامة والثروة قبل الإسلام وسنرى فيما يلي من فصول أن عدداً من الصحابة – بعد أن بدأت التجربة الإسلامية تطرح ثمارها الشهية – تزوج من عشر نسوان بل تعدى إلى العشرين مثل ما فعل عبد الرحمن بن عوف- مع المحافظة على عدم استبقاء أكثر من أربع في العصمة في وقت واحد , وذلك بخلاف ( ملك اليمين ) .
9 – رواه مسلم في الصحيح وابو داوود في السنن. وذكره ابن قدامة المقدسي في المغنى- الجزء الأول – ص 99 طبعة دار الغد العربي بمصر 1464هـو 1993م .
10- من الذين قالوا إن الإسراء والمعراج وقعا في الحلم وأنهما مجرد رؤية رآها محمد في منامه : معاوية بن أبي سفيان .
11- المغنى المصدر السابق – ذات الصفحة .
12- الروض النف للسهيلي على هامش سيرة ابن هشام – جـ4 ص 99.
13 – نقلاً عن حياة الصحابة للكاند هلّوي – الجزء الثالث ص 95 .
14 – أخرجه البخاري في الأدب . نقلاً عن حياة الصحابة ج2 – ص 322.
15- أخرجه البخاري في الأدب . نقلاً عن المصدر السابق – نفس الصفحة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق